نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٤٧٦

ب. منع الظهور ، أي كون النص ظاهرا في مقصود السائل.

ج. التأويل.

د. القول بالموجب ، وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع ومن جملته حذف صغرى غير مشهورة.

ه. المعارضة بنص آخر مثله ليسلم القياس الأوّل.

و. أن يبيّن أنّ القياس من قبيل ما يجب ترجيحه على النصّ المعارض له ببعض وجوه الترجيحات.

مثاله : قول بعض الشافعية في مسألة تارك التسمية : «ذبح من أهله في محلّه» فيحل كناسي التسمية ، فيعترض بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)(١). فيقول المستدلّ : إنّه مأوّل بذبح الكفّار بدليل جري ذكر الله على قلب المؤمن وإن لم يسمّ ، أو بترجيح الفرع وهو المتذكّر على الأصل وهو الناسي ، لأنّ المتذكّر أقرب إلى مقصود الذكر من الناسي ، وذبح الناسي مخصوص بالاتّفاق فذبح المتذكّر أولى. ومثال الجواب القول بالموجب : انّ اعتراض المعترض إنّما ممنوع بأن يقول : هذا ذبح لم يذكر اسم الله عليه ، وما لم يذكر اسم الله عليه لا يحل للآية ، فلو لم يذكر المعترض الصغرى سلّم المستدلّ الآية ونازع في حصول المقصود ؛ فإن أبدى المعترض فارقا بين الأصل والفرع كان ذلك سؤالا آخر ، وهو من قبيل المعارضة في الأصل والفرع لا من فساد الاعتبار.

__________________

(١) الأنعام : ١٢١.

٣٢١

الاعتراض الثالث : فساد الوضع

ويشبه أن يكون حاصله يرجع إلى المنازعة دلالة الدليل في محلّ الاستدلال بعد الموافقة على كونه دليلا في جنسه ، وقد ضرب له أمثلة ثلاثة (١) :

الأوّل : دعوى وقوعه فيما لا يمكن تعليله ، كما إذا استدلّ الشافعي في الحدود والكفّارات على الحنفي فإنّ له أن يقول : القياس إنّما هو فرع تعقّل العلّة في الأصل ، وحكم الأصل غير معقول.

الثاني : دعوى وقوعه في مقابلة النص فيكون باطلا ، إذ الظن المستفاد من النصوص أكثر من الظن المستفاد من الأقيسة ولا وجه للاحتجاج به.

الثالث : دعوى إشعار الوصف بنقيض الحكم ، كما لو قيل في مسألة النكاح بلفظ الهبة : ما ينعقد به غير النكاح لا ينعقد به النكاح كالإجارة. وفي معنى هذا كلّ تعليل أوجب تلقّي التوسع من التضييق ، والتخفيف من التغليظ ، والإثبات من النفي ، وبالعكس بأن يقول ما ذكرته يشعر بنقيض حكمك ، لأنّ انعقاد غير النكاح نقيض انعقاد النكاح به ، لا عدم الانعقاد ، فإنّ الاعتبار يقتضي الاعتبار لا عدمه.

وعلى هذا فكلّ فاسد الوضع فاسد الاعتبار ، وليس كلّ فاسد الاعتبار فاسد الوضع ، لأنّ القياس قد يكون صحيح الوضع وإن كان اعتباره فاسدا

__________________

(١) راجع الإحكام : ٤ / ٧٦ ـ ٧٧.

٣٢٢

بالنظر إلى أمر خارج. ولهذا قدّم سؤال فساد الاعتبار على سؤال فساد الوضع ، لأنّ النظر في الأعم يجب أن يتقدّم على النظر في الأخص ، لاشتماله على ما اشتمل عليه الأعم وزيادة. وأقرب الأمثلة الثاني فإنّ حاصل الأوّل يرجع إلى المطالبة ومنع التأثير ، وحاصل الثالث يرجع إلى منع التأثير والمعارضة.

والجواب عن النوع الأوّل ببيان كون القياس حجّة على وجه يعمّ محلّ الاستدلال وموضع معرفة ذلك لا يقال بالأصول.

وعن الثاني بالقدح فيما يدّعيه ظاهرا بطريق من الطرق المثبتة (١) أو لا ، أو أن يبيّن رجحان ما التجأ إليه على ما ادّعى ظاهرا من كتاب أو سنّة إن أمكن ذلك.

وعن الثالث ببيان كونه مناسبا للحكم من جهة أخرى لكن لا يكفي الاقتصار على ذلك ما لم يقدح في مناسبة المعترض ، أو أن يرجّح ما ذكره على ما ذكره المعترض.

هذا كلّه إذا كان ما أبداه المعترض من المناسب معتبرا ، وإلّا فيكفي المستدلّ بيان المناسبة (٢) وقران الحكم بها لا غير.

وإذا عرف ما قرر في فساد الوضع فلقائل أن يقول : اقتضاء الوصف لنقيض الحكم المرتّب عليه إن ادّعي أنّه مناسب لنقيض الحكم من الجهة

__________________

(١) في «أ» : المبنية ، «ب» : المنفية.

(٢) في «د» : الملازمة.

٣٢٣

الّتي تمسّك بها المستدلّ ، لزم منه كون وصف المستدلّ غير مناسب لحكمه ، ضرورة كون الوصف الواحد لا يناسب حكمين متقابلين من جهة واحدة ، إلّا أنّه يرجع إلى القدح في المناسبة وعدم التأثير ، لا انّه سؤال آخر وإن كان ذلك من جهة أخرى ، لم يمتنع مناسبة وصف المستدل لحكمه من الجهة الّتي تمسّك بها.

ثم لا يخلو إمّا أن يكون جهة المناسبة لنقيض الحكم معتبرة في صورة ، أو لا.

فإن لم يعتبر كان ما يبديه المستدلّ من جهة المناسبة كافية في دفع السؤال ، ضرورة كونها معتبرة ومناسبة المعترض غير معتبرة ؛ وإن كانت مناسبة المعترض معتبرة فإن أورد المعترض ما ذكره في معرض المعارضة قد انتقل عن سؤاله الأوّل إلى سؤال المعارضة ، ووجب على المستدلّ الترجيح لما ذكره ضرورة التساوي في المناسبة والاعتبار. وإن لم يورد ذلك في معرض المعارضة ، وبقي مصرا على السؤال الأوّل فلا يحتاج المستدلّ إلى الترجيح لكونه خاصا بالمعارضة.

وقيل : فساد الوضع كون الجامع قد ثبت اعتباره بنص أو إجماع في نقيض الحكم. كقول الشافعي : مسح فيسن فيه التكرار ، كالاستطابة فيرد أنّ المسح معتبر في كراهة التكرار على الخف. وجوابه ببيان المانع لتعرضه للتلف ، وهو نقض إلّا انّه يثبت النقيض ، فإن ذكره بأصله فهو القلب فإنّ بين مناسبة النقيض من غير أصل من الوجه المدعى فهو القدح في

٣٢٤

المناسبة ومن غيره لا يقدح لإمكان اشتمال الوصف على جهتين ، ككون المحل المشتهى فإنّه يناسب الإباحة لإراحة الخاطر والتحريم لقطع أطماع النفس.

الاعتراض الرابع : منع حكم الأصل

ولمّا كان منع حكم الأصل من قبيل النظر في تفاصيل القياس تأخّر عمّا قبله من الأسئلة ، لكونها نظرا في القياس من جهة الجملة لا التفصيل. والنظر في الجملة مقدّم على النظر في التفصيل.

كقول الشافعي في إزالة النجاسة بالخل : مائع لا يرفع الحدث ، فلا يزيل حكم النجاسة كالدهن. فيقول الحنفي : أمنع الحكم في الأصل ، فإنّ الدهن عندي مزيل لحكم النجاسة.

وقد اختلف الفقهاء (١) في انقطاع المستدلّ إذا توجّه منع حكم الأصل عليه.

فقال قوم : إنّه يكون منقطعا ، لأنّه أنشأ الكلام للدلالة على حكم الفرع لا على حكم الأصل ؛ فاذا منع حكم الأصل ، فإن لم يشرع في الدلالة عليه لم يتمّ مطلوبه ، وهو انقطاع.

وإن شرع فقد ترك ما هو بصدده وعدل عمّا أنشأه من الدليل على حكم الفرع إلى الدلالة على حكم الأصل ، وهذا معنى الانقطاع.

__________________

(١) ذكر الأقوال الآمدي في الإحكام : ٤ / ٧٩ ـ ٨٠.

٣٢٥

وقال قوم : لا يكون منقطعا ، لأنّه إنّما أنشأ الدليل على حكم الفرع ولا يتمّ مقصوده إلّا بالدلالة على حكم الأصل ، فكما يتوقّف دليله على وجود علّة الأصل في الأصل وعلى وجودها في الفرع وعلى وصف العلّيّة ، فكذا يتوقّف على إثبات حكم الأصل ، لأنّه أحد أركان القياس ، وكما لا يمنع أحد من تقرير القياس عند منع وجود علّة الأصل ومنع كونها علّة فيه ، ومنع وجودها في الفرع بإثبات مطلوبه والاستدلال على ما منع في ذلك ، فكذا يجب أن لا يمنع هنا من الاستدلال على الحكم ، لتساوي الكلّ في افتقار القياس إليه.

وقال آخرون : إن كان المنع خفيا بحيث يخفى على أكثر الفقهاء لم يكن منقطعا لظهور عذره بخفائه ، وإن كان ظاهرا فهو منقطع. واختاره أبو إسحاق الإسفرائني.

وقال قوم : يتبع في ذلك عرف كلّ مكان وقع البحث فيه ومصطلح أهله في ذلك. وهو اختيار الغزالي.

وقال آخرون : إن لم يكن له مدرك غيره جاز القياس ، لئلّا تبطل الفائدة المطلوبة مخافة التطويل ، وهو ممتنع ؛ وإن كان له مدرك غيره ، فإن كان المنع خفيا جاز وإلّا فلا ، لما فيه من ارتكاب المحذور مع إمكان التوصل إلى المطلوب دونه.

وقال قوم : لا يعدّ منقطعا إذا دلّ على موقع المنع.

وقال أبو إسحاق الشيرازي : هذا المنع لا يسمعه المستدلّ ، بل يقول :

٣٢٦

إنّما قست على أصلي ، ولا تجب الدلالة عليه وهو بعيد ؛ فإنّ الحجّة إن قصد المستدلّ إثباتها لنفسه ، فلا وجه للمناظرة ؛ وإن قصد إثباتها على الخصم لم يستقم ، إذ لا يقوم على الخصم مع منع الأصل ، وإنّما يتصوّر الاستغناء عن الدلالة على حكم الأصل إذا كان اللفظ الدالّ على الأصل عامّا ، وهو إمّا ممنوع أو غيره كالدّهن ، فإنّه وإن منع الحكم في الطاهر منه ، فهو غير ممنوع في الدهن النجس.

وعند ذلك فله أن يقول : إنّما قست على الدّهن النجس دون الطاهر ؛ وإن كان قياسي عليهما ، فغايته القياس على أصلين وقد بطل التمسّك بأحدهما ، فيبقى التمسّك بالآخر. وإذا ذكر الدليل على موقع المنع.

قال قوم : يكون المعترض منقطعا ليبيّن فساد المنع وتعذر الاعتراض منه على دليل المستدلّ لإفضائه إلى التطويل فيما هو خارج عن المقصود الأصلي في أوّل النظر.

ومنهم من قال : لا يعد منقطعا ، ولا يمنع من الاعتراض على دليل المنع ، ولا يكتفي من المستدلّ بما يدّعيه دليلا ، وإلّا لما كان لقبول المنع معنى ، بل الانقطاع إنّما يتحقّق في حقّ كلّ منهما لعجزه عن إثبات ما يروم إثباته أو نفي ما يروم نفيه.

وإذا ثبت المستدلّ حكم الأصل ؛ فإن كان بنصّ ، فشرطه أن لا يتناول حكم الفرع ، كما لو قال : الأرز مطعوم فيجري فيه الربا كالذرة ، ودلّ على ثبوت الحكم في الذرة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تتبعوا الطعام بالطعام ، لأنّه

٣٢٧

قياس المنصوص على المنصوص ، ولا وجه له.

وكذا إن أثبته بالإجماع. وإن كان طلب إثباته بالقياس قال قوم : لم يكن له ذلك ، لأنّ الجمع في (١) الحالتين إن كان الجامع متحد فلنقس على المتفق عليه من غير توسط المختلف فيه ، إذ التطويل لغير فائدة عبث ؛ وإن اختلف انقطع الإلحاق ، إذ ليس من ضرورة تسليم الحكم في صورة وجد فيها علّة الأصل تسليمه فيما لم يوجد فيه.

الاعتراض الخامس : التقسيم

وهو في عرف الفقهاء عبارة عن ترديد اللفظ بين محامل أحدها ممنوع ، والآخر مسلّم ؛ غير أنّ المطالبة متوجهة ببناء الغرض عليه إذ لو لم يكن يتردّد بين احتمالين لم يكن للترديد معنى ، بل كان يجب حمل اللفظ على ما هو دليل عليه. ولا بدّ من تساويهما ، إذ لو كان ظاهرا في أحدهما لم يكن للتقسيم وجه ، بل كان يجب تنزيل اللفظ على ما هو ظاهر فيه ، سواء كان ممنوعا أو مسلما.

مثاله قولهم : في تيمم الحاضر الصحيح وجد سبب التيمم بسبب تعذّر الماء ، فساغ التيمم. فيقول المعترض : السبب تعذّر الماء مطلقا ، أو تعذّر الماء في السفر ، أو المرض. الأوّل ممنوع.

وكما لو قال المستدل في البيع بشرط الخيار ، وجد سبب ثبوت

__________________

(١) في «د» : بين.

٣٢٨

الملك للمشتري ، فوجب أن يثبت الملك وبين وجود السبب بالبيع الصادر من الأهل في المحلّ. فيقول المعترض : السبب هو مطلق البيع أو البيع المطلق الذي لا شرط فيه. الأوّل ممنوع ، والثاني مسلّم فلم قلتم بوجوده.

قيل : التقسيم وإن كان من شرطه تردّد اللفظ بين المحملين على السواء ، فليس من شرطه كون أحدهما ممنوعا ، والآخر مسلما ، بل قد يسلم كلا الاحتمالين بشرط اختلافهما باعتبار ما يرد على كلّ منهما من الاعتراضات ، إذ مع اتّحادهما فيما يرد عليهما من الاعتراضات مع تساويهما في التسليم لم يبق للتسليم معنى ، بل كان يجب تسليم المدلول وإيراد ما يختصّ به ، ولو اشتركا في المنع انتفت فائدة التقسيم إجماعا. ولا يكلّف المعترض بيان تساوي الاحتمالين في دلالة اللفظ عليهما مفصّلا ، ويكتفي في تصحيح التقسيم ببيان إطلاق اللفظ بإزائهما ، لعسر الأوّل ، فإنّ كلّ وجه يبيّن التساوي فيه للمستدلّ المطالبة بعدم التفاوت من وجه آخر ولو كلّف البيان الإجمالي في التساوي ، فلا عسر بأن يقول : التفاوت يستدعي رجحان أحدهما ، والأصل عدمه.

ولو ذكر المعترض احتمالين لا دلالة للفظ المستدلّ عليهما وأورد الاعتراض عليهما ، كما لو قال في تيمم الصحيح الحاضر : وجد السبب بتعذر الماء فساغ التيمم فيقول : السبب تعذّر الماء أو تعذّره في السفر أو المرض. الأوّل ممنوع ، والثاني مسلّم. وحاصله : منع وجود العلّة في الأصل لكنّه سمّي تقسيما لأنّه بعد تقسيم.

٣٢٩

ولو ذكر المعترض احتمالين لا دلالة للفظ المستدل عليهما وأورد الاعتراض عليهما ، كما لو قال المستدلّ في مسألة الملتجئ : وجد سبب استيفاء القصاص ، فيجب استيفاؤه. ويبيّن وجود السبب بالقتل العمد العدوان ، فيقول المعترض : متى يمكن القول بالاستيفاء مع وجود المانع وهو الالتجاء إلى الحرم ، أو مع عدمه؟ الأوّل ممنوع ، والثاني مسلّم ؛ لكن لم قلت : إنّه لم يوجد ، وبيان وجوده أنّ الحرم مانع ، وبينه بطريقة لم يخل إمّا أن يورد ذلك بناء على تردّد اللفظ المستدلّ بين الاحتمالين المذكورين ، أو على دعواه التلازم بين الحكم ودليله.

والأوّل باطل ، لعدم تردّد لفظ السبب بين ما ذكر من الاحتمالين.

وإن كان الثاني فإن اقتصر على المطالبة ببيان انتفاء المانع فهو غير مقبول ، لما تقرر في من حط مئونة ذلك عن المناظر في الموانع والمعارضات المختلف فيها ، وإن أضاف إلى ذلك الدلالة على وجود المعارض ، رجع حاصل السؤال إلى المعارضة ، ولا حاجة إلى التقسيم.

واعلم أنّ بعضهم منع من اتّجاه هذا السؤال ، لأنّ الاحتمالات إن تساوت كفى سؤال الاستفسار عنه ، وإن كان اللفظ في البعض أظهر منه في الآخر فلا وجه للتقسيم ، لما فيه من ترك ظاهر كلام المستدلّ ، بل الواجب أن يمنع ما هو الظاهر من كلامه إن كان ممنوعا ، وإلّا فلا. وإن أبدى المعترض في تقسيم ما لا مدخل له تحت كلام المستدلّ وبنى كلامه عليه ، كان ذلك عدولا عن كلام المستدلّ إلى غيره ، ولا وجه لإيراده في التقسيم ،

٣٣٠

بل حاصله يرجع إلى المعارضة والوجه سماعه على التقدير الأوّل.

وجوابه من وجوه (١) :

الأوّل : أن يعيّن المستدلّ بعض محامل لفظه ويبيّن وضع اللفظ بإزائه حقيقة لغة إمّا بالنقل اللغوي أو الشرعي أو العرفي ، أو ببيان كونه مشهورا فيكون حقيقة ، لأنّه الغالب. وحينئذ يبطل التقسيم ، لأنّ شرطه التساوي في الدلالة وقد فات.

الثاني : أن يقول : إنّه وإن لم يكن ظاهرا بحكم الوضع فيما عيّنه من الاحتمال غير أنّه ظاهر بعرف الاستعمال ، كلفظ الغائط ونحوه.

الثالث : أنّه وإن لم يكن ظاهرا بالأمرين ، إلّا أنّه ظاهر في عرف الشرع كالصلاة.

الرابع : أنّه وإن تعذر ظهوره بأحد الاعتبارات المذكورة ، لكنّه ظاهر بحكم القرائن المساعدة له في كلّ مسألة.

الخامس : أنّه وإن تعذّر بيان كونه ظاهرا بالطريق المفصّل من هذه الطرق ، فله دفع التقسيم بوجه إجمالي ، وهو أنّ الإجمال على خلاف الأصل فيجب اعتقاد ظهور اللفظ في بعض احتمالاته ضرورة نفي الإجمال عن اللفظ. ثمّ يثبت كونه ظاهرا فيما عيّنه بهذا الطريق الإجمالي ، وهو أن يقول : إذا ثبت أنّه لا بدّ من ظهوره في بعض المحامل نفيا للإجمال ، وجب اعتقاد ظهوره فيما عيّنه المستدلّ ، ضرورة الاتّفاق على عدم ظهوره فيما

__________________

(١) ذكرها الآمدي في الإحكام : ٤ / ٨٣.

٣٣١

عداه ؛ أمّا عند المعترض ، فلادّعائه الإجمال ؛ وأمّا عند المستدلّ ، فلادّعائه ظهوره فيما ادّعاه خاصة.

السادس : أن يبيّن أنّ اللفظ له احتمال آخر غير ما تعرّض له المعترض بالمنع والتسليم، وأنّه المراد فيندفع التقسيم إلّا أن يكون المعترض قد احترز عن ذلك بأن عين مجملا ، وقال : إن أردت هذا فمسلّم ، وإن أردت غيره فممنوع.

وإن أراد المستدلّ العدول إلى الفقه فإن كان قادرا على تنزيل كلامه على أحد القسمين : المسلّم والممنوع ، فالأولى في الاصطلاح الصناعي تنزيله على المسلّم دون الممنوع ، وإن جمع بينهما فهو جائز شرعا لكنّه تطويل ؛ وإن لم يمكنه تنزيل كلامه على غير الممنوع ، فلا محيص له عنه وكان منقطعا.

وموقع سؤال التقسيم بعد منع حكم الأصل لكونه متعلّقا بالوصف المتفرع عن حكم الأصل ، وأن يكون مقدّما على منع وجود الوصف لدلالة منع الوجود على تعيين الوصف والتقسيم على الترديد.

وأن يكون مقدّما على سؤال المطالبة بتأثير الوصف المدعى عليه ، لكونه مشعرا بترديد لفظ المستدل بين أمرين. والمطالبة بتأثير الوصف مشعرة بتسليم كونه مدلولا للفظ لا غير ضرورة تخصيصه بالكلام عليه ، وإلّا كان التخصيص به غير مفيد ، وإيراد ما يشعر بالترديد بعد ما يشعر بتسليم اتّحاد المدلول يكون متناقضا.

٣٣٢

الاعتراض السادس : منع وجود العلّة في الأصل

ولكون النظر في علّة الأصل متفرعا عن حكم الأصل ، وجب تأخيره عن النظر في حكم الأصل ، وعن التقسيم.

ومثاله : قول الشافعي في مسألة جلد الكلب : حيوان يغسل الإناء من ولوغه سبعا فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير. فيقول الخصم : يمنع وجوب الغسل سبعا من ولوغ الخنزير.

وجوابه يذكر ما يدلّ على وجوده من عقل أو حسّ أو شرع ، على حسب حال الوصف في كلّ مسألة ، أو أن يفسر لفظه بما لا يمكن الخصم منعه وإن كان احتمال اللفظ له بعيدا ، كما لو قال في المثال : أعني به ما إذا لم يغلب على ظنه الطهارة.

وإن فسّر لفظه بما له وجود في الأصل ، غير أنّ اللفظ لا يحتمله ، فقد اختلفوا في قبوله ، فردّه جماعة وقبله بعض المتأخّرين. والأوّل أقرب ، لأنّ قصد الوضع تحصيل المعنى من اللفظ وتعريف الغير ما في الضمير وانّما يتم مع ضبط الوضع ، فلو قبل من كلّ أحد تفسير كلامه بما لا يحتمله لغة عند عجزه في المناظرة ، أدّى ذلك إلى اضطراب اللغة وإبطال فائدة وضعها.

٣٣٣

الاعتراض السابع : منع علّيّة الوصف المذكور

ويلقّب بسؤال المطالبة ويسأل عنه بلم والحاجة داعية إليه ، إذ هو أعظم مقاصد النظر وأعظم الأسئلة الواردة على القياس ، لعموم وروده على كلّ وصف يدّعى كونه علّة ، وتشعب مسالكه ، واتّساع طرق إثباته.

وقد اختلفوا في قبوله ، والوجه قبوله ، لأنّ ما يدّعى كونه علّة إمّا أن يكون معتقدا له أو ليس. فإن لم يكن معتقدا له ، امتنع صحّة الإلحاق به ؛ وإن كان معتقدا استحال أن يكون بمجرد التحكم ، فلا بدّ له من دليل ، فيجب إظهاره تحصيلا للفائدة والانقياد إليه. ولا يمكن الالتجاء إلى كون الحكم ثابتا على وفقه ، لأنّ الجامع في الأصل يجب أن يكون بمعنى الباعث ، والوصف الطردي لا يصحّ أن يكون باعثا فيمتنع التمسّك به في القياس ، فلو لم يقبل منع تأثير الوصف والمطالبة بتأثيره أفضى [ذلك] إلى التمسّك بالأوصاف الطردية لعلمه بامتناع مطالبته بالتأثير ولا يخفى وجه بطلانه.

وقد احتجّ الرادّون له بوجوه (١) :

الأوّل : لو قبل هذا السؤال لزم التسلسل ، إذ ما من دليل ينصب عليه ويذكره المستدلّ على كون الوصف علّة ، إلّا وقد يتوجّه للمعترض أن يقول : لم قلت إنّه دليل.

الثاني : المستدلّ قد أتى بدليل الواجب عليه وهو القياس الّذي هو

__________________

(١) ذكرها الآمدي مع الإجابة عنها في الإحكام : ٤ / ٨٧ ـ ٨٨.

٣٣٤

عبارة عن رد الفرع إلى الأصل بجامع ، فيخرج عن وظيفته ، إذ الأصل انّ كلّ وصف ثبت الحكم عقيبه أن يكون علّة ، إلّا أن يتبين فساده.

الثالث : أن يقول : ما وقفت عليه بعد البحث والسبر ليس إلّا هذا ، فإن كان معك شيء غيره فاذكره ، وإلّا فيجب أن يعترض على ما أبديته أو يعترف بما قلته.

الرابع : أن يقول : يلزمك الاعتراض على ما أبديته ، وإلّا فعجزك دليل صحّته. واستدلّ بكون المعجزة دليل صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس ذلك إلّا لعجز الناس عن الاعتراض عليها ؛ وإذا كان ذلك دليل صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّه من أعظم أصول الدين ، فليس يثبت به كون ما نحن فيه دليلا بطريق الأولى.

الخامس : الأصل أن كلّ ما ثبت الحكم عقيبه في الأصل أن يكون علّة ، فمن ادّعى أنّ الوصف الجامع ليس بعلة فعليه الدليل.

السادس : قولهم : حاصل هذا السؤال يرجع إلى المنازعة في علّة الأصل ، ويجب أن يكون متنازعا فيها ليتصوّر الخلاف في الفرع.

السابع : حاصل القياس يرجع إلى تشبيه الفرع بالأصل ، والشبه حجّة ، وقد تحقّق ذلك بما ذكر من الوصف الجامع ، فلا حاجة إلى إبداء غيره.

الثامن : قولهم : هذا الوصف مطرد لم يتخلّف حكمه عنه في صورة ، فكان صحيحا.

والجواب عن الأوّل : بمنع التسلسل ، فإنّه لو ذكر ما يفيد أدنى ظن

٣٣٥

بالتعليل كفاه ولا يسمع بعد ذلك مطالبة أصلا ، لأنّه يكون عنادا ، لأنّ المطالبة بعلّية ما غلب على الظن كونه علّة بعد ذلك عناد محض ، فيكون مردودا إجماعا. كيف وانّ هذا يوجب أن لا يقبل ما أتى به المستدلّ أيضا ، فإنّ الفرق بينهما ممّا لا حاصل له.

وعن الثاني : بمنع تحقّق القياس بجامع لا يغلب على الظن كونه علّة.

وعن الثالث : بأنّ البحث مع عدم الاطّلاع على ما عدا الوصف المذكور استدلالا على تصحيح العلّة بالسبر وهو من الطرق المثبتة لها على ما تقدّم ، وفي ذلك قبول المطالبة والجواب عنها وليس برد لها في نفسها.

وعن الرابع : انّه لو كان عجز المعترض عن الاعتراض دليل صحة العلّة ، لكان عجز المستدلّ عن تصحيح العلّة دليل فسادها ، ولا أولوية ؛ ولأنّه لو جاز أن يثبت كون الوصف علّة بعجز المعترض عن الاعتراض ، لوجب أن يثبت الحكم المتنازع فيه بعجز المعترض عن الاعتراض على إبطال ما ادّعى من الحكم في الفتوى ، ولم يقل به أحد ؛ والفرق بين العجز وما نحن فيه ظاهر ، فإنّ العلم الضروري حاصل في المعجزة باستنادها إلى غير قوة البشر.

وعن الخامس : بمنع أصالة علّيّة كلّ ما يثبت الحكم معه من الأوصاف.

وعن السادس : أنّ علّة الأصل وإن كان متنازعا فيها ، فلا بدّ من دليل ظنيّ يدلّ على كونها علّة كما في الحكم المختلف فيه.

٣٣٦

وعن السابع : أنّ إثبات الحكم في الفرع متوقّف على ظن إثباته ، ولا نسلّم أنّ مطلق المشابهة بين الأصل والفرع في مطلق وصف مفيد للظن.

وعن الثامن : بما تقدّم من إبطال التعليل بالوصف الطردي.

الاعتراض الثامن : القدح في مناسبة الوصف المعلّل به

بما يلزم من ترتيب الحكم على وفقه لتحصيل المصلحة المطلوبة منه وجود مفسدة مساوية لها ، أو راجحة عليها ، وقد سبق وجه الاختلاف فيه وبيان إبطاله ، إلّا أن يبيّن ترجيح المصلحة على المفسدة بطريق إجمالي أو تفصيلي.

الاعتراض التاسع : القدح في صلاحية إفضاء الحكم إلى ما علّل به من المقصود

كما لو علّل حرمة المصاهرة على التأبيد في حق المحارم بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب المؤدّي إلى الفجور ، فإذا تأبّد انسدّ باب الطمع المفضي إلى مقدّمات الهم والنظر المفضية إلى ذلك. فيقول المعترض : بل سدّ باب النكاح أفضى إلى الفجور والنفس مائلة إلى ما منعت عنه.

والجواب (١) : أنّ الحرمة المؤبدة ممّا يمنع من النظر إلى المرأة بشهوة عادة ، والامتناع العادي على مر الزمان يصير كالامتناع الطبيعي ، وبه يتحقّق انسداد باب الفجور ، كالأمّهات.

__________________

(١) ذكره الآمدي في الإحكام : ٤ / ٩١.

٣٣٧

الاعتراض العاشر : كون الوصف باطنا خفيّا

كالرضا والقصد لو علل بهما ، فإنّهما من الأوصاف الباطنة الخفية الّتي لا يطّلع عليها بأنفسها والحكم الشرعي خفي ، فلا يعرّف بالخفي.

وجوابه (١) بضبط الرضا بما يدلّ عليه من الصبغ (٢) الظاهرة ، وضبط القصد بما يدلّ عليه من الأفعال الظاهرة. وكلّ ذلك معلوم في المسائل الخلافية.

الاعتراض الحادي عشر : كون الوصف مضطربا غير منضبط

كالتعليل بالحكم والمقاصد ، مثل التعليل بالجرح والمشقّة والزجر والردع. فإنّ هذه الأوصاف ممّا تضطرب وتختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال وعادة الشرع في مثل هذه رد الناس إلى المظان الظاهرة الجلية ، دفعا للمشقة والعسر في البحث عنها ، ومنعا عن الاضطراب في الأحكام عند اختلاف الصور بسبب الاختلاف في هذه الأوصاف بالزيادة والنقصان.

وجوابه (٣) : إمّا ببيان انضباط ما علل به بنفسه أو بضابطه ، كالسفر الّذي هو ضابط للحرج والمشقّة.

__________________

(١) ذكره الآمدي في الإحكام : ٤ / ٩٢.

(٢) في «أ» و «ج» : الصنع ، وفي «د» : الصيغ.

(٣) ذكره الآمدي في الإحكام : ٤ / ٩٢.

٣٣٨

الاعتراض الثاني عشر : المعارضة في الأصل بأمر آخر غير ما علّل به المستدلّ

وحاصله راجع إلى إبداء وصف في الأصل وراء ما ذكره المستدلّ يصلح أن يكون علّة ، كمعارضة من علّل تحريم ربا الفضل في البر بالطعم بالكيل أو القوت ؛ أو أن يكون جزءا من العلّة ، كمعارضة من علّل وجوب القصاص في القتل بالمثقل بالقتل العمد العدوان بالجارح في الأصل ونحوه.

وقد اختلف الجدليون فيه : فقبله قوم ، ومنعه آخرون.

واحتج المانعون (١) بأنّا لو قدرنا انفراد ما ذكره المستدلّ كان علّة ، وليس ذلك إلّا لصلاحية التعليل لا لعدم المعارض ؛ فإنّ العدم لا يكون علّة ، ولا جزءا منها ، فإذا وجد المعارض فالصلاحية باقية بحالها لم ينجزم (٢) ، فالتعليل به بعد وجود المعارض أيضا شائع ، أقصى ما في الباب أنّه قد وجد أمر آخر صالح للتعليل ، ولا امتناع من ازدحام علّتين على حكم واحد. ولأنّه لا معنى للعلّة إلّا ما ثبت الحكم عقيبها ، وهذا المعنى موجود في الوصفين فكان كلّ منهما علّة.

واحتجّ من قبله بأنّه متى ظهر في الأصل ما يصلح للتعليل وراء ما

__________________

(١) راجع الإحكام : ٤ / ٩٧ ، الاعتراض الخامس عشر.

(٢) في «أ» : تنخرم.

٣٣٩

ذكره المستدلّ فالاحتمال دائر بين أمور أربعة : بين أن يكون الحكم مضافا إليهما معا ؛ أو إلى واحد منهما معين أو مبهم على وجه لو تعيّن أحدهما امتنع التعليل بالآخر ؛ أو إلى كلّ واحد منهما ، فإن كان مضافا إليهما امتنع الإلحاق ، وإن كان معينا لزم الترجيح من غير مرجّح ، وإن كان مبهما امتنع الإلحاق أيضا ، إذ ليس اعتبار ما عيّنه المستدلّ على وجه يمتنع معه التمسّك بما عيّنه المعترض بأولى من العكس ، فيتقابل الجانبان ، ولا يمكن التعليل بكلّ منهما ، لاستحالة تعدّد العلل.

وهل يجب على المعترض أن يبيّن في الفرع نقيض ما عارض به في الأصل ويردّه إلى الأصل ، كما لو قال في البيع الفاسد مثلا : إنّه عقد معاوضة فيستوي بين صحيحه وفاسده كالكتابة؟ فقال المعترض : السبب في الأصل إنّما هو العتق ، وذلك ممّا ندب الشارع إلى تحصيله بأبلغ الطرق ، بخلاف البيع فإنّه عقد تمليك فأشبه النكاح ، فقد اختلفوا فيه :

فقال قوم : لا يجب عليه ذلك ، فإنّه إن كان موجودا في الفرع فيفتقر المستدلّ إلى بيان وجوده فيه ليصح الإلحاق ، وإن لم يبيّن ذلك انقطع الجمع.

ومنهم من قال : لا بدّ له من نفيه عن الفرع ، لأنّ مقصوده الفرق ، وذلك لا يتمّ دون نفيه عن الفرع.

وقيل بالتفصيل :

فإن المعترض إن قصد الفرق ، فلا بدّ له من نفيه ؛ وإن لم يقصد الفرق

٣٤٠