أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

الشيخ جعفر السبحاني

أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6293-80-8
الصفحات: ٧٧٤

(ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (١).

والضمير في (لا يَأْتِيهِ) يرجع إلى الذكر ومفاد الآية أنّ الباطل لا يتطرّق إليه ولا يجد إليه سبيلاً من أيّ جهة من الجهات ؛ فلا يأتيه الباطل بأيّة صورة متصوّرة ، ودونك صوره.

١ ـ لا يأتيه الباطل : أي لا ينقص منه شيء ولا يزيد عليه شيء.

٢ ـ لا يأتيه الباطل : أي لا يأتيه كتاب يبطله وينسخه وأن يجعله سُدى فهو حقّ ثابت لا يبدّل ولا يغيّر ولا يترك.

٣ ـ لا يأتيه الباطل : لا يتطرق الباطل في إخباره عمّا مضى ولا في إخباره بما يجيء ، فكلّها تطابق الواقع.

وحاصل الآية أنّ القرآن حقّ لا يداخله الباطل إلى يوم القيامة ، فإذا كان حقّاً مطلقاً مصوناً عن تسلّل البطلان إليه ومتّبعاً للناس إلى يوم القيامة يجب عند ذلك دوام رسالته وثبات نبوّته وخاتمية شريعته.

وبتعبير آخر أنّ الشريعة الجديدة إمّا أن تكون عين الشريعة الإسلامية الحقّة أو غيرها ، فعلى الأول لا حاجة إلى الثانية ، وعلى الثاني : فإمّا أن تكون الثانية حقّة كالأُولى ؛ فيلزم كون المتناقضين حقاً ، أو أن تكون الأُولى حقّاً دون الأُخرى ؛ وهذا هو المطلوب ، وشريعة الرسول الأعظم جزءٌ من الكتاب الحقّ الذي لا يدانيه الباطل ، وسنّته المحكمة التي لا تصدر إلّا بإيحاء منه كما قال تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٢) فالآية صريحة في نفي أيّ تشريع بعد القرآن وأيّة شريعة بعد الإسلام ، فتدلّ بالملازمة على عدم النبوّة التشريعية بعد نبوته.

__________________

(١) آل عمران : ٥٨.

(٢) النجم : ٣ ـ ٥.

٥٤١

النصّ الرابع :

قوله سبحانه : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ...) (١).

وظاهر الآية : أنّ الغاية من نزول القرآن تحذير من بلغه إلى يوم القيامة وبذلك يُفسّر قوله سبحانه في آية أُخرى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ...) (٢).

فإنّ المراد (وَمَنْ حَوْلَها) جميع أقطار المعمورة ، وعلى فرض انصرافها عن هذا المعنى العامّ فلا مفهوم للآية بعد ورود قوله سبحانه : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).

النصّ الخامس :

قوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣).

والمتبادر من الآية كون (كَافَّةً) حالاً من الناس قُدّمتْ على ذيها وتقدير الآية وما أرسلناك إلّا للناس كافّة بشيراً ونذيراً.

وإليك محصّل الآيات الخمس :

أمّا الأُولى فهو : أنّ باب الإخبار عن السماء الذي كان هو النبوّة قد أُوصد ، وبإيصاده تكون النبوّة مختومة ، وبختمها تكون الشريعة المحمدية أبديّة ؛ لأنّ تجديد الشريعة فرع فتح باب النبوّة ، فإذا كان التنبّؤ بإخبار السماء مغلقاً ؛ فلا يمكن الإخبار عن السماء بوجه من الوجوه ، ومنها نسخ الشريعة.

وأمّا الآيات الأربع الباقية فهي صريحة ببقاء الشريعة الإسلامية بعموميتها ،

__________________

(١) الأنعام : ١٩.

(٢) الشورى : ٧.

(٣) سبأ : ٢٨.

٥٤٢

فمجموع الآيات يركِّز على أمر واحد : غلق باب النبوة وأبدية الشريعة الإسلامية.

هذه هي النصوص ، ومع ذلك ففي القرآن إشارات إلى الخاتمية بعناوين أُخرى نشير إلى بعض منها :

الأُولى : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١).

إنّ دلالة قوله سبحانه : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ...) على إيصاد باب الوحي إلى يوم القيامة واضحة بعد الوقوف على معنى الكلمة ؛ فإنّ المراد منها الدعوة الإسلامية ، أو القرآن الكريم وما فيه من شرائع وأحكام ، والشاهد عليها الآية المتقدمة حيث قال سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) (٢) فالمراد من قوله (أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) هو القرآن النازل على العالمين ، ثمّ يقول : بأنّ الذين آتيناهم الكتاب من قبل كاليهود والنصارى إذا تخلّصوا من الهوى يعلمون أنّ القرآن وحي إلهي كالتوراة والإنجيل ، وأنّه منزّلٌ من الله سبحانه بالحقّ ، فلا يصحّ لأيّ منصف أن يتردّد في كونه نازلاً منه إلى هداية الناس.

ثمّ يقول في الآية التالية : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) بظهور الدعوة المحمدية ، ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب ، وصارت مستقرة في محلّها بعد ما كانت تسير دهراً طويلاً في مدارج التدرّج بنبوّة بعد نبوّة وشريعة بعد شريعة (٣).

__________________

(١) الأنعام : ١١٤ ـ ١١٥.

(٢) الأنعام : ١١٤.

(٣) الطباطبائي ، الميزان ٧ : ٣٣٨ ؛ الطبرسي ، مجمع البيان ٢ : ٣٥٤.

٥٤٣

وهذه الكلمة الإلهية ـ أعني : الدعوة الإلهية المستوحاة في القرآن الكريم ـ صدق لا يشوبه كذب وما فيه من الأحكام من الأمر والنهي ، عدل لا يخالطه ظلم ، ولأجل تلك التمامية لا تتبدّل كلماته وأحكامه من بعد (١).

هذه نظرة إلى القرآن حول الخاتمية ومن أراد التفصيل والتحقيق فليراجع التفاسير ، وكما أنّ الكتاب الحكيم اهتمّ بالخاتمية ، فهكذا اهتمت بها السنّة النبوية وروايات العترة الطاهرة ولو حاولنا أن نذكر ما وقفنا عليه في ذلك المجال من المآثر لطال وقوفنا مع القرّاء ، ولذلك نقتصر على اثنتي عشرة رواية مع أنّ المأثور يتجاوز المائة.

__________________

(١) وقد استعملت الكلمات في القرآن الكريم في الشرائع الإلهية قال سبحانه واصفاً مريم : وَصدَّقتْ بِكلماتِ ربِّها وكُتُبهِ ... التحريم : ١٢.

٥٤٤

الخاتمية في الأحاديث النبويّة

لقد حصحص الحقّ بما أوردناه من النصوص القرآنية وانكشف الريب عن مُحيّا الواقع ؛ فلم تبق لمجادلٍ شبهة في أنّ الرسول في الذكر الحكيم خاتم النبيين وشريعته خاتمة الشرائع وكتابَه خاتم الكتب.

وقد وردت الخاتمية على لسان النبيّ الأكرم ، نذكر منها ما يأتي :

١ ـ خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة إلى غزوة تبوك وخرج الناس معه فقال علي عليه‌السلام : «أخرج معك؟» فقال : «لا» ، فبكى عليّ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي ـ أوليس بعدي نبيّ ـ ولا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي».

والحديث على لسان المحدّثين حديث المنزلة ؛ لأنّ النبيّ نزّل فيه نفسه منزلة موسى ونزّل عليّاً مكان هارون ، أخرجه البخاري في صحيحه في غزوة تبوك ، ومسلم في صحيحه في باب فضائل علي عليه‌السلام ، وابن ماجة في سننه في باب فضائل أصحاب النبيّ ، والحاكم في مستدركه في مناقب عليّ عليه‌السلام وإمام الحنابلة في مسنده بطرق كثيرة (١).

ووضوح دلالة الحديث على الخاتمية بمكان أغنانا عن البحث حولها.

٢ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَثَلي ومَثل الأنبياء كمَثل رجلٍ بنى داراً فأتمّها وأكملها إلّا موضع لبنة ، فجعل الناس يدخلونها ويتعجّبون منها ويقولون ، لو لا موضع هذه اللّبنة» قال رسول الله : «فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء». أخرجه البخاري ومسلم والترمذي (٢).

__________________

(١) البخاري ، الصحيح ٣ : ٥٨ ؛ مسلم ، الصحيح ٢ : ٣٢٣ ؛ ابن ماجة ، السنن ١ : ٢٨ ؛ الحاكم ، المستدرك ٣ : ١٠٩ ؛ أحمد بن حنبل ، المسند ١ : ٣٢١ ، و ٢ : ٣٦٩ ، ٤٣٧.

(٢) منصور علي ناصف ، التاج الجامع للأُصول ٣ : ٢٢ والكتاب يجمع أحاديث الستة إلّا ابن ماجة.

٥٤٥

٣ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لي خمسة أسماء : أنا محمّد ، وأحمد ، أنا الماحي يمحوا الله بي الكفر ، وأنا الحاشر ، يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» (١).

٤ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا قائد المرسلين ولا فخر ، وأنا خاتم النبيّين ولا فخر ، وأنا أوّل شافع ومشفّع ولا فخر» (٢).

٥ ـ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا عليّ أخصمك بالنبوّة ؛ فلا نبوّة بعدي وتخصم الناس بسبع ولا يجاحدك فيها أحد من قريش ، أنت أوّلهم إيماناً بالله» (٣).

٦ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الرسالة والنبوّة قد انقطعت ولا رسولَ بعدي ولا نبيّ» قال : فشقّ ذلك على الناس فقال : «ولكن المبشّرات» فقالوا : يا رسول الله وما المبشّرات؟ فقال : «رؤيا المسلم ، وهي جزء من أجزاء النبوة» (٤).

٧ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أُرسلتُ إلى الناس كافّة وبي خُتم النبيّون» (٥).

٨ ـ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كنت أوّل الناس في الخلق ، وآخرهم في البعث» (٦).

٩ ـ استأذن العباس بن عبد المطّلب النبيّ في الهجرة فقال له : «يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه ؛ فإنّ الله تعالى يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوّة» ثمّ هاجر إلى النبيّ وشهد معه فتح مكّة وانقطعت الهجرة (٧).

١٠ ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يكون في أُمتي ثلاثون كذّاباً ؛ كلّهم يزعم أنّه نبيّ وأنا خاتم

__________________

(١) مسلم ، الصحيح ٨ : ٨٩ ؛ مسند أحمد ٤ : ٨١ و ٨٤ ؛ ابن سعد ، الطبقات الكبرى ١ : ٦٥.

(٢) الدارمي ، السنن ١ : ٢٧.

(٣) أبو نعيم الاصفهاني ، حلية الأولياء ١ : ٦٦.

(٤) الترمذي ، السنن ٣ : ٣٦٤.

(٥) الإمام أحمد ، المسند ٢ : ٤١٢ ؛ ابن سعد ، الطبقات ١ : ١٢٨.

(٦) ابن سعد ، الطبقات الكبرى ١ : ٩٦ ، القندوزي ، ينابيع المودة : ص ١٧ وفيه أوّل الأنبياء في الخلق.

(٧) الجزري ، أُسد الغابة ٣ : ١١٠.

٥٤٦

النبيين ؛ لا نبيّ بعدي» (١).

١١ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فُضِّلتُ بستٍّ : أُعطيتُ جوامعَ الكلم ، ونُصِرتُ بالرعب ، وأُحلّت لي الغنائم ، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأُرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيّون» (٢).

١٢ ـ روى الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أيّها الناس إنّه لا نبيّ بعدي ، ولا سنّة بعد سنّتي ، فمن ادّعى ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه ومن تبعه ؛ فإنّه في النار» (٣).

الخاتميّة في أحاديث العترة الطاهرة

قد روي عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أحاديث أُخر في مجال كونه خاتماً إلّا أنّ ذكر الجميع غير ميسور لنا ، وأُردف البحث بما روي عن عترته الطاهرة عليهم‌السلام في هذا المجال ، واقتصر على القليل من الكثير ؛ فإنّ المروي عنه في ذلك المجال متوفّر جداً.

١ ـ قال الإمام عليّ عليه‌السلام : «إلى أن بَعثَ الله محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله لإنجاز عدته ، وإتمام نبوته ، مأخوذاً على النبيين ميثاقه ، مشهورة سماتُه ، كريماً ميلادُه» (٤).

٢ ـ قال الإمام عليّ عليه‌السلام : «اجعل شريف صلواتك ، ونامي بركاتك ، على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله عبدك ورسولك الخاتم لما سبق» (٥).

٣ ـ وقال عليه‌السلام : «أرسله على حين فترة من الرسل ، وتنازع من الألسن ، فقفا به الرسل وختَم به الوحي» (٦).

__________________

(١) الجزري ، الجامع للأُصول ١٠ : ٤١٠ ، عن الترمذي.

(٢) السيوطي ، الجامع الصغير ٢ : ١٢٦.

(٣) الصدوق ، الفقيه ٤ : ١٦٣.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ١.

(٥) نهج البلاغة ، الخطبة ٦٩.

(٦) نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٩.

٥٤٧

٤ ـ قال عليه‌السلام وهو يلي غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتجهيزه : «بأبي أنت وأُمّي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والإنباء وأخبار السماء ، خصّصت حتّى صِرتَ مسلّياً عمّن سواك ، وعمّمتَ حتّى صار الناس فيك سواء» (١). هذا وقد روي عن غير الإمام علي عليه‌السلام من العترة الطاهرة ونذكر منهم ما يأتي :

٥ ـ عن فاطمة الزهراء عليها‌السلام قالت : «لمّا حملتُ بالحسن وولدته جاء النبيّ ثم هبط جبرئيل فقال : يا محمّد ، العليّ الأعلى يقرؤك السلام ويقول : عليٌّ مِنك بمنزلة هارون من موسى ، ولا نبيّ بعدك ، سَمّ ابنك هذا باسم ابن هارون» (٢).

٦ ـ وروي عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام قال : «جاء نفر إلى رسول الله فقالوا : يا محمّد إنّك الذي تزعم أنّك رسول الله ، وأنّك الذي يوحى إليك كما أوحى الله إلى موسى بن عمران؟ فسكت النبيّ ساعة ثم قال : أنا سيّد ولد آدم ولا فخر ، وأنا خاتم النبيّين ، وإمام المتّقين ، ورسول ربّ العالمين» (٣).

٧ ـ روي عن الحسين بن عليّ عليهما‌السلام أنّه قال لرسول الله : «فأخبرني يا رسول الله هل يكون بعدك نبيّ؟ فقال : لا ، أنا خاتم النبيّين ، لكن يكون بعدي أئمة قوّامون بالقسط ، بعدد نقباء بني إسرائيل» (٤).

٨ ـ وقال الإمام السجّاد عليه‌السلام في بعض أدعيته : «صلّ على محمّد خاتم النبيّين ، وسيّد المرسلين ، وأهل بيته الطيّبين الطاهرين ، وأعذْنا وأهالينا وإخواننا وجميع المؤمنين والمؤمنات ممّا استعذنا منه» (٥).

٩ ـ وقال الإمام الباقر في حديث : «وقد ختم الله بكتابكم الكُتبَ وختم

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٣٥.

(٢) الصدوق ، عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٥.

(٣) البحراني ، البرهان ٢ : ٤١.

(٤) ابن شهرآشوب ، المناقب ٢ : ٣٠٠ ، الحرّ العاملي ، إثبات الهداة ٢ : ٥٤٤.

(٥) الإمام السجاد ، الصحيفة السجادية ، الدعاء ١٧.

٥٤٨

بنبيّكم الأنبياءَ» (١).

١٠ ـ وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : «فكلّ نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه حتّى جاء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» (٢).

١١ ـ وقال عليه‌السلام : «بعث الله سبحانه أنبياءَه ورسلَه ونبيَّه محمداً ، فأفضل الدين معرفة الرسل وولايتِهم ، وأخبرك أنّ الله أحلّ حلالاً وحرّم حراماً إلى يوم القيامة» (٣).

١٢ ـ روى زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحرام والحلال فقال : «حلال محمّد حلال أبداً إلى يوم القيامة لا يكون غيره ولا يجيء غيره» (٤).

١٣ ـ وقال الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام : «إذا وقفت على قبر رسول الله فقل أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّك خاتم النبيّين» (٥).

١٤ ـ وقال الإمام الرضا عليه‌السلام في سؤال من سأله : ما بال القرآن ، لا يزداد عند النشر والدراسة إلّا غضاضة؟ قال : «لأنّ الله لم ينزّله لزمان دون زمان ولا لناسٍ دون ناس ، فهو في كلّ زمانٍ جديد ، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة» (٦).

هذه أربعة عشر حديثاً عن العترة الطاهرة ، ولو أردنا أن نذكر ما وقفنا عليه لطال بنا المقام ، غير أنّ المهم طرح أسئلة حول الخاتمية وتحليلها بإيجاز.

__________________

(١) الكليني ، الكافي ١ : ١٧٧ ؛ الفيض ، الوافي ٢ : ١٩.

(٢) الكليني ، الكافي ٢ : ١٧ ؛ البرقي ، المحاسن : ١٩٦.

(٣) المجلسي ، البحار ٢٤ : ٢٨٨.

(٤) الكليني ، الكافي ١ : ٥٧.

(٥) الصدوق ، عيون أخبار الرضا ٢ : ٨٧.

(٦) الصدوق ، عيون أخبار الرضا ٢ : ٨٧.

٥٤٩

أسئلة حول الخاتميّة

هناك أسئلة حول الخاتمية تثار بين آن وآخر ، وهي بين سؤال قرآني وفلسفي وفقهي ، ونكتفي من الأوّل بواحد من الأسئلة.

السؤال الأوّل : تنصيص القرآن على أنّ جميع أهل الشرائع ينالون ثواب الله.

إنّ القرآن الكريم ينصّ على أنّ المؤمنين بالله وباليوم الآخر من جميع الشرائع سينالون ثواب الله ، وأنّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ومعنى ذلك أنّ جميع الشرائع السماوية تُحفَظ إلى جانب الإسلام ، وأنّ أتباعها ناجون شأنُهم شأن من اعترف بالإسلام وصار تحت لوائه تماماً ، وعلى ضوء هذا ، فكيف تكون الشريعة الإسلامية واقعة في آخر مسلسل الشرائع السماوية؟ وكيف تكون رسالته خاتمة الشرائع؟ وإليك ما يدل على ذلك حسب نظر السائل :

١ ـ قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١).

٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢).

٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٣).

__________________

(١) البقرة : ٦٢.

(٢) المائدة : ٦٩.

(٣) الحج : ١٧.

٥٥٠

إنّ استنتاج بقاء شرعية الشرائع السماوية من هذه الآيات مبنيّ على غضّ النظر عمّا تهدف إليه الآيات ، وذلك أنّ الآيات بصدد ردّ مزاعم ثلاثة كانت اليهود تتبناها ، لا بصدد بيان بقاء شرائعهم بعد بعثة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهي :

١ ـ فكرة «الشعب المختار»!

كانت اليهود والنصارى يستولون على المسلمين بل العالم بادّعائهم فكرة «الشعب المختار» بل إنّ كل واحدة من هاتين الطائفتين : اليهود والنصارى ، كانت تدّعي أنّها أرقى أنواع البشر ، وكانت اليهود أكثرهم تمسّكاً بهذا الزعم وقد نقل عنهم سبحانه قولهم :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ...) (١) والله سبحانه يردّ هذا الزعم بكلّ قوة عند ما يقول : (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) ، وقد بلغت أنانية اليهود واستعلاؤهم الزائف حدّاً بالغاً وكأنّهم قد أخذوا على الله عهداً بأن يستخلصهم ويختارهم ، حيث قالوا : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (٢).

٢ ـ الانتماء إلى اليهودية والنصرانية مفتاح الجنة!

قد كانت اليهود والنصارى تبثّان وراء فكرة : «الشعب المختار» ، فكرة أُخرى ، وهي : أنّ الجنة نصيب كل من ينتسب إلى بني إسرائيل أو يُسمّى مسيحياً ليس إلّا ، وكأنَّ الأسماء والانتساب مفاتيح للجنة ، قال سبحانه ناقلاً عنهم : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (٣).

__________________

(١) المائدة : ١٨.

(٢) البقرة : ٨٠.

(٣) البقرة : ١١١.

٥٥١

ولكنّ القرآن يردّ عليهم ويقول : (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١) فإنّ قوله سبحانه : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ) يعني الإيمان الخالص وقوله : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) يعني العمل وفق ذلك الإيمان ، وكلتا الجملتين تدلّان على أنّ السبيل الوحيد إلى النجاة يوم القيامة هو الإيمان والعمل لا الانتساب إلى اليهودية والنصرانية ، فليست المسألة مسألة أسماء ، وإنّما هي مسألة إيمان صادق وعمل صالح.

٣ ـ الهداية في اعتناق اليهودية والنصرانية!

وهذا الزعم غير الزعم الثاني ، ففي الثاني كانوا يقتصرون في النجاة بالانتماء إلى الأسماء ، وفي الأخير يتصوّرون أنّ الهداية الحقيقية تنحصر في الاعتناق باليهودية والنصرانية (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) (٢) والقرآن الكريم يردّ هذه الفكرة كما سبق ، ويقول إنّ الهداية الحقيقية تنحصر في الاقتداء بملّة إبراهيم واعتناق مذهبه في التّوحيد الخالص الذي أمر الأنبياء بإشاعته بين أُممهم ، قال سبحانه : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٣) وفي آية أُخرى (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٤).

نستخلص من كلّ هذه الآيات أنّ اليهودَ والمسيحيّين وبخاصة القدامى منهم كانوا يحاولون ـ بهذه الأفكار الواهية ـ التفوّق على البشر ، والتمرّد على تعاليم الله ،

__________________

(١) البقرة : ١١١ ـ ١١٢.

(٢) البقرة : ١٣٥.

(٣) البقرة : ١٣٥.

(٤) آل عمران : ٦٧.

٥٥٢

والتخلّص بصورة خاصّة من الانضواء تحت لواء الإسلام ، مرة بافتعال أُكذوبة «الشعب المختار» الذي لا ينبغي أن يخضع لأيّ تكليف ، ومرّة أُخرى بافتعال خرافة «الأسماء والانتساب» وادّعاء النجاة بسبب ذلك ، والحصول على مغفرة الله وجنّته وثوابه ، ومرّة ثالثة بتخصيص «الهداية» وحصرها في الانتساب إلى إحدى الطائفتين بينما نجد أنّه كلّما مرّ القرآن على ذكر هذه المزاعم الخرافية أعلن بكلّ صراحة وتأكيد : أنّه لا فرق بين إنسان وآخر إلّا بتقوى الله ؛ فإنّ أكرمكم عند الله أتقاكم.

وأمّا النجاة والجنّة فمن نصيب من يؤمن بالله ، ويعمل بأوامره دون ما نقصان لا غير ، وهو بهذا يقصد تفنيد مزاعم اليهود والنصارى الجوفاء.

بهذا البحث حول الآيات الثلاث (المذكورة في مطلع البحث) نكشف بطلان الرأي القائل بأن الإسلام أقرّ ـ في هذه الآيات ـ مبدأ «الوفاق الإسلامي المسيحي واليهودي» تمهيداً لإنكار عالمية الرسالة الإسلامية وخاتميتها ، بينما نجد أنّ غاية ما يتوخّاه القرآن ـ في هذه الآيات ـ إنما هو فقط نسف وإبطال عقيدة اليهود والنصارى ، وليعلن مكانه بأنّ النجاة إنما هي بالإيمان الصادق والعمل الصالح.

فلا استعلاء ولا تفوّق لطائفة على غيرها من البشر مطلقاً ، كما أنّ هذا التشبّث الفارغ بالأسماء والدعاوى ليس إلّا من نتائج العناد والاستكبار عن الحقّ.

فليست الأسماء ولا الانتساب هي التي تنجي أحداً في العالم الآخر ، وإنّما هو الإيمان والعمل الصالح ، وهذا الباب مفتوح في وجه كلّ إنسان يهودياً كان أو نصرانياً ، مجوسياً أو غيرهم.

ويوضّح المراد من هذه الآية قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (١).

__________________

(١) المائدة : ٦٥.

٥٥٣

فتصرّح الآية بانفتاح هذا الباب بمصراعيه في وجه البشر كافّة من غير فرق بين جماعة دون جماعة ، حتّى أنّ أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون لقبلنا إيمانهم وكفّرنا عنهم سيئاتهم.

هذا هو كل ما كان يريد القرآن بيانه من خلال هذه الآيات ، وليس أيّ شيء آخر.

إذن فلا دلالة لهذه الآيات الثلاث على إقرار الإسلام لشرعيّة الشرائع بعد ظهوره ... وإنّما تدلّ على أنّ القرآن يحاول بها إبطال بعض المزاعم.

هذا كله حول السؤال القرآني ، وهناك أسئلة أُخرى جديرة بالذكر والتحليل ، وإليك بيانها :

السؤال الثاني : لما ذا ختمت النبوّة التبليغية؟

إنّ الشريعة الإسلامية شريعة متكاملة الأركان ؛ فلا شريعة بعدها ، ومع الاعتراف بذلك يطرح هذا السؤال :

إنّ الأنبياء كانوا على قسمين : منهم من كان صاحب شريعة ، ومنهم من كان مبلّغاً لشريعة مَن قبله من الأنبياء ، كأكثر أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يبلِّغون شريعة موسى بين أقوامهم.

فهب أنّه ختم باب النبوّة التشريعية لكون الشريعة الإسلامية متكاملة ، فلما ذا ختم باب النبوّة التبليغية؟

والجواب عنه ، غنى الأُمة الإسلامية عن هذا النوع من النبوّة ، وذلك لوجهين :

الوجه الأول : أنّ النبيّ الأكرم ترك بين الأُمّة الكتابَ والعترة وعرّفهما إليها ، وقال : لن تضلّ الأُمّة ما دامت متمسّكة بهما.

فإذا كانت الهداية تكمن في التمسّك بهما فالأُمّة الإسلامية في غنى عن المهمّة

٥٥٤

التبليغية ؛ إذ مهمّتها موجَدة بالتمسّك بهما فالعترة الطاهرة مشاعل الحقّ ، ومنارات التوحيد ، أغنت الأمة ، علومُهم وتوجيهاتُهم عن بعث نبيّ يبلّغ رسالات الله ، وهذا إجمال الكلام في أئمة أهل البيت عليهم‌السلام والتفصيل موكول إلى محلّه.

الوجه الثاني : أنّ علماء الأُمّة المأمورين بالتبليغ بعد التفقّه أغنوا الأُمّة عن أيّ نبوّة تبليغية ، قال سبحانه : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١) وقال سبحانه : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٢).

السؤال الثالث : لما ذا حرم الخلف من المكاشفة الغيبية والاتصال بعالم الغيب واستطلاع ما هناك من المعارف والحقائق؟

الجواب : إنّ الفتوحات الغيبية من المكاشفات والمشاهدات الروحية لم توصد بابها ، وإنّما أُوصد باب خاصّ وهو باب النبوّة الذي يحمل الوحي التشريعي أو التبليغي.

قال سبحانه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٣).

فالفتوحات الباطنية من المكاشفات والإلقاءات في الروع غير مسدودة بنصّ الكتاب العزيز قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٤) أي يجعل في قلوبكم نوراً تفرِّقون به بين الحقِّ والباطل

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) آل عمران : ١٠٤.

(٣) فصلت : ٥٣.

(٤) الأنفال : ٢٩.

٥٥٥

وتميِّزون به بين الصحيح والزائف لا بالبرهنة والاستدلال ، بل بالشهود والمكاشفة ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

وهناك آيات وروايات تدلّ بوضوح على انفتاح هذا الباب في وجه الإنسان ، نكتفي بما ذكرناه.

السؤال الرابع : ادّعاء النقص في التشريع الإسلامي.

كلّما تكاملت جوانب الحضارة وتشابكت ، وتعدّدت ألوانها ، واجه المجتمع أوضاعاً وأحداثاً جديدة وطرحت عليه مشاكل طارئة لا عهد للأزمنة السابقة بها ، إذن فحاجة المجتمع إلى قوانين وتشريعات جديدة لا تزال تتزايد كلّ يوم تبعاً لذلك ، وما جاء به الرسول لا يجاوز قوانين محدودة ، فكيف تفي النصوص المحدودة بالحوادث الطارئة غير المتناهية؟

الجواب : إنّ خلود التشريع وبقاءه في جميع الأجيال ومسايرته للحضارات الإنسانية ، واستغناءه عن كلّ تشريع سواه ، يتوقّف على وجود أمرين فيه :

الأول : أن يكون التشريع ذا مادّة حيوية خلّاقة للتفاصيل بحيث يقدر معها علماء الأُمّة والأخصائيون منهم على استنباط كلّ حكم يحتاج إليه المجتمع البشري في كلّ عصر من الأعصار.

الثاني : أن ينظر إلى الكون والمجتمع بسعة وانطلاق ، مع مرونة خاصة تماشي جميع الأزمنة والأجيال ، وتساير الحضارات الإنسانية المتعاقبة ، وقد أحرز التشريع الإسلامي كِلا الأمرين ، أمّا الأوّل فقد أحرزه بتنفيذ أُمور :

__________________

(١) الحديد : ٢٨.

٥٥٦

الف ـ الاعتراف بحجّية العقل في مجالات خاصّة :

إنّ من سمات التشريع الإسلامي التي يمتاز بها عن سائر التشريعات هي إدخال العقل في دائرة التشريع ، والاعتراف بحجّيّته في الموارد التي يصلح له التدخّل والقضاء فيها ، فالعقل أحد الحجج الشرعيّة ، وفي مصافّ المصادر الأُخرى للتشريع ، وقد فتح هذا الاعتراف للتشريع الإسلامي سعةً وانطلاقاً وشمولاً لما يتجدّد من الأحداث ، ولما يطرأ من الأوضاع الاجتماعية الجديدة.

إنّ الملازمة بين حُكمي العقل والشرع (إنّه كلّما حكمَ بِه العقلُ حكمَ بِه الشرع) ترفع كثيراً من المشاكل التي لم يرد فيها نصّ ، فللعقل دور كبير في استنباط كثير من الأحداث التي يصلح للعقل القضاء فيها ، ويقدر على إدراك حكم الشرع من حكم نفس العقل ، وذلك في الموارد التالية :

١ ـ القول بالملازمة بين وجوب المقدّمة وذيها.

٢ ـ القول بالملازمة بين حرمة الشيء ومقدمته.

٣ ـ الحكم بالبراءة عند عدم النصّ.

٤ ـ الحكم بالامتثال القطعي عند العلم الإجمالي.

٥ ـ الحكم بالملازمة بين الحرمة وفساد العبادة.

٦ ـ الحكم بالملازمة بين تعلّق النهي بنفس المعاملة وفسادها.

٧ ـ الحكم بالإجزاء عند الامتثال وفق الأمر الاضطراري.

٨ ـ الحكم بالإجزاء عند الامتثال وفق الأمر الظاهري.

٩ ـ استكشاف الأمر الشرعي بالأهم عند التزاحم.

١٠ ـ استكشاف بطلان الصلاة عند اجتماع الأمر والنهي بتقديمه على الآمر.

إلى غير ذلك من الأحكام التي تعدّ من ثمرات القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، فمن عزل العقل عن الحكم في ذلك المجال ، فقد قصرت فكرته عن تقديم

٥٥٧

أيّ حلّ لهذه الأحكام وما ذكرناه نماذج لما للعقل من دور ، وإلّا فالأحكام المستنبطة من العقل في مجالات مختلفة أكثر من ذلك.

ب ـ إنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد عند العدلية :

إنّ من أمعن في الكتاب والسنّة يقف على أنّ التشريع الإسلامي تابع لملاكات ؛ فلا واجب إلّا لمصلحة في فعله ولا حرام إلّا لمفسدة في اقترافه ، ويشهد بذلك كتاب الله في موارد :

يقول سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (١) فالآية تعلّل حرمة الخبيثين باستتباعهما العداوة والبغضاء وصدّهما عن ذكر الله ، يقول سبحانه : (... وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ...) (٢).

إلى غير ذلك من الآيات التي تصرّح بملاكات الأحكام.

وقد تضافرت النصوص عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام على أنّ الأحكام الشرعية تخضع لملاكات ، قال الإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلّا لما فيه المنفعة والصلاح ، ولم يحرّم إلّا ما فيه الضرر والتلف والفساد» (٣).

وقال عليه‌السلام في الدم : «إنّه يسيء الخلق ، ويورث القسوة للقلب ، وقلّة الرأفة والرحمة ، ولا يؤمن أن يقتل ولده ووالده» (٤).

وهذا باقر العلوم وإمامها عليه‌السلام يقول : «إنّ مدمن الخمر كعابد وثن ، ويورثه

__________________

(١) المائدة : ٩١.

(٢) العنكبوت : ٤٥.

(٣) النوري ، مستدرك الوسائل ٣ : ٧١.

(٤) المجلسي ، بحار الأنوار ٦٢ : ١٦٥ / ٣.

٥٥٨

الارتعاش ، ويهدم مروّته ، ويحمله إلى التجسّر على المحارم من سفك الدماء ، وركوب الزنا» (١).

وغيرها من النصوص المتضافرة عن أئمة الدين (٢).

فإذا كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في الموضوع ، فالغاية المتوخّاة من تشريعها إنّما هي الوصول إليها ، أو التحرّز عنها ، وبما أنّ المصالح والمفاسد ليست على وزان واحد ، بل رُبّ واجب يسوغ في طريق إحرازه اقتراف بعض المحارم ، لاشتماله على مصلحة كبيرة لا يجوز تركها أصلاً ، ورُبّ حرام ذي مفسدة كبيرة ، لا يجوز اقترافه ، وإن استلزم ترك الواجب أو الواجبات.

ولأجل ذلك فقد عقد الفقهاء باباً خاصاً لتزاحم الأحكام وتصادمها في بعض الموارد ، فيقدّمون الأهم على المهم والأكثر مصلحة على الأقل منها ، والأعظم مفسدة على الأحقر منها ، وهكذا ... ويتوصلون في تمييز الأهم عن المهم ، بالطرق والأمارات التي تورث الاطمئنان ، وباب التزاحم في علم الأُصول غير التعارض فيه ، ولكلٍّ أحكام.

وقد أعان فتح هذا الباب على حلّ كثير من المشاكل الاجتماعية التي ربّما يتوهّم الجاهل أنّها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة ، وأنّها من المعضلات التي لا تنحلّ أبداً ، ولنأتي على ذلك بمثال وهو :

إنّه قد أصبح تشريح بدن الإنسان في المختبرات من الضروريات الحيوية التي يتوقّف عليه نظام الطبّ الحديث ، فلا يتسنّى تعلّم الطبّ إلّا بالتشريح والاطّلاع على خفايا الأمراض والأدوية.

غير أنّ هذه المصلحة ، تصادمها مسألة احترام الإنسان حيّاً وميتاً ، إلى حدّ

__________________

(١) المجلسي ، بحار الأنوار ٦٢ : ١٦٤ / ٢.

(٢) راجع علل الشرائع للشيخ الصدوق فقد أورد فيه ما أثر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام في بيان علل التشريع.

٥٥٩

أوجب الشارع الإسراع في تغسيله وتكفينه وتجهيزه للدفن ، ولا يجوز نبش قبره إذا دفن ، ولا يجوز التمثيل به وتقطيع أعضائه ، بل هو من المحرّمات الكبيرة التي لم يجوّزها الشارع حتّى بالنسبة إلى الكلب العقور ، غير أنّ عناية الشارع بالصحّة العامة وتقدّم العلوم جعلته يسوّغ اقتراف هذا العمل لتلك الغاية ، مقدّماً بدن الكافر على المسلم والمسلم غير المعروف على المعروف منه ، وهكذا ...

ج ـ التشريع الإسلامي ذو مادة حيوية :

إنّ التشريع الإسلامي في مختلف الأبواب مشتمل على أُصول وقواعد عامّة تفي باستنباط آلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري على امتداد القرون والأجيال.

أخرج الكليني عن عمر بن قيس ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله ، وجعل لكلّ شيء حدّاً ، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً».

روى الكليني عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «ما من شيء إلّا وفيه كتاب أو سنّة» (١).

وقال الإمام الطاهر موسى الكاظم عليه‌السلام عند ما سأله عن وجود كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه قال مجيباً : «بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه» (٢).

نعم تتجلّى حيوية مادة التشريع إذا أخذنا بسنّة رسول الله المرويّة عن طريق أئمة أهل البيت ؛ فقد حفظوا سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما كانت كتابة الحديث أمراً

__________________

(١) الكليني ١ : ٥٩ ـ ٦٢ باب الردّ إلى الكتاب والسنة.

(٢) الكليني ١ : ٥٩ ـ ٦٢ باب الردّ إلى الكتاب والسنة.

٥٦٠