نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٤٧٦

فاذن القول بافتقار التخصيص إلى المخصّص ، يمنع من تعليل أحكامه تعالى بالمصالح ، وأمّا مع عدم احتياج التخصيص إلى المخصص فامتناع القول بتعليل أفعاله وأحكامه بالمصالح ظاهر.

وأيضا فإنّ هذا يدلّ على امتناع تعليل أفعاله بالمصالح ، وهو من وجوه (١) :

الأوّل : أنّه تعالى خلق أفعال العباد ، فلا يراعي في أفعاله المصالح وبيان الأولى من وجوه :

أ. أنّ العبد لو كان موجدا لأفعاله لكان عالما بتفاصيلها ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ فعله واقع على كيف وكم مخصوصين مع جواز وقوعه على غيرهما ، ولا بدّ لذلك الاختصاص من مخصّص ، وإلّا لزم القدح في إثبات الصانع ، إذ المقتضي للعلم به اختصاص حدوث العالم بوقت وقدر معينين مع جواز وقوع غيرهما ، والتخصيص مسبوق بالعلم ، لأنّه عبارة عن قصد إيقاعه على ذلك الوجه ، والقصد إلى إيقاعه كذلك مشروط بالعلم بذلك الوجه ، لاستحالة قصد الغافل.

وأمّا بطلان التالي أنّ الفعل يصدر من النائم مع عدم خطور شيء من التفاصيل بباله ، بل الغافل يفعل أمورا كثيرة لا يعلمها ، كالبطء في الحركة فإنّه إن كان عبارة عن تحلّل السكنات ، فالفاعل للحركة البطيئة يفعل حركة

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ٣٣٤ ـ ٣٤١.

١٢١

في بعض الأحيان وسكونا في البعض الآخر مع عدم علمه بذلك. وإن كان عبارة عن كيفية قائمة بالحركة فكذلك ان فاعل الحركة لا يعرفها ، ثمّ ذلك البطء يختلف فقد فعل عرضا مخصوصا في عرض آخر مع جواز أن يحصل سائر مراتب البطء مع عدم خطور شيء بباله ، فعلمنا أنّه قد يفعل ما لا يعلم فالعبد غير موجد.

ب. مقدور العبد مقدور لله تعالى ، لأنّه ممكن والإمكان علة المقدورية ، فيجب وقوعه بقدرته تعالى ، لأنّ قدرة العبد لو صلحت للإيجاد ، وفرضنا أنّ كلا منهما أراد إيجاده اجتمع على الفعل مؤثّران مستقلّان ، وهو محال ، لوجوبه مع المؤثّر المستقل فيستغني بكلّ منهما حال احتياجه إليهما.

ج. لو أراد العبد تحريك جسم حال ما أراد الله تعالى تسكينه ، وقدرة كلّ منهما مستقلة بالإيجاد لم يكن وقوع أحد المقدورين أولى ، فإمّا أن يقعا معا وهو جمع بين الضدين أو يرتفعا معا ، وهو محال ، لأنّ المانع من وجود كلّ منهما وجود الآخر ، والمانع حاصل حال تحقّق الامتناع ، فيوجدان معا حالة عدمهما.

لا يقال : قدرته تعالى أولى بالإيجاد ، لأنّها أقوى.

لأنّا نقول : إنّها أقوى بمعنى أنّها مؤثّرة في أمور أخر لا تؤثر فيها قدرة العبد ، أمّا ما يتعلّق بذلك المقدور ، فلا لأنّا لو فرضناه واحدا فيستحيل فيه التفاوت ، فيستحيل التفاوت في التأثير فيه.

د. لو قدر العبد على مقدور ما لقدر على الجميع ، والتالي باطل

١٢٢

بالضرورة ، فإنّه لا يقدر على خلق السماوات والأرض فالمقدّم مثله.

وبيان الشرطية : أنّ المصحّح للمقدورية الإمكان وهو واحد في الجميع ، فقد ثبت أنّ العبد غير موجد لأفعاله ، بل الله تعالى ، فالمعاصي من فعله تعالى ، ومعلوم أنّ الغالب على العالم الكفر والمعاصي فيمتنع القول بأنّه تعالى لا يفعل إلّا لمصلحة العبد.

لا يقال : لا نسلّم انّه تعالى الخالق لأفعال العبد ، لكنّ للمكلّف اختيار الإيمان والكفر ، والله تعالى أجرى عادته بخلق ما يختاره العبد منهما ، فمنشأ المفسدة اختيار المكلّف.

لأنّا نقول : حصول اختياره أحدهما إن كان من فعل العبد خاصة لم يكن الله تعالى فاعلا لجميع أفعال العبد ، وإن كان من فعله تعالى توجّه الإشكال.

[الوجه] الثاني : أنّ القادر على الكفر إن لم يقدر على الإيمان ، لزم الجبر ، وهو يقدح في رعاية المصالح. وإن قدر فلا بدّ وأن ينتهي إلى مرجّح من فعله تعالى يجب عنده الفعل ، فيلزم الجبر وهو يقدح في اعتبار المصلحة.

الثالث : أنّ تكليف ما لا يطاق واقع ، فيمتنع رعاية المصالح.

وبيان الأوّل من وجوه :

أ. أنّه تعالى كلّف بالإيمان من علم كفره وصدور الإيمان منه محال ، لاستحالة انقلاب علمه جهلا.

١٢٣

ب. ان كلّفه حال استواء الداعي (مع أنّ الفعل) (١) حينئذ محال ، لامتناع الرجحان حال الاستواء ، فقد كلّف بالمحال أو حال الرجحان والراجح واجب والمرجوح ممتنع ، وبأيهما كلّف لزم تكليف المحال ، لأنّ ترجيح المرجوح جمع بين الضّدين وترجيح الراجح تحصيل الحاصل.

ج. القدرة إذا حصلت في العبد فإن أمر بإيقاع الفعل في ذلك الزمان لزم المحال ، لأنّه إذا وجد المقدور في ذلك الزمان ، فلو أمر الله تعالى بإيقاعه في ذلك الزمان كان أمرا بإيجاد الموجود.

وإن أمر في الزمان الثاني لزم المحال أيضا ، لأنّه إذا لم يتمكّن منه في الزمان الأوّل كان أمره بالفعل أمرا لغير القادر.

لا يقال : لم يؤمر في الحال بإيقاعه فيه بل في ثانيه.

لأنّا نقول : إن لم يكن لقولك يوقعه مفهوم زائد على الفعل لم يكن لقولك : إنّه أمر في الحال بإيقاع الفعل في الثاني إلّا أنّه أعلم في الحال بأنّه لا بدّ وأن يكون في الزمن الثاني بحيث يصدر عنه الفعل ، ففي هذا الزمان لم يحصل إلّا الإعلام ، فأمّا الإلزام فإنّما يحصل في الثاني ، فيعود الأمر إلى أنّه أمر بإيقاع الفعل حال وقوعه.

وإن كان له مفهوم زائد ، فإن حصل في الزمن الأوّل وقد أمر في الأوّل به ، لزم كونه مأمورا بالشيء حال وقوعه.

__________________

(١) في «ب» و «د» : فالفعل.

١٢٤

وإن لم يحصل إلّا في الثاني عاد ما ذكرنا من الحاصل في الأوّل إعلام لا إلزام ، والإلزام إنّما يحصل في الثاني فيلزم ما ذكرنا من الأمر بالإيقاع حالة الوقوع.

د. قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١) المخبر عنهم فيه كانوا مأمورين بالإيمان ، ومنه تصديق الله تعالى في كلّ ما أخبر عنه فقد امروا بتصديق الله تعالى في إخبارهم انّهم لا يؤمنون وهو تكليف ما لا يطاق.

ه. فعل العبد إنّما يحصل إذا خلق الله فيه داعية تلجئه إلى الفعل ، وإذا ألجئ إلى فعل الكفر كان تكليف الإيمان تكليفا بما لا يطاق.

و. الأمر بالمعرفة إن توجّه حال المعرفة لزم الأمر بتحصيل الحاصل ، وإن توجّه لا حالها استحال حينئذ أن يكون عارفا فحال كونه بحيث يستحيل أن يعرف أمر الله تعالى لما توجّه عليه الأمر ، كان تكليفا بما لا يطاق.

ز. أنّه تعالى أمر بالترك وهو غير مقدور ، لأنّ معناه بقاؤه على العدم الأصلي والعدم نفي محض والقدرة مؤثرة ، فالجمع بينهما متناقض ، ولأنّ التأثير في الباقي محال.

لا يقال : الترك فعل الضد ، وهو وجودي.

__________________

(١) البقرة : ٦.

١٢٥

لأنّا نقول : الإلزام قائم ، لأنّ الواحد منّا قد يؤمر بترك الشيء الذي لا يعرف له ضدا ، فلو أمرنا في ذلك الوقت بفعل ضده لكنّا قد أمرنا بفعل شيء لا نعرف ماهيّته ، فيكون ذلك تكليفا بالمحال. وإذا ثبت تكليف ما لا يطاق امتنع تعليل أفعاله تعالى بالمصالح.

[الوجه] الرابع : تخصيص خلق العالم بوقت حدوثه دون ما قبله وما بعده لا لغرض ، لانتفاء الوقت والزمان قبل العالم ، بل ليس إلّا (الله تعالى و) (١) العدم الصرف ، ويستحيل أن يحصل فيه وقت يكون منشأ للمصلحة وآخر للمفسدة.

الخامس : أنّ تقدير الأفلاك والكواكب والعناصر والجبال والبحار بمقاديرها المعيّنة لا يجوز أن يكون لمصلحة الخلق ، للعلم بأنّه لو زاد في مقدار الفلك [مقدار] جزء لا يتجزّأ لم يتغيّر بسببه شيء من مصلحة العباد ولا مفاسدهم.

السادس : أنّه [تعالى] خلق الكافر الفقير بحيث يكون في المحنة من أوّل عمره إلى آخره ، وفي الآخرة يكون معذّبا دائما مع أنّه تعالى يعلم في الأزل أنّه إذا خلقه وكلّفه بالإيمان لم يستفد من ذلك إلّا البلاء والمحنة ، فكيف يقال : إنّ ذلك مصلحة له؟!

السابع : أنّه تعالى خلق الخلق وركّب فيهم الشهوة والغضب حتى ربّما قتل بعضهم بعضا ، وفجر بعضهم ببعض ، وقد كان يقدر على خلقهم

__________________

(١) ما بين القوسين من المحصول : ٢ / ٣٤٠.

١٢٦

في الجنة ابتداء ويغنيهم بالمشتهيات الحسنة عن القبيحة.

لا يقال : إنّما فعل ذلك ليعطيه العوض وليكون لطفا لمكلّف آخر.

لأنّا نقول : لو أعطاه العوض ابتداء كان أولى ، ولا يحسن إيلام زيد ليكون لطفا لعمرو.

الثامن (١) : الأمّة بين قائلين : منهم من جعل أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، فيلزم أن يكون خالقا للكفر والمعاصي وأنواع الشرور مع انتفاء الحكمة والمقاصد في خلقها ؛ ومنهم من قال أنّها مخلوقة للعبد ، وإنّما كانت مخلوقة له بواسطة خلق الله تعالى القدرة على ذلك ، وخلق القدرة الموجبة لهذه الأمور لا يكون لحكمة.

التاسع : لو استلزم فعله الحكمة ، لما أمات الأنبياء وانظر ابليس ، ولما أوجب تخليد أهل النار فيها ، لعدم الحكمة فيه.

العاشر : لو كان فعله لحكمة ومقصود ، فعند تحقّقها إن وجب الفعل كان الله تعالى مضطرا غير مختار ، وإن لم يجب أمكن وجوده تارة وعدمه أخرى ، فإن ترجّح أحدهما لمقصود تسلسل ، وإن كان لا لمقصود فالمطلوب.

الحادي عشر : لو كان فعله لغرض ومقصود ، فإن كان ذلك المقصود قديما لزم قدم الصنع والمصنوع ، وإن كان حادثا فإن توقّف على مقصود تسلسل ، وإلّا فالمطلوب.

__________________

(١) من الوجه الثامن إلى الوجه التاسع عشر ذكرها الآمدي في الإحكام : ٣ / ٣١٨ ـ ٣٢١.

١٢٧

الثاني عشر : أنّ حكم الله تعالى كلامه ، وهو قديم ، والمقصود يستحيل أن يكون قديما لاستحالة وجود قديم غير الله تعالى وصفاته ، وإذا كان حادثا لزم تعليل القديم بالحادث وهو محال.

الثالث عشر : لو كان فعله لغرض ، فإن كان فعله لذلك الغرض أولى من تركه ، لزم أن يستكمل بذلك الفعل ، وإن لم يكن أولى امتنع الفعل لعدم الأولوية.

الرابع عشر : الحكم والمقاصد خفية ، وفي ربط الأحكام الشرعية بها ما يوجب الحرج في حقّ المكلّف باطّلاعه عليها والبحث عنها ، والحرج منفي بقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١).

الخامس عشر : أنّ وجود الحكمة ممّا يجب تأخّره عن وجود شرع الحكم ، والمتأخّر يمتنع أن يكون علّة للمتقدّم.

السادس عشر : لو شرع الأحكام للحكم ، لكانت مفيدة لها قطعا ، لأنّه تعالى قادر على تحصيل تلك الحكمة قطعا ، فلو فعل ما فعله قصدا لتحصيل تلك الحكمة ، لكان الظاهر منه أنّه يفعله على وجه تحصل به تلك الحكمة قطعا ، وأكثر الأحكام من الزواجر وغيرها لا يفيد ما قيل إنّها حكم لها قطعا.

السابع عشر : أنّه تعالى قادر على تحصيل الحكمة من دون شرع الحكم ، فيكون توسط شرعه عبثا.

__________________

(١) الحج : ٧٨.

١٢٨

الثامن عشر : أنّ الحكمة إنّما تطلب في حقّ من تميل نفسه إلى جلب نفع أو دفع ضرر ، والله تعالى منزه عنه.

التاسع عشر : أنّ الحكمة إنّما تطلب في حق من لو خلا فعله من الحكمة لحقه الذم وكان عابثا ، والله تعالى منزّه عنه ، لأنّه يتصرّف في ملكه كيف شاء.

فظهر بذلك أنّه ليس الغالب في أفعاله تعالى رعاية المصالح ولا يغلب على الظن تعليل أحكامه بالمصالح ، كما لو رأينا شخصا غالب أفعاله عدم الالتفات إلى المصالح ثمّ رأيناه حكم بحكم لا يغلب على الظن اشتمال ذلك الحكم على المصلحة ، هذا في حق الإنسان المحتاج إلى رعاية المصلحة والإله يتعالى عن المصالح ، ثم رأينا غالب أفعاله ما لا يكون مصلحة للخلق كيف يظن تعليل أحكامه بالمصالح؟!

سلّمنا أنّ أفعاله تعالى معلّلة بالمصالح ، وأنّ هذا الفعل مصلحة من هذا الوجه ، فلم قلت : إنّ هذا القدر يقتضي ظنّ أنّ ذلك الحكم معللا بهذه المصلحة؟ واعتمادكم على الوجه الأوّل مبني على الاستصحاب والثاني مبني على الدوران.

وعلى الوجه الثاني لم قلت : إنّه لما حصل الظنّ في المثال المذكور وجب حصوله في حقّه تعالى. والدوران إنّما يفيد الظن إذا لم يظهر وصف آخر في الأصل ، وقد وجد هنا لوجهين (١) :

__________________

(١) ذكرهما الرازي في المحصول : ٢ / ٣٤٢.

١٢٩

أ. إنّما حكمنا بذلك في حقّ الملك ، لعلمنا بميل طبعه إلى جلب المصلحة ودفع المفسدة ، وهو مفقود في حقّه تعالى.

ب. المعتبر ليس دفع عموم الحاجة ، بل دفع الحاجة المخصوصة ، فمن عرف عادة الملك أنّه يراعي هذا النوع أو ذاك حصل له ظن انّ غرض الملك من هذا الفعل إمّا هذا أو ذاك ، وعادة الله تعالى في رعاية أجناس المصالح وأنواعها مختلفة ، ولذلك قد يكون الشيء قبيحا عندنا وهو حسن عند الله تعالى وبالعكس ، ولهذا المعنى نقطع الآن بقبح شريعة موسى وعيسى عليهما‌السلام وبحسن شريعتنا ، والتفاوت غير معلوم الآن ، فظهر الفرق بين الصورتين.

سلّمنا أنّ ما ذكرتم يدلّ على قولكم لكنّه معارض بوجوه (١) :

الأوّل : انّ أفعاله لو كانت لدفع حاجة العبد لارتفعت جميع الحاجات لاشتراكها في أصل كونها حاجة وتباينها بخصوصياتها ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فما به الامتياز لكلّ نوع من أنواع الحاجة عن باقي أنواعه لا يكون حاجة.

فإذن التعليل بكونه حاجة يوجب سقوط تلك الزوائد عن العلّيّة ، وارتباط الحكم بمسمّى الحاجة الذي هو القدر المشترك بين كلّ أنواعه ، فإذا كان المسمّى علّة لشرع ما يصلح أن يكون دافعا له ، لزم اندفاع كلّ الحاجات ، لكن اللازم باطل قطعا ، فيبطل التعليل بالحاجة.

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ٣٤٢.

١٣٠

الثاني : تعليل أحكامه تعالى بالمصالح يفضي إلى مخالفة الأصل ، لأنّ العبادات التي كانت في شرع موسى وعيسى عليهم‌السلام كانت حسنة في ذلك الزمان وصارت قبيحة الآن ، فلا بدّ وأن يكون ذلك ، لأنّه حصل في ذلك الزمان شرط لم يحصل الآن ، أو وجد الآن مانع لم يكن موجودا في ذلك الوقت ، ولكن توقيف المقتضي على وجود الشرط أو تخلّف حكمه لمانع ، خلاف الأصل.

الثالث : الحكم لا يجوز تعليله بالحكمة ، لعدم انضباطها فتكون خفية ؛ ولا بالوصف المشتمل عليها ، لأنّه إنّما يكون علّة للحكم لاشتماله على الحكمة ، فتكون الحكمة علّة لعلّة الحكم ، فيعود المحذور.

سلّمنا استلزام شرع الحكم للحكمة لكن لا يلزم أن يكون ما ظهر من المناسب علّة ، ولو دلّ لزم كون أجزاء العلّة المناسبة عللا ، فجاز أن يكون جزء علة فلا يلزم من وجوده في الفرع وجود الحكم.

وهذه الشبه أورد أكثرها الإمام فخر الدين الرازي ثمّ أجاب (١) بأنّ أفعال الله تعالى مشروعة للمصالح على ما بيّنّا ، والوجوه العقلية التي ذكرت لو صحّت لقدحت في التكليف ، والكلام في القياس نفيا وإثباتا فرع على القول بالتكليف ، فلا تكون مسموعة.

وأمّا الفرقان المذكوران بين الشاهد والغائب فإنّما يقدح في قول من

__________________

(١) المحصول : ٢ / ٣٤٣.

١٣١

يوجب عقلا تعليل أحكامه تعالى بالمصالح. ومن لا يوجبه لكن يفعل تفضلا وإحسانا لم يقدح الفرق في قوله.

والمعارضات الثلاثة الأخيرة منقوضة بتعليل أفعالنا بالدواعي والأغراض فإنّها آتية فيها.

وفيه نظر ، لامتناع الجمع بأنّه تعالى يفعل لا لغرض وأنّه شرّع أفعاله للمصالح.

وأجاب غيره (١) عن الأوّل : بأنّ القدرة إنّما تتعلّق بالحدوث والوجود لا غير ، والكفر وأنواع المعاصي والشرور راجعة إلى مخالفة نهي الشارع ، وليس ذلك من متعلّق القدرة في شيء.

سلّمنا أنّ الجميع مخلوقة لله تعالى ، فنحن لا ندّعي ملازمة الحكمة لأفعاله مطلقا حتى يطرد ذلك في كلّ مخلوق ، بل إنّما ندّعي ذلك فيما يمكن مراعاة الحكمة فيه ، وذلك فيما عدا الشرور والمعاصي ، ولا ندّعي ذلك قطعا بل ظاهرا.

سلّمنا لزوم الحكمة لأفعاله مطلقا ، لكن لا نسلّم امتناع ذلك فيما ذكروه من الصور قطعا ، لجواز أن يكون لازمها حكم لا يعلمها سوى الرب تعالى وهو الجواب عن الثامن والتاسع.

وفيه نظر ، لأنّ الكفر والمعاصي والظلم وغيرها من الأفعال متحقّقة ثابتة في الخارج فلا بدّ لها من مؤثر سواء أثر في حقيقتها أو وجودها ، وذلك

__________________

(١) المجيب هو الآمدي في الإحكام : ٣ / ٣٢٢.

١٣٢

المؤثر إن كان هو الله تعالى انتفت حكمته ، وهو محال.

سلّمنا لكن المخالفة لنهي الشرع إن لم يكن متعلّق القدرة والمؤثر امتنع اللوم والذنب على العبد وبطل التكليف ، وإلّا عاد الإشكال. وإذا لم يجب ملازمة الحكمة لأفعاله ، بل فيما عدا الشرور لم يحصل الظن برعاية هذه الحكمة لجواز إلحاقها بالشرور في عدم مراعاتها أو في نفسها ، وتجويز كون الشرور لحكم ، وكذا المعاصي وأنواع الظلم والكفر ، يخرجها عن حقائقها ، وهو غير محلّ النزاع.

بل الحق في الجواب أن يقول : لا نسلّم استناد الأفعال إليه تعالى ولا يستلزم الفعل العلم مفصّلا ، بل ولا مجملا ، فإنّ العلل مؤثّرة وفاعلة لآثارها مع انتفاء الشعور ، نعم الفاعل بالقصد لا بدّ وأن يكون عالما لكن لا يجب التفصيل في علمه ، بل الشرط تعلّق العلم بما تعلّق به الاختيار ، والاختيار إنّما يتعلّق به على الإجمال لا التفصيل ، فإن تعلّق به على التفصيل وجب فيه العلم كذلك وقدرة العبد مع قدرته تعالى لا يستلزم وقوع الفعل منهما ، لعدم استلزام القدرة التأثير ، ونمنع عدم الأولوية لإمكان تخصيص استناد الوقوع إلى الله تعالى ، لأنّه أقوى. وهذا دليل أخذه الأشاعرة من المتكلّمين في الوحدانية ، وهو هناك يتمشّى ولا يتمشّى هنا. ولا يلزم من قدرته تعالى على شيء عموم قدرته ، ولا يلزم من الوجوب المستند إلى مجموع القدرة والداعي الجبر ، على ما سلف ، ووجوب المعرفة عقلي والترك مقدور وهو إمّا نفس اللايفعل أو أن يفعل الترك.

١٣٣

وفي الرابع نظر ، لأنّ المصلحة لا تتوقف على حصول وقت ، فإنّ الوقت نفسه لا بد في وجوده من المصلحة ولا يفتقر إلى وقت آخر.

وفي الخامس نظر ، لأنّ خفاء المصلحة لا يستلزم عدمها وكذا المفسدة ، فجاز أن يكون زيادة جزء لا يتجرى مفسدة وعدمها مصلحة.

وأجيب عن السادس والسابع : بأنّ الحكمة في ذلك إن كانت ممتنعة لم يلزم امتناعها في ما هي ممكنة فيه ، وإن كانت جائزة أمكن وجودها ونحن لا نطّلع عليها.

والحق في الجواب انّ خلق الكافر مصلحة ، فإنّ الإيجاد لا نزاع في كونه مصلحة ، وكذا الإقدار والتكليف ، فإذا اختار المكلّف المعصية المستلزمة لذاتها العقاب لم يخرج الحسن بسببه عن حسنه.

وعن العاشر : أنّ وجود الفعل وان قدر تحقّق الحكمة ، غير واجب ، بل هو تبع لتعلّق القدرة والإرادة به. ومع ذلك فالباري لا يكون مضطرا بل مختارا.

وعن الحادي عشر : أنّ المقصود حادث لا يفتقر إلى مقصود آخر ، فإنّا إنّما ندّعي ذلك فيما هو ممكن ، وافتقار المقصود إلى مقصود آخر غير ممكن لإفضائه إلى التسلسل الممتنع ، وإن كان مفتقرا إلى مقصود ، فذلك المقصود هو نفسه لا غيره ، فلا تسلسل.

١٣٤

وعن الثاني عشر : أنّ الحكم ليس هو نفس الكلام القديم ، بل الكلام بصفة التعلّق ، فكان حادثا ، وإن كان الحكم قديما والمقصود حادثا ، فإنّما يمتنع تعليله به لو كان موجبا للحكم ، وليس كذلك ، بل إمّا بمعنى الأمارة ، والحادث يجوز أن يكون أمارة على القديم ، وأمّا بمعنى الباعث فلا مانع في تجويز كونه متأخّرا ، ويكون حكم الله تعالى القديم لأجل ما سيوجد من المقصود الحادث.

وفيه نظر ، فإنّ الحكم لو كان حادثا وهو مفسر بأنّه خطاب من الله تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين ، كانت صفة الله تعالى حادثة ، وهو محال.

وعن الثالث عشر : أنّ الغرض أولى من تركه ، لكن بالنظر إلى المخلوق.

وفيه نظر ، فإنّ هذا العذر إنّما يصحّ من المعتزلة ، لأنّ عمدة الأشاعرة في نفي الغرض على هذا الحرف ، فلا يجوز لهم إنكاره ، وإلّا لبطل أصل مذهبهم.

وعن الرابع عشر : نمنع الحرج في ربط الأحكام بالحكم المضبوطة بأنفسها ، أو بأوصاف ظاهرة ضابطة لها لعدم العسر في معرفتها ، وإن كان في استخراج ذلك نوع حرج لكن فيه فائدة وهي زيادة الثواب.

وعن الخامس عشر : أنّ المتأخّر يجوز أن يكون غاية ، وكلّ العلل الغائية متأخّرة في الوجود وإن كانت متقدّمة في الماهية.

١٣٥

وعن السادس عشر : يجوز أن يكون المقصود من شرع الحكم حصول الحكمة ظاهرا لا مطلقا.

وعن السابع عشر : بإمكان أن يكون حصول الحكمة بدون شرع الحكم محالا ، فلا يكون مقدورا ولا يستلزم العجز.

سلّمنا الإمكان والقدرة عليه فلا يلزم أن يكون شرع الحكم غير مفيد مع حصول الفائدة به وان قدر إمكان حصول الفائدة بطريق آخر.

وعن الثامن عشر : نمنع ما ذكروه في رعاية الحكمة ، بل الحكمة إنّما تطلب من فعل من لو وجدت الحكمة في فعله لم يكن ممتنعا ، بل واقعا في الغالب.

وعن التاسع عشر : بأنّ ما ذكروه إنّما يلزم في حقّ من يجب مراعاة الحكمة في فعله ، والله تعالى ليس كذلك.

وفيه نظر ، لما بيّنّا من المنافاة بين ذلك وبين التعليل في القياس ، بل الحق في الجواب ما قاله المعتزلة من أنّه تعالى لو أخلّ بالحكمة لحقه الذم ، لكن لمّا امتنع لحوق الذم له من حيث الحكمة ، امتنع إخلاله بالحكمة من هذه الحيثية وإن كان قادرا على الإخلال.

واعلم أنّ التحقيق يقتضي أن هذا الطريق لا يصلح لإثبات العلّيّة ، أمّا على رأي الأشاعرة فظاهر ، لامتناع تعليل أفعاله تعالى عندهم بالحكم والأغراض ، فكيف يصحّ مع ذلك القول بأنّ الله حكم في الأصل بكذا لأجل كذا.

١٣٦

وأمّا على رأي المعتزلة فلأنّ جهات المصالح إنّما تقتضي الإيجاب عليه تعالى لو خلا الفعل في نفس الأمر عن المفاسد ، ولا يلزم من حصول المصلحة المعيّنة انتفاء المفاسد ، ولا من عدم العلم بها انتفاؤها ، فجاز أن يشتمل التعليل بما ذكروه على نوع مفسدة ، فلا يصدر منه تعالى.

وعند هذا ظهر صحّة ما قلناه من بطلان القياس إلّا مع النصّ على العلّيّة.

البحث الخامس : في المؤثر (١)

وهو أن يكون الوصف مؤثرا في جنس الحكم في الأصول دون وصف آخر ، فيكون أولى بأن يكون علّة من الوصف الذي لا يؤثر في جنس ذلك الحكم ولا في عينه ، وذلك كالبلوغ الذي يؤثر في رفع الحجر عن المال فيؤثّر في رفع الحجر عن النكاح دون البنوّة ، لأنّها لا تؤثر في جنس هذا الحكم وهو رفع الحجر. وكقولهم : إذا قدّم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الميراث فينبغي أن يقدّم في ولاية النكاح.

لا يقال : لم قلتم إنّ الأخوّة من الأبوين لمّا أثّرت في التقديم في الإرث أثّرت في التقديم في النكاح.

لأنّا نقول : بيّنوا ذلك بالمناسبة أو بأن لا فارق بين الأصل والفرع إلّا كذا ، وهو ملغى. فهذا الطريق لا يتمشى إلّا بطريق المناسبة والسبر.

__________________

(١) ذكره الرازي في المحصول : ٢ / ٣٤٤.

١٣٧

البحث السّادس : في الشبه (١)

وفيه مطلبان :

المطلب الأوّل : في ماهيته

اختلف الناس في تفسيره مع أنّ اسم الشبه وإن أطلق على كلّ قياس ألحق الفرع فيه بالأصل بجامع بشبهه فيه.

فقال قوم : إنّه ما تردّد الفرع فيه بين أصلين ، ووجد فيه المناط الموجود في كلّ واحد من الأصلين ، إلّا أنّه يشبه أحدهما في أوصاف هي أكثر من الأوصاف التي بها مشابهته للآخر ، فإلحاقه بما هو أكثر مشابهة هو الشبه ، كالعبد المقتول خطأ إذا زادت قيمته على دية الحرّ ، فإنّه قد اجتمع فيه مناطان متعارضان :

النفسية وهو مشابه للحر فيها ، ومقتضاه عدم الزيادة على الدية.

والمالية وهو مشابه للدابة ، ومقتضاه الزيادة.

إلّا أنّ مشابهته للحر في الآدمية واستحقاق الثواب والعقاب ، ومشابهته للدابة في كونه مملوكا مقوما في الأسواق ، فكان إلحاقه بالحر لكثرة مشابهته أولى ، وليس هذا من الشبه في شيء ، لأنّ كلّا من المناطين مناسب وما ذكر من كثرة المشابهة إن كانت مؤثرة فهي من باب الترجيح

__________________

(١) ذكره الرازي في المحصول : ٢ / ٣٤٤.

١٣٨

لأحد المناطين على الآخر ، وذلك لا يخرجه عن المناسب وإن افتقر إلى نوع ترجيح.

وفسّره آخرون بما عرف فيه المناط قطعا غير أنّه مفتقر في آحاد الصور إلى تحقيقه. كما في طلب المثل في جزاء الصيد بعد أن عرف أنّ المثل واجب بقوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)(١) ، وليس هذا أيضا شبهي ، فإنّ الكلام مفروض في العلّة الشبهية ، والنظر هنا إنّما هو في تحقيق الحكم وهو الأشبه ، لا في تحقيق المناط وهو معلوم بدلالة النصّ.

ودليل أنّ الواجب هو الأشبه أنّه أوجب المثل ، ومعلوم أنّ الصيد لا يماثله شيء من النعم ، فكان ذلك محمولا على الأشبه ، كيف وهو مقطوع به ، والشبه مختلف فيه ، وكيف يكون المتفق عليه هو المختلف فيه.

ومنهم من فسّره بما اجتمع فيه مناطان مختلفان ، لا على سبيل الكمال إلّا أن أحدهما أغلب من الآخر ، فالحكم بالأغلب حكم بالأشبه ، كاللعان الموجود فيه لفظ الشهادة واليمين ، وليسا بمتمحضين ، لأنّ الملاعن مدّع فلا تقبل شهادته لنفسه ولا يمينه. وهذا وإن كان أقرب ممّا تقدّم إلّا أنّه متى غلبت إحدى الشائبتين ظهرت المصلحة الملازمة لها في نظرنا ، فيجب الحكم بها ولكنّه خارج (٢) عن التعليل بالمناسب. (٣)

__________________

(١) المائدة : ٩٥.

(٢) في الإحكام : ٣ / ٣٢٦ : غير خارج.

(٣) راجع الإحكام : ٣ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

١٣٩

وقال القاضي أبو بكر (١) : الوصف إن كان مناسبا للحكم بذاته سمّي المناسب ؛ وإن لم يكن مناسبا بذاته فإن كان مستلزما لما يناسبه بذاته فهو الشبه ، كتعليل التحريم بالرائحة الفاتحة المستلزمة للشدّة المطربة ؛ وإن لم يكن مناسبا بذاته ولا مستلزما للمناسب بذاته فهو الطرد ، فجعل الشبه قياس الدلالة وهو الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم ولكن بما يستلزم ما يناسب.

وقال قوم : الوصف الذي لا يناسب الحكم إمّا أن يكون قد عرف بالنصّ تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم ، وإمّا أن لا يكون كذلك.

والأوّل الشبه ، لأنّه من حيث إنّه غير مناسب يظنّ عدم اعتباره في حقّ ذلك الحكم ، ومن حيث علم تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم مع أنّ سائر الأوصاف ليس كذلك يكون ظنّ استناد الحكم إليه أقوى من ظنّ استناده إلى غيره.

والشافعي يسمّي هذا القياس قياس غلبة الأشباه. وهو تردّد الفرع بين أصلين ، فإذا كانت مشابهته لأحدهما أقوى ألحق به ، فأمّا الذي يقع فيه الاشتباه فالمحكيّ عن الشافعي أنّه كان يعتبر الشبه في الحكم كمشابهة العبد المقتول للحر ولسائر المملوكات.

__________________

(١) نقله عنه الرازي في المحصول : ٢ / ٣٤٤.

١٤٠