أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

الشيخ جعفر السبحاني

أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6293-80-8
الصفحات: ٧٧٤

بحث في قوله تعالى : (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب) :

هذا الأصل ـ الذي يعدّ من المعارف العليا تجاه ما عرف من اليهود ، من سيادة القدر على كلّ شيء حتى إرادته سبحانه ـ يستفاد بوضوح من قوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (١) وهذه الآية هي الأصل في البداء في مقام الثبوت ويكفي في إيضاح دلالتها ، نقل كلمات المحقّقين من المفسّرين ، حتّى يقف القارئ على أنّ القول بالبداء بالمعنى الصحيح ، ممّا اصفقت عليه الأُمّة.

١ ـ روى الطبري (ت ٣١٠ ه‍) في تفسير الآية عن جمع من الصحابة والتابعين أنّهم كانوا يدعون الله سبحانه بتغيير المصير وإخراجهم من الشقاء ـ إن كتب عليهم ـ إلى السعادة ، مثلاً كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول وهو يطوف بالكعبة : اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبتني على الذنبِ [الشقاوة] فامحني وأثبتني في أهل السعادة ؛ فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُمّ الكتاب.

وروى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود ، وابن عبّاس ، وشقيق وأبي وائل (٢).

روي عن ابن زيد أنّه قال في قوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) بما يُنزِّلُ على الأنبياء ، (وَيُثْبِتُ) ما يشاء ممّا ينزله إلى الأنبياء وقال : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) لا يُغيّر ولا يُبدَّل» (٣).

٢ ـ قال الزمخشري (ت ٥٢٨ ه‍) : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو ينزله غير منسوخ (٤).

٣ ـ ذكر الطبرسي (٤٧١ ـ ٥٤٨ ه‍) : لتفسير الآية وجوهاً متقاربة وقال :

__________________

(١) الرعد : ٣٩.

(٢) الطبري : التفسير (جامع البيان) ١٣ : ١١٢ ـ ١١٤.

(٣) الطبري : التفسير (جامع البيان) ١٣ : ١١٢ ـ ١١٤.

(٤) الزمخشري ، الكشاف ٢ : ١٦٩.

٤٤١

«الرابع أنّه عامٌّ في كلّ شيء ، فيمحو من الرزق ويزيد فيه ، ومن الأجل ، ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما. (روى ذلك) عن عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وأبي وائل ، وقتادة. وأُمّ الكتاب أصل الكتاب الذي أُثبتت فيه الحادثات والكائنات.

وروى أبو قلابَة عن ابن مسعود أنّه كان يقول : اللهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء ...» (١).

٤ ـ قال الرازي (ت ٦٠٨ ه‍) : إنّ في هذه الآية قولين :

القول الأوّل : إنّها عامة في كلّ شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا : إنّ الله يمحو من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود ، والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرّعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والقول الثاني : إنّ هذه الآية خاصّة في بعض الأشقياء دون البعض.

ثمّ قال : فإن قال قائل : ألستم تزعمون أنّ المقادير سابقة قد جفَّ بها القلم وليس الأمر بأنف ، فكيف يستقيم مع هذا المعنى ، المحو والإثبات؟

قلنا : ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جفّ به القلم ، فلأنّه لا يمحو إلّا ما سبق في علمه وقضائه محوه (٢).

٥ ـ قال القرطبي (ت ٦٧١ ه‍) ـ بعد نقل القولين وأنّ المحو والإثبات هل يعمّان جميع الأشياء أو يختصّان ببعضها ـ : مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد ، وإنّما يؤخذ توقيفاً ، فإن صحَّ فالقول به يجب أن يوقف عنده ، وإلّا فتكون الآية عامّة في

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان ٦ : ٣٩٨.

(٢) تفسير الرازي ١٠ : ٦٤ ـ ٦٥.

٤٤٢

جميع الأشياء ، وهو الأظهر ـ ثمّ نقل دعاء عمر بن الخطاب في حال الطواف ودعاء عبد الله بن مسعود ثمّ قال : روي في الصحيحين عن أبي هريرة قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «مَن سرَّه أن يبسط له في رزقهِ ويُنسَأ له في أثره (أجله) فليصل رحمه» (١).

٦ ـ قال ابن كثير (ت ٧٧٤ ه‍) بعد نقل قسم من الروايات : ومعنى هذه الروايات أنّ الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء ، وقد يُستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إن الرجل ليُحْرَمُ الرزقَ بالذنب يصيبه ولا يردّ القَدَرُ إلّا بالدعاء ، ولا يزيد في العمر إلّا البر» ثمّ نقل عن ابن عبّاس : «الكتاب كتابان ؛ فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت عنده ما يشاء ، وعنده أُمّ الكتاب» (٢).

٧ ـ روى السيوطي (ت ٩١١ ه‍) عن ابن عبّاس في تفسير الآية : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ، ثمّ يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة ، فهو الذي يمحو ، والذي يثبت : الرجل يعمل بمعصية الله تعالى وقد سبق له خير حتّى يموت وهو في طاعة الله سبحانه وتعالى. ثمّ نقل ما نقلناه من الدعاء عن جماعة من الصحابة والتابعين (٣).

٨ ـ ذكر الآلوسي (ت ١٢٧٠ ه‍) عند تفسير الآية قسماً من الآثار الواردة حولها وقال : أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليّ ـ كرم الله وجهه ـ أنّه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ...) الآية فقال له عليه الصلاة والسلام : «لأقرّنّ عينك بتفسيرها ، ولأقرّنّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة

__________________

(١) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ٥ : ٣٢٩.

(٢) ابن كثير ، التفسير ٢ : ٥٢٠.

(٣) السيوطي ، الدر المنثور ٤ : ٦٦٠ لاحظ ما نقله في المقام من المأثورات.

٤٤٣

على وجهها ، وبرّ الوالدين واصطناع المعروف ، محوِّل الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر ، ويقي مصارع السوء» ثمّ قال : دفع الإشكال عن استلزام ذلك ، بتغيّر علم الله سبحانه ، ومن شاء فليراجع (١).

٩ ـ قال صديق حسن خان (ت ١٣٠٧ ه‍) في تفسير الآية : وظاهر النظم القرآني العموم في كلّ شيء ممّا في الكتاب ، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوةٍ أو سعادةٍ أو رزقٍ أو عمرٍ أو خيرٍ أو شرّ ويبدّل هذا بهذا ، ويجعل هذا مكان هذا. لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون. وإلى هذا ذهب عمر بن الخطّاب وابن مسعود وابن عبّاس وأبو وائل وقتادة والضحّاك وابن جريج وغيرهم ... (٢).

١٠ ـ قال القاسمي (ت ١٣٣٢ ه‍) : تمسّك جماعة بظاهر قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) فقالوا : إنّها عامَّة في كلّ شيء كما ـ يقتضيه ظاهر اللفظ ـ قالوا يمحو الله من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر (٣).

١١ ـ قال المراغي (ت ١٣٧١ ه‍) في تفسير الآية : وقد أُثر عن أئمة السلف أقوال لا تناقض بل هي داخلة فيما سلف ثمّ نقل الأقوال بإجمال (٤).

وهذه الجمل والكلم الدرّية المضيئة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان والمفسّرين ؛ تعرب عن الرأي العام بين المسلمين في مجال إمكان تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ، ومنها الدعاء والسؤال ، وأنّه ليس كلّ تقدير حتمياً لا يغيّر ولا يبدّل ، وأنّ لله سبحانه لوحين : لوح المحو والإثبات ولوح «أُمّ الكتاب»

__________________

(١) الآلوسي ، روح المعاني ١٣ : ١١١.

(٢) صديق حسن خان ، فتح البيان ٥ : ١٧١.

(٣) القاسمي ، المحاسن والتأويل ٩ : ٣٧٢.

(٤) المراغي ، التفسير ٥ : ١٥٥ ـ ١٥٦.

٤٤٤

والذي لا يتطرّق التغيير إليه هو الثاني دون الأوّل ، وأنّ القول بسيادة القدر على اختيار الإنسان في مجال الطاعة والمعصية ؛ قول بالجبر الباطل بالعقل والضرورة ومحكمات الكتاب. ومن جنح إليه لزمه القول بلغوية إرسال الرسل وإنزال الكتب (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (١).

وكما أنّه سبحانه يداه مبسوطتان ، كذلك العبد مختار في أفعاله لا مسيّر ، وحرٌّ في تصرّفاته (٢) لا مجبور ، له أن يغيّر مصيره ومقدَّره بحسن فعله وجودة عمله ، ويخرج اسمه من الأشقياء ، ويدخله في السعداء ، كما أنّ له أن يخرج اسمه من السعداء ويدخله في الأشقياء بسوء عمله.

فالله سبحانه كما يمحو ويثبت في التكوين ، فيحيي ويميت ، كذلك يمحو مصير العبد ويغيّره حسب ما يغيّر العبد بنفسه (فعله وعمله) لقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٣) ، كل ذلك لأجل أنّ يديه مبسوطتان ، وأنّ العبد حرٌّ مختار ، قادر على تغيير القضاء ، وتبديل القدر ، بحسن فعله أو سوئه ، كما دلّت عليه الآيات والروايات.

وليس في ذلك أيّ محذور ولا مخالفة للعقل ولا الكتاب والسنّة ، بل تغيير القضاء بحسن الفعل وتغيير القدر بسوئه ، هو أيضاً من قدره وقضائه وسننه التي لا تبديل لها ولا تغيير ، فالله سبحانه إذا قدّر لعبده شيئاً وقضى له بأمر ، فلم يقدّره ولم يقضِ به على وجه القطع والبتِّ ، بحيث لا يتغيّر ولا يتبدّل ، بل قضى به على وجه خاصّ ، وهو أنّ القضاء والقدر يجري عليه ، ما لم يغيّر العبد حاله ، فإذا غيّر

__________________

(١) ص : ٢٧.

(٢) لا يخفى أنّ المقصود من أفعال الإنسان التي تثبت اختياره فيها هي الأفعال التي تتعلق بها التكاليف لا الأفعال القهرية التي تصدر من جهازه الهضمي مثلاً.

(٣) الرعد : ١١.

٤٤٥

حاله بحسن فعله أو سوئه ، يتغيّر القضاء ويتبدّل القدر ، ويخلف قضاء وقدر آخر مكانهما الأوّل ، وكلّ هذه أيضاً قضاء وقدر منه ، كما لا يخفى.

وهذا (البداء في الثبوت) أولى من التسمية بالمحو والإثبات ، والتغيير والتبديل في الكون وفي مصير الإنسان ، غير أنّ المحو والإثبات في الكون بيد الله سبحانه ، يتصرّف فيه حسب مشيئته ، ولا دخل لإرادة الإنسان وفي صلاح فعله وفساده ، وأمّا التغيير في مصير الإنسان فيتوقّف تعلّق المشيئة عليه ؛ على كيفية حال العبد وكيفية عمله من حسن أو قبح.

الأثر التربوي للاعتقاد في البداء :

الاعتقاد بالمحو والإثبات ، وأنّ العبد قادر على تغيير مصيره بأفعاله وأعماله ، لا بدّ من أن يبعث الرجاء في قلب من يريد أن يتطهّر ، وينمي نواة الخير الكامنة في نفسه. فتشريع البداء ، مثل تشريع قبول التوبة ، والشفاعة ، وتكفير الصغائر بالاجتناب عن الكبائر ، كلّها لأجل بعث الرجاء وإيقاد نوره في قلوب العصاة والعتاة ، حتّى لا ييأسوا من روح الله ، ولا يتولّوا بتصور أنّهم من الأشقياء وأهل النار قدراً ، وأنّه لا فائدة من السعي والعمل ، فلعلم الإنسان أنّه سبحانه لم يجفّ قلمه في لوح المحو والإثبات ، وله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، يسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء «وليست مشيئته جزافية غير تابعة لضابطة عقلية» لأنّ العبد لو تاب ، وعمل بالفرائض ، وتمسّك بالعروة الوثقى ، فإنّه يخرج من سلك الأشقياء ، ويدخل في صنف السعداء ، وبالعكس. وهكذا فإنّ كلّ ما قدّر في حقّه من الموت والمرض والفقر والشقاء يمكن تغييره بالدعاء ، والصدقة ، وصلة الرحم ، وإكرام الوالدين ، وغير ذلك ، فجميع هذا من باب الرحمة الإلهية لأجل بثّ الأمل في قلب الإنسان ، وعلى هذا فالاعتقاد بذلك من ضروريات الكتاب وصريح آياته

٤٤٦

وأخبار الهداة.

وبهذا يظهر أنّ البداء من المعارف العليا التي اتّفقت عليه كلمة المسلمين ، وإن غفل عن معناه الجمهور (ولو عرفوه لأذعنوا له).

وأمّا اليهود ـ خذلهم الله ـ فقالوا باستحالة تعلّق المشيئة بغير ما جرى عليه القلم ، ولأجل ذلك قالوا : يد الله مغلولة عن القبض والبسط ، والأخذ والإعطاء ، وبعبارة أُخرى : فإنّهم يذهبون إلى أنّ للإنسان مصيراً واحداً لا يمكن تغييره ولا تبديله ، وأنّه ينال ما قدّر له من الخير والشر.

ولو صحّ ذلك لبطل الدعاء والتضرّع ، ولبطل القول بأنّ للأعمال الصالحة وغير الصالحة ممّا عددناها تأثيراً في تغيير مصير الإنسان.

على ضوء هذا البيان نتمكّن من فهم ما جاء في فضيلة البداء وأهميته في الروايات مثل ما روى زرارة عن أحدهما (الباقر أو الصادق عليهما‌السلام) : «ما عُبد الله عزوجل بشيء مثل البداء» (١).

وما روي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «ما عُظِّم الله عزوجل بمثل البداء» (٢).

إذ لو لا الإقرار بالبداء بهذا المعنى ما عُرف الله حقّ المعرفة ، بل ويبدو سبحانه في نظر العبد (بناء على عقيدة بطلان البداء) أنّه مكتوف الأيدي ، لا يقدر على تغيير ما قدّره ، ولا محو ما أثبته.

ومن الروايات في هذه المعنى ما روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال :

«لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه» (٣).

__________________

(١) البحار ٤ : ١٠٧ باب البداء ، الحديث ١٩ ، ٢٠.

(٢) التوحيد للصدوق ، باب البداء ، الحديث ٢.

(٣) الكافي ١ : ١١٥ ؛ التوحيد للصدوق ، باب البداء ، الحديث ٧.

٤٤٧

وذلك لأنّ الاعتقاد بالبداء نظير الاعتقاد بتأثير التوبة والشفاعة يوجب رجوع العبد عن التمادي في الغيِّ والضلالة ، والإنابة إلى الصلاح والهداية.

البداء في مقام الإثبات

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم : أنّ المراد من البداء في مقام الإثبات هو وقوع التغير في بعض مظاهر علمه سبحانه ؛ فإنّ لعلمه سبحانه مظاهر ، منها : ما لا يقبل التغيير ، ومنها ما يقبل ذلك.

أمّا الأوّل : فهو المعبّر عنه ب «اللوح المحفوظ» تارة وب «أُمّ الكتاب» أُخرى ، قال سبحانه : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (١). وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٢).

وقال سبحانه : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٣).

فاللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب يمكن التعبير عنه بأنّه ذلك الكتاب الذي كتب فيه ما يصيب الإنسان طيلة حياته من بلايا وفتن ونعيم وسرور بشكل لا يمكن أن يتطرّق إليها المحو والإثبات قدر شعرة ، ولأجل ذلك لو تمكّن الإنسان أن يتّصل به ، لوقف على الحوادث على ما هي عليه بلا خطأ ولا تخلّف.

أمّا الثاني : فهو لوح المحو والإثبات الذي أشار إليه سبحانه بقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٤) فالأحكام الثابتة فيه أحكام معلّقة على

__________________

(١) البروج : ٢١ ـ ٢٢.

(٢) الزخرف : ٤.

(٣) الحديد : ٢٢.

(٤) الرعد : ٣٩.

٤٤٨

وجود شرطها أو عدم مانعها ، فالتغيّر فيها لأجل إعواز شرطها أو تحقّق مانعها ، فمثلاً يمكن أن يكتب فيه الموت نظراً إلى مقتضياته في الوقت المعين المتّصل بالمقتضيات ، إلّا أنّه ربّما يمحى ويؤجل ويكتب بدله توفر الصحّة ؛ لفقدان شرط التقدير الأوّل أو طروّ مانع من تأثير المقتضي.

فالتقدير الأوّل يفرض لأجل قياس الحادث إلى مقتضيه ، كما أنّ التقدير الثاني يتصوّر بالنسبة إلى جميع أجزاء علّته ، فإنّ الشيء إذا قيس إلى مقتضيه ـ الذي يحتاج الصدور منه إلى وجود شرائط وعدم موانع ـ يمكن تقدير وجوده ، بالنظر إلى مجموع أجزاء علّته التي منها الشرائط وعدم الموانع ، ويقدّر عدمه لفرض عدم وجود شرائطه ، وتحقّق موانعه.

إذا علمت ذلك فاعلم : أنّه ربّما يتّصل النبيّ أو الوليّ بلوح المحو والإثبات ، فيقف على المقتضي من دون أن يقف على شرطه أو مانعه ، فيخبر عن وقوع شيء ما ، ولكنّه ربّما لا يتحقّق لأجل عدم تحقّق شرطه أو عدم تحقّق وجود مانعه ، وذلك هو البداء في عالم الإثبات.

وإن شئت قلت : إنّ موارد وقوع البداء حسب الإثبات من ثمرات البداء في عالم الثبوت ، ولم يرد في الأخبار من هذا القسم من البداء إلّا موارد لا تتجاوز عدد الأصابع (١) ، نشير إليه بعد الفراغ عمّا ورد في الذكر الحكيم.

تلميحات للبداء في الذكر الحكيم :

ـ قال سبحانه : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ* فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (٢).

__________________

(١) السيوطي ، الدر المنثور ٥ : ٢٨٠.

(٢) الصافات : ١٠١ ـ ١٠٢.

٤٤٩

أخبر إبراهيم عليه‌السلام ولده إسماعيل عليه‌السلام بأنّه رأى في المنام أنّه يذبحه ، ورؤيا الأنبياء (كما ورد في الحديث) من أقسام الوحي ، فكانت رؤياه صادقة حاكية عن حقيقة ثابتة ، وهي أمر الله إبراهيم بذبح ولده ، وقد تحقّق ذلك الأمر ، أي أمر الله سبحانه به.

ولكن قوله : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) يكشف عن أمرين :

أوّلاً : الأمر بذبح الولد أمر تشريعي كما عرفت وقد تحقّق.

ثانياً : الحكاية عن تحقّق ذلك في الواقع الخارجي وأنّ إبراهيم سيمتثل ذلك ، والحال أنّه لم يتحقّق لفقدان شرطه وهو عدم النسخ ، ويحكي عن كلا الأمرين قوله : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).

وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه : بأنّه كيف أخبر خليل الرحمن بشيء من الملاحم والمغيبات ، ثمّ لم يتحقّق؟ والجواب عن هذا السؤال يكمن في الأمر الذي أشرنا إليه سابقاً وهو أنّ إبراهيم عليه‌السلام وقف على المقتضى فأخبر بالمقتضي ، ولكنّه لم يقف على ما هو العلّة التامّة ، وليس لعلمه هذا مصدر سوى اتّصاله بلوح المحو والإثبات.

٢ ـ وأمّا يونس عليه‌السلام فإنّه أنذر قومه بأنّهم إن لم يؤمنوا فسوف يصيبهم العذاب إلى ثلاثة أيام (١) وما كان قوله تخرّص أو تخويف ، بل كان يخبر عن حقيقة يعلم بها ، إلّا أنّ هذا الأمر لم يقع كما هو معروف ، وفي هذا إشارة واضحة إلى أنّه عليه‌السلام وقف على المقتضي ولم يقف على المانع ، وهو أنّ القوم سيتوبون عند رؤية العذاب توبة صادقة يعلمها الله تعالى ترفع عنهم العذاب الذي وعدوا به ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٢).

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان ٣ : ١٣٥.

(٢) يونس : ٩٨.

٤٥٠

٣ ـ أخبر موسى قومه بأنّه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة ، كما روي عن ابن عبّاس حيث قال : إنّ موسى قال لقومه : إنّ ربّي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم ، فلمّا فصل موسى إلى ربّه زاده الله عشراً ، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله (١).

وإلى هذا الأمر يشير قوله سبحانه : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (٢).

فلا شكّ أنّ موسى اطّلع على الخبر الأوّل ولم يطلع على نسخه ، وأنّ التوقيت سيزيد ، ولا مصدر لعلمه إلّا الاتّصال بلوح المحو والإثبات.

هذه جملة الأخبار التي تحدَّث بها الذكر الحكيم عن أحداث ووقائع كان النبيّون عليهم‌السلام قد أخبروا بحتمية وقوعها على حدّ علمهم ، إلّا أنّها لم تتحقّق ، وعندها لا مناص من تفسيرها بوقوف أنبياء الله تعالى على المقتضي دون العلّة التامّة.

فعند ما يظهر عدم التحقّق يطلق عليه البداء ، والمراد به أنّه بدا من الله لنبيّه وللناس ما خفي عليهم ، على غرار قوله سبحانه : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (٣) فالبداء إذا نسب إلى الله سبحانه فهو بداء منه ، وإذا نسب إلى الناس فهو بداء لهم.

وبعبارة أُخرى : البداء من الله هو إظهار ما خفي على الناس ، والبداء من الناس بمعنى ظهور ما خفي لهم ، وهذا هو الحقّ الصراح الذي لا يرتاب فيه أحد.

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان ٢ : ١١٥.

(٢) الأعراف : ١٤٢.

(٣) الزمر : ٤٧.

٤٥١

تلميحات للبداء في الروايات الشريفة

وأمّا ما ورد في الروايات ، فهو بين خمسة أو أزيد بقليل :

١ ـ إنّ المسيح عليه‌السلام مرّ بقوم مجلبين (١) ، فقال : «ما لهؤلاء»؟ قيل يا روح الله فلانة بنت فلانة تهدى إلى فلان في ليلته هذه ، فقال : «يجلبون اليوم ويبكون غداً» ، فقال قائل منهم : ولم يا رسول الله؟ قال : «لأنّ صاحبتهم ميّتة في ليلتها هذه» ... فلمّا أصبحوا وجدوها على حالها ، ليس بها شيء ، فقالوا : يا روح الله إنّ التي أخبرتنا أمس أنّها ميّتة لم تمت. فدخل المسيح دارها فقال : «ما صنعت ليلتك هذه»؟ قالت : لم أصنع شيئاً إلّا وكنت أصنعه فيما مضى ، إنّه كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة فَنُنيله ما يقوته إلى مثلها. فقال المسيح : «تنحّ عن مجلسك» فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة ، عاضّ على ذنبه ، فقال عليه‌السلام : «بما صنعتِ ، صُرِفَ عنكِ هذا» (٢).

٢ ـ روي الكليني عن الإمام الصادق عليه‌السلام انّه قال : «مرّ يهودي بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : السام عليك ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : عليك. فقال أصحابه : إنّما سلّم عليك بالموت فقال : الموت عليك. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : وكذلك رددت. ثمّ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله.

قال : فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ، ثمّ لم يلبث أن انصرف ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ضعه ، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاضّ على عود ، فقال : يا يهودي ما عملت اليوم؟ قال : ما عملت عملاً إلّا حطبي هذا حملته فجئت به وكان معي كعكتان ، فأكلت واحدة وتصدّقت

__________________

(١) أي تعلو منهم أصوات الفرح.

(٢) المجلسي ، بحار الأنوار ٤ : ٩٤.

٤٥٢

بواحدة على مسكين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بها دفع الله عنه ، قال : إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان» (١).

ولا يمكن لأحدٍ تفسير مضامين الآيات الماضية وهذين الحديثين إلّا عن طريق البداء بالمعنى الذي تعرّفت عليه ، وهو اتّصال النبيّ بلوح المحو والإثبات ، والوقوف على المقتضي ، والإخبار بمقتضاه دون الوقوف على العلّة التامّة.

٣ ـ روى الصدوق عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى عرض على آدم أسماء الأنبياء وأعمارهم ، فمرّ بآدم اسم داود النبيّ عليه‌السلام فإذا عمره في العالم أربعون سنة ، فقال آدم : يا ربِّ ما أقل عمر داود وما أكثر عمري ، يا ربّ إن أنا زدت داود من عمري ثلاثين سنة ، أتثبت ذلك له؟ قال الله : نعم يا آدم ، فقال آدم : فإنّي قد زدته من عمري ثلاثين سنة» قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «فأثبت الله عزوجل لداود في عمره ثلاثين سنة» (٢).

ترى أنّه سبحانه أثبت شيئاً ، ثمّ محاه بدعاء نبيّه ، وهذا هو المراد من قوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) فلو أخبر نبيّ الله عن عمر داود بأربعين سنة لم يكن كاذباً في إخباره ؛ لأنّه وقف على الإثبات الأوّل ، ولم يقف على محوه.

٤ ـ أوحى الله تعالى إلى نبيّ من أنبيائه أن يخبر أحد ملوك عصره بأنّه تعالى متوفّيه يوم كذا ، فما كان من ذلك الملك إلّا أن رفع يديه بالدعاء إلى الله تعالى قائلاً : ربّ أخّرني حتّى يشبَّ طفلي وأقضي أمري ، فأوحى الله عزوجل إلى ذلك النبيّ : أنِ ائت فلاناً الملك وأخبره أنّي قد زدت في عمره خمس عشرة سنة (٣).

__________________

(١) المجلسي ، بحار الأنوار ٤ : ١٢١.

(٢) المجلسي ، بحار الأنوار ٤ : ١٠٢.

(٣) المجلسي ، بحار الأنوار ٤ : ١٢١ (وفي رواية أُخرى أنّ ذلك النبيّ هو حزقيل ، البحار ٤ : ١١٢ وذكر مثله في قضية شعيا ص ١١٣).

٤٥٣

٥ ـ روى عمرو بن الحمق ، قال : دخلت على أمير المؤمنين عليه‌السلام حين ضرب على قرنه ، فقال لي : «يا عمرو إنّي مفارقكم ، ثمّ قال : سنة سبعين فيها بلاء» ـ قالها ثلاثاً ـ فقلت : فهل بعد البلاء رخاء؟ فلم يجبني وأُغمي عليه ، فبكت أُمّ كلثوم فأفاق ... فقلت : بأبي أنت وأُمّي قلتَ : إلى السبعين بلاء ، فهل بعد السبعين رخاء؟ قال : «نعم يا عمرو إنّ بعد البلاء رخاء و (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ») (١).

هذه جملة ما ورد في البداء في مقام الإثبات ، وإن شئت قلت في ثمرات البداء في الثبوت ، ولا تجد في الأحاديث الشيعية بداء غير ما ذكرنا ، ولو عثر المتتبّع على مورد ، فهو نظير ما سبق من الموارد ، والتحليل في الجميع واحد.

إذا وقفت على ذلك تدرك بوضوح ضعف مقالة الرازي التي يقول فيها : إنّ أئمّة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم ، لا يظهر معهما أحد عليهم :

الأوّل : القول بالبداء ، فإذا قال : إنّهم سيكون لهم قوّة وشوكة ، ثمّ لا يكون الأمر على ما أخبروا ، قالوا : بدا لله فيه (٢).

إنّ الذي نقله أئمّة الشيعة هو ما تعرّفت عليه من الروايات ، وليس فيها شيء مما نسبه الرازي إليهم ، فقد نقلوا قصّة رسول الله مع اليهودي ، وقصة المسيح مع العروس ، كما نقلوا قصّة عمر داود وعمر الملك ، فهل يجد القارئ المنصف شيئاً مما ذكره الرازي؟!

وأمّا ما رواه عمرو بن الحمق فإنّما هو خبر واحد ذيّل كلامه بالآية قائلاً : بأنّ هذا ليس خبراً قطعياً وأنّه في مظانّ المحو والإثبات.

أفيصحّ لأجل مثله رمي أئمّة الشيعة «بأنّهم وضعوا قاعدتين ، وأنّهم كلّما

__________________

(١) المجلسي ، بحار الأنوار ٤ : ١١٩ / ح ٦٠.

(٢) الرازي ، نقد المحصل : ٤٢١ ، نقله عن سليمان بن جرير الزيدي ، والأمر الثاني هو التقية كما عرفت.

٤٥٤

يقولون سيكون لهم قوّة ثمّ لا يكون ، قالوا بدا لله تعالى فيه»؟!

وقد سبق الرازي في هذا الزعم أبو القاسم البلخي المعتزلي على ما حكاه شيخنا الطوسي في تبيانه (١).

تتمّة البحث

ثمّ إنّ إكمال البحث يتوقّف على ذكر أُمور :

الأمر الأوّل :

إنّ البداء بالمعنى المذكور يجب أن يكون على وجه لا يستلزم تكذيب الأنبياء ووحيهم ، وذلك بأن تدلّ قرائن على صحّة الإخبار الأوّل كما صحّ الخبر الثاني ، وهو ما نراه واضحاً في قصّة يونس وإبراهيم الخليل ، فإنّ القوم قد شاهدوا طلائع العذاب فأذعنوا بصحّة خبر يونس ، كما أنّ التفدية بذبح عظيم دلّت على صحّة إخبار الخليل ، وهكذا وجود الأفعى تحت الثياب أو في جوف حطب اليهودي يدلّان على صحّة إخبار النبيّ الأعظم.

كلّ ذلك يشهد على أنّ الخبر الأوّل كان صحيحاً ومقدّراً ، غير أنّ الإنسان يمكن له أن يغيّر مصيره بعمله الصالح أو الطالح كما في غير تلك المقامات.

وبالجملة : يجب أن يكون وقوع البداء مقروناً بما يدلّ على صحة إخبار النبيّ عليه‌السلام ولا يكون البداء على وجه يعدّ دليلاً على كذبه ، ففي هذه الموارد دلّت القرائن على أنّ المخبر كان صادقاً في خبره.

__________________

(١) الطوسي ، التبيان ١ : ١٣ ـ ١٤ ، ط النجف ، وقد عرفت بعض المتشدّقين بهذه الكلمة المكذوبة.

٤٥٥

الأمر الثاني :

إنّ البداء لا يتحقّق فيما يتعلّق بنظام النبوّة والولاية والخاتمية والملاحم الغيبية التي تعدّ شعاراً للشريعة ، فإذا أخبر المسيح بمجيء نبيّ اسمه أحمد ، أو أخبر النبيّ بكونه خاتماً للرسل ، أو أنّ الخلافة بعده لوصيّه ، أو أنّه يخرج من ولده من يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، ونظير ذلك ، فلا يتحقّق فيه البداء قطعاً ؛ لأنّ احتمال البداء فيه ناقض للحكمة ، وموجب لضلال العباد ، ولو كان احتمال هذا الباب مفتوحاً في تلك المسائل الأُصولية لما وجب لأحد أن يقتفي النبيّ المبشَّر به ، ولا يوالي الوصي المنصوص عليه ، ولا يتلقّى دين الإسلام خاتماً ، ولا ظهور المهدي أمراً مقضيّاً ، بحجّة أنّه يمكن أن يقع فيه البداء. ففتح هذا الباب في المعارف والعقائد والأُصول والسنن الإسلامية مخالف للحكمة وموجب لضلالة الناس ، وهذا ما يستحيل على الله سبحانه ، وإنّما مصبّ البداء هو القضايا الجزئية أو الشخصيّة ، كما هو الحال في الأخبار الماضية.

الأمر الثالث :

أنّ إطلاق البداء في هذه الموارد ، إنّما هو بالمعنى الذي عرفت ، وأنّ حقيقته بداء من الله للناس وإظهار منه ، ولو قيل بدا لله ، فإنّما هو من باب المشاكلة والمجاز ، والقرآن مليء به ، فقد نسب الذكر الحكيم إليه سبحانه المكر وقال : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (١) وليست المناقشة في التعبير من دأب المحقّقين ، فلو كان أهل السنّة لا يروقهم التعبير عن هذا الأصل بلفظ البداء لله ، فليغيّروا التعبير ويعبّروا عن هذه الحقيقة الناصعة بتعبير يرضيهم.

ولكن الشيعة تبعت النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا المصطلح ، وهو أوّل من استعمل

__________________

(١) آل عمران : ٥٤ ، وهنا آيات أُخر يستدلّ بها على المشاكلة في التعبير عن الحقائق العلوية.

٤٥٦

تلك اللفظة في حقّه سبحانه ، وما يؤكّد ذلك هو ما رواه البخاري في كتاب النبوّة «قصّة بدء الخليقة» وفيها هذه اللفظة التي يستهجنها البعض ويتّهم الشيعة بابتداعها واختلاقها ، فقد روى أبو هريرة :

أنّه سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنّ ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لله أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص فقال : أي شيء أحبّ إليك؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، قد قذرني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه فأُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً ، فقال : أيّ المال أحبّ إليك؟ قال : الإبل أو قال : البقر ـ هو شكّ في ذلك أنّ الأبرص والأقرع قال أحدهما : الإبل وقال الآخر : البقر ـ فأُعطي ناقة عشراء ، فقال : يبارك الله لك فيها.

وأتى الأقرع فقال : أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال : شعر حسن ويذهب عنّي هذا ، قد قذرني الناس. قال : فمسحه ، فذهب ، وأُعطي شعراً حسناً ، قال : فأيّ المال أحب إليك؟ قال : البقر. قال : فأعطاه بقرة حاملاً ، وقال : يبارك لك فيها.

وأتى الأعمى فقال : أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال : يردّ الله إليّ بصري ، فأُبصر به الناس ، قال : فمسحه فردّ الله إليه بصره. قال : فأيّ المال أحب إليك؟ قال : الغنم ، فأعطاه شاة والداً ، فأنتج هذان وولّد هذا ، فكان لهذا واد من إبل ، ولهذا واد من بقر ، ولهذا واد من الغنم.

ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال : رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلّا بالله ثمّ بك. أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلّغ عليه في سفري ، فقال له : إنّ الحقوق كثيرة. فقال له : كأنّي أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس ، فقيراً فأعطاك الله؟ فأجابه : لقد ورثت لكابر عن كابر! فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا ، فردّ عليه مثلما ردّ

٤٥٧

عليه هذا ، فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأعمى في صورته فقال : رجل مسكين وابن سبيل وتقطّعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلّا بالله ، ثمّ بك. أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلّغ بها في سفرى ، فقال : قد كنت أعمى فردّ الله بصري ، وفقيراً فقد أغناني ، فخذ ما شئت ، فو الله لا أجحدك اليوم بشيء أخذته لله ، فقال : أمسك مالك فإنّما ابتليتم فقد رضى الله عنك وسخط على صاحبيك» (١).

__________________

(١) البخاري ، الصحيح ٤ : ٢٠٨ ، كتاب الأنبياء ، باب ٥١ حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل.

٤٥٨

المسألة السادسة :

الرجعة في الكتاب والسنّة

إنّ فكرة الرجعة التي تحدّثت عنها بعض الآيات القرآنية والأحاديث المرويّة عن أهل بيت الرسالة ممّا يشنّع بها على الشيعة ، فكأنَّ من قال بها رأى رأياً يوجب الخروج عن الدين ، غير أنّ هؤلاء نسوا أو تناسوا أنّ أوّل من أبدى نظرية الرجعة هو الخليفة عمر بن الخطّاب ، فقد أعلن عند ما شاعت رحلة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه ما مات وليعودنّ فيقطعنّ أيدي وأرجل أقوام ...

عن أبي هريرة قال : لمّا توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قام عمر بن الخطّاب ، فقال : إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله توفّي ، وإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والله ما مات ، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ، ثمّ رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ، والله ليرجعنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما رجع موسى ، فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مات (١)!!

ولا يخفى أنّ كلام الخليفة لو كان كلاماً حقيقياً لا بدّ أن يُحمل على أنّ النبيّ ما مات موتاً لا رجوع فيه وإنّما يرجع فيقوم بما أخبر عنه الخليفة ، ولو أراد من نفي

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ٤ : ٣٠٥.

٤٥٩

موته أنّه ما زال حيّاً فهو خلاف رأي جميع الصحابة الذين اتّفقوا على موته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يكن موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمراً يدركه جميع الناس ولا يدركه الخليفة.

إنّ الرجعة بمعنى عود جماعة قليلة إلى الحياة الدنيوية قبل يوم القيامة ثمّ موتهم وحشرهم مجدّداً يوم القيامة ليس شيئاً يضادّ أُصول الإسلام ، وليس فيه إنكار لأيّ حكم ضروري ، وليس القول برجعتهم إلى الدنيا يلغي بعثهم يوم القيامة ، وكيف لا يكون كذلك وقد أخبر سبحانه عن رجوع جماعة إلى الحياة الدنيوية ، نظير :

١ ـ إحياء جماعة من بني إسرائيل (١).

٢ ـ إحياء قتيل بني إسرائيل (٢).

٣ ـ موت أُلوف من الناس وبعثهم من جديد (٣).

٤ ـ بعث عزير بعد مائة عام من موته (٤).

٥ ـ إحياء الموتى على يد عيسى عليه‌السلام (٥).

فلو كان الاعتقاد برجوع بعض الناس إلى الدنيا قبل القيامة أمراً محالاً ، فما معنى هذه الآيات الصريحة في رجوع جماعة إليها؟

ولو كان الرجوع إلى الدنيا على وجه الإطلاق تناسخاً فكيف تفسّر هذه الآيات؟

إنّ الاعتقاد بالذكر الحكيم يجرّنا إلى القول بأنّه ليس كلّ رجوع إلى الدنيا تناسخاً ، وإنّما التناسخ الباطل عبارة عن رجوع الإنسان إلى الدنيا عن طريق

__________________

(١) البقرة : ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) البقرة : ٧٢ ـ ٧٣.

(٣) البقرة : ٢٤٣.

(٤) البقرة : ٢٥٩.

(٥) آل عمران : ٤٩.

٤٦٠