نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٤٧٦

الماهية ، فإذا عدم جزء من أجزائها عدمت العلّيّة ، فإذا عدم آخر لم يؤثر شيئا لانتفاء العلّيّة بعدم الجزء الأوّل فلا يحصل مرة أخرى فقد عدم جزء من الماهية ولم يترتب عليه عدم علّيّة تلك الماهية فقد حصل النقض في العلّة العقليّة ، لأنّ اقتضاء عدم جزء الماهية عدم علّيّة تلك الماهية أمر حقيقي ، سواء كانت علّة الشيء عقلية أو وضعية.

لا يقال : هذا يقتضي نفي المركّبات ، لأنّ عدم كلّ جزء من أجزاء المركب علّة مستقلّة لعدم تلك الماهية ، فيعود المحال.

لأنّا نقول : الماهية هي نفس مجموع تلك الأجزاء ، فلم يكن عدم بعض تلك الأجزاء علّة لعدم شيء آخر ، بخلاف العلّيّة فإنّها حكم زائد على الماهية وعدمها معلّل بعدم كلّ جزء فافترقا.

الثاني : كون الشيء علّة لغيره صفة لذلك الشيء زائدة عليه ، سواء حصلت لذاته أو بالفاعل لإمكان تصوّر الشيء حال الجهل بالعلية ولصحة كذا علّة ، فإن كان مركبا فإن حصلت بكلّ جزء تمامها فكلّ جزء علّة وهو محال ، لاستحالة تعدد محل الواحد الشخصي ولاستلزامه كون كل واحد من تلك الأجزاء علّة تامّة ، إذ معنى كون الشيء علّة حصول صفة العلّيّة له ، وإن حصل في كلّ جزء جزء منها لزم انقسام الصفة العقلية فيكون للعلّيّة نصف وثلث ، وهو غير معقول.

الثالث : كلّ جزء ليس بعلّة فإن لم يحصل عند الاجتماع زائد لم تكن الأجزاء بمجموعها علّة كما لم يكن بافرادها ، وإن حصل فالمقتضي له إن

٢٦١

كان كلّ واحد من الأجزاء فكلّ جزء علّة فهو علّة ، هذا خلف. وإن كان المجموع فالكلام في اقتضاء المجموع لذلك الأمر الحادث كالكلام في اقتضاء ذلك المجموع للعلّة ، فيلزم أن يكون بتوسط حدوث أمر آخر ويتسلسل.

الرابع : لو كانت العلّة مركّبة لتوقّف وجودها على وجود كلّ واحد من أجزائها ، ويلزم منه كون عدم كلّ جزء علّة مستقلّة لعدمها ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

والشرطية ظاهرة ممّا تقدّم ، وبطلان التالي انّ تلك الأجزاء لو عدمت فإن كان عدم كلّ جزء علّة مستقلّة لعدم العلّة. ومعنى الاستقلال أنّه المفيد لذلك دون غيره ، لزم امتناع استقلال كلّ واحد منها ، وإلّا كان البعض لزم الترجيح من غير مرجّح ، وإن لم يكن شيء منها علّة لزم خروج كلّ جزء عن كونه مستقلا ؛ وقيل : إنّه كذلك ، هذا خلف.

الخامس : كلّ واحد من تلك الأوصاف إن كان مناسبا للحكم كان علّة مستقلّة لوجود المناسبة والاقتران ، وإن لم يكن مناسبا ولا شيء منها ، فضم ما لا يصلح للتعليل إلى ما يصلح له لا يكون مفيدا للتعليل ، وإن كان البعض فهو العلّة.

وأجيب عن الأوّل. بأنّ النقض إنّما يلزم لو جعلنا عدم الجزء علّة لعدم علّية الماهية ، وهي بناء على كون العدم علّة ، وهو ممنوع.

وليس بجيد ، لما مر من أنّ العلّيّة صفة اعتبارية ، فجاز اتّصاف العدم

٢٦٢

بها. وأيضا ليس عدم كلّ جزء علّة لعدم صفة العلّيّة ، لأنّ وجود كلّ جزء شرط للعلّيّة فعدمه يكون عدما لشرطية العلّيّة. والتحقيق في الجواب : انّ عدم الماهية مستندا إلى عدم أي جزء كان لا إلى عدم كلّ واحد ، بل عدم كلّ واحد لما اشتمل على عدم أي جزء كان صار علّته بالعرض لاشتماله عليها.

وعن الثاني. أنّ العلّيّة ليست صفة ثبوتية ، وإلّا لزم التسلسل ، فلا يصحّ أن يقال : إمّا أن يحلّ كلّ واحد من الأجزاء بتمامها ، أو ينقسم بحسب انقسام أجزاء الماهية ؛ ولأنّ معنى كون المجموع علّة قضاء الشارع بالحكم رعاية لما اشتملت عليه الأوصاف من الحكم وليس ذلك صفة لها ، ولأنّه ينتقض بكون الشيء خبرا أو أمرا أو غير ذلك.

وعن الثالث. أنّه منقوض لكلّ واحد من العشرة ، فإنّه ليس بعشرة ، وعند الاجتماع تحصل العشرة.

فإذا عرفت هذا فنقول : نقل أبو إسحاق الشيرازي عن بعضهم أنّه لا يجوز أن تزيد الأوصاف على سبعة. ولا وجه له.

تنبيه

قد عرفت أنّ الشرط هو الّذي يلزم من عدم الحكم ولا يكون جزءا من العلّة ، أو أنّه الّذي يلزم من عدمه مفسدة دافعة لوجود الحكم.

إذا ثبت هذا فاعلم أنّ بعضهم لم يفرّق بين جزء العلّة ومحلّها وشرط

٢٦٣

ذات العلّة وشرط علّتها ، وهم المثبتون للطرد المنكرون لتخصيص العلّة ، لأنّ العلّة الشرعية ما يكون معرّفا للحكم ، وإنّما يكون معرّفا عند اجتماع كلّ القيود من الشرط والإضافة إلى الأهل والمحلّ ، فكلّ قيد جزء المعرّف فيكون جزء العلّة.

نعم قد يكون بعض هذه القيود أقوى في الوجود من بعض ، فإنّ حقيقة القتل أقوى في الوجود من صفته ، أعني : إضافته إلى القاتل وإلى المقتول ، لاحتياج هذه إليها. وقد يناسب بعض القيود دون بعض ، أو يكون أقوى مناسبة (١) ، ولا يخرج المجموع عن كونه هو المعرف لهذا التفاوت ، فلا فرق بين الجزء والشرط.

وفائدة هذا البحث أنّه لو صدر بعض الأجزاء عن إنسان والباقي عن آخر ، فإن تساوت في القوة والمناسبة اشتركا وإلّا نسب الفعل إلى فاعل الجزء الأقوى. وهذه فائدة حاصلة على تقدير تسميته جزء العلّة أو شرطها.

ومنهم من سلّم الفرق ، وزعم أنّ العلّة إن عرفت بالنص فما دلّ النصّ على كونه مناطا ، هو العلّة. وسائر القيود الّتي عرف اعتبارها بدلائل منفصلة [نجعلها] شرائط.

وإن عرفت بالاستنباط فالمناسب هو العلّة والمعتبر في تحقّق المناسبة ، ولا يكفي فيها جزء العلّة وما ليس مناسبا ولا جزءا منه فهو الشرط وإن عرفنا العلّة بغير المناسبة من باقي الطرق لم يظهر الفرق والنزاع لفظي.

__________________

(١) في المحصول : ٢ / ٤٠٢ : أو يكون بعضها أقوى في المناسبة من بعض.

٢٦٤

تنبيه

الإجماع على أنّه لا يجوز التعليل بالاسم ، كتعليل تحريم الخمر بأنّ العرب سمّته خمرا ، للعلم الضروريّ بأنّ مجرّد الألفاظ لا تأثير لها في الأحكام. فإن أريد به تعليله بمسمّى هذا الاسم من كونه مخامرا للعقل ، كان تعليلا بالوصف لا بالاسم.

البحث الحادي عشر : في التعليل بالصفات المقدّرة

المشهور أنّه لا يجوز التعليل بذلك خلافا لبعض الفقهاء. كقولهم : الملك معنى مقدّر شرعي في المحل أثره إطلاق التصرّفات ، أو أنّ الملك الحادث يستدعي سببا حادثا وهو قوله : بعت واشتريت ، وهاتان مركّبتان من حروف متتالية لا يوجد أحدهما مع الآخر ، فلا وجود حقيقي لهاتين الكلمتين ، بل وجودهما تقديري بمعنى أنّ الشارع قدّر بقاء تلك الحروف إلى وقت حدوث الملك لوجوب وجود العلّة عند وجود المعلول. وقد يذكرون هذا التقدير في جانب الأثر فيقولون : إنّ من عليه الدين يكون ذلك الدين مقدّرا في ذمّته.

وهذا الكلام تخيّل لا تحقيق فيه ، لأنّ الوجوب إمّا خطاب الشرع كقول الأشعري ، أو كون الفعل في نفسه بحيث يكون للإخلال به مدخل في استحقاق الذم كقول المعتزلة.

وعلى التقدير الأوّل لا حاجة في تعلّق الخطاب إلى معنى حادث

٢٦٥

يكون علة له ، لأنّ ذلك التعلّق قديم فلا يكون معلّلا بالمحدث.

وفيه نظر ، فإنّ التعلّق أمر إضافي لا يعقل قدمه إلّا بقدم مضافة (١) ، نعم المتعلّق يمكن دعوى قدمه عندهم.

وعلى التقدير الثاني فالمؤثّر في الأحكام إنّما هي جهات المصلحة والمفسدة فلا حاجة إلى بقاء الحروف.

وأيضا المقدّر على وفق الواقع ، والحروف لو وجدت مجتمعة خرجت عن أن تكون كلاما ، فلو قدّر الشارع بقاء الحروف الّتي حصل منها قوله : «بعت واشتريت» لم يحصل عند اجتماعها هذا الكلام ، لعدم أولوية سماعها على هذه الصيغة على سماعها على باقي تعاليها. (٢)

وتقدير المال في الذمّة باطل ، ومعناه أنّ الشرع مكّنه إمّا في الحال ، أو في المستقبل بأن يطالبه بذلك القدر من المال ، فهذا معقول شرعا وعرفا.

فأمّا التقدير في الذمّة فلا حاجة في العقل والشرع إليه.

واعترض بأنّ تفسير الوجوب بتعلّق الخطاب ينافي قول الأشاعرة بحدوثه فيفتقر إلى سبب حادث ، وكون الحكمة مؤثرة في الحكم لا ينافي كون الوصف مؤثرا لما تقدّم ، وكون التقدير على وفق الواقع ليس معناه أنّ المقدّر يعطى حكمه (٣) لو كان موجودا بل معناه أن يعطى حكم مؤثر موجود.

__________________

(١) في «أ» : إضافية.

(٢) كذا في النسخ ولعلّ الصحيح : على باقي صيغها.

(٣) في «أ» : حكمة ، وفي «ج» : حكم.

٢٦٦

البحث الثاني عشر : في التعليل بالأمارة

اختلفوا في جواز كون العلّة في الأصل بمعنى الأمارة المجرّدة ، فأثبته قوم ومنعه آخرون.

وشرطوا (١) في العلّة أن تكون في الأصل بمعنى الباعث ، أي تكون مشتملة على حكمة صالحة تصلح أن تكون مقصودة للشارع في شرعية الحكم ؛ إذ لو كانت وصفا طرديا لا حكمة فيه بل مجرد أمارة على التعليل ، لزم الدور ؛ لأنّ علّة الأصل مستنبطة من حكمه ومتفرّعة عنه ، فلو كانت معرفة لحكم الأصل لكان متوقّفا عليها ومتفرّعا عنها ، وهو دور.

وأيضا لا فائدة في الأمارة سوى تعريف الحكم ، والحكم في الأصل معلوم بالنصّ لا بالعلّة المستنبطة منه.

وفيه نظر ، فإنّ العلل عند الأشاعرة كلّها أمارات ولا يجوز إثبات الفرضية في شيء منها.

تذنيب

إذا كانت العلّة بمعنى الباعث ، فشرطها أن يكون ضابط الحكمة المقصودة للشرع من إثبات الحكم أو نفيه ، بحيث لا يثبت الحكم مع علم انتفاء الحكم في صور ما ، وإلّا كان فيه إثبات الحكم مع انتفاء الحكم المطلوبة منه قطعا ، وهو ممتنع ، كما لو قيل حكمة القصاص إنّما هي صيانة

__________________

(١) وهو قول الآمدي في الإحكام : ٣ / ٢٢٤ ، المسألة الثانية.

٢٦٧

النفس المعصومة عن الفوات ، فمن ضبط صيانة النفس عن الفوات بالجرح خاصة لزمه شرع القصاص في جارح الميت ضرورة وجود الضابط مع تيقّن انتفاء الحكمة أو نفي الحكم مع وجود علّته ، وهو محال.

لا يقال (١) : وإن لزم من ذلك إثبات الحكم في صورة بدون حكمة ذلك الضابط في الأصل المذكور ، فإنّما يمتنع الضبط به إن لو لم يكن له سوى حكمة واحدة. أمّا إذا جاز أن يكون الوصف الواحد ضابطا في كلّ صورة لحكمة ، فانتفاء حكمة إحدى الصورتين عن الأخرى لا يوجب أن يكون ثبوت الحكم في الصورة الّتي انتفت عنها تلك الحكمة عريا عن الفائدة ، بل يكون ثبوته بالحكمة الخاصة بتلك الصورة ، فالضابط لها ولحكمة الحكم في الصورة الأخرى شيء واحد.

لأنّا نقول : إذا اتّحد الضابط فاختصاصه في كلّ صورة بحكمة مخالفة للحكمة المختصّة به في الصورة الأخرى ، أمّا أن يكون ذلك لذاته والمخصص يخصص بتلك الصورة دون الأخرى.

والأوّل باطل ، وإلّا لزم الاشتراك بين الصورتين في الحكمتين ضرورة اتّحاد المستلزم لها.

وإن كان الثاني فما به التخصيص في كلّ واحدة من الصورتين ، ولا وجود له في الأخرى يكون من جملة الضابط ، فالضابط للحكمتين يكون مختلفا وإن كان مركبا من الوصف المشترك وما به تخصّصت كلّ صورة.

__________________

(١) ذكر الآمدي الإشكال والجواب عنه في الإحكام : ٣ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

٢٦٨

فائدة

شرط جماعة (١) في ضابط الحكمة أن يكون جامعا بحيث لا توجد الحكمة يقينا في صورة دونه ، لأنّ الحكم إن ثبت في الصورة التي وجدت الحكمة فيها دون الضابط ، لزم استناد الحكم إلى الحكمة دون ضابطها وهو محال لما فيه من الاستغناء عن الضابط لإمكان إثبات الحكم بالحكمة دونه ؛ وإن لم يثبت لزم إهمال تبيين الحكمة مع العلم بأنّ الحكم لم يثبت إلّا بها ، كمن ضبط العمدية باستعمال الجارح ، حيث إنّه يلزم منه إهمال العمدية مع تيقّن وجودها في الحرق أو التغريق أو المثقل كالحجر العظيم.

اعترض (٢) بأنّ المحذور إنّما يلزم لو امتنع تعليل الحكم في صورتين بعلّتين. ومع جوازه فلا يمتنع أن تكون حكمة الحكم في الصورتين واحدة ، ولها في كلّ صورة ضابط بحسب تلك الصورة ، وذلك لا يستلزم إهمال الحكمة ولا إلغاء الضابط.

البحث الثالث عشر : في تعليل الأصل بعلّة متأخّرة

اختلفوا في جواز تعليل حكم الأصل بعلّة متأخّرة عن ذلك الحكم في الوجود ، كتعليل إثبات الولاية للأب على الصغير الّذي عرض له الجنون بالجنون ، فإنّ الولاية ثابتة قبل عروض الجنون.

__________________

(١) نقله الآمدي في الإحكام : ٣ / ٢٦٣ ، المسألة الخامسة عشرة.

(٢) ذكره الآمدي في الإحكام : ٣ / ٢٦٤.

٢٦٩

فذهب جماعة إلى منعه (١) ؛ لأنّ العلّة إمّا بمعنى الباعث ، ويلزم من تأخّرها عن الحكم ثبوت الحكم بغير باعث ، أو بباعث غير العلّة المتأخّرة عنه ، لاستحالة ثبوت الحكم بباعث لا تحقّق له مع الحكم.

وإمّا بمعنى الأمارة ، وهو باطل ، لامتناع التعليل بمجرد الأمارات ؛ ولأنّها إذا كانت بمعنى الأمارة ففائدة الأمارة إنّما هو في تعريف الحكم ، وقد عرف قبلها ضرورة سبقه في الوجود عليها ، وتعريف المعروف محال.

لا يقال : إنّما يستقيم ما ذكرتم لو امتنع تعليل الحكم الواحد بعلّتين ، أمّا على تقدير جوازه فلا يمتنع تعليله بعلّة مصاحبة وأخرى متأخّرة.

لأنّا نقول (٢) : قد بيّنّا امتناع تعليل الحكم بعلّتين في صورة واحدة ، ولو قدرنا جوازه فإنّما يجوز بتقدير أن لا تكون إحدى العلّتين متقدّمة على الأخرى.

وفيه نظر ، لجواز أن يكون بمعنى الباعث والغاية متأخّرة في الوجود ، وبمعنى المعرّف ويجوز تأخّره ، لأنّ المعرّف في الأصل النص وفي الفرع العلّة المتأخّرة.

__________________

(١) وهو مختار الآمدي في الإحكام : ٣ / ٢٦٤.

(٢) ذكر الإشكال والجواب عنه في الإحكام : ٣ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

٢٧٠

البحث الرابع عشر : في أنّ تعليل العدمي بالوجودي لا يتوقّف على وجود المقتضي

الحكم إذا كان عدما وكانت العلّة له وجود مانع أو فوات شرط اختلفوا في اشتراط وجود المقتضي لإثباته. وهذا البحث متفرّع على جواز تخصيص العلّة ، فإنّا لو أنكرناه امتنع الجمع بين المقتضي والمانع. أمّا على تقدير جوازه فإنّه ممكن.

احتجّ المانع من اشتراطه بوجوه (١) :

الأوّل. الوصف الوجودي إذا كان مناسبا للحكم العدمي ، أو كان دائرا معه وجودا أو عدما حصل ظنّ العلّيّة ، والظن حجّة.

الثاني. بين وجود المقتضي ووجود المانع معاندة ومضادّة ، والشيء لا يتقوّى بضدّه ، بل يضعف به. فإذا جاز التعليل بالمانع حال ضعفه لوجود المقتضي كان التعليل به حال قوته بانتفاء المقتضي أولى بالجواز.

الثالث. لو شرطنا وجود المقتضي لزم منه التعارض بينه وبين المانع أو فوات الشرط ، والتعارض على خلاف الأصل لما فيه من إهمال أحد الدليلين ، وعند انتفاء المقتضي لو أحلنا نفي الحكم على نفي المقتضي مع تحقّق ما يناسب نفي الحكم من المانع أو فوات الشرط. لزم منه إهمال

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ٤١٠ ؛ والآمدي في الإحكام : ٣ / ٢٦٥ ، المسألة ١٧.

٢٧١

مناسبة المانع أو فوات الشرط مع اقتران نفي الحكم به ، وهو خلاف الأصل.

اعترض على الثاني. بأنّه لا يلزم من انتفاء الحكم بالمانع أو فوات الشرط مع وجود المقتضي الشرط في أعماله لما يأتي انتفاؤه له مع فوات شرط أعماله.

وفيه نظر ، لما بيّنّا أنّ المقتضي مناف للمانع فلا يعقل علّيّة المانع مع المضاد ونفيها مع عدمه.

وعلى الثالث. أنّه وإن لزم من وجود المقتضي التعارض بينه وبين المانع أو فوات الشرط ، فهو أهون من نفيه لوجود المانع مع فوات شرط أعماله ؛ ولهذا كان نفي الحكم بالمانع وفوات الشرط مع وجود المقتضي متّفقا عليه بين مجوّزي تخصيص العلّة ، مختلفا فيه مع انتفاء المقتضي.

وبتقدير انتفاء المقتضي فنفي الحكم له دون ما ظهر من المانع وفوات الشرط وإن أفضى إلى إلغاء مناسبة المانع وفوات الشرط مع اعتباره إلّا أنّه أولى من انتفائه للمانع أو فوات الشرط. ولهذا اتّفقوا على استقلاله بالنفي عند عدم المعارض ووقع الخلاف في استقلال المانع أو فوات الشرط بالنفي ، فكان النفي له أولى.

ولا يمكن إحالة النفي على نفي المقتضي والمانع معا ، لأنّ كلّ منهما إن استقل بالنفي لزم تعليل الحكم الواحد في صورة واحدة بعلّتين

٢٧٢

مستقلّتين ، وإن لم يستقلّ واحد منهما فهو محال ، لأنّ نفي المقتضي بتقدير انتفاء معارضه مستقل بالنفي إجماعا ، وفيه إخراج المستقل عن الاستقلال وهو ممتنع.

وإذا ثبت أنّه لا بدّ في التعليل بالمانع وفوات الشرط من وجود المقتضي فلا بدّ من بيانه إمّا بطريق إجمالي أو تفصيلي يدلّ على وجوده وعلّيّته بما يساعد من الأدلّة.

وإن اتّفق أن كان الشارع قد نصّ على نفي الحكم ، فهو دليل ظاهر على وجود المقتضي ، لأنّه لو لم يكن المقتضي موجودا كانت فائدة التنصيص على النفي التأكيد لاستقلال نفي المقتضي بالنفي.

والأصل أن يحمل كلام الشرع على فائدة التأسيس ، لكونها أصلا ، وإنّما يتمّ ذلك بالنظر إلى وجود المقتضي.

لا يقال : اعتقاد وجود المقتضي ـ حملا للكلام على فائدة التأسيس ـ يستلزم نفي الحكم مع وجود ما يقتضيه ، وهو خلاف الأصل أيضا. وليس مخالفة محذور مخالفة المقتضي مع كونه على خلاف الأصل دفعا لمحذور حمل الكلام على فائدة التأكيد أولى من العكس.

لأنّا نقول (١) : المحذور اللازم من نفي الحكم مع وجود المقتضي مخالفة المقتضي خاصة وهو غالب في الشرع ، ومحذور التأكيد مع كونه

__________________

(١) ذكر الإشكال والجواب عنه الآمدي في الإحكام : ٣ / ٢٦٧.

٢٧٣

نادرا فيه مخالفة لما ظهر من مناسبة المانع واعتباره ، مع أنّ الغالب من حال الشرع اعتبار المناسبات لا إلغاؤها.

ولا يخفى أنّ التزام محذور قد عهد التزامه في الشرع غالبا وليس فيه التزام محذور آخر ، أولى من التزام محذور لم يعهد التزامه في الشرع غالبا وفيه التزام محذور آخر.

احتجّ المشترطون بوجوه (١) :

الأوّل. إذا علّلنا انتفاء الحكم بالمانع فالمعلّل إمّا عدم مستمر ، أو متجدّد.

والأوّل باطل ، لحصول العدم المستمر قبل حصول هذا المانع ، بل قبل الشرع فلا يكون شرعيا ، إذ الشرعي ما لو سكت الشرع عنه لثبت ، والحاصل قبل يمتنع تعليله بالمتأخّر.

والثاني تسليم المقصود ، لأنّ عدم الحكم لا يحصل فيه التجدّد ، إلّا إذا منع من الدخول في الوجود بعد أن كان بعرضية الدخول في الوجود ، وذلك لا يتحقّق إلّا عند قيام المقتضي.

الثاني. استناد انتفاء الحكم إلى انتفاء علّته أظهر من إسناده إلى حصول المانع ، فإن تساوى ظن انتفاء العلّة وظنّ وجود المانع امتنع التعليل بوجود المانع ، لأنّ عدم العلّة ووجود المانع لمّا تساويا ظنا واختصّ عدم العلّة بمزيّة أولوية إسناد الحكم إليه من إسناده إلى وجود المانع ، كان تعليل

__________________

(١) ذكرها الرازي مع الأجوبة عنها في المحصول : ٢ / ٤١٠ ـ ٤١٣.

٢٧٤

عدم الحكم بعدم علّته أقوى من تعليله بوجود المانع ؛ والأقوى راجح فلا يجوز تعليل عدم الحكم بالمانع وإن كان ظنّ عدم العلّة أظهر ، فالتقريب (١) أقوى. وإن كان مرجوحا بالنسبة إلى وجود المانع فظنّ العدم إنّما يكون مرجوحا لو كان ظنّ الوجود راجحا ، وهو يدلّ على توقّف التعليل بالمانع على رجحان وجود المقتضي ، وهو المطلوب.

الثالث. التعليل بالمانع يتوقّف على وجود المقتضي عرفا ، لأنّ من قال : «الطير إنّما لا يطير لأنّ القفص منعه» كان تعليله موقوفا على العلم بحياة الطير وقدرته ، إذ بتقدير موته يمتنع التعليل بالقفص ، فكذا شرعا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح» (٢).

الرابع. عدم المقتضي مستلزم لعدم الحكم ، فلو حصل عدم المقتضي امتنع استناد ذلك العدم إلى وجود المانع ، لأنّ تحصيل الحاصل محال ، فثبت أنّه لا بدّ من وجود المقتضي.

وأجيب عن الأوّل. بأنّ العلّة الشرعية معرّفة فيجوز تأخيرها.

قوله : إنّما يصير الحكم شرعيا إذا كانت بحيث لو سكت الشرع لثبت.

__________________

(١) في المحصول : ٢ / ٤١١ : فالتقدير.

(٢) مستدرك الحاكم : ٣ / ٧٨ ؛ مجمع الزوائد : ١ / ١٧٧ ؛ المعجم الأوسط : ٤ / ٥٨ ، نقلت الرواية في هذه المصادر عن ابن مسعود ؛ تفسير الرازي : ١ / ٢٠٠ و ٢٠٤ وج ٢ / ٢٢٦ وج ٣ / ١٩٨ وج ٤ / ١٥١ وج ١١ / ١٧٦ ؛ تفسير الآلوسي : ٢٩ / ١١٣ ؛ شرح نهج البلاغة : ١٢ / ٨٦.

٢٧٥

قلنا : نحن لا نعني بكون هذا الاقتضاء شرعيا إلّا أنّه لم يعرف إلّا من قبل الشرع ، وهو حاصل بدون ما قلتموه.

وعن الثاني. أنّ مجرّد النظر إلى وجود المانع يقتضي ظنّ عدم الحكم ، بدون الالتفات إلى الأقسام الّتي ذكرتموها.

وعن الثالث. لا نسلّم أنّ ظن إسناد عدم الحكم إلى وجود المانع يتوقّف على العلم بوجود المقتضي عرفا ؛ ألا ترى أنّا إذا علمنا وجود سبع في طريق ، كفى في ظن عدم حضور الإنسان وإن لم يخطر ببالنا في ذلك الوقت سلامة أعضائه ، بل يجعل هذا القدر دليلا لنا ابتداء فنقول : مجرّد النظر إلى المانع يفيد ظنّ عدم الحكم عرفا ، فليفده شرعا.

وعن الرابع. لا نسلّم أنّ ترادف الأدلّة والمعرّفات على الشيء الواحد خلاف الأصل.

البحث الخامس عشر : في بقايا مباحث العلّة

الأوّل : يجب أن لا تكون العلّة المستنبطة من الحكم المعلّل به ممّا ترجع إلى الحكم الّذي استنبطت منه بالإبطال عند من جوز التعليل بالمستنبطة ؛ كتعليل وجوب الشاة في باب الزكاة بدفع حاجة الفقير ، لاشتماله على رفع وجوب عين الشاة لقيام غيرها مقامها ، وارتفاع الأصل المستنبط منه يوجب إبطال العلّة المستنبطة منه ضرورة توقّف علّتها على اعتبارها.

٢٧٦

وأن لا تكون طردية محضة ، كالطول والقصر ، والسواد والبياض ، ونحوه ؛ لأنّ الوصف الطردي لا يكون باعثا.

وفيه نظر ، لأنّ العلّة عند الأشاعرة بمعنى الأمارة. وبالجملة فهم لا يقفون في هذا الباب على شيء ، بل إذا أورد عليهم إشكال ينحل بكون العلّة معرفا التجئوا إليه ، فإذا أورد عليهم ما يلزم من التعليل بالأوصاف الطردية التجئوا إلى أنّها بمعنى الباعث.

وأن لا يكون لها في الأصل معارض لا تحقّق له في الفرع ، وأن لا تكون مخالفة لنص خاص أو إجماع.

وشرط قوم (١) أن لا تكون مخصّصة لعموم القرآن ، وهو حق عندنا حيث أبطلنا تخصيص القرآن بالقياس.

وأن لا تعارضها علّة أخرى تقتضي نقيض حكمها. وإنّما يصحّ ذلك لو كانت العلّة المعارضة لها راجحة عليها وممتنعة التخصيص.

وشرط قوم انتزاعها من أصل مقطوع بحكمه ، وجوّز آخرون القياس على ما ثبت أصل حكمه بدليل ظني.

وشرط آخرون (٢) عدم مخالفتها لمذهب الصحابي مستندا إلى علّة مستنبطة من أصل آخر ، إلّا أن تكون علّته مع ظهورها راجحة.

__________________

(١) راجع الإحكام : ٣ / ٢٦٨ ، المسألة الثامنة عشرة.

(٢) راجع الإحكام : ٣ / ٢٦٨.

٢٧٧

وشرط قوم (١) أن يكون وجودها في الفرع مقطوعا به ، ومنعه الباقون ، لأنّ وجودها من جملة المقدّمات الّتي يتوقّف عليها الحكم في الفرع ، فيكفي فيه الظن كما في وجودها في الأصل وفي كونها علّة ، وفي نفي المعارض عنها في الأصل والفرع.

الثاني : اتّفقت الأشاعرة (٢) على أنّ نصب الوصف سببا وعلّة من الشارع ، وأنّ دليله لا بد وأن يكون شرعيا. وسواء كان كونه سببا وعلّة وحكما شرعيا ، أو لا.

وإنّما اختلفوا في الدليل الدالّ على العلّة الجامعة في القياس.

فقال بعضهم : يشترط فيه أن لا يتناول إثبات الحكم في الفرع ، كقول الشافعي في مسألة الفواكه : مطعوم ، فجرى فيه الربا قياسا على البر ، ثمّ يستدلّ على علّيّة الطعم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلّا مثل بمثل» (٣) فإنّه وإن دلّ على كون الطعم علّة من حيث الإيماء ، إلّا أنّه يدلّ على تحريم الربا في الفواكه بعموم لفظه.

وقد يتناول دليل العلّيّة حكم الفرع بخصوصه دون حكم الأصل ؛ كقول الحنفي في مسألة الخارج من غير السبيلين : خارج نجس ، فينقض الوضوء كالخارج من السبيلين. ثمّ يستدلّ على علّيّة الخارج النجس

__________________

(١) راجع الإحكام : ٣ / ٢٦٨.

(٢) راجع الإحكام : ٣ / ٢٦٨ ـ ٢٧٠ ، المسألة التاسعة عشرة.

(٣) صحيح مسلم : ٥ / ٤٧ ، باب بيع الطعام مثلا بمثل ؛ مسند أحمد : ٦ / ٤٠٠.

٢٧٨

للنقض بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قاء أو رعف أو أمذى فليتوضّأ». (١) فإنّ القيء والرعاف والمذي من حيث هو خارج نجس عنده مناسب لنقض الوضوء ، فترتّب الحكم عليه في كلام الشارع يدلّ على التعليل به ، لكنّه مع ذلك يتناول حكم الفرع بخصوصه دون حكم الأصل ؛ لأنّ دليل العلّة إذا استقلّ بالدلالة على الحكم فالاستدلال بالعلّة على الحكم على وجه لا بد من إثباتها بدليل يستقلّ بإثبات الحكم المتنازع فيه تطويل بغير فائدة.

واعترض بأنّ الاقتضاء إلى التطويل مناقشة جدلية لا يقدح في صحّة القياس.

الثالث : قد يستدلّ بذات العلّة على الحكم ، كقولنا : قتل عمد عدوان ، فيكون موجبا للقصاص.

وقد يستدلّ بوصف العلّيّة كقولنا : القتل العمد العدوان سبب لوجوب القصاص ، وقد وجد فيجب القصاص.

والأوّل صحيح دون الثاني ، للفرق بين القتل وبين كونه سببا للقصاص ، لانفكاكهما في التصوّر والسببية إضافية فيتوقّف ثبوتها على كلّ واحد من المضافين ؛ فدعوى سببية القتل لوجوب القصاص يتوقّف على ثبوت القتل ، وثبوت وجوب القصاص لأنّ قولنا : هذا سبب لذلك يستدعي تحقّق هذا وتحقّق ذاك حتى يحكم على هذا بكونه سببا لذلك. فإذا كان

__________________

(١) سنن البيهقي : ١ / ١٤٢ ؛ سنن الدارقطني : ١ / ١٦١.

٢٧٩

دعوى السببية يتوقّف على ثبوت الحكم لم يجز إثبات الحكم بها ، وإلّا دار ، فلا يمكن الاستدلال بالعلّيّة على الحكم.

الرابع : لو سلّمنا توقّف التعليل بالمانع على وجود المقتضي فلا حاجة إلى ذكر دليل منفصل على وجود المقتضي ، بل يكفي إمّا أن لا يكون المقتضي ثابتا في الفرع فينتفي الحكم فيه وهو المطلوب ، أو يكون لكنه إنّما يثبت فيه تحصيلا لمصلحة ودفعا لحاجة ، وهذا المعنى قائم في الأصل ، فيثبت المقتضي في الأصل. وإذا ثبت ذلك صحّ جواز تعليل عدم الحكم فيه بالمانع.

الخامس : قال قوم (١) : يجب أن يكون ثبوت الوصف الّذي جعله علّة في الأصل متّفقا عليه. وهو باطل. لأنّه لما أمكن إثباته بالدليل حصل المقصود ، والحق أنّ ذلك قد يعلم بالضرورة ، أو بالبرهان ، وقد يظنّ بالأمارة.

السادس : حكى عن أبي عباس ابن شريح أنّ الثابت بالقياس إنّما هو الأسماء في الفروع ثمّ تعلّق عليها الأحكام ، وكان يتوصل بالقياس إلى أنّ الشفعة شركة ثمّ يجعلها موروثة ، وانّ وطي البهيمة زنا ثمّ تعلّق به الحد ، وبعض الشافعية كان يقيس النبيذ على الخمر في تسميته خمرا لاشتراكهما في الشدة ثمّ يحرمه بالآية.

وأكثر الفقهاء على أنّ العلل تثبت بها الأحكام ؛ فإن قصد ابن شريح

__________________

(١) راجع المحصول : ٢ / ٤١٣.

٢٨٠