نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٤٧٦

الحكمة في آحاد المسائل ، إلّا أنّا نعلم أنّ المقصد الأقصى في إثبات الأحكام هو المقاصد والحكم ، فعلى تقدير وجود الحكمة في بعض الصور كما وجدت في محل التعليل قطعا لو لم يجب التعليل بها في غير محل التعليل ، لزم انتفاء الحكم مع وجود حكمته قطعا ، وهو ممتنع. كما يمتنع إثبات الحكم مع انتفاء حكمته قطعا في ما عدا الصورة النادرة ، وكذا لو لم نقل بإلغائها عند تخلّف الحكم عنها مع ثبوتها قطعا ، لزم إثبات الحكم بها مع الضابط مع كونها ملغاة قطعا.

ومعلوم أنّ المحذور بإثبات الحكم لحكمة ألغاها الشارع إذ نفي الحكم مع وجود حكمته يقينا أعظم من محذور المشقة بالبحث عن وجود الحكمة والمقاصد في آحاد المسائل.

وعلى هذا يكون الكلام فيما لو فرض وجود الحكمة في صورة النقض أزيد منها في محلّ التعليل يقينا. نعم إن ثبت في صورة النقض حكم هو أليق بها بأن النفي بتحصيل الحكمة وزيادة ، ولو رتب عليها في تلك الصور الحكم المعلّل اختلّ الزائد في صورة النقض لم يكن نقضا للحكمة ، ولا إلغاء ، بل يجب تخلف الحكم المعلل وإثبات اللائق الوافي بتحصيل الزيادة لما فيه من رعاية أصل المصلحة وزيادتها كما لو علّل وجوب القطع قصاصا بحكمة الزجر فيقول المعترض : مقصود الزجر في القتل العمد العدوان أعظم ، ومع ذلك لا يجب به القطع فيقول المستدلّ : الحكمة في النقض وإن كانت أزيد لكن ثبت حكم آخر هو أليق ، وهو وجوب القتل. وجواب الكسر بعد ما مرّ منع وجود المعنى

٢٠١

المشار إليه في صورة النقض ، ومنع تخلف الحكم عنه وباقي (١) أجوبة سؤال النقض.

المطلب الخامس : في النقض المكسور

وهو النقض على بعض أوصاف العلّة ؛ كقولنا في بيع الغائب : مبيع مجهول الصفة عند العاقد حالة العقد ، فلا يصحّ ، كما لو قال : بعتك عبدا.

فيقول المعترض : ينتقض بما لو تزوّج امرأة لم يرها.

وقد اختلفوا في سماعه فالأكثر على ردّه ، لوقوع التعليل بالمجموع من كونه مبيعا ومجهولا ، لا بمجرّد جهالة الصفة ، والمنكوحة ليست مبيعة. وإبطال التعليل ببعض أوصاف العلّة ليس إبطالا لها.

أمّا لو بيّن المعترض عدم تأثير الوصف الآخر الّذي وقع به الاحتراز عن النقض لا منفردا ولا منضما مع الآخر ؛ فالمستدلّ حينئذ إن تمّ على التعليل بالمجموع ، بطل التعليل لعدم التأثير لا بالنقض.

وإن ترك الكلام على التعليل بالوصف المنقوض ، بطل التعليل بالنقض ، لكونه واردا على جميع العلّة.

لا يقال (٢) : المحذوف وإن لم يؤثر بنفسه ولا مع ضمه إلى غيره ،

__________________

(١) في أ : «ويأتي».

(٢) ذكره مع الجواب عنه الآمدي في الإحكام : ٣ / ٢٥٦.

٢٠٢

يمكن أخذه في التعليل (لتحرز به) (١) عن النقض ، وإنّما يخرج عن التعليل لو عرى عن الفائدة.

لأنّا نقول : فائدة الاحتراز به تتوقف على كونه جزء العلّة ، حتى لو لم يكن جزء كانت العلّة ما عداه ، فالنقض حينئذ يكون واردا عليها ، وكونه من أجزاء العلّة يتوقّف على إمكان الاحتراز به عن النقض ، وهو دور.

البحث الثاني : عدم التأثير

قيل (٢) : إنّه عبارة عن بقاء الحكم بدون ما فرض علّة. وهو قادح في العلّيّة ؛ لأنّ الحكم لما بقي بعد عدمه وكان موجودا قبل وجوده ، علمنا استغناءه عنه ، والمستغني عن الشيء لا يكون معلّلا به.

وهو حقّ إن فسّرنا العلّة بالمؤثر لا المعرّف ، لجواز تعريف السابق بالحادث كالعالم مع الباري تعالى.

وقيل : عدم التأثير أبدأ (٣) في الدليل لا تأثير له البتة ، بل يكون وصفا طرديا كالطول والقصر والسواد والبياض ، أو يكون وصفا ثبت اعتباره بالإحالة أو الشبه لكن قد استغنى في إثبات الحكم بما عداه ، كما يقال في بيع الغائب مبيع غير مرئي ، فلا يصح بيعه كالطير في الهواء والسمك في الماء ، فإنّ عدم الرؤية وإن اشتمل على نوع إحالة لكن قد اكتفي

__________________

(١) في الإحكام : لفائدة الاحتراز.

(٢) القائل هو الرازي في المحصول : ٢ / ٣٧٥.

(٣) في «أ» و «د» بزيادة «أجزى».

٢٠٣

في إثبات الحكم في الأصل بدونه ، وهو العجز عن التسليم.

وأقسامه أربعة (١) :

الأوّل : عدم التأثير في الوصف ، بأن يكون الوصف المأخوذ في الدليل طرديا لا مناسبة فيه ولا شبه ، كما يقال في صلاة الصبح : صلاة لا يجوز قصرها ، فلا تقدم في الأداء على وقتها كالمغرب ، فإنّ عدم القصر وصف طردي بالنسبة إلى الحكم المذكور.

الثاني : عدم التأثير في الأصل بأن يكون الوصف قد استغني عنه في إثبات الحكم بغيره. كما قلنا في تعليل بيع الغائب بالجهالة قياسا على السمك في الماء ، فإن عجز عن التسليم استقل بالحكم.

وقد اختلف في قبوله ، فردّه أبو إسحاق الإسفرائيني ومن تابعة ، لأنّه إشارة إلى علّة أخرى في الأصل ، ولا يمتنع تعليل الحكم بعلّتين.

ومنهم من قبله بناء على امتناع التعليل بعلّتين ، وسيأتي.

الثالث : عدم التأثير في الحكم بأن يذكر في الدليل وصفا لا تأثير له في الحكم المعلّل ، كما في مسألة المرتدّين إذا أتلفوا ما لنا في دار الحرب : مشركون أتلفوا مالا في دار الحرب فلا ضمان كالحربيّ فإنّ الإتلاف في دار الحرب طردي لا تأثير له في نفي الضمان ضرورة استواء الدارين في الإتلاف. وهذا يرجع إلى عدم التأثير في الوصف بالنسبة إلى الحكم إن كان طرديا ، أو إلى سؤال الإلغاء إن كان مؤثّرا.

__________________

(١) ذكرها الآمدي في الإحكام : ٤ / ٨٩.

٢٠٤

الرابع : عدم التأثير في محلّ النزاع ، وهو أن يكون الوصف المذكور في الدليل لا يطرد في جميع صور النزاع ، وإن كان مناسبا كما لو قال في مسألة ولاية المرأة : زوّجت نفسها من غير كفو فلا يصحّ نكاحها ، كما لو تزوّجت من غير كفو ، فإنّ تزويجها نفسها من غير كفو وإن كان مناسبا للبطلان غير أنّه لا يطّرد في جميع صور النزاع من حيث إنّ النزاع وقع في التزويج من كفو وغيره.

واختلف في قبوله أيضا ، فردّه قوم بناء على منع جواز الفرض في الدليل مطلقا ، وقبله من لم يمنع ، وفصّل آخرون فقالوا : كلّ فرض جعله المستدلّ وصفا في العلّة مع اعترافه بطرده فهو مردود ، وإن لم يكن كذلك فهو مقبول.

وإذا بطل القسم الرابع وهو عدم التأثير في محلّ النزاع ، ورجع حاصل الثالث وهو عدم التأثير في الحكم إلى عدم التأثير في الوصف أو الإلغاء ، لم يبق سوى عدم التأثير في الوصف وهو الأول ، وعدم التأثير في الأصل وهو الثاني. والأوّل راجع إلى بيان انتفاء مناسبة الوصف ، وسؤال المطالبة يغني عنه ، وجوابه جوابه فلا يجتمعان ، وعدم التأثير في الأصل يرجع إلى المعارضة في الأصل ، وجوابه جوابه.

وبعد هذا كلّه فقد يكون أخذ الوصف الذي لا يناسب الحكم في الدليل مقيدا بأن يكون مشيرا إلى نفي المانع الموجود في صورة النقض ، أو وجود الشرط الفائت فيها ، لقصد دفع النقض ، أو مشيرا إلى قصد الفرض

٢٠٥

في الدليل في بعض صور النزاع ، كما في مثال أخذ الإتلاف في دار الحرب في مسألة المرتدين ، ولا يكون عديم التأثير ، إذ هو غير مستغن عنه في إثبات الحكم ، إمّا لقصد دفع النقض ، أو لقصد الفرض.

البحث الثالث : في العكس

العكس لغة ردّ أوّل الأمر إلى آخره وآخره إلى أوّله ، وأصله شدّ رأس البعير بخطامه إلى ذراعه.

وعند قوم : جعل المحكوم عليه محكوما به والمحكوم به محكوما عليه مع بقاء الكيف.

وأمّا في اصطلاح الفقهاء والأصوليّين فإنّه يطلق على معنيين (١) :

الأوّل : كقول الحنفي : لمّا لم يجب القتل بصغير المثقل لم يجب بكبيره بدليل عكسه في المحدود. وهو أنّه لما وجب بكبير الجارح وجب بصغيره ، وهو باطل لإمكان إيجاب القصاص بكلّ جارح وبالكبير من المثقل خاصّة.

الثاني : انتفاء الحكم عند انتفاء العلّة وقبل أن يحصل مثل ذلك الحكم في صورة أخرى لعلّة تخالف العلّة الأولى.

والمراد هنا أحد هذين ، وقد اختلفوا في اشتراطه في العلل :

فقالت المعتزلة كافّة : إنّ العكس غير واجب في العلل العقلية

__________________

(١) ذكرهما الآمدي في الإحكام : ٣ / ٢٥٧.

٢٠٦

والشرعية ، لاشتراك المختلفات في كون كلّ واحد منها مخالفا للآخر ، وهذه المخالفة من لوازم الماهية واشتراك اللوازم مع اختلاف الملزومات يعطي عدم الاشتراط ، وأمّا في الشرعيات فسيأتي الدلالة على جواز تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة في الشرعيات ، وهو يقتضي عدم اعتبار العكس.

والأشاعرة (١) أوجبوا العكس في العلّة العقلية دون الشرعية ، وقيل : جنس الحكم المعلل إن لم يكن له سوى علّة واحدة ، كتعليل جنس وجوب القصاص في النفس بالقتل العمد العدوان ، فإنّه لا علّة له سواء ، لزم من انتفاء علّته انتفاؤه لا من حيث استلزام نفي العلّة الواحدة نفي الحكم ، بل لأنّ الحكم لا بدّ له من دليل ، ولا دليل.

وإن كان معلّلا بعلل في كلّ صورة بعلّة ؛ كما في إباحة الدم بالقتل العمد العدوان ، والردّة عن الإسلام ، والزنا في الإحصان ، وقطع الطريق ، وكذا نواقض الوضوء ، لم يلزم من نفي بعض العلل نفي جنس الحكم ، لجواز وجود علّة أخرى وإنّما يلزم بتقدير انتفاء جميع العلل.

هذا حكم جنس الحكم المعلّل.

وأمّا آحاد أشخاص الحكم في آحاد الصور فإنّه يمتنع تعليله بعلّتين ، بل بعلّة واحدة على البدل ، فلا يلزم من نفي العلّة المعينة نفيه لجواز وجود بدلها.

__________________

(١) راجع الإحكام : ٣ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٢٠٧

لا يقال : العلّة كالدليل العقلي ، وكما لا يلزم من نفي الدليل نفي المدلول كذا لا يلزم من نفي العلّة الواحدة نفي الحكم.

لأنّا نقول : نعني بانتفاء الحكم عند انتفاء علّة الواحدة نفي العلم به لا نفيه في نفسه.

وفيه نظر ، لرجوع هذا على طوله إلى اختيار عدم العكس.

واعلم أنّ المستدلّ لو سلّم وحدة العلّة ثمّ وجد الحكم دونها لزم الانتقاض.

البحث الرابع : في القلب

وفيه مطالب :

الأوّل : ماهيّة القلب

[وماهيّته :] أن يعلّق على العلّة المذكورة في قياس نقيض الحكم المذكور فيه ، ويردّ إلى ذلك الأصل بعينه. وإنّما شرطنا اتّحاد الأصل ؛ لأنّه لو رد إلى أصل آخر لكان حكم ذلك الأصل الآخر إن كان حاصلا في الأوّل كان ردّه إليه أولى ، لأنّ المستدلّ لا يمكنه منع وجود تلك الصلة فيه ، ويمكنه منع وجودها في أصل آخر.

وإن كان غير حاصل ، كان أصل القياس الأوّل نقضا على تلك العلّة ، لأنّ ذلك الوصف حاصل فيه مع عدم الحكم.

٢٠٨

المطلب الثاني : في أقسامه

وهي اثنان (١) :

الأوّل : قلب الدعوى

الثاني : قلب الدليل

أمّا الأوّل فضربان : أ. أن يكون الدليل مضمرا فيها ؛ كقول الأشعري : اعلم أنّ كلّ مرئي موجود ، فهو دعوى يشتمل على إضمار الدليل.

وتقديره ، لأنّه موجود ، لأنّ الوجود هو مصحّح الرؤية عنده.

فيقول المعتزلي : اعلم بالضرورة أنّ كلّ ما ليس في جهة لا يكون مرئيا ، فهو دعوى يقابل الأولى من حيث إنّ الموجود ينقسم إلى ما هو في جهة ، وإلى ما ليس في جهة.

فالقول بأنّ ما ليس في جهة غير مرئي يقابل : انّ كلّ موجود مرئي. ودليله مضمر فيه. وتقديره : أنّ انتفاء الجهة مانع من الرؤية.

ب. أن لا يكون الدليل مضمرا فيها ، كقولنا : اعلم بالضرورة أنّ النظر يفضي إلى العلم.

فيقول المعترض : اعلم بالضرورة أنّ النظر لا يفضي إلى العلم. وهذا هو مقابل الفاسد بمثله ، والمقصود منه استنطاق المدعي باستحالة دعوى

__________________

(١) ذكرهما الآمدي في الإحكام : ٤ / ١١٠.

٢٠٩

الضرورة من خصمه في محل الخلاف ، فيقال : وهذا لازم لك أيضا.

وقد أورد في هذا الباب قلب الاستبعاد في الدعوى. كقول الشافعي في مسألة إلحاق الولد بأحد الأبوين المدّعيين له : تحكيم الولد في ذلك تحكم بلا دليل.

فقال الحنفي : وتحكيم القائف في ذلك أيضا بغير دليل والمقصود منه استنطاق المدّعي بأن ما ذكره ليس بتحكّم ، بل له مأخذ صحيح ، فيقول المعترض : وكذا ما ذكرته ، وهو بعيد ، لأنّ المعترض وإن عرف بأنّ ما ذهب إليه تحكّم لم تغن معارضته للمستدلّ بتحكّمه في مذهبه في إبطال دعواه تحكّم في مذهب خصمه. وان يبين مأخذه فيه فهو الجواب ولا حاجة إلى القلب.

وأمّا قلب الدليل فهو أن يبيّن أنّ ما ذكره المستدلّ دليل عليه. فإمّا أن يسلّم المعترض ما ذكره المستدل من الدليل يدل له من وجه ، أو يبيّن انتفاء الدلالة من كلّ وجه.

والثاني قلّ أن يوجد مثاله في غير النصوص ، وهو كما لو استدلّ في توريث الخال بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخال وارث من لا وارث له». (١)

فيقول المعترض : المراد نفي توريث الخال بطريق المبالغة ، كقولنا : الجوع زاد من لا زاد له والصبر حيلة من لا حيلة له. ومعناه نفي كون الجوع

__________________

(١) سنن الترمذي : ٣ / ٢٨٥ برقم ٢١٨٦ ؛ سنن الدارمي : ٢ / ٣٨٠ ؛ سنن الدارقطني : ٤ / ٤٩ برقم ٤٠٧٦ ؛ كنز العمال : ١١ / ٥ برقم ٣٠٣٧٨ وص ١٤ برقم ٣٠٤١٧.

٢١٠

زادا والصبر حيلة. وهو قلب في دلالة الألفاظ ببيان أنّ اللفظ يدلّ على المستدلّ لا له. قالوا : ولو لا ذلك لكان اللفظ متناقضا حيث إنّ الخال وارث وقد وصف مورثه بأنّه لا وارث له. ولا يمكن حمله على نفي ما عداه من الوارث ، فإنّه يرث عند هذا القائل مع الزوج والزوجة ، ولا على نفي العصبات ، فإنّ بنت الأخ وغيرها من ذوي الأرحام كذلك ، فالتخصيص يكون عبثا. ومن قلب الألفاظ أيضا أن يبين أنّه يدلّ على مناقضة مذهبه أيضا مع تسليم صلاحية دلالته على مذهب المستدل ، كقول الحنفي في نصيب الساحة «لا ضرر ولا إضرار» فيقلب ذلك في حق المالك فإن قطع اختصاصه من العين المملوكة إضرار به ومن ضرورة دلالته على نفي الضرر عن المالك دلالته على نقيض مذهب المستدل وهذا الضرب في الرتبة دون الأوّل وهما مختصان بالظواهر ولا اتحاد لهما.

امّا الأوّل فلأنّه مركب من بيان عدم الظهورية (١) وبيان دلالته على نقيض مذهبه ، وحاصل أحدهما يرجع إلى منع الظهورية (٢) ، وحاصل الآخر إلى المعارضة وفيهما ضعف.

وأمّا الثاني فحاصله يرجع إلى المعارضة أيضا وفيه كلام وان سلم المعترض أنّ ما ذكره المستدلّ يدل له من وجه فهو غير قلب دلالات ألفاظ ، بل هو قلب العلل وأقسامه ثلاثة(٣):

الأوّل : أن يتعرّض المعترض في القلب لتصحيح مذهبه.

__________________

(١) في «ب» و «د» : الظهور به.

(٢) في «ب» و «ج» : الظهور به.

(٣) ذكرها الآمدي في الإحكام : ٤ / ١١٣.

٢١١

الثاني : ان يتعرّض لإبطال مذهب المستدلّ صريحا بأن يجعله حكما للدليل بلا واسطة.

الثالث : أن يتعرّض لإبطال مذهب المستدل التزاما.

فالأوّل : كقول الحنفي في مسألة الاعتكاف : لبث محض فلا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة.

فيقول المعترض : لبث محض فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة. فالحكمان المذكوران في الأصل والقلب لا يتنافيان في الأصل ويتنافيان في الفرع ، وكلّ منهما قد تعرض في دليله لتصحيح مذهبه ، إلّا أنّ المستدلّ أشار بعلّيته إلى اشتراط الصوم بطريق الإلزام ، والمعترض أشار إلى نفي اشتراطه صريحا.

وعند التحقيق فتعليل المستدل في هذا المثال لنفي القربة ليس تعليلا بمناسب يقتضي نفي القربة ، بل بانتفاء المناسب من حيث إنّ اللبث المحض لا مناسبة فيه البتة للقربة. وتعليل المعترض بأمر طردي فإنّه لا مناسبة في اللبث المحض لنفي اشتراط الصوم.

وقد يتّفق أن يكون كلّ من المعترض والمستدلّ قد تعرض لتصحيح مذهبه صريحا ، كقولنا : طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث.

فيقول المعترض : طهارة تراد لأجل الصلاة فتصحّ بغير الماء كطهارة

٢١٢

الحدث ، فقد تعرض كلّ منهما في الدليل لتصحيح مذهبه صريحا والعلّة في الطرفين شبيهة.

وأمّا الثاني : فكقول الحنفي في مسح الرأس : عضو من أعضاء الوضوء ، فلا يكفي فيه أقلّ ما ينطلق عليه الاسم كسائر الأعضاء.

فيعارض بأنّه عضو من أعضاء الوضوء ، فلا يعتذر بالربع كسائر الأعضاء. وهذان الحكمان لا يتناقضان لذاتيهما ، لأنّهما حصلا في باقي الأعضاء ، بل يتنافيان في الفرع بواسطة اتّفاق الخصمين ، فكلّ منهما قد صرّح في دليله بإبطال مذهب خصمه ، وليس فيه ما يدل على تصحيح مذهب أحدهما ، إذ لا يلزم من إبطال مذهب الخصم تصحيح مذهبه ، لإمكان أن يكون الصحيح مسح الجميع كقول مالك.

نعم لو انحصر القول في مذهبين واتّفق الناس على بطلان الثالث ، لزم من تعرض كلّ منهما بإبطال مذهب خصمه تصحيح مذهبه.

وأمّا الثالث : فكقول الحنفي في بيع الغائب عقد معاوضة فيصحّ مع الجهل بالعوض كالنكاح.

فيقول الشافعي : عقد معاوضة فلا يشترط فيه خيار الرؤية ، كالنكاح.

وهذان الحكمان غير متنافيين في الأصل ، لأنّه اجتمع في النكاح الصحّة وعدم الخيار ، لكن لا يمكن اجتماعهما في الفرع. فالمعترض لم يصرّح بإبطال مذهب المستدلّ في القول بالصحّة ، بل بطريق الالتزام ، فإنّ القائل بالصحّة قائل بخيار الرؤية ، فالخيار لازم الصحّة ، فإذا انتفى انتفى

٢١٣

الملزوم ومنع بعضهم من قبول هذا النوع من القلب ، لأنّ دلالة الوصف على ثبوت الحكم لا بواسطة أظهر من دلالته على انتفاء الحكم بواسطة.

ويلحق بالثالث قلب التسوية. كقول الحنفي في إزالة النجاسة بالمائع طاهر مزيل للعين والأثر فتحصل به الطهارة كالماء.

فيعارض بأنّه مائع طاهر مزيل للعين والأثر فيستوي فيه طهارة الحدث والخبث كالماء ، فإنّه يلزم من القول بالتسوية في الخل بين طهارة الحدث والخبث عدم حصول الطهارة بالخل في الخبث لعدم حصولها به في الحدث والحكم التسوية.

وكقوله في طلاق المكره : مكلّف مالك للطلاق فيقع طلاقه كالمختار ، فيقول القالب : فيجب أن يستوي حكم إيقاعه وإقراره كالمختار.

وقدح بعضهم فيه بأنّ الحاصل في الأصل اعتبارهما معا وفي الفرع عند القالب عدم وقوعهما معا ، فكيف تتحقّق التسوية؟

وجوابه : أنّ عدم الاختلاف بيّن الحكمين حاصل في الفرع والأصل ، لكن في الفرع في جانب العدم ، وفي الأصل في جانب الثبوت ، وذلك لا يقدح في الاشتراك في أصل الاستواء.

وأعلى مراتب القلب ما بين فيه أنّه يدلّ على المستدلّ ولا يدلّ عليه ، ثم يليه النوع الثاني وهو ما بيّن فيه أنّه يدل له وعليه.

وأعلى مراتب هذا النوع ما صرّح فيه بإثبات مذهب المعترض ، وهو القسم الأوّل منه.

ثمّ ما صرّح فيه بإبطال مذهب المستدل فإنّه دون ما قبله من حيث إنّه

٢١٤

لا يستلزم تصحيح مذهبه كما تقدّم ، وهو القسم الثاني منه.

الثالث فإنّه وإن شارك ما قبله من القسم الثاني في إبطال مذهب المستدلّ ، إلّا أنّه يدلّ عليه بطريق الالتزام وما قبله بصريحه.

وهذا النوع من القلب لا تعرض فيه لدلالة المستدل بالقدح ، بل غايته بيان دلالة أخرى منه تدلّ على نقيض مطلوبه ، فكان شبيها بالمعارضة ، وإن فارقها من جهة أنّه معارضة نشأت من نقيض (١) دليل المستدل.

المطلب الثالث : في أنّه مقبول أم لا

اختلف الناس في ذلك فردّه قوم لوجهين (٢) :

الأوّل : الحكم الّذي علّقه القالب على العلّة لا بد وأن يكون مخالفا للحكم الّذي علّقه القائس عليها ؛ وإلّا لكان تكريرا في اللفظ. ثمّ الحكمان إن أمكن اجتماعهما لم يقدح في العلّة ، لإمكان تعدّد المعلول ؛ وإن لم يمكن اجتماعهما فهو محال ، لوجوب اتحاد أصلي القالب والقائس ، والصورة الواحدة يمتنع أن يحصل فيها حكمان متنافيان.

الثاني : العلّة المستنبطة يجب أن تكون مناسبة للحكم ، ويمتنع مناسبة الوصف الواحد لحكمين متناقضين فيجب أن يكون طرديا بالنسبة إلى أحدهما ؛ فإن كان طرديا بالنسبة إلى علّة المستدل ، فالقياس باطل فلا

__________________

(١) في الإحكام : ٤ / ١١٥ : «نفس».

(٢) ذكرهما الرازي في المحصول : ٢ / ٣٧٦.

٢١٥

حاجة إلى القلب ؛ وإن كان بالنسبة إلى ما استند إليه المعترض ، فهو باطل أيضا.

وأجيب عن الأوّل : بأنّ هنا احتمالا آخر وهو : أن لا يكون الحكمان متنافيين فيصحّ اجتماعهما في الأصل ، ودلّ أمر خارج على تنافيهما في الفرع ، فإذا بيّن القالب أنّ الوصف الحاصل في الفرع ليس بأن يقتضي امتناع أحد الحكمين أولى من الآخر ، كان الأصل شاهدا لهما بالاعتبار ، لما بيّنّا من عدم المنافاة بينهما في الأصل. ويقتضي امتناع حصول الحكم في الفرع لما أنّه ليس حصول أحدهما أولى من الآخر ، وقد قامت الدلالة على امتناع حصولهما في الفرع. وهذا كما أنّه جواب فهو صالح للدلالة على إمكان القلب.

وعن الثاني : أنّ المناسبة لا تكون حقيقية ، بل إقناعية ، فبالقلب ينكشف أنّها ما كانت حقيقية. والحقّ القبول ، لأنّه نوع معارضة اشترك فيه الأصل والجامع فكان أولى بالقبول.

المطلب الرابع : في مناسبته للمعارضة

القلب معارضة إلّا في شيئين (١) :

الأوّل : لا يمكن فيه الزيادة في العلّة بخلاف سائر المعارضات.

الثاني : لا يمكن منع وجود العلّة في الفرع والأصل لاتّحاد أصله مع

__________________

(١) ذكرهما الرازي في المحصول : ٢ / ٣٧٧.

٢١٦

أصل المستدلّ ، وكذا فرعه مع فرعه. وأمّا سائر المعارضات فيمكن فيها ذلك التغاير ، ولا فرق بينهما فيما عدا هذين الوجهين.

فعلى هذا للمستدلّ منع حكم القالب في الأصل وأن يقدح في تأثير العلّة فيه بالنقض ، وعدم التأثير ، وأن يقول بموجبه أمّا إذا أمكنه بيان اللازم من ذلك القلب لا ينافي حكمه ، وأن يقلب قلبه إذا لم يكن قلب القلب مناقضا للحكم ، لأنّ قلب القالب إذا فسد بالقلب الثاني سلم أصل القياس من القلب.

المطلب الخامس : في القول بالموجب

وهو تسليم ما جعله المستدلّ حكما لعلّته مع بقاء الخلاف.

ومهما توجّه على هذا الوجه كان المستدلّ منقطعا ، لظهور أنّ ما ذكره من الدليل لم يكن متعلّقا بمحلّ النزاع وهو أقسام :

الأوّل : أن ينصب المستدلّ دليله على تحقيق مذهبه ، وما نقل عن إمامه. كقول الشافعي في الملتجئ إلى الحرم وجد سبب جواز استيفاء القصاص فجاز استيفاؤه. فيقول الخصم : أقول بموجب هذا الدليل وانّ استيفاءه القصاص عندي جائز ، وإنّما النزاع في جواز هتك حرمة الحرم.

الثاني : أن ينصب دليلا على إبطال ما يظنه مدركا لمذهب خصمه. كما لو قال في مسألة القتل بالمثقل : التفاوت في الوسيلة لا يمنع من وجوب القصاص ، كالتفاوت في المتوسل إليه. فيقول الخصم : أقول

٢١٧

بموجب هذا الدليل وانّ التفاوت في الوسيلة لا يمنع من التفاوت في المتوسل إليه ؛ إنّما النزاع في وجوب القصاص.

ولا يلزم من إبطال ما ذكر من الموانع إثبات وجوب القصاص ، لجواز انتفاء المقتضي لذلك ، أو وجود المانع ، أو فوات شرط.

وورود هذا النوع أغلب من الأوّل في المناظرات ، فإنّ خفاء المدارك أغلب من خفاء الأحكام ، لكثرة المدارك وتشعّبها وعدم الاطّلاع على معرفة ما هو دليل الخصم ، بخلاف الأحكام ، لقلة الذّهول عنها.

ولهذا يشترك الخواص والعوام في معرفة الحكم المنقول دون معرفة المدارك ، فاحتمال الخطأ في اعتقاد كون المدرك المعيّن هو مدرك الإمام أقرب من احتمال الخطأ فيما ينسب إلى الإمام من الحكم المدلول عليه.

واختلف الجدليون فقال قوم : يجب تكليف المعترض إبداء مستند القول بالموجب في هذا النوع ، لاحتمال أن يكون هذا المأخذ عنده ، فإذا علم عدم تكليفه بإبداء المأخذ عند إيراد القول بالموجب ، فقد يعاند قول ذلك مع قصد إيقاف كلام خصمه ، ولا كذلك إذا أوجب عليه بيان المأخذ فكان أفضى إلى انتفاء الخبط.

ومنعه آخرون إذ لا وجه لتكليفه بذلك بعد قيامه بشرائط القول بالموجب ، وهو استبقاء محل النزاع. وهو الأظهر ، لأنّه عاقل متديّن ، وهو أعرف بمأخذ إمامه ، وظاهر حاله الصدق فوجب تصديقه في ما ادّعاه.

٢١٨

ثمّ لو أوجبنا ذكر المأخذ فإن منعنا المستدلّ من إبطاله والاعتراض عليه انتفت فائدة ذكر المأخذ لإمكان ادّعاء ما لا يصلح للتعليل ترويجا لكلامه لوثوقه بامتناع ورود الاعتراض عليه.

وإن مكنّاه لزم انقلاب المعترض مستدلا وبالعكس ، واشتماله على الخبط ظاهر.

الثالث : أن يسكت المستدلّ عن الصغرى غير مشهورة ، مثل ما ثبت قربه فشرطه النية كالصلاة ويحمل قوله : والوضوء قربة. فيقول المعترض : أقول بالموجب وأمنع من إيجاب النية في الوضوء ولو ذكرها المستدلّ لم يكن للمعترض إلّا المنع. فقول الجدليّين في الثلاث انقطاع أحدهما صحيح في الأوّلين لما ذكر من توجيهها عليه ، وبعيد في الثالث لاختلاف المرادين ، فلا يرد النفي والإثبات على محل واحد ، لأنّ أحدهما أراد بالقربة غير ما أراد به الآخر. وحينئذ يصير النزاع لفظيا.

وجواب القول بالموجب بالاعتبار الأوّل من وجوه (١) :

الأوّل : أن يقول المسألة مشهورة بالخلاف فيما فرضت فيه الكلام إن أمكن والشهرة بذلك دليل وقوع الاختلاف فيه.

الثاني : أن يبيّن لزوم محلّ الخلاف فيما فرض فيه الكلام.

كما لو قال : لا يجوز قتل المسلم بالذمّي.

فيقول المعترض : أقول بالموجب ، لأنّه يجب ، والواجب ليس بجائز.

__________________

(١) ذكرها الآمدي في الإحكام : ٤ / ١١٨.

٢١٩

فيقول المستدلّ : عنيت بقول : لا يجوز التحريم ، ويلزم من ذلك نفي الوجوب لاستحالة لزوم التبعية بفعل الواجب.

الثالث : أن يقول المستدل : القول بالموجب فيه تغيير كلامي عن ظاهره فلا يكون قولا بموجبه.

كما لو قال المستدل في زكاة الخيل : حيوان يجوز المسابقة عليه فوجبت فيه الزكاة كالإبل.

فيقول المعترض : عندي يجب فيه زكاة التجارة ، والنزاع إنّما هو في زكاة العين.

فيقول المستدل : إذا كان النزاع في زكاة العين ، فظاهر كلامي منصرف إليها لقرينة الحال ؛ ولظهور عود الألف واللام في الزكاة إلى المعهود.

وأيضا لفظ الزكاة يعمّ العين والتجارة ، فالقول به في زكاة التجارة قول بالموجب في صورة واحدة ، وهو غير متّجه ، لأنّ موجب الدليل التعميم فالقول ببعض الموجب لا يكون قولا بالموجب ، بل ببعضه.

وكذا في مسألة إزالة النجاسة : مائع لا يزيل الحدث فلا يزيل الخبث ، كالمرق.

فيقول المعترض : أقول بموجبه ، فإنّ الخل النجس لا يزيل الحدث ولا الخبث.

فيقول المستدلّ : ظاهر كلامي إنّما هو الخل الطاهر ، ضرورة وقوع

٢٢٠