أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

الشيخ جعفر السبحاني

أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6293-80-8
الصفحات: ٧٧٤

المنابر ، وأُلقي إلى معلّمي الكتاتيب ، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، وحتّى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله.

ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه. وشفع ذلك بنسخة أُخرى : من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ، فنكّلوا به ، واهدموا داره.

فلم يكن بلد أشدّ بلاءً من العراق ، ولا سيّما الكوفة ، حتّى أنّ الرجل من شيعة عليّ عليه‌السلام ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدّثه حتّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه. فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء والمراءون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويتقرّبوا من مجالسهم ، ويصيبوا الأموال والضياع والمنازل ، حتّى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها ، وهم يظنّون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ، ولا تديّنوا بها.

وقال ابن أبي الحديد : فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن عليّ عليه‌السلام فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلّا وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض.

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين عليه‌السلام وولّي عبد الملك بن مروان ، فاشتدّ على الشيعة ، وولّي عليهم الحجّاج بن يوسف ، فتقرّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض عليّ وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدّعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من الغضّ من

٤١

عليّ عليه‌السلام وعيبه ، والطعن فيه ، والشنآن له ، حتى أنّ إنساناً وقف للحجّاج ـ ويقال إنّه جدّ الأصمعي عبد الملك بن قريب ـ فصاح به : أيّها الأمير انّ أهلي عقّوني فسمّوني علياً ، وانّي فقير بائس ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج. فتضاحك له الحجّاج ، وقال : للطف ما توسّلت به ، قد ولّيتك موضع كذا.

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم ـ في تأريخه ما يناسب هذا الخبر ، قال : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أُميّة تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أُنوف بني هاشم (١).

ضحايا الغدر الأُموي

لعلّ المرء يصاب بالذهول وهو يتأمّل أسماء الصحابة والتابعين ذوي المنازل الرفيعة والمكانة السامية والدور الجليل في خدمة الإسلام وأهله ، كيف سقطوا صرعى بسيف الأُمويّين لا لشيءٍ إلّا لأنّهم شيعة عليّ عليه‌السلام ، ومن هؤلاء :

١ ـ حجر بن عديّ : الذي قبض عليه زياد بعد هلاك المغيرة سنة (٥١ ه‍) وبعثه مع أصحابه إلى الشام بشهادة مزوّرة ، وفرية ظالمة ، كان يراد منها قتله وتوجيه ضربة قوية لشيعة عليّ وتصفيتهم.

يقول المسعودي :

«في سنة ثلاث وخمسين قتل معاوية حجر بن عديّ الكندي ـ وهو أوّل من قتل صبراً في الإسلام ـ وحمله زياد من الكوفة ومعه تسعة نفر من أصحابه من أهل الكوفة وأربعة من غيرها ، فلمّا صار على أميال من الكوفة يراد به دمشق

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٦.

٤٢

أنشأت ابنته تقول ـ ولا عقب له من غيرها ـ :

ترفّع أيّها القمر المنير

لعلّك أن ترى حجراً يسير

يسير إلى معاوية بن حرب

ليقتله ، كذا زعم الأمير

ويصلبه على بابي دمشق

وتأكل من محاسنه النسور

ثمّ قتله مع أصحابه في مرج عذراء (١) بصورة بشعة يندى لها الجبين ، وهي مذكورة في جميع كتب التأريخ ، فراجع.

٢ ـ عمرو بن الحمق : ذلك الصحابي العظيم الذي وصفه الإمام الحسين سيّد الشهداء بأنّه : «أبلت وجهه العبادة». قتله معاوية بعد ما أعطاه الأمان (٢).

٣ ـ مالك الأشتر : ملك العرب ، وأحد أشرف رجالاتها وأبطالها ، كان شهماً مطاعاً وكان قائد القوات العلوية. قتله معاوية بالسمّ في مسيره إلى مصر بيد أحد عمّاله (٣).

٤ ـ رشيد الهجري : كان من تلاميذ الإمام وخواصّه ، عرض عليه زياد البراءة واللعن فأبى ، فقطع يديه ورجليه ولسانه ، وصلبه خنقاً في عنقه (٤).

٥ ـ جويرية بن مسهر العبديّ : أخذه زياد وقطع يديه ورجليه وصلبه على جذع نخلة (٥).

٦ ـ قنبر مولى أمير المؤمنين : روي أن الحجّاج قال لبعض جلاوزته : أُحبّ أن أُصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب فقالوا : ما نعلم أحداً كان أطول صحبة له من

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣ ـ ٤ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ٤٦٢ ـ ٤٦٦ / ٩٥.

(٢) سير أعلام النبلاء ٤ : ٣٤ ـ ٣٥ / ٦.

(٣) شذرات الذهب ١ : ٩١.

(٤) شرح نهج البلاغة ٢ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

(٥) شرح نهج البلاغة ٢ : ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٤٣

مولاه قنبر. فبعث في طلبه ، فقال له : أنت قنبر؟ قال : نعم ، قال له : ابرأ من دين عليّ ، فقال له : هل تدلّني على دين أفضل من دينه؟ قال : إنّي قاتلك فاختر أيّ قتلة أحبّ إليك ، قال : أخبرني أمير المؤمنين : أنّ ميتتي تكون ذبحاً بغير حقّ. فأمر به فذبح كما تذبح الشاة (١).

٧ ـ كميل بن زياد : وهو من خيار الشيعة وخاصّة أمير المؤمنين ، طلبه الحجّاج فهرب منه ، فحرم قومه عطاءهم ، فلمّا رأى كميل ذلك قال : أنا شيخ كبير وقد نفد عمري ولا ينبغي أن أكون سبباً في حرمان قومي. فاستسلم للحجّاج ، فلمّا رآه قال له : كنت أحبُّ أن أجد عليك سبيلاً ، فقال له كميل : لا تبرق ولا ترعد ، فو الله ما بقي من عمري إلّا مثل الغبار ، فاقض فإنّ الموعد الله عزوجل ، وبعد القتل الحساب. وقد أخبرني أمير المؤمنين أنّك قاتلي ، فقال الحجّاج : الحجّة عليك إذن ، فقال : ذلك إن كان القضاء لك ، قال : بلى ، اضربوا عنقه (٢).

٨ ـ سعيد بن جبير : التابعي المعروف بالعفّة والزهد والعبادة ، وكان يصلّي خلف الإمام زين العابدين ، فلمّا رآه الحجّاج قال له : أنت شقي ابن كسير ، فقال : أُمّي أعرف باسمي منك. ثمّ بعد أخذ وردّ أمر الحجاج بقتله ، فقال سعيد : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) ـ مسلماً ـ (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٣). فقال الحجّاج : شدّوه إلى غير القبلة ، فقال : أينما (تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٤) ، فقال : كبّوه على وجهه ، قال : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً

__________________

(١) رجال الكشي : ٦٨ ـ ٦٩ / ٢١ ، الشيعة والحاكمون : ٩٥.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٧ : ١٤٩ ، الشيعة والحاكمون : ٩٦.

(٣) الأنعام : ٧٩.

(٤) البقرة : ١١٥

٤٤

أُخْرى) (١). ثمّ ضربت عنقه (٢).

وسيوافيك ما جرى على زيد بن عليّ من الصلب أيّام خلافة هشام بن عبد الملك عام (١٢٢ ه‍) عند الكلام عن فرقة الزيدية إن شاء الله تعالى.

هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا جناه الأُمويّون في حقّ الشيعة طوال فترة حكمهم وتولّيهم لدفّة الأُمور وزمام الحكم ، وتالله إنّ المرء ليصاب بالغثيان وهو يتأمّل هذه الصفحات السوداء التي لا تمحى من ذاكرة التاريخ وكيف لطّخت بالدماء الطاهرة المقدسة والتي أُريقت ظلماً وعدواناً وتجنّياً على الحقّ وأهله.

الشيعة في العصر العباسى

دار الزمان على بني أُميّة ، وقامت ثورات عنيفة ضدّهم أثناء خلافتهم ، إلى أن قضت على آخر ملوكهم (مروان الحمار) : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣) وامتطى ناصية الخلافة بعدهم العباسيون ، والذين تسربلوا بشعار مظلومية أهل البيت للوصول إلى سدّة الخلافة وإزاحة خصومهم الأُمويين عنها ، بيد أنّهم ما أن استقر بهم المقام وثبتت لهم أركانه حتّى انقلبوا كالوحوش الكاسرة في محاربتهم للشيعة وتشريدهم وتقتيلهم ، فكانوا أسوأ من أسلافهم الأُمويين وأشدّ إجراماً ، ولله درّ الشاعر حين قال :

والله ما فعلت أُميّة فيهم

معشار ما فعلت بنو العباسِ

١ ـ كان أوّل من تولّى منهم أبو العباس السفّاح ، بويع سنة (١٣٢ ه‍) ومات

__________________

(١) طه : ٥٥

(٢) سير أعلام النبلاء ٤ : ٣٢١ ـ ٣٢٨ ، الجرح والتعديل ٤ : ٩ / ٢٩.

(٣) الأنعام : ٤٥.

٤٥

سنة (١٣٦ ه‍) ، قضى وقته في تتبّع الأُمويّين والقضاء عليهم ، وهو وإن لم يتعرّض للعلويّين ، لكنّه تنكّر لهم ولشيعتهم ، بل وأوعز إلى الشعراء أن يتعرّضوا لأولاد عليّ وأهل بيته في محاولة مدروسة للنيل من منزلتهم وتسفيه الدعوة المطالبة بإيكال أمر الخلافة الإسلامية إليهم. هذا محمّد أحمد براق يقول في كتابه «أبو العباس السفاح» : «إنّ أصل الدعوة كان لآل عليّ ؛ لأنّ أهل خراسان كان هواهم في آل عليّ لا آل العباس ، لذلك كان السفّاح ومن جاء بعده مفتّحة عيونهم لأهل خراسان حتّى لا يتفشّى فيهم التشيّع لآل عليّ ... وكانوا يستجلبون الشعراء ليمدحوهم ، فيقدّمون لهم الجوائز ، وكان الشعراء يعرّضون بأبناء عليّ وينفون عنهم حقّ الخلافة ؛ لأنّهم ينتسبون إلى النبيّ عن طريق ابنته فاطمة ، أمّا بنو العباس فإنّهم أبناء عمومة» (١).

٢ ـ ثمّ جاء بعده أبو جعفر المنصور ، وبالرغم ممّا أُثير حوله من منزلة ومكانة وذكاء ، إلّا أنّ في ذلك مجافاة عظيمة للحقّ وابتعاداً كبيراً عن جادّة الصواب ، نعم حقّاً إنّ هذا الرجل قد ثبّت أركان دولته وأقام لها أُسساً قوية صلبة ، إلّا أنّه أسرف كثيراً في الظلم والقسوة والإجرام بشكل ملفت للأنظار ، ويكفي للإلمام بجرائمه وقسوته ما كتبه ابن عبد ربّه في العقد الفريد عن ذلك حيث قال :

إنّ المنصور كان يجلس ويُجلس إلى جانبه واعظاً ، ثمّ تأتي الجلاوزة في أيديهم السيوف يضربون أعناق الناس ، فإذا جرت الدماء حتّى تصل إلى ثيابه ، يلتفت إلى الواعظ ويقول : عظني فإذا ذكّره الواعظ بالله ، أطرق المنصور كالمنكسر ثمّ يعود الجلاوزة إلى ضرب الأعناق ، فإذا ما أصابت الدماء ثياب المنصور ثانياً قال لواعظه : عظني!! (٢).

__________________

(١) أبو العباس السفّاح : ٤٨ ، كما في الشيعة والحاكمون : ١٣٩.

(٢) العقد الفريد ١ : ٤١.

٤٦

فما ذا يا ترى يريد المنصور من قوله للواعظ : عظني ، وما ذا يعني بإطراقه بعد ذلك وسكوته ، هل يريد الاستهزاء بالدين الذي نهى عن قتل النفس وسفك الدماء ، أو يريد شيئاً آخر؟! وليت شعري أين كان المؤرّخون وأصحاب الكلمات الصادقة المنصفة من هذه المواقف المخزية التي تقشعر لها الأبدان ، وهم يتحدّثون عن هذا الرجل الذي ما آلوا يشيدون بذكره ويمجّدون بأعماله ، وهلّا تأمّل القرّاء في سيرة هذا الرجل ليدركوا ذلك الخطأ الكبير.

بلى إنّ هذا الرجل أسرف في القتل كثيراً ، وكان للعلويين النصيب الأكبر ، وحصّة الأسد من هذا الظلم الكبير.

يقول المسعودي : جمع المنصور أبناء الحسن ، وأمر بجعل القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم ، وحملهم في محامل مكشوفة وبغير وطاء ، تماماً كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين. ثمّ أودعهم مكاناً تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار ، وأُشكلت أوقات الصلاة عليهم ، فجزَّءوا القرآن خمسة أجزاء ، فكانوا يصلّون على فراغ كلّ واحد من حزبه ، وكانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم ، فاشتدّت عليهم الرائحة ، وتورّمت أجسادهم ، ولا يزال الورم يصعد من القدم حتّى يبلغ الفؤاد ، فيموت صاحبه مرضاً وعطشاً وجوعاً (١).

وقال ابن الأثير : دعا المنصور محمّد بن عبد الله العثماني ، وكان أخاً لأبناء الحسن من أُمّهم ، فأمر بشقّ ثيابه حتّى بانت عورته ، ثمّ ضرب مائة وخمسون سوطاً ، فأصاب سوط منها وجهه فقال : ويحك اكفف عن وجهي ، فقال المنصور للجلّاد : الرأس الرأس ، فضربه على رأسه ثلاثين سوطاً ، وأصاب إحدى عينيه فسالت على وجهه ، ثمّ قتله ـ ثمّ ذكر ـ : وأحضر المنصور محمّد بن إبراهيم بن الحسن ، وكان أحس الناس صورة ، فقال له : أنت الديباج الأصفر ، لأقتلنّك قتلة

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣١٠ ط سنة ١٩٤٨ م.

٤٧

لم أقتلها أحداً ، ثمّ أمر به ، فبني عليه أُسطوانة وهو حيّ ، فمات فيها (١).

٣ ـ ثمّ ولي بعده المهدي ولد المنصور ، وبقي في الحكم من سنة (١٥٨ ه‍) إلى سنة (١٦٩ ه‍) وكفى في الإشارة إلى ظلمه للعلويّين ، أنّه أخذ علي بن العبّاس بن الحسن ابن عليّ بن أبي طالب ، فسجنه فدسّ إليه السمّ فتفسّخ لحمه وتباينت أعضاؤه.

٤ ـ ولمّا هلك المهدي بويع ولده الهادي ، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر ، سار فيها على سيرة من سبقه في ظلم العلويين والتضييق عليهم ، وكفى في الإشارة إلى ذلك ما ذكره أبو الفرج الأصبهاني في مقاتل الطالبيين حيث قال :

إنّ أُمّ الحسين صاحب فخ هي زينب بنت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قتل المنصور أباها وأُخوتها وعمومتها وزوجها عليّ بن الحسن ، ثمّ قتل الهادي حفيد المنصور ابنها الحسين ، وكانت تلبس المسوح على جسدها ، لا تجعل بينها وبينه شيئاً حتّى لحقت بالله عزوجل (٢).

٥ ـ ثمّ تولّى بعده الرشيد سنة (١٧٠ ه‍) ومات (١٩٣ ه‍) وكان له سجّل أسود في تعامله مع الشيعة تبلورت أوضح صوره فيما لاقاه منه الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام ، وهو ما سنذكره لاحقاً إن شاء الله تعالى ، وإليك واحدة من تلك الأفعال الدامية التي سجّلها له التأريخ ورواها الأصبهاني عن إبراهيم بن رباح ، قال : إنّ الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبد الله بن الحسن ، بنى عليه أُسطوانة وهو حيّ ، وكان هذا العمل الإجرامي موروثاً من جدّه المنصور (٣).

٦ ـ ثمّ جاء بعده ابنه الأمين ، فتولّى الحكم أربع سنين وأشهراً ، يقول أبو الفرج : كانت سيرة الأمين في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدّم لتشاغله بما كان

__________________

(١) الكامل ٤ : ٣٧٥.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٨٥ ط النجف.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٢٠ ، وروي في مقتله أمر آخر.

٤٨

فيه من اللهو ثمّ الحرب بينه وبين المأمون ، حتّى قتل فلم يحدث على أحد منهم في أيّامه حدث.

٧ ـ وتولّى الحكم بعده المأمون ، وكان من أقوى الحكّام العباسيّين بعد أبيه الرشيد. فلمّا رأى المأمون إقبال الناس على العلويّين وعلى رأسهم الإمام الرضا ، ألقى عليه القبض بحيلة الدعوة إلى بلاطه ، ثمّ دسّ اليه السمّ فقتله.

٨ ـ مات المأمون سنة (٢١٠ ه‍) وجاء إلى الحكم ابنه المعتصم فسجن محمّد بن القاسم بن عليّ بن عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلّا أنّه استطاع الفرار من سجنه.

٩ ـ ثمّ تولى الحكم بعده الواثق الذي قام بسجن الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه‌السلام ودسّ له السمّ بيد زوجته الأثيمة أُمّ الفضل بنت المأمون.

١٠ ـ وولي الحكم بعد الواثق المتوكّل ، وإليك نموذجاً من حقده على آل البيت وهو ما ذكره أبو الفرج قال : كان المتوكّل شديد الوطأة على آل أبي طالب ، غليظاً في جماعتهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم ، وسوء الظنّ والتهمة لهم. واتّفق له أنّ عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسيء الرأي فيهم ، فحسَّن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله ، وكان من ذلك أن كرب (١) قبر الحسين وعفّى آثاره ، ووضع على سائر الطرق مسالح له لا يجدون أحداً زاره إلّا أتوه به وقتله أو أنهكه عقوبة.

وقال : بعث برجل من أصحابه (يقال له الديزج وكان يهودياً فأسلم) إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب ما حوله ، فمضي ذلك فخرّب ما حوله ، وهدم البناء وكرب ما حوله مائتي جريب ، فلمّا بلغ إلى قبره لم يتقدّم إليه أحد ، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه ، وأجرى الماء حوله ، ووكل به مسالحَ ، بين كلّ

__________________

(١) الكرب : إثارة الأرض للزرع.

٤٩

مسلحتين ميل ، لا يزوره زائر إلّا أخذوه ووجّهوا به إليه.

وقال أيضاً : حدّثني محمّد بن الحسين الأشناني : بَعُدَ عهدي بالزيارة في تلك الأيّام ، ثمّ عملت على المخاطرة بنفسي فيها ، وساعدني رجل من العطّارين على ذلك ، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل ، حتى أتينا نواحي الغاضريّة ، وخرجنا نصف الليل ، فصرنا بين مسلحتين ، وقد ناموا ، حتى أتينا القبر فخفي علينا ، فجعلنا نشمّه (نتسمه خ ل) ونتحرّى جهته حتّى أتيناه ، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه ، وأُحرق وأُجري الماء عليه ، فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق ، فزرناه وأكببنا عليه ـ إلى أن قال : ـ فودّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدّة مواضع ، فلمّا قتل المتوكّل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتّى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه.

وقال أيضاً : واستعمل على المدينة ومكّة عمر بن الفرج ، فمنع آل أبي طالب من التعرّض لمسألة الناس ومنع الناس من البرّ بهم ، وكان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء وإن قلّ إلّا أنهكه عقوبة ، وأثقله غرماً ، حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ، ثمّ يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر ، إلى أن قتل المتوكّل فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم بمال فرّقه بينهم ، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه (١).

١١ ـ وولّي بعده المنتصر ابنه ، وظهر منه الميل إلى أهل البيت وخالف أباه ـ كما عرفت ـ فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه فيما بلغنا.

وأوّل ما أحدثه انّه لمّا ولي الخلافة عزل صالح بن عليّ عن المدينة ، وبعث عليّ بن الحسين مكانه فقال له ـ عند الموادعة ـ : يا عليّ إنّي أُوجّهك إلى لحمي ودمي فانظر كيف تكون للقوم ، وكيف تعاملهم ـ يعني آل أبي طالب ـ فقلت :

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٥٩٧ ـ ٥٩٩.

٥٠

أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين ـ أيّده الله ـ فيهم ، إن شاء الله. قال : إذاً تسعد بذلك عندي (١).

١٢ ـ وقام بعده المستعين بالأمر ، فنقض كلّما غزله المنتصر من البرّ والإحسان ، ومن جرائمه أنّه قتل يحيى بن عمر بن الحسين ، قال أبو الفرج :

وكان ـ رضي الله عنه ـ رجلاً فارساً شجاعاً ، شديد البدن ، مجتمع القلب ، بعيداً من رهق الشباب وما يعاب به مثله ، ولمّا أُدخل رأسه إلى بغداد جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكاراً له ، ودخل أبو هاشم على محمّد بن عبد الله بن طاهر ، فقال : أيّها الأمير ، قد جئتك مهنّئاً بما لو كان رسول الله حيّاً يُعزّى به.

وأُدخل الأُسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد ولم يكن فيما رؤي قبل ذلك من الأُسارى أحد لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال ، وكانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً ، فمن تأخّر ضربت عنقه.

قال أبو الفرج : وما بلغني أنّ أحداً ممّن قتل في الدولة العباسيّة من آل أبي طالب رثي بأكثر ممّا رثي به يحيى ، ولا قيل فيه الشعر بأكثر ممّا قيل فيه.

أقول : إنّ العباسيين قد أتوا من الجرائم التي يندى لها الجبين وتقشعرّ منها الجلود في حقّ الشيعة بحيث تغصّ بذكرها المجلّدات الكبيرة الواسعة ، بل وفاقوا بأفعالهم المنكرة ما فعله الأُمويّون من قبل ، ولله درّ الشاعر حيث قال :

تالله إن كانت أُميّة قد أتت

قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثلها

هذا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبّعوه رميما

ومن أراد أن يقف على سجلّ جرائم الدولتين (الأُموية والعباسية) وملفّ

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٦٣٩.

٥١

مظالمهم فعليه قراءة القصائد الثلاث التي نظمها رجال مؤمنون مخلصون ، عرّضوا أنفسهم للمخاوف والأخطار طلباً لرضى الحقّ :

١ ـ تائية دعبل الخزاعي الشهيد عام (٢٤٦ ه‍) ، فإنّها وثيقة تأريخية خالدة تعرب عن سياسة الدولتين تجاه أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد أنشدها الشاعر للإمام الرضا ، فبكى وبكت معه النسوة.

أخرج الحموي عن أحمد بن زياد عن دعبل الخزاعي قال : أنشدت قصيدة لمولاي عليّ الرضا ـ رضي الله عنه ـ :

مدارس آيات خلت من تلاوةٍ

ومنزل وحي مقفر العرصاتِ

قال دعبل : ثمّ قرأت باقي القصيدة ، فلمّا انتهيت إلى قولي :

خروج إمام لا محالة واقع

يقوم على اسم الله والبركاتِ

فبكى الرضا بكاءً شديداً.

ومن هذه القصيدة قوله :

هُمُ نقضوا عهد الكتاب وفرضه

ومحكمه بالزور والشبهاتِ

تراث بلا قربى ، وملك بلا هدى

وحكم بلا شورى ، بغير هداةِ

وفيها أيضاً قوله :

لآل رسول الله بالخيف من منى

وبالبيت والتعريف والجمراتِ

ديار عليّ والحسين وجعفر

وحمزة والسجّاد ذي الثفناتِ

ديار عفاها كلّ جون مبادر

ولم تعف للأيّام والسنواتِ

منازل كانت للصلاة وللتقى

وللصوم والتطهير والحسناتِ

٥٢

منازل وحي الله معدن علمه

سبيل رشاد واضح الطرقاتِ

منازل وحي الله ينزل حولها

على أحمد الروحاتِ والغدواتِ

إلى أن قال :

ديار رسول الله أصبحن بلقعا

ودار زياد أصبحت عمراتِ

وآل رسول الله غُلَّتْ رقابهم

وآل زياد غُلّظُ القصراتِ

وآل رسول الله تُدْمى نحورهم

وآل زياد زيّنوا الحجلاتِ

وفيها أيضاً :

أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً

وقد مات عطشاناً بشطّ فراتِ

إذاً للطمتِ الخدّ فاطم عنده

وأجريت دمع العين في الوجناتِ

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي

نجوم سماوات بأرض فلات (١)

٢ ـ ميميّة الأمير أبي فراس الحمداني (٣٢٠ ـ ٣٥٧ ه‍) ، وهذه القصيدة تعرف بالشافية ، وهي من القصائد الخالدة ، وعليها مسحة البلاغة ، ورونق الجزالة ، وجودة السرد ، وقوّة الحجّة ، وفخامة المعنى ، أنشدها ناظمها لمّا وقف على قصيدة ابن سكرة العبّاسي التي مستهلّها :

بني عليّ دعوا مقالتكم

لا يُنقص الدُّرَّ وضع من وضعه

قال الأمير في جوابه ميميّته المعروفة وهي :

الحقّ مهتضمٌ والدين مخترم

وفيء آل رسول الله مقتسمُ

__________________

(١) لا حظ للوقوف على هذه القصيدة : المناقب لابن شهر آشوب ٢ : ٣٩٤ ، وروضة الواعظين للفتّال النيسابوري : ١٩٤ ، وكشف الغمّة للإربلي ٣ : ١١٢ ـ ١١٧ ، وقد ذكرها أكثر المؤرّخين.

٥٣

إلى أن قال :

يا للرجال أما لله منتصرٌ

من الطغاة؟ أما لله منتقمُ؟

بنو علي رعايا في ديارهم

والأمر تملكه النسوان والخدم! (١)

٣ ـ جيميّة ابن الرومي التي رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد ، ومنها :

أمامك فانظر أيّ نهجيك تنهج

طريقان شتّى مستقيم وأعوج

ألا أي هذا الناس طال ضريركم

بآل رسول الله فاخشوا أو ارتَجُوا

أكلّ أوانٍ للنبيّ محمّد

قتيل زكيّ بالدماء مضرّج (٢)

وكم من الانصاف فيما كتبه الأصبهاني عن مدى العبء الذي تحمله أهل البيت وشيعتهم من أجل كلمة الحق ، وموقف الصدق ، وما ترتّب على ذلك من تكالب لا يعرف الرحمة من قبل الحكومات الجائرة المتلاحقة للقضاء على هذا الوجود المقدّس واجتثاثه من أصله ، حيث ذكر :

«ولا يعرف التأريخ أُسرة كأُسرة أبي طالب بلغت الغاية من شرف الأرومة ، وطيب النجار ، ضلّ عنها حقّها ، وجاهدت في سبيل الله حقّ الجهاد من الأعصار ، ثمّ لم تظفر من جهادها المرير إلّا بالحسرات ، ولم تعقب من جهادها إلّا العبرات ، على ما فقدت من أبطال أسالوا نفوسهم في ساحة الوغى ، راضية قلوبهم مطمئنة ضمائرهم ، وصافحوا الموت في بسالة فائقة ، وتلقّوه في صبر جميل يثير في النفس الإعجاب والإكبار ، ويشيع فيها ألوان التقدير والإعظام.

وقد أسرف خصوم هذه الأُسرة الطاهرة في محاربتها ، وأذاقوها ضروب

__________________

(١) نقلها في الغدير برمتها وأخرج مصادرها ، لاحظ ٣ : ٣٩٩ ـ ٤٠٢.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٦٣٩ ـ ٦٤٦.

٥٤

النكال ، وصبّوا عليها صنوف العذاب ، ولم يرقبوا فيها إلّا ولا ذمّةً ، ولم يرعوا لها حقّاً ولا حرمة ، وأفرغوا بأسهم الشديد على النساء والأطفال ، والرجال جميعاً ، في عنف لا يشوبه لين ، وقسوة لا تمازجها رحمة ، حتّى غدت مصائب أهل البيت مضرب الأمثال ، في فظاعة النكال ، وقد فجّرت هذه القسوة البالغة ينابيع الرحمة والمودّة في قلوب الناس ، وأشاعت الأسف الممض في ضمائرهم ، وملأت عليهم أقطار نفوسهم شجناً ، وصارت مصارع هؤلاء الشهداء حديثاً يروى ، وخبراً يتناقل ، وقصصاً تقص ، يجد فيها الناس إرضاء عواطفهم وإرواء مشاعرهم ، فتطلّبوه وحرصوا عليه» (١).

نعم ، لقد اقترن تأريخ الشيعة بأنواع الظلم والنكال ، والقتل والتشريد ، بحيث لم تشهده أيّ طائفة أُخرى من طوائف المسلمين. بلى ، لم ير الأُمويّون ولا العباسيّون ولا الملوك الغزانوة ولا السلاجقة ولا من أتى بعدهم أيّ حرمة لنفوسهم وأعراضهم وعلومهم ومكتباتهم ، فحين كان اليهود والنصارى يسرحون ويمرحون في أرض الإسلام والمسلمين ، وقد كفل لهم الحكّام حرّيّاتهم باسم الرحمة الإسلامية ، كان الشيعة يأخذون تحت كلّ حجر ومدر ، ويقتلون بالشبهة والظنّة ، وتشرّد أُسرهم ، وتصادر أموالهم ، ولا يجدون بدّاً من أن يخفوا كثيراً من عقائدهم خوف النكال والقتل ، وبأيدي وقلوب نزعت منها الرحمة.

فلا تثريب إذن على الشيعي أمام هذه الوحشية المسرفة من أن يتعامل مع أخيه المسلم بالتقية ، وأن يظهر خلاف ما يعتقده ، بل اللوم أجمعه يقع على من حمله على ذلك ، بعد أن أباح دمه وعرضه وماله.

هذا هو طغرل بيك أوّل ملك من ملوك السلاجقة ورد بغداد سنة ٤٤٧ ه‍ ،

__________________

(١) مقدّمة مقاتل الطالبيين ، بقلم السيد أحمد صقر : الصفحة ي ـ ك ، طبع دار المعرفة.

٥٥

وشنّ على الشيعة حملة شعواء ، وأمر بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير ، وزير بهاء الدولة البويهي ، وكانت من دور العلم المهمّة في بغداد بناها هذا الوزير الجليل في محلّة بين السورين في الكرخ سنة ٣٨١ ه‍ على مثال بيت الحكمة الذي بناه هارون الرشيد ، وكانت من الأهمية العلمية بمكان ؛ حيث جمع فيها هذا الوزير ما تفرّق من كتب فارس والعراق ، واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم ، كما قاله محمد كرد علي ، ونافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار ومهام الأسفار ، وأكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلّفين (١).

قال ياقوت الحموي : وبها كانت خزانة الكتب التي أوقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة ، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها ، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة وأُصولهم المحرّرة (٢).

وكان من جملتها مصاحف بخطّ ابن مقلة على ما ذكره ابن الأثير (٣).

ولمّا كان الوزير سابور من أهل الفضل والأدب ، فقد أخذ العلماء يهدون إليه مصنّفاتهم المختلفة ، فأصبحت مكتبته من أغني دور الكتب ببغداد ، وقد أُحرقت هذه المكتبة العظيمة في جملة ما أُحرق من محال الكرخ عند مجيء طغرل بيك ، وتوسّعت الفتنة حتّى اتّجهت إلى شيخ الطائفة وأصحابه فأحرقوا كتبه وكرسيه الذي كان يجلس عليه للكلام.

قال ابن الجوزي في حوادث سنة (٤٤٨ ه‍) : وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره ، ثمّ قال في حوادث سنة (٤٤٩ ه‍) : وفي صفر هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلّم الشيعة في الكرخ ، وأُخذ ما وجد من دفاتره وكرسي يجلس عليه

__________________

(١) خطط الشام ٣ : ١٨٥.

(٢) معجم البلدان ٢ : ٣٤٢.

(٣) الكامل في التاريخ ١٠ : ٣.

٥٦

للكلام ، وأُخرج إلى الكرخ وأُضيف إليه ثلاث مجانيق بيض كان الزوّار من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إن قصدوا زيارة الكوفة ، فأُحرق الجميع (١).

وأخيراً فلعلّ القارئ الكريم إذا تأمّل بتدبّر وتأنّ إلى جملة ما كتب وأُلّف من المراجع التاريخية ـ وحتّى تلك التي كتبت في تلك العصور التي شهدت هذه المجازر المتلاحقة ، والتي بلا أدنى شكّ كان أغلبها يجاري أهواء الأُسر الحاكمة آنذاك ـ فإنّه سيجد بوضوح أنّ بقاء الشيعة حتّى هذه الأزمنة من المعاجز والكرامات وخوارق العادات ، كيف وإنّ تاريخهم كان سلسلة من عمليات الذبح ، والقتل ، والقمع ، والاستئصال ، والسحق ، والإبادة ، قد تظافرت قوى الكفر والفسق على إهلاكهم وقطع جذورهم ، ومع ذلك فقد كانت لهم دول ودويلات ، ومعاهد وكلّيّات ، وبلدان وحضارات ، وأعلام ومفاخر ، وعباقرة وفلاسفة ، وفقهاء ، ومحدّثون ، ووزراء وسياسيّون ، ويؤلّفون اليوم خمس المسلمين أو ربعهم.

نعم إنّ ذلك من فضله سبحانه لتعلّق مشيئته على إبقاء الحقّ وإزهاق الباطل في ظلّ قيام الشيعة طيلة القرون بواجبها وهو الصمود أمام الظلم ، والتضحية والتفدية للمبدأ والمذهب وقد قال سبحانه : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (٢).

ولا يفوتنّك أخي القارئ الكريم أنّ ثوراتهم المتعاقبة على الحكومات الظالمة الفاسدة الخارجة عن حدود الشريعة الإسلامية العظيمة هي التي أدّت إلى تشريدهم وقتلهم والفتك بهم ، ولو أنّهم ساوموا السلطة الأُموية والعباسية ،

__________________

(١) المنتظم ٨ : ١٧٣ ـ ١٧٩ ، نقلنا ما يتعلّق بمكتبة أبي نصر سابور والشيخ الطوسي عن مقدّمة شيخنا الطهراني على التبيان وذكرنا المصادر التي أومأ هو إليها في الهامش ، لاحظ الصفحة (ه ـ و) من المقدّمة.

(٢) الأنفال : ٦٥.

٥٧

لكانوا في أعلى المناصب والمدارج ، لكنّ ثوراتهم لم تكن عنصرية أو قوميّة أو طلباً للرئاسة ، بل كانت لإزهاق الباطل ورفع الظلم عن المجتمع ، والدعوة إلى إعلاء كلمة الله وغير ذلك ممّا هو من وظائف العلماء العارفين.

٥٨

فرضيّات وهميّة لمبدإ التشيّع

لقد تقدّم الحديث منّا في الصفحات السابقة حول ما يمكن تسميته بنشأة التشيّع ، والتي تبيّن لنا بوضوح أنّه لا فصل هنا بين النشأتين ، نشأة الإسلام ، ونشأة التشيّع ، وأنّهما وجهان لعملة واحدة ، إلّا أنّ هناك جماعة من المؤرّخين وكتّاب المقالات ممّن قادهم الوهم وسوء الفهم إلى اعتبار التشيّع أمراً حادثاً وطارئ على المجتمع الإسلامي ، فأخذوا يفتّشون عن مبدئه ومصدره ، وأشدّ تلك الظنون عدوانية فيه ما تلوكه أشداق بعض المتقدّمين والمتأخّرين ، هو كونه وليد عبد الله ابن سبأ ذلك الرجل اليهودي ، الذي ـ بزعمهم ـ طاف الشرق والغرب ، وأفسد الأُمور على الخلفاء والمسلمين ، وألّب الصحابة والتابعين على عثمان فقتل في عقر داره ، ثمّ دعا إلى عليّ بالإمامة والوصاية ، وإلى النبيّ بالرجعة ، وكوَّن مذهباً باسم الشيعة ، فهو كما يتصوّر هؤلاء وصوّروه لغيرهم صنيع ذلك الرجل اليهودي المتظاهر بالإسلام. وبما أنّ لهذا الموضوع أهمية خاصة لما احتلّه من المساحة الواسعة في أذهان العديد من السذج والسطحيّين ، فإنّا لا نكتفي ببيان توهّم واحد بل نأتي على ذكر كلّ تلك الادّعاءات واحدة بعد الأُخرى ، مع رعاية التسلسل الزمني.

٥٩

الفرضيّة الأُولى : الشيعة ويوم السقيفة

ليس بخاف على أحد مدى الانعطافة الخطيرة التي حدثت في تأريخ الإسلام عقب انتهاء مؤتمر سقيفة بني ساعدة ، وما ترتّب عليه من نتائج وقرارات خطيرة.

والحقّ يقال إنّ هذا المؤتمر الذي ضمّ بين صفوفه ثلّة كبيرة من وجوه الصحابة ـ من المهاجرين والأنصار ـ قد أغفل عند انعقاده الواجب الأعظم في إكرام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صاحب الفضل الأكبر فيما وصل إليه الجميع ـ عند ما تُرك مُسجّى بين يدي أهل بيته وانشغلوا بما كان من غير الإنصاف أن ينسب إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قصور لا عذر فيه في ترك الأُمّة حائرة به بعد موته.

أقول : ونتيجة لانشغالهم ذاك فقد حرموا من واجب إكرام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله جلّه ، ففاتهم أعظمه ، وقصروا في تأديته ، وكان لأهل بيته وحدهم ذلك الدور كلّه ، فأوفوه ، ولم يألوا في ذلك جهداً.

وإذا كان المؤتمرون في السقيفة قد خرجوا إلى الملأ بقرار كان ثمرة مخاض عسير واعتراك صعب ؛ فإنّه أوضح وبلا أدنى ريب تبعثر الآراء واختلافها ، بل وظروف خطرة كان من الممكن أن تؤدي بالجهد العظيم الذي بذله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه من المؤمنين في إرساء دعائم هذا الدين وتثبيت أركانه ، وأوضحت ـ وذاك لا خفاء عليه ـ أنّ من غير المنطقي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرحل ـ مع أنّه لم يفاجئه الموت ـ دون أن يدرك هذه الحقيقة التي ليس هو ببعيد عنها ، ولا يمكن أن يتغاضى عنها ، وهو الذي ما خرج في أمر جسيم إلّا وخلّف عنه من ينوبه في إدارة شئون الأُمّة في فترة غيابه التي لا يلبث أن يعود منها بعد أيّام معدودات ، فكيف بالرحيل الأبدي؟!

نعم إنّ هذا الأمر لا بدّ وإن يستوقف كلّ ذي لبّ وعقل مستنير.

٦٠