أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

الشيخ جعفر السبحاني

أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6293-80-8
الصفحات: ٧٧٤

يفسّره أحد من أصحاب المعاجم بما ذكره الرازي.

وحاصل الكلام : أنّ اللفظة إذا اقترنت ببعض أدوات الإدراك كالبصر والسمع يحمل المعنى الكلّي ، أي اللحوق والوصول ـ على الرؤية والسماع ـ سواء كان الإدراك على وجه الإحاطة أو لا ، وأما إذا تجرّدت اللفظة عن القرينة تكون بمعنى نفس اللحوق ، قال سبحانه : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١) ومعنى الآية : حَتَّى إِذَا لَحِقَهُ الْغَرَقَ ورأى نفسه غائصاً في الماء استسلم وقال : (آمَنْتُ ...).

وقال سبحانه : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) (٢) ، أي لا تخاف لحوق فرعون وجيشه بك وبمن معك من بني إسرائيل.

وقال سبحانه : (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (٣) فأثبت الرؤية ونفى الدرك ، وما ذلك إلّا لأنّ الإدراك إذا جُرّد عن المتعلّق لا يكون بمعنى الرؤية بتاتاً ، بل بمعنى اللحوق.

نعم إذا اقترن بالبصر يكون متمحّضاً في الرؤية من غير فرق بين نوعٍ ونوع ، وتخصيصه بالنوع الإحاطي ـ لأجل دعم المذهب ـ افتراءٌ على اللغة.

* * *

__________________

(١) يونس : ٩٠.

(٢) طه : ٧٧.

(٣) الشعراء : ٦١.

٦٤١

الآية الثانية : ولا يحيطون به علماً

قال سبحانه : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً* يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (١).

إنّ الآية تتركّب من جزءين :

الأوّل : قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ).

الثاني : قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً).

والضمير المجرور في قوله : (بِهِ) يعود إلى الله سبحانه.

ومعنى الآية :

الله يحيطُ بهم لأنّه (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ويكون معادلاً لقوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) ولكنّهم (لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً). ويساوي قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ).

وأمّا كيفية الاستدلال فبيانُها أنّ الرؤية سواء أوَقعت على جميع الذات أم على جزئها ، فهي نوع إحاطةٍ علميّة من البشر به سبحانه ، وقد قال : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً).

ولكن الرازي لأجل التهرّب من دلالة الآية على امتناع رؤيته سبحانه قال : بأنّ الضمير المجرور يعود إلى قوله : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم ، والله سبحانه محيطٌ بما بينَ أيديهم وما خلفَهم.

أقول : إنّ الآية تحكي عن إحاطته العلمية سبحانه يوم القيامة بشهادةِ ما قبلَها : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) ، وعندئذٍ

__________________

(١) طه : ١٠٩ ـ ١١٠.

٦٤٢

يكون المراد من الموصول في قوله سبحانه : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) هو الحياة الأُخروية الحاضرة ، وقوله سبحانه : (وَما خَلْفَهُمْ) هو الحياة الدنيوية الواقعة خلف الحياة الأُخروية ، وحينئذٍ لو رجع الضمير في قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) إلى الموصولين يكون مفادُ الآية عدم إحاطة البشر بما يجري في النشأتين ، وهو أمر واضح لا حاجة إلى التركيز عليه ، وهذا بخلاف ما إذا رجع إلى «الله» ؛ فستكون الآية بصدد التنزيه ، ويكون المقصود أنّ الله يحيط بهم علماً وهؤلاء لا يحيطون كذلك ، على غرار سائر الآيات.

٦٤٣

الآية الثالثة : قال لن ترانى

قال سبحانه : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١). لقد استدلّ ـ بهذه الآية ـ كلٌّ من النافي والمثبت ، رُغْم أنْ ليس لها إلّا مدلول واحد ، فكان بين القولين تناقض واضح.

ومردّ ذلك إلى أنّ أحد المستدلّين لم يتجرّد عن هواه حينما استدلّ بالآية ، وإنّما ينظر إليها ليحتجّ بها على ما يتبنّاه ، وهذا من قبيل التفسير بالرأي الّذي نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه بالخبر المتواتر ، وبالتالي قلّ من نظر إليها بموضوعية خالية عن كلّ رأي مسبق.

المفهوم الصحيح للآية :

لا شكّ أنّنا إذا عرضنا الآية على عربي صميم لم يتأثّر ذهنه بالمناقشات الكلامية الدائرة بين النافين والمثبتين ، وطلبنا منه أنْ يبيّن الإطار العام للآية ومفادها ومنحاها ، وهل هي بصدد بيان امتناع الرؤية أو جوازها؟ فسيجيب بصفاء ذهنه بأنّ الإطار العام لها هو تعاليه سبحانه عن الرؤية ، وأنّ سؤاله أمر عظيم فظيع لا يُمحى أثره إلّا بالتوبة ، فسيكون فهم ذلك العربي حجّة علينا لا يجوز لنا العدول عنها ، والقرآن نزل بلسانٍ عربيّ مبين ولم ينزل بلسان المتكلّمين أو المجادلين.

كما أنّنا إذا أردنا أن نُفسّر مفاد الآية تفسيراً صناعياً ؛ فلا شكّ أنه يدلّ أيضاً على تعاليه عنها ، وذلك لوجوه :

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.

٦٤٤

١ ـ الإجابة بالنفي المؤبد :

لمّا سأل موسى رؤية الله تبارك وتعالى أُجيب ب (لَنْ تَرانِي) ، والمتبادر من هذه الجملة أي قوله : (لَنْ تَرانِي) هو النفي الأبديّ الدالّ على عدم تحقُّقها أبداً.

والدليل على ذلك هو تتبّع موارد استعمال كلمة «لن» في الذكر الحكيم ، فلا تراها متخلّفة عن ذلك ولو في مورد واحد :

١ ـ قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) (١).

٢ ـ (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٢).

٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٣).

٤ ـ (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٤).

٥ ـ (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (٥).

٦ ـ (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) (٦).

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ «لن» تفيد التأبيد.

وربّما نوقش في دلالة (لَنْ) على التأبيد مناقشة ناشئة عن عدم الوقوف الصحيح على مقصود النحاة من قولهم «لن» موضوعة للتأبيد ، ولتوضيح مرامهم

__________________

(١) الحج : ٧٣.

(٢) التوبة : ٨٠.

(٣) محمّد : ٣٤.

(٤) المنافقون : ٦.

(٥) البقرة : ١٢٠.

(٦) التوبة : ٨٣.

٦٤٥

نذكر أمرين ثمّ نعرض المناقشة عليهما :

١ ـ إنّ المراد من التأبيد ليس كونُ المنفي ممتنعاً بالذات ، بل كونه غير واقع ، وكم فرق بين نفي الوقوع ونفي الإمكان ، نعم ربّما يكون عدم الوقوع مستنداً إلى الاستحالة الذاتية.

٢ ـ إنّ المراد من التأبيد هو النفي القاطع ، وهذا قد يكون غير محدّد بشيء وربّما يكون محدّداً بظرفٍ خاص ، فيكون معنى التأبيد بقاء النفي بحاله ما دام الظرف باقياً.

إذا عرفت الأمرين تقف على وهن ما نقله الرازي عن الواحدي من أنّه قال : ما نُقل عن أهل اللغة أنّ كلمة «لن» للتأبيد دعوى باطلة ، والدليل على فساده قوله تعالى في حقّ اليهود : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (١) قال : وذلك لأنّهم يتمنّون الموت يوم القيامة بعد دخولهم النار ، قال سبحانه : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٢) فإنّ المراد من (لِيَقْضِ عَلَيْنا) هو القضاء بالموت (٣).

ووجه الضعف ما عرفت من أنّ التأبيد على قسمين : غير محدّد ، ومحدّد بإطار خاصّ ، ومن المعلوم أنّ قوله سبحانه : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) ناظر إلى التأبيد في الإطار الّذي اتّخذه المتكلّم ظرفاً لكلامه وهو الحياة الدنيا ، فالمجرمون ما داموا في الحياة الدنيا لا يتمنّون الموت أبداً ، لعلمهم بأنّ الله سبحانه بعد موتهم يُقدّمهم للحساب والجزاء ، ولأجل ذلك لا يتمنّونه أبداً قطّ.

وأمّا تمنّيهم الموت بعد ورودهم العذاب الأليم فليس داخلاً في مفهوم الآية

__________________

(١) البقرة : ٩٥.

(٢) الزخرف : ٧٧.

(٣) الرازي ، مفاتيح الغيب ١٤ : ٢٢٧.

٦٤٦

الأُولى حتى يُعدّ التمنّي مناقضاً للتأبيد.

ومن ذلك يظهر وهن كلام آخر وهو : أنه ربّما يقال : إنّ «لن» لا تدلّ على الدوام والاستمرار بشهادة قوله : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (١) إذ لو كانت (لن) تفيد تأبيد النفي لوقع التعارض بينها وبين كلمة (الْيَوْمَ) لأنّ اليوم محدّد معيّن ، وتأبيد النفي غير محدّد ولا معيّن ، ومثله قوله سبحانه على لسان ولد يعقوب : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) (٢) حيث حدّد بقاءه في الأرض بصدور الإذن من أبيه (٣).

وجه الوهن : أنّ التأبيد في كلام النحاة ليس مساوياً للمعدوم المطلق ، بل المقصود هو النفي القاطع الّذي لا يشق ، والنفي القاطع الّذي لا يكسر ولا يشقّ على قسمين :

تارةً يكون الكلام غير محدّد بظرف خاص ولا تدلّ عليه قرينة حالية ولا مقالية فعندئذٍ يساوق التأبيدَ المعدوم المطلق.

وأُخرى يكون الكلام محدّداً بزمان حسب القرائن اللفظية والمثالية ، فيكون التأبيد محدّداً بهذا الظرف أيضاً ، ومعنى قول مريم : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (٤) هو النفي القاطع في هذا الإطار ، ولا ينافي تكلّمها بعد هذا اليوم.

والحاصل : أنّ ما أُثير من الإشكال في المقام ناشئ من عدم الإمعان فيما ذكرنا من الأمرين ؛ فتارةً حسبوا أنّ المراد من التأبيد هو الاستحالة فأوردوا بأنّه ربّما يكون المدخول أمراً ممكناً كما في قوله : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) (٥) ، وأُخرى

__________________

(١) مريم : ٢٦.

(٢) يوسف : ٨٠.

(٣) الدكتور عباس حسن ، النحو الوافي ٤ : ٢٨١ كما في كتاب رؤية الله للدكتور أحمد بن ناصر.

(٤) مريم : ٢٦.

(٥) التوبة : ٨٣.

٦٤٧

حسبوا أنّ التأبيد يلازم النفي والمعدوم المطلق ، فناقشوا في الآيات الماضية الّتي لم يكن النفي فيها نفياً مطلقاً ، ولو أنّهم وقفوا على ما ذكرنا من الأمرين لسكتوا عن هذه الاعتراضات.

وبما أنّه سبحانه لم يتّخذ لنفي رؤيته ظرفاً خاصاً ، فسيكون مدلوله عدم تحقّق الرؤية أبداً لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة.

والحاصل : أنّ الآية صريحة في عدم احتمال الطبيعة البشرية لذلك الأمر الجلل ، ولذلك أمره أنْ ينظر إلى الجبل عند تجلّيه ، فلما اندكّ الجبل خرّ موسى مغشيّاً عليه من الذُّعْرِ ، ولو كان عدم الرؤية مختصاً بالحياة الدنيا لما احتاج إلى هذا التفصيل ، بل كان في وسعه سبحانه أن يقول : لا تراني في الدنيا ولكن تراني في الآخرة ؛ فاصبر حتّى يأتيك وقته ، والإنسان مهما بلغ كمالاً في الآخرة فهو لا يخرج عن طبيعته التي خُلق عليها ، وقد بيّن سبحانه أنّه خلق ضعيفاً.

٢ ـ تعليق الرؤية على أمر غير واقع :

علّق سبحانه الرؤية على استقرار الجبل وبقائه على الحالة التي كان عليها عند التجلّي ، وعدم تحوّله إلى ذرّات ترابية صغار بعده ، والمفروض أنه لم يبقَ على حالته السابقة ، وبطلت هويّته ، وصارت تراباً مدكوكاً ، فإذا انتفى المعلّق عليه (بقاء الجبل على حالته) ينتفي المعلّق ، وهذا النوع من التعليق في كلامهم ، طريقة معروفة حيث يعلِّقون وجود الشيء على ما يعلم عدم وقوعه وتحقّقه ، والله سبحانه بما أنّه يعلم أنّ الجبل لا يستقر في مكانه ـ بعد التجلّي ـ فعلّق الرؤية على استقراره ؛ لكي يستدلّ بانتفائه على انتفائه ، قال سبحانه : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (١).

__________________

(١) الأعراف : ٤٠.

٦٤٨

والحاصل : أنّ المعلّق عليه هو وجودُ الاستقرار بِغَضّ النظرِ عن كونهِ أمراً ممكناً أو مستحيلاً ، والمفروض أنّه لا يستقرّ ، فبانتفائه ينتفي ما علّق عليه وهو الرؤية.

وبالإمعان فيما ذكر تستغني عن جلّ ما ذكره المتكلّمون من المعتزلة والأشاعرة حول المعلّق عليه (١).

ولإراءة نموذج من كلامهم نأتي بما ذكره الرازي ، قال : إنّه تعالى علّق رؤيته على أمر جائز ، والمعلّق على الجائز جائز ، فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة بدليل قوله : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) (٢) واستقرار الجبل أمرٌ جائزُ الوجود في نفسه ، فثبت أنه تعالى علّق رؤيته على جائز الوجود في نفسه ... (٣).

ويلاحظ على كلامه أنّ المعلّق عليه ليس إمكانُ الاستقرار وكونه أمراً ممكناً مقابل كونه أمراً مُحالاً عليه حتّى يكون أمراً حاصلاً ويلزم منه وجود المعلّق ، أعني الرؤية ، مع أنّ المفروض عدمها ، بل المعلّق عليه بقاء الجبل على ما كان عليه ؛ إذ لو كان المعلّق عليه إمكان الاستقرار يلزم نقض الغرض وتحقّق الرؤية لموسى عليه‌السلام بل المعلّق عليه هو بقاء الجبل على حالته الّتي كان عليها حين التكلّم ، والمفروض أنّه لم يبقَ عليها ، بل دُكَّ وصار تراباً مستوياً بالأرض ، فبانتفائه انتفى المعلَّق ، أعني : الرؤية.

٣ ـ تنزيهه سبحانه بعد الإفاقة عن الرؤية :

تذكر الآية أنّ موسى لما أفاق فأوّلُ ما تكلّم به هو تسبيحه سبحانه وتنزيهه

__________________

(١) القاضي عبد الجبار ، شرح الأُصول الخمسة : ٢٦٥ ؛ والشريف الجرجاني ، المواقف ٨ : ١٢١ ؛ والرازي ، مفاتيح الغيب ١٤ : ٢٣١ ، ولا حاجة لنقل كلماتهم في المقام.

(٢) الأعراف : ١٤٣.

(٣) الرازي ، مفاتيح الغيب ١٤ : ٢٣١.

٦٤٩

وقال : (سُبْحانَكَ) وذلك لأنّ الرؤية لا تنفكّ عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص ، فنزّه سبحانه عنها ، فطلبها نوع تصديق لها.

ومن مصاديق التفسير بالرأي ما ربّما يقال : إنّ المراد ـ من التنزيه هنا ـ هو تنزيه الله وتعظيمه وإجلاله عن أنْ يتحمّل رؤيته مَنْ كتب عليه الفناء ، حتى لا يتعارض مع ما ورد من إثبات الرؤية عن الله ورسوله في دار الآخرة ، وليست الرؤية من النقائص على ما يدّعيه نفاتها ، فهي ليست نقصاً في المخلوق ، بل هي كمال ، وكلّ كمال اتّصف به المخلوق وأمكن أنْ يتّصف به الخالق فالخالق أولى (١).

يلاحظ عليه : بأنّه من أين وقف على اختصاص النفي بمن كتب عليه الفناء ، مع إطلاق الآية ، ولما ذا لا يجعل الموضوع لعدم تحمّلها الوجود الإمكاني القاصر المحفوظ في كلتا الدارين.

وما ذكره في آخر كلامه من أنّ كلّ كمال اتّصف به المخلوق وأمكن أن يتّصف به الخالق فالخالق أولى به صحيح من حيث الضابطة والقانون ، لكنّه باطل من حيث التطبيق على المورد ؛ فإنّ ما يوصف به المخلوق على قسمين : فمنه ما يكون كمالاً له ككونه عالماً قادراً حيّاً سميعاً بصيراً ، فالله أولى بأن يوصف به ، ومنه ما لا يكون كمالاً له ككونه مرئياً للغير ، فلا يوصف به سبحانه ، ولو افترضنا كونه كمالاً للأوّل ، لكنّه يكون موجباً للنقص في الثاني لاستلزامه التجسيم والتشبيه والجهة والحاجة إلى المكان ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

وكان الأولى للكاتب وأشباهه أن لا يخوضوا في غمار هذه المسائل التي تحتاج إلى قدر كبير من التفكّر والعناية الخاصّة.

إذا لم تستطع أمراً فدعهُ

وجاوِزْهُ إلى ما تستطيعُ

__________________

(١) الدكتور أحمد بن ناصر ، رؤية الله تعالى : ٤٧ ـ ٤٨.

٦٥٠

٤ ـ توبته لأجل طلب الرؤية :

إنّ موسى عليه‌السلام بعد ما أفاق ، أخذ بالتنزيه أولاً ، والتوبة والإنابة إلى ربّه ثانياً ، وظاهر الآية أنه تاب من سؤاله ، كما أنّ الظاهر من قوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أنّه أوّل المصدّقين بأنه لا يرى بتاتاً.

وللباقلاني (ت ٤٠٣ ه‍) أحد دعاة مذهب الإمام الأشعري كلامٌ في تفسير التوبة ، أشبه بالتفسير بالرأي ، قال :

يحتمل أنّ موسى تاب لأجل أنّه ذكر ذنوباً له قد قدّم التوبة منها ، فجدّد التوبة عند ذكرها لهول ما رأى ، أو تاب من ترك استئذانه منه سبحانه في هذه المسألة العظيمة (١).

لكن كلّ ما ذكره وجوه لا يتحمّلها ظاهر الآية ، وإنّما تورّط فيها لأجل دعم المذهب ، وهذا هو الذي ندّد به النبيّ الأكرم قائلاً : «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» (٢) ، ومثله قول الرازي في تفسير قوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بأنّه لا يراك أحدٌ في الدنيا ، أو أوّل المؤمنين بأنّه لا يجوز السؤال منك إلّا بإذنك (٣).

* * *

شبهات المخالفين

قد تقدّم أنّ الآية استدلّ بها النافون والمثبتون ، وقد تعرّفت على استدلال النافين ، وليس استدلال المثبتين للرؤية استدلالاً علمياً ، وإنّما يرجع محصّل

__________________

(١) الباقلاني ، التمهيد : ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٢) البحار ٣ : ٢٢٣ / ح ١٤ وفيه : من فسّر القرآن بغير علم ...

(٣) الرازي ، مفاتيح الغيب ١٤ : ٢٣٥ بتلخيص ، لاحظ خاتمة المطاف تجد فيها كلمات السلف الصالح في تفسير التوبة.

٦٥١

كلامهم إلى إبداء شبهتين هما :

الشبهة الأُولى : لو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها الكليم عليه‌السلام

إنّ الآية دالّة على أنّ موسى عليه‌السلام سأل الرؤية ، ولا شكّ في كون موسى عليه‌السلام عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى ، فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها ، وحيث سألها علمنا أنّ الرؤية جائزة على الله تعالى (١).

والاستدلال بطلب موسى إنّما يكون متقناً إذا تبيّن أنه عليه‌السلام طلبها باختيار ومن غير ضغط من قومه ، فعندئذٍ يصلح للتمسّك به ظاهراً ، وأنّى للمستدلّ إثبات ذلك ، مع أنّ القرائن تشهد على أنّه سأل الرؤية على لسان قومه حيث كانوا مصرّين على ذلك على وجه يأتي بيانه ، وتوضيحه يتوقّف على بيان أُمور :

١ ـ أنّه سبحانه ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية أولاً (٢).

٢ ـ أنّه سبحانه أتْبعها بذكر قصة العجل وما دار بين موسى وأخيه وقومه ثانياً (٣).

٣ ـ ثمّ نقل اختيار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقاته سبحانه وقال : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (٤).

والإجابة الحاسمة تتوقّف على توضيح أمر آخر وهو : هل كان سؤال موسى

__________________

(١) مفاتيح الغيب ١٤ : ٢٢٩.

(٢) الأعراف : ١٤٣.

(٣) الأعراف : ١٤٨ ـ ١٥٤.

(٤) الأعراف : ١٥٥.

٦٥٢

الرؤية مستقلاً عن طلب القوم الرؤية ، أم لا صلة له بطلبهم؟ من غير فرق بين القول بوقوع الطلبين في زمان واحد أو زمانين ، بل المهم ، وجود الصلة بين السؤالين ، وكون الثاني من توابع السؤال الأوّل.

والظاهر بل المقطوع به هو الأوّل ، ويدلّ على ذلك أمران :

الأوّل : سياق الآيات ليس دليلاً قطعياً

إنّ ذهاب موسى بقومه إلى الميقات كان قبل تحقُّق قصّة العجل ، لقوله سبحانه : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) (١) ، فإنّ تخلّل لفظة «ثمّ» حاك عن تأخّرها عن الذهاب ، ومع ذلك كلّه فقد جاء ذكر ذهابهم إلى الميقات في سورة الأعراف بعد ذكر قصة العجل ، وهذا لو دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ السياق ليس دليلاً قطعياً لا يجوز مخالفته ، فكما جاز تأخير المتقدّم وجوداً في مقام البيان فكذلك يجوز تكرار ما جاء في أثناء القصة في آخره لنكتة سنوافيك بها.

فما نقله الرازي عن بعضهم من أنّهم خرجوا إلى الميقات ليتوبوا عن عبادة العجل فقالوا في الميقات : أَعْطِنَا مَا لَمْ تُعطِهِ أَحَداً قَبْلنَا ... (٢) ليس بشيء ، وقد عرفت تصريح الآية على تقدّم سؤالهم الرؤية على عبادته.

الثاني : استقلال السؤالين غير معقول

إنّ لاحتمال استقلال السؤالين صورتين :

الاولى : أن يتقدّم موسى بسؤال الله الرؤية لنفسه ثمّ يَحدث ما حدث ، من

__________________

(١) النساء : ١٥٣.

(٢) الرازي ، مفاتيح الغيب ١٤ : ٢٣٩.

٦٥٣

خروره صعقاً وإفاقته وإنابته ، ثمّ إنّه بعد ما سار بقومه إلى الميقات سأله قومه أن يُرِي الله لهم جهرة ، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون.

الثانية : عكس الصورة الأُولى ؛ بأن يسير موسى بقومه إلى الميقات ثمّ يسألونه رؤية الله جهرة فيحدث ما حدث ثمّ هو في يوم آخر أو بعد تلك الواقعة يسأل الرؤية لنفسه فيُخاطب بقوله : (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) (١).

إنّ العقل يحكم بامتناع كلتا الصورتين عادة حسب الموازين العادية.

أمّا الأُولى ، فلو كان موسى متقدّماً في السؤال وسمع من الله ما خاطبه به بقوله (لَنْ تَرانِي) كان عليه أن يذكّر قومه بعواقبِ السؤال ، وأنّه سألها ربّه ففوجئ بالغشيان ، مع أنّه لم يذكرهم بشيء مما جرى عليه حين طلبهم ، ولو ذكّرهم لما سكت عنه الوحي.

أمّا الثانية : فهو كذلك ؛ لأنّه لو كان قد تقدّم سؤال قومه الرؤية وقد شاهد موسى ما شاهد حيث اعتبر عملهم سفهياً فلا يصحّ في منطق العقل أن يطلب الكليم ذلك لنفسه بعد ذلك مستقلاً.

وكل ذلك يؤكد عدم وجود ميقاتين ولا لقاءين ولا سؤالين مستقلّين ، وإنّما كان هناك ميقات واحد ولقاء واحد وسؤالان بينهما ترتّب وصلة ، والدافع إلى السؤال الثاني هو نفس الدافع إلى السؤال الأوّل ، وعندئذٍ لا يدلّ سؤال موسى الرؤية على كونها أمراً ممكناً لاندفاعه إلى السؤال من قبل قومه.

وتوضيح ذلك : أنّ الكليم لمّا أخبر قومه بأنّ الله كلّمه وقرّبه وناجاه ، قال قومه : لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعتَ ، فاختار منهم سبعين رجلاً لميقاته وسأله سبحانه أن يكلِّمه ، فلمّا كلّمه الله وسمع القوم كلامه قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم ، وإلى هذه الواقعة تشير

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.

٦٥٤

الآيات التالية :

١ ـ (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) (١).

٢ ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٢).

٣ ـ (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (٣).

٤ ـ (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (٤).

إلى هذه اللحظة الحساسة لم يتكلّم موسى عليه‌السلام حول الرؤية ولم ينبس بها ببنت شفة ولم يطلب شيئاً ، وإنّما طلب منه سبحانه أن يحييهم حتى يدفع عن نفسه اعتراض قومه إذا رجع إليهم ، وهو القائل : (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ).

فلو كان هناك سؤال فإنّما كان بعد هذه المرحلة وبعد إصابة الصاعقة السائلين ، وعودتهم إلى الحياة بدعاء موسى ، وعندئذٍ نتساءل هل يصح للكليم أن يطلب السؤال لنفسه وقد رأى بأُمّ عينيه ما رأى؟ كلا ، وكيف يصحّ له أن يسأله وقد

__________________

(١) البقرة : ١٥١.

(٢) البقرة : ٥٥.

(٣) النساء : ١٥٣.

(٤) الأعراف : ١٥٥.

٦٥٥

وصف السؤال بالسفاهة ، فلم يبق هناك إلّا احتمال آخر ؛ وهو أنّه بعد ما عاد قومه إلى الحياة أصرّوا على موسى وألحّوا عليه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم ، حتّى تحلّ رؤيته لله مكان رؤيتهم ، فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية (١) ، وهذا هو المعقول والمرتقب من قوم موسى الّذين عرفوا بالعناد واللجاج ، وبما أنّ موسى لم يُقْدِم على السؤال إلّا بإصرارٍ منهم لكي يسكتهم ، لذلك لم يتوجّه إلى الكليم أيُّ تَبِعة ولا مؤاخذة ، بل خوطب بقوله : (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) (٢).

وللإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام هنا كلام حول سؤال موسى :

قال عليّ بن محمّد بن الجهم : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى عليهما‌السلام ، فقال له المأمون : يا ابن رسول الله أليس من قولك : أنّ الأنبياء معصومون؟ قال : بلى ، فسأله عن آيات من القرآن ، فكان فيما سأله أن قال له : فما معنى قول الله عزوجل : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران عليه‌السلام لا يعلم أنّ الله ـ تعالى ذكره ـ لا تجوز عليه الرؤية حتّى يسأله هذا السؤال؟

فقال الرضا عليه‌السلام : «إنّ كليم الله موسى بن عمران عليه‌السلام علم أنّ الله تعالى عن أن يُرى بالأبصار ، ولكنّه لما كلّمه الله عزوجل وقرّبه نجيّاً ، رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ الله عزوجل كلّمه وقرّبه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتّى نسمع كلامه كما سمعت ، وكان القوم سبعمائة ألف رجل ، فاختار منهم سبعين ألفاً ، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ثمّ اختار منهم سبعمائة ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه ، فخرج بهم إلى طور سَيناءَ ، فأقامهم في سفح الجبل ، وصعد

__________________

(١) أو لتستمعوا إلى النصّ باستحالة ذلك من عند الله كما سيوافيك في كلام الزمخشري.

(٢) الأعراف : ١٤٣.

٦٥٦

موسى عليه‌السلام إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلّمه ويسمعهم كلامه ، فكلّمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام ؛ لأنّ الله عزوجل أحدَثَه في الشجرة ، ثمّ جعله منبعثاً منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه ، فقالوا : لن نؤمن لك بأنّ هذا الّذي سمعناه كلامُ الله حتّى نرى الله جهرةً ، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عزوجل عليهم صاعقةً فأخذتهم بظلمهم فماتوا ، فقال موسى : يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعتُ إليهم وقالوا : إنّك ذهبت بهم فقتلتهم ؛ لأنّك لم تكن صادقاً فيما ادّعيت من مناجاة الله إيّاك؟ فأحياهم الله وبعثهم معه ، فقالوا : إنّك لو سألت الله أن يراك أن تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته ، فقال موسى عليه‌السلام : يا قوم إنّ الله لا يُرى بالأبصار ولا كيفية له ، وإنّما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتّى تسأله ، فقال موسى عليه‌السلام : يا ربّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم ، فأوحى الله جلّ جلاله إليه : يا موسى اسألني ما سألوك فلن أُؤاخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) (بآية من آياته) (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) (يقول : رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي) (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) منهم بأنّك لا تُرى».

فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن ، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة (١).

وللزمخشري في المقام تفسير رائع قال : ما كان طلب الرؤية إلّا ليبكت هؤلاء

__________________

(١) الصدوق ، التوحيد : ١٢١ / ح ٢٤ باب ما جاء في الرؤية.

٦٥٧

الّذين دعاهم سفهاء وضُلّالاً وتبرّأ من فعلهم ، وذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحقّ ، فلجّوا وتمادوا في لجاجهم ، وقالوا لا بدّ ، ولن نؤمن حتّى نرى الله جهرةً ، فأراد أن يسمعوا النصّ من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله : (لَنْ تَرانِي) ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة ، فلذلك قال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١).

وعلى كلّ تقدير فما ذكره صاحب الكشّاف قريب ممّا ذكرناه ، وكلا البيانين يشتركان في أنّ السؤال لم يكن بدافعٍ من نفس موسى ، بل بضغط من قومه.

ولكن الرازي ناقش في هذه المقالة وقال :

ظاهر الحال يقتضي أنْ تكون هذه القصة مغايرة للقصة المتقدّمة ؛ لأنّ الألْيَق بالفصاحة إتمام الكلام في القصّة الأُولى في وضع واحد ثمّ الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها ، فأمّا ذكر بعض القصة (سؤال موسى الرؤية) ثمّ الانتقال منها إلى قصة أُخرى (اتّخاذ العجل ربّاً) ثمّ الانتقال منها بعد تمامها إلى بقيّة الكلام في القصة الأُولى (سؤال قوم موسى) يوجب نوعاً من الخَبْط والاضطراب ، والأَولى صون كلام الله تعالى عنه (٢).

والجواب : أنّه سبحانه أخذ ببيان قصة مواعدة موسى ثلاثين ليلة من الآية ١٤٢ وختمها في الآية ١٥٥ ، فالمجموع قصة واحدة كسبيكة واحدة ، ولكن سبب العود إلى ما ذكر في أثناء القصة في آخرها هو إبراز العناية بسؤال الرؤية باعتباره مسألة مهمّة في حياة بني إسرائيل.

فقد اتّضح ممّا ذكرنا عدم دلالة الآية على إمكان رؤيته سبحانه بطلب موسى.

* * *

__________________

(١) الزمخشري ، الكشّاف ١ : ٥٧٣ ـ ٥٧٤ ط مصر.

(٢) الرازي ، مفاتيح الغيب ١٥ : ٧٠.

٦٥٨

الشبهة الثانية : تجلّيه للجبل

إنّ تجلّيه سبحانه للجبل هو رؤية الجبل له ، فلمّا رآه (سبحانه) اندكّت أجزاؤه ، فإذا كان الأمرُ كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية ، وأقصى ما في الباب أنْ يقال : الجماد جماد ، والجماد يمتنع أن يَرى شيئاً ، إلّا أن نقول لا يمتنع أن يقال : إنّه تعالى خلق في ذلك الجبل الحياة والعقل والفهم ثمّ خلق فيه الرؤية متعلّقة بذات الله (١).

لكن يلاحظ على هذا الكلام : أنّ ما ذكره من رؤية الجبال لله تعالى مع افتراضه الحياة والعقل والفهم للجبل شيء نسجه فكره ، وليس في الآية أيّ دليل عليه ، والحافز إلى هذه الفكرة هو الدفاع عن الموقف المسبق والعقيدة التي وَرِثها ، وظاهر الآية أنّه سبحانه تجلّى للجبل وهو لم يتحمّل تجلّيه لا أنّه رآه وشاهده.

وأمّا التجلّي ، فكما يحتمل أن يكون بالذات كذلك يحتمل أن يكون بالفعل ، فمن لم يتحمّل تجلّيه بفعله وقدرته فالأولى أن لا يتحمّل تجلّيه بذاته ، وعندئذٍ فمن المحتمل جداً أن يكون تجلّيه بآثاره وقدرته وأفعاله ، فعند ذلك لا يدلّ أنّ تجلّيه للجبل كان بذاته.

أضِفْ إلى ذلك أنّ أقصى ما تُعطيه الآية هو الإشعار بذلك ، لذا لا يمكن التمسك به وطرح الدلائل القاطعة عقلاً ونقلاً على امتناع رؤيته.

إلى هنا تمّ ما أردناه من دلالة الذكر الحكيم على امتناع الرؤية ، وقد استنطقنا الآيات السالفة بوجه تفصيلي ، وتعرّفت فيه على موقفه من الرؤية بالعيون والأبصار.

__________________

(١) الرازي ، مفاتيح الغيب ٢٤ : ٢٣٢.

٦٥٩

(٥)

رؤية الله في الذكر الحكيم دراسة أدلة المثبتين

آية إلى ربّها ناظرة

استدلّ القائلون بجواز الرؤية بآيات متعدّدة والمهم فيها هو الآية الآتية ، أعني قوله سبحانه : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ* وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (١).

يقول الشارح القوشجي في شرحه لتجريد الاعتقاد : إنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار يستعمل بغير صلة ويُقال انتظرته ، وإذا كان بمعنى التفكّر يستعمل بلفظة «في» ، وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل بلفظة «اللام» ، وإذا كان بمعنى الرؤية استعمل بلفظة «إلى» ، فيحمل على الرؤية (٢).

أقول : لقد طال الجدال حول ما هو المقصود من النظر في الآية ، بين مثبتي الرؤية ونافيها ، ولو أتينا بأقوالهم لطال بنا المقام ، فإنّ المثبتين يُركّزون على أنّ

__________________

(١) القيامة : ٢٠ ـ ٢٥.

(٢) القوشجي ، شرح التجريد : ٣٣٤.

٦٦٠