نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٤٧٦

بل إبطال التعليل بما عيّنه المعارض ، لم يجب. والمختار أنّ له المعارضة في الأصل بأمر وراء ما ذكره المستدل.

وإن قدر كونه موجودا في الفرع ، فإنّه إن كان صالحا للتعليل أو لدخوله فيه ، فالمستدلّ لا يمكنه عدم إدراجه في التعليل مع صلاحيته ، وإن أدرجه كان منقطعا حيث بيّنّا أنّ ما استند إليه أوّلا لم يكن هو المدرك بل غيره أو بعضه. هذا إن كان المقصود ليس هو قطع الإلحاق فقط بل التكسّب وبيان وجه الانقطاع ، وأمّا إن كان المقصود بالمعارضة ليس إلّا قطع الإلحاق فقط ، فلا بدّ من بيان انتفائه عن محلّ الاستدلال إمّا بطريق إجمالي أو تفصيلي ولا يفتقر إلى بيان كون نقيض الوصف في الفرع معتبرا ، إذ القطع متحقّق دونه ، اللهم إلّا أن يقصد به المعارضة في الأصل وبنقيضه المعارضة في الفرع فإنّه حينئذ يجب أن يكون معتبرا.

هذا كلّه إذا كان المقيس عليه أصلا واحدا.

وإن تعدّد فقد منع قوم منه لإفضائه إلى النشر مع إمكان حصول المقصود بالواحد منها.

ومنهم : من جوزه ، لأنّه أقوى في إفادة الظن. وهو ضعيف ، إذ ليس غرض المستدلّ من الدلالة تسهيل الكلام على المعترض ، بل إفحامه وسدّ باب الكلام عليه والاحتراز عنه على وجه يمنعه عن الوصول إليه ، وهو مقصود عند أهل الجدل والوجه المنع من ذلك لحصول المقصود بالاقتصار على الواحد منها ، والجمع وإن كان أغلب على الظن وأبلغ في

٣٤١

التحصيل ، لكنّه تكلّف بما ليس بمطلوب ، إذ المطلوب منه إنّما هو ما يحصل أصل الظن لا ما هو أغلب ، وإلّا لم يتمّ للمستدلّ مطلوبه ضرورة أنّ فوق كلّ ظن ظنا أغلب.

وعلى القول بجواز القياس على أصول متعدّدة هل يجوز الاقتصار في المعارضة في الأصل على أصل واحد؟ منهم من جوّزه ، لأنّ المستدل قصد إلحاق الفرع بجميع الأصول ، فإذا وقع الفرق بين الفرع وبعضها تمّ مقصود المعترض من إبطال غرض المستدلّ.

ومنهم من قال : لا بدّ من المعارضة في كلّ أصل ، لأنّه إذا عارض في البعض دون البعض فقد بقي قياس المستدلّ صحيحا على الأصل الّذي لم يعارض فيه ، وبه يتمّ مقصوده من إثبات الحكم أو نفيه.

واختلف الموجبون للمعارضة في جميع الأصول (١) :

منهم : من أوجب اتّحاد المعارضة في الكلّ بأن يعارض بما يشترك فيه الجميع ، دفعا لانتشار الكلام ، ولأن يكون مقابلا في اتّحاده لاتحاد وصف المستدلّ.

ومنهم : من لم يوجب ذلك وجوز المعارضة في كلّ أصل بغير ما في الأصل الآخر ، لجواز أن لا يساعده في الكلّ علّة واحدة. فلا يكون للحكم علّة واحدة عند تعدّد المحال ، بل له في كلّ محل علّة ، ولا مانع منه.

__________________

(١) ذكر الاختلاف في الأقوال الآمدي في الإحكام : ٤ / ٩٩.

٣٤٢

فإن اقتصر على المعارضة في أصل واحد فهل يجب على المستدل إبداء العذر عنه؟

قال بعضهم بوجوبه ، لأنّه التزم صحّة القياس على الجميع.

ومنهم من لم يوجب ذلك ، لأنّ مقصوده إنّما هو إثبات الحكم ، وهو لا يختل بتعذّر القياس على بعض الأصول دون البعض.

والجواب عن سؤال المعارضة في الأصل بوجوه (١) :

الأوّل : منع وجود الوصف المعارض به في الأصل.

الثاني : المطالبة بتأثير الوصف إن كان طريق إثبات العلّة من جانب المستدلّ المناسبة أو الشبه دون السبر والتقسيم.

الثالث : أن يبيّن كونه ملغى في جنس الأحكام كالطول والقصر ونحوه.

الرابع : أن يبيّن أنّه ملغى في جنس الحكم المعلّل ، وإن كان مناسبا كالذكورة في باب العتق.

الخامس : أن يبيّن أنّه عدم معارض في الفرع ، مثل قياس المكره على المختار بجامع القتل ، فيعترض بالطواعية (٢) ، فيجيب بأنّ عدم الإكراه المناسب نقيض الحكم ، وذلك طرد.

__________________

(١) ذكرها الآمدي في الإحكام : ٤ / ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) في «أ» : بتوابعه.

٣٤٣

السادس : أن يبيّن أنّه قد استقلّ بالحكم في صورة دون الوصف المعارض به ، بظاهر أو إجماع. مثل : لا تبيعوا الطعام بالطعام في معارضة المطعوم بالكيل ، ومثل : من بدّل دينه في معارضة التبديل بالكفر بعد الإيمان غير متعرض للتعميم. لأنّ الطعم في الأوّل علّة مستقلّة بظاهر لا تبيعوا الطعام ، فإنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّيّة ، والتبديل في الثاني علّة بظاهر من بدل ، ولا يتعرض المستدلّ لعموم صورة التبديل لئلّا ينتقض عليه تبديل الكفر بالإيمان.

وحينئذ يمتنع أن يكون علّة مستقلة في محلّ التعليل ، لما فيه من إلغاء المستقل واعتبار غير المستقل.

ويمتنع دخوله في التعليل لما فيه من إلغاء ما علّل به المستدلّ في الفرع مع استقلاله لفوات ما لم يثبت استقلاله ، وهو ممتنع. اللهم إلّا أن يبدي المعارض في صورة الإلغاء وصفا آخر غير ما عارض به في الأصل ، فلا بدّ من إبطاله ، وإلّا فالقياس متعذر.

ولا يمكن أن يقال في جوابه : إنّ كلّ وصف اختصّ بصورة ، فهو ملغى بالصورة الأخرى.

وهذا هو المسمّى في الاصطلاح بتعدّد الوضع.

فإنّ للمعترض أن يقول : العكس غير لازم في العلل الشرعية لجواز ثبوت الحكم في كلّ صورة بعلّة غير علّة الصورة الأخرى.

وإذا جاز ثبوت الحكم في صورتين بعلّتين مختلفتين فلا يلزم من

٣٤٤

إثبات الحكم في كلّ صورة بعلّة مع عدم علّة الصورة الأخرى فيها ، إلغاء ما وجد في تلك الصورة.

السابع : أن يبيّن رجحان ما ذكره على ما عارض به المعترض بوجه من وجوه الترجيحات الآتية فيما بعد.

فيتعين التعليل بما عينه ، إذ لا سبيل إلى التعليل بما أبداه المعترض ، لما فيه من المحافظة على المرجوح وإلغاء الراجح. ولا سبيل إلى إدخاله أيضا في التعليل ، إذ يلزم منه تخلّف الحكم في الفرع مع وجود الراجح ، وهو ممتنع.

وهنا ترجيح آخر ، وهو أن يكون أحد الوصفين في الأصل المستنبط منه متعدّيا والآخر قاصرا فإمّا أن يكون في طرف الإثبات ، أو النفي.

فإن كان الأوّل فإمّا أن يكون الوصف المتعدي جزءا من العلّة ، أو خارجا عنها بأن يكون المعارض في الأصل بالوصف القاصر لا غير. فإن كان خارجا ، فإمّا أن يكون المتعدي مساويا للقاصر في جهة اقتضائه ، أو أنّ الترجيح لأحدهما.

فإن كان مساويا في جهة الاقتضاء ، فالتعليل بالمتعدي أولى ، للاتّفاق عليه والخلاف في القاصر ، والمتّفق عليه أولى بالعلّيّة.

ولأنّ فائدة المتعدّي أكثر ، إذ فائدة القاصر إنّما هي في ظهور الحكمة الباعثة في الأصل لسرعة الانقياد ، وهو ثابت في المتعدي وزيادة تعريف (١) الحكم في الفرع ، وهو أعظم فوائد العلّيّة.

__________________

(١) في «أ» : تقريب.

٣٤٥

لا يقال : إنّه يلزم منه إهمال المناسب القاصر.

لأنّا نقول (١) : إنّه معارض بمثله ، حيث يلزم من التعليل بالقاصر إهمال المناسب المتعدّي مع رجحانه ، والتعليل بالقاصر وإن وافق النفي الأصلي في الفرع ، بخلاف المتعدّي إلّا أنّه مخالفة لما وقعت مخالفته في الأصل بما لم تظهر مخالفته ، ولو علمنا بالقاصر لموافقته النفي الأصلي ، لكان فيه العمل بموافقة ما وقع الإجماع عليه على مخالفته ومخالفة ما لم يقع الاتّفاق على مخالفته ، وهو المتعدي ، فكان مرجوحا.

لا يقال : التعليل بالمتعدي يستلزم مخالفة ما لم يتّفق على مخالفته من الوصف القاصر وما اتّفق على مخالفته من النفي الأصلي ، فكان فيه مخالفة ظاهرين :

أحدهما متّفق على مخالفته ، والآخر غير متّفق على مخالفته. والتعليل بالقاصر يلزم منه العمل بهذين الظاهرين ومخالفة ظاهر واحد ، وهو المتعدي.

لأنّا نقول (٢) : إنّه معارض بمثله ، فإنّه بعد أن ثبت الحكم في الأصل لمعنى وإن كان قاصرا ، فالأصل أن يثبت في الفرع بما وجد مساويا لوصف الأصل في الاقتضاء ، نظرا إلى تماثل مقصود الشارع ، والمحافظة على هذا الأصل أولى من المحافظة على النفي الأصلي ، لكون النفي الأصلي مخالفا

__________________

(١) ذكر الإشكال وأجاب عنه الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٠١.

(٢) ذكر الإشكال وأجاب عنه الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٠٢.

٣٤٦

في الأصل بمثل ما قيل باقتضائه للحكم في الفرع.

فحينئذ يترجّح ما ذكرناه من جهة أنّ العمل بالمتعدّي عمل به وبأصل مترجّح على النفي الأصلي ، والعمل بالقاصر عمل به وبأصل مرجوح بالنظر إلى الأصل المعمول به من جانبنا ، فكان إمكان ما ذكرناه أولى.

واعلم أنّه لا يكفي في جواب المعارضة إثبات الحكم في صورة دون الوصف المعارض به ، لجواز إثبات الحكم بعلّة أخرى. وكذا لو أبدى المعترض في صورة الإلغاء وصفا آخر يخلف ما ألغى المستدل فيه إلغاء الوصف المعارض به وما يقوم مقامه ، وإلّا كان وصف المستدل في كلّ صورة جزء العلّة ، وكذا كلّ واحد من الوصف المعارض به وما يقوم مقامه ، وإذ ذاك يكون معتبرا لا ملغى ، وإنّما سمّي هذا تعدّد الوضع لتعدّد أصل العلّة ، لأنّها تعدّدت بأصلين.

مثاله : أمان من مسلم عاقل فيصحّ كالحر ، لأنّهما مظنتان لإظهار مصالح الإيمان ، فيعترض بالحرية (١) ، فإنّها مظنّة الفراغ في النظر فيكون أكمل ، فلا يجوز الإلحاق فبلغها بالمأذون له في القتال.

فيقول المعترض : خلف الاذن الحرية إمّا لأنّ الإذن مظنّة لبذل الوسع والفراغ في النظر، أو لعلم السيد بصلاحية العبد المأذون للأمان.

وجوابه : إلغاء الوصف الّذي ذكره المعترض خلفا للإلغاء ، فإن أبدى

__________________

(١) في «ب» و «ج» : بالخبرية.

٣٤٧

وصفا آخر كان جوابه الإلغاء أيضا إلى أن يقف إمّا المعترض أو المستدل ، ولا يكفي إلغاء الوصف بضعف المعنى مع تسليم مظنّة الحكم ؛ كما لو علّل المستدلّ قتل المرتدّة بالردة بالقياس على قتل المرتدّ بها ، فيعترض بالرجولية فإنّها مظنّة الإقدام على القتال وهي العلّة في الأصل ، فيلغيها بمقطوع اليدين فإنّ الرجولية فيه ضعيفة ، وإنّما لم ينفعه لأنّه لمّا سلّم كونها مظنّة فلا ينفعه ضعفها في صورة ، كما لو علّل القصر في السفر بالمشقّة مع أنّها تضعف في المرفّة له.

الاعتراض الثالث عشر : سؤال التعدية

هو أن يعين المعترض في الأصل معنى ويعارض به ثمّ يقول للمستدلّ : ما علّلت به وإن تعدّى إلى فرع مختلف فيه ، فالذي علّلت به أيضا قد تعدّى إلى فرع مختلف فيه ولا أولوية. كقول الشافعي في مسألة إجبار البكر البالغ : فجاز إجبارها كالبكر الصغيرة. فيقول الحنفي : البكارة وإن تعدّت إلى البالغ البكر فالصغر متعد إلى الثيب الصغيرة. واختلفوا في قبوله.

والوجه أنّه لا يخرج عن سؤال المعارضة في الأصل مع زيادة التسوية في التعدية.

وجوابه بإبطال ما عارض به المعترض وحذفه عن درجة الاعتبار بما سبق في سؤال المعارضة في الأصل.

٣٤٨

الاعتراض الرابع عشر : منع وجود الوصف المدّعى علّة في الفرع

كقولهم في أمان العبد : أمان صدر من أهله في محلّه فيصح كالمأذون ، فيمنع المعترض الأهلية في الفرع وهو العبد الغير المأذون له في الحرب.

وجوابه ببيان وجود ما أراد من الأهلية في الفرع ، وهو كجواب منع وجود الوصف في الأصل.

واختلفوا في أنّه هل للسائل أن يقرر هذا السؤال أم لا؟

منع منه قوم ، لأنّ المستدلّ مدّع لوجوده في الفرع فعليه إثباته ، وليس على المعترض نفيه ، وإلّا لانتشر الكلام.

الاعتراض الخامس عشر : المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض حكم المستدلّ

إمّا بنصّ ، أو بإجماع ظاهر ، أو بوجود مانع الحكم في الفرع ، أو بفوات شرط الحكم عنه ولا بد من بيان تحقّقه بطريق كونه مانعا ، أو شرطا على أحد الطرق الّتي أثبت المستدلّ بها كون الوصف الّذي علّل به علّة من التأثير أو الاستنباط.

وقد اختلفوا في قبول هذا السؤال ، فقبله قوم وردّه آخرون.

احتجّ الأوّلون (١) بأنّ قصد المعترض هدم ما بناه المستدلّ ، وهو

__________________

(١) وهو مختار الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٠٧.

٣٤٩

حاصل هنا ، إذ دليله مقاوم لدليله ، ولا منع عليه في سلوك طريق للهدم دون طريق ، ولو منع من ذلك لزم سدّ باب فائدة البحث والاجتهاد والمناظرة.

واحتجّ الآخرون بأنّ من شأن المعترض الهدم ولكن الدليل المعارض يكون استدلالا وتبيانا لا هدما ويلزم منه القلب.

وجواب هذا السؤال أن يقدح فيه المستدلّ بكلّ ما للمعترض أن يقدح فيه أن لو كان المستدلّ متمسّكا به.

وإن عجز المستدلّ عن ذلك كان له دفع السؤال بالترجيح عند قوم لأنّه مهما ترجح ما ذكره المستدلّ بوجه ما من وجوه الترجيح تعيّن العمل به ، وهو المقصود.

ومنع من ذلك قوم ، لأنّ ما ذكره المعترض وإن كان مرجوحا فهو اعتراض ، واختلفوا في أنّه هل يجب على المستدلّ أن يذكر في دليله الإيماء إلى الترجيح؟

فأثبته قوم ، لتوقّف العمل بالدليل عليه فكان من أجزاء الدليل ، فلو لم يذكره لم يكن ذاكرا للدليل.

ونفاه آخرون ، لأنّه مسئول عن الدليل وقد أتى به ، والترجيح خارج عن مسمّى الدليل فلا يجب ذكره ، وتوقّف العمل بالدليل على الترجيح من توابع ورود المعارضة لدفعها لا أنّه جزء من الدليل.

٣٥٠

الاعتراض السادس عشر : اختلاف ضابط الحكمة في الأصل والفرع مع اتحاد الحكمة

كما في مسألة شهود القصاص تسبّب بالشهادة إلى القتل فوجب عليهم القصاص زجرا لهم عن التسبّب ، قياسا على المكره فإنّه يجب عليه القصاص لتسببه في القتل بالإكراه.

فيقول المعترض : الضابط في الفرع الشهادة ، وفي الأصل الإكراه ، والمقصود فيهما وإن كان واحدا ـ وهو الزجر ـ فلا يمكن تعدية الحكم به ، لأنّ الضابط في الأصل غير موجود في الفرع ، والضابط في الفرع يحتمل قصوره عن ضابط الأصل في الإفضاء إلى المقصود.

والجواب عنه : أنّ الجامع ما اشتركا فيه من التسبب المنضبط عرفا ، أو تبيين المساواة بين ضابط الفرع وضابط الأصل في الإفضاء إلى المقصود ، لأنّ احتمال التساوي أرجح وان اقتضاءه أكثر من اقتضاء ضابط الأصل. كما لو كان أصل هذا القياس المغري للحيوان بأن يقال في المسألة تسبّبوا إلى القتل عمدا عدوانا فوجب القصاص زجرا لهم عن التسبّب ، قياسا على وجوب القصاص على المغري للحيوان على الآدمي بأنّ إفضاء الضابط إلى المقصود في الفرع أرجح من إفضاء ضابط الأصل إليه ، من حيث إنّ انبعاث الولي للتشفّي والانتقام في الفرع أغلب من انبعاث الحيوان بالإغراء بسبب نفرته من الآدمي وعدم علمه بجواز القتل وعدمه.

٣٥١

وإذا كان كذلك فلا يضر اختلاف أصلي التسبّب ، وهو كون أصل أحدهما شهادة وأصل الآخر إكراها أو إغراء ، فإنّه اختلاف في فرع وأصل ، فكأنّه قبل الشهادة يوجب القصاص قياسا على الإكراه والإغراء والجامع كون كلّ واحد منهما سببا ، واختلاف الأصل والفرع وكونه شرطا في القياس غير قادح في صحّته وإن بلغ الاختلاف إلى التضاد ، كما يقاس الإرث في طلاق المريض على القاتل في منع الإرث ، كما تقدّم في المناسبة.

ولا يفيد المستدلّ أن يقول : التفاوت بين ضابط الأصل والفرع ملغى مراعاة لحفظ النفس ، كما أنّه ألغى التفاوت بين قطع الأنملة وقطع الرقبة ، لوجوب القصاص على قاطع الأنملة عند اقتضاء القطع إلى الهلاك قياسا على قاطع الرقبة ، وإن كان التفاوت بينهما ظاهرا غير خفي مبالغة في صيانة النفس. وإنّما لا يفيد ، لأنّه لا يلزم من إلغاء تفاوت القاتل إلغاء كلّ تفاوت ، فإنّه قد ألغى التفاوت بين العالم والجاهل فيقتل أحدهما بالآخر ولم يلغ التفاوت بين الحر والعبد.

الاعتراض السابع عشر : اختلاف جنس المصلحة مع اتّحاد الضابط بين الأصل والفرع

كقوله في اللواط : أولج فرجا في فرج مشتهى طبعا ، محرّم شرعا ، فيجب الحدّ كالزاني.

فللمعترض أن يقول : الضابط وإن اتّحد إلّا أنّ جنس المصلحة

٣٥٢

مختلف ، لأنّ الحكمة في الفرع هي صيانة النفس عن رذيلة اللواط ، وفي الأصل دفع محذور اختلاف الأنساب. وقد يتفاوتان في نظر الشرع فمناط الحكم بإحدى الحكمتين دون الأخرى ، وحاصل هذا السؤال يرجع إلى المعارضة.

وجوابه كجوابه ، وهو أنّ التعليل إنّما وقع بالضابط المشترك المستلزم لدفع المحذور اللازم من عموم الجماع ، والتعرّض لحذف ما اختصّ به الأصل بأحد الطرائق الموجبة للحذف ، كالسبر والتقسيم وغير ذلك.

الاعتراض الثامن عشر : مخالفة حكم الفرع لحكم الأصل

بأن يقال : حكم الفرع بخلاف حكم الأصل ، فلا قياس ، لأنّ القياس عبارة عن تعدية حكم الأصل إلى الفرع بواسطة الجامع بينهما ، ومع اختلاف الحكم لا تحصل التعدية من الأصل.

والجواب عنه (١) ببيان اتّحاد الحكم :

إمّا عينا كما في قياس وجوب الصوم على وجوب الصلاة ، وقياس صحّة البيع على صحّة النكاح وانّ الاختلاف إنّما هو عائد إلى المحلّ ، وهو غير قادح في صحّة القياس لكونه شرطا فيه.

وامّا جنسا ، كما في قياس وجوب قطع الأيدي باليد الواحدة على وجوب قتل الأنفس بالنفس الواحدة ، وانّ الاختلاف إنّما هو في عين

__________________

(١) ذكره الآمدي في الإحكام : ٤ / ١١٠.

٣٥٣

الحكم ، فكان ملائما إن كان الاشتراك في جنس العلّة ، أو مؤثرا إن كان الاشتراك في عينها ، وهو غير مبطل للقياس عند القائلين به.

وأمّا إن اختلف الحكم جنسا ونوعا ، كما في إلحاق الإثبات بالنفي أو الوجوب بالتحريم ، وبالعكس ، فقد تقدّم الخلاف في صحّته وفساده.

وباقي الاعتراضات من القلب والنقض والكسر والقول بالموجب وغير ذلك قد تقدّم. (١)

واعلم أنّ الاعتراضات إمّا أن تكون من جنس واحد ، كالنقوض أو المعارضات في أحد ركني القياس ـ أعني : الأصل أو الفرع ـ أو من أجناس متعددة ، كالمنع والمطالبة ، والنقض والمعارضة.

فإن كان الأوّل جاز إيرادها معا باتّفاق الجدليّين إذ لا يلزم منه تناقض ، ولا خروج من سؤال إلى غيره.

وإن كان الثاني فإن كانت الأسئلة غير مترتّبة جاز الجمع بينها عند الجمهور ، ومنع منه أهل سمرقند فإنّهم أوجبوا الاقتصار على سؤال واحد لقربه إلى الضبط وبعده عن الخبط. (٢)

وإن كانت مترتّبة فقد اختلفوا ، (٣) فمنع الأكثر من إيرادها معا ، لأنّ المناظر إذا طالب بتأثير الوصف بعد منع وجوده فقد نزل عن المنع وأشعر

__________________

(١) راجع الفصل الرابع : في مبطلات العلّة ، ص ١٦٨ من هذا الجزء.

(٢) ذكره الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٢٢.

(٣) راجع الإحكام : ٤ / ١٢٢ ـ ١٢٤.

٣٥٤

بتسليم وجوده ، لأنّه لو بقي على منع وجود الوصف لما طالب بتأثيره ، لأنّ تأثير ما لا وجود له محال ، وحينئذ فلا يستحق المعترض جوابا إلّا عن السؤال الأخير.

وجوّزه آخرون بأن يطلب تأثير الوصف بعد منع وجوده على تقدير التسليم لوجوده بأن يقول : لو سلّمنا وجوده تقديرا ، فلا نسلّم تأثيره ، وإذا كان كذلك فلترتّب الأسئلة وإلّا كان منعا لتسليم ما ثبت تسليمه.

فأوّل ما يقدّم سؤال الاستفسار فإنّ من لا يعرف مدلول اللفظ لا يعرف ما يتّجه عليه.

ثم سؤال فساد الاعتبار ، لأنّه نظر في فساده من حيث الإجمال.

ثمّ فساد الوضع ، لأنّه أخصّ من سؤال فساد الاعتبار ، والنظر في الأعم مقدّم.

ثمّ منع الحكم في الأصل.

ثمّ منع وجود العلّة فيه ، لأنّ العلّة مستنبطة من حكم الأصل فيتأخّر السؤال عنها عن السؤال عنه.

ثمّ ما يتعلق بعلّية الوصف ، كالمطالبة ، وعدم التأثير والقدح في المناسبة ، والتقسيم ، وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط ، وكون الحكم غير صالح لإفضائه إلى المقصود.

ثم النقض والكسر لكونه معارضا لدليل العلّة.

٣٥٥

ثمّ المعارضة في الأصل ، لانّه معارض لنفس العلّة فهو متأخّر عن النقض.

ثمّ التعدية والتركيب ، لأنّهما في الحقيقة معارضة في الأصل.

ثمّ منع وجود العلّة في الفرع ، ومخالفة حكمه لحكم الأصل ، ومخالفته للأصل في الضابط ، والمعارضة في الفرع ، وسؤال القلب ، والقول بالموجب.

٣٥٦

المقصد الثاني عشر : في الاستدلال

وفيه مقدّمة وفصول :

أمّا المقدّمة ففي بيان ماهية الاستدلال لغة [فهو] : استفعال من طلب الدليل والطريق المرشد إلى المطلوب.

وأمّا في اصطلاح الفقهاء فإنّه يطلق تارة بمعنى ذكر الدليل ، سواء كان نصّا أو إجماعا أو غيرهما.

ويطلق تارة على نوع خاص من أنواع الأدلّة ـ وهو المراد هنا ـ وهو عبارة عن دليل لا يكون نصّا ولا إجماعا ولا قياسا.

وقيل : ولا قياس علّة ، فيدخل نفي الفارق والتلازم. وأمّا نحو وجد السبب أو المانع أو فقد الشرط هل هو دليل أم لا؟

قيل : إنّه دليل ، وقيل : إنّه دعوى دليل.

والقائلون بأنّه دليل قبل انّه استدلال ، لأنّه ليس بنصّ ولا إجماع ولا قياس.

وقيل : إذا اثبت السبب أو المانع أو الشرط بغير الإجماع والنصّ والقياس فهو استدلال ، وإلّا فلا وإنّما عرفناه بسلب غيره لسبق معرفة غيره عليه ، وأنواعه تذكر في فصول:

٣٥٧

الفصل الأوّل :

في التلازم

وهو عبارة عن الحكم بوجوب صدق قضية على تقدير صدق قضية أخرى ، (١) ويسمّى الصادق الأوّل لازما والثاني ملزوما ، وهو نسبة بينهما عقلية ، ولا يستلزم صدقها صدق كلّ واحد من متعلّقها ، بل ولا صدق أحدهما ، فإنّ التلازم قد يصدق بين كاذبين ، أو كاذب وصادق ، على أن يكون الملزوم كاذبا دون العكس ، وإلّا لزم صدق الكاذب وكذب الصادق ، وقد يمكن ذلك في الملازمة الجزئية.

والملازمة إمّا كلّيّة ، وهي الّتي يحكم فيها بوجوب صدق اللازم على تقدير صدق الملزوم في كلّ زمان ، مع كلّ أمر لا يلزم من اجتماعه معه محال.

وإمّا جزئية وهي الّتي حكم فيها بوجوب صدق اللازم على تقدير صدق الملزوم في بعض الأزمنة ، أو مع بعض الأمور الّتي لا يلزم من اجتماعه معه محال.

__________________

(١) في «د» بزيادة : أو حكم آخر.

٣٥٨

والملازمة الكلّيّة إذا ضم إليها استثناء عين مقدمها انتج (١) عين تاليها تحقيقا للعموم ، وإن ضم استثناء نقيض التالي انتج (٢) عين المقدم تحقيقا للزوم. ولمّا كان اللازم في بعض القضايا غير مقصور على شيء واحد ، بل قد يكون لازما لأمور متعدّدة متباينة لا جرم لم يلزم من وجود اللازم ولا من عدم الملزوم شيء تصحيحا للعموم ، ولو كان اللازم مساويا لملزومه لزم من هذه الحيثية نتائج أربع ، وإن كانت الملازمة جزئية اشترط في انتاج الاستثناء كلية ، لجواز اختلاف زماني الاستثناء وصدق المقدّم لولاه.

واعلم أنّ المتلازمين إمّا أن يكونا ثبوتيين ، أو عدميين ، أو الملزوم ثبوتيا واللازم عدميا ، أو بالعكس.

وأيضا المتلازمان إمّا أن يتلازما طردا وعكسا ، أو طردا لا عكسا.

فإن تلازما طردا وعكسا جاز أن يكونا ثبوتيين ويقينيين ، كالجسم والتأليف فإنّه لمّا كان الجسم ملزوما للتأليف وبالعكس طردا وعكسا ، كان الجسم الثبوتي ملزوما للتأليف الثبوتي طردا وعكسا ، وعدم الجسم السلبي ملزوما لعدم التأليف السلبي طردا وعكسا.

وإن تلازما طردا لا عكسا ، كالجسم والحدوث فإنّ الجسم مستلزم للحدوث دون العكس ، وهما ثبوتيان تلازما ثبوتا (٣) طردا ، فإنّ كلّ

__________________

(١) في «أ» : ابيح.

(٢) في «أ» و «د» : ابيح.

(٣) في «ب» و «د» : ثبوتيا.

٣٥٩

جسم محدث ، وتلازما نفيا (١) عكسا ، فإنّ عدم الحدوث مستلزم لعدم الجسم.

وأمّا المتنافيان فإن تنافيا وجودا وعدما ـ أعني : طردا وعكسا ـ كالحدوث ووجوب البقاء حصل بينهما تلازم من ثبوت ونفي طردا وعكسا ، فإنّ كلّ محدث ليس بواجب ، وكلّ ما ليس بمحدث فهو واجب. وإن تنافيا إثباتا كالتأليف والقدم حصل بينهما استلزام الثبوت للنفي طردا وعكسا ، فإنّ التأليف مستلزم لعدم القدم والقدم مستلزم لعدم التأليف ، فالأوّل طرد والثاني عكس.

وإن تنافيا نفيا حصل التلازم بين نفي وثبوت طردا وعكسا.

مثال الأوّل : من صحّ طلاقه صحّ ظهاره ، وتثبت هذه الملازمة بالطرد ، وتقوى بالعكس ، فتثبت بدوران صحّة الظهار مع صحّة الطلاق وجودا وعدما حتى يلزم كون صحّة الطلاق علّة لصحّة الظهار فيستلزمها.

ويقرّر بأنّ الصحّتين أثران لمؤثر واحد ، ويلزم من ثبوت أحد الأثرين ثبوت الآخر لثبوت المؤثر.

ويقرر أيضا بثبوت المؤثر بأن يقال : مؤثر صحّة الظهار ثابت مع صحّة الطلاق من غير تعيين للمؤثر بأن يقال : إنّما صحّ طلاقه لكذا بشهادة المناسبة ، وتلك العلّة موجودة في ظهاره فيصحّ ، وإلّا كان انتقالا إلى قياس العلّة ولم يكن استدلالا.

__________________

(١) في «ب» : وملازمته.

٣٦٠