أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

الشيخ جعفر السبحاني

أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6293-80-8
الصفحات: ٧٧٤

المسألة الثالثة :

الإمام المنتظر

إنّ الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر عقيدة مشتركة بين جميع المسلمين ، إلّا من أصمّه الله ، فكل من كان له إلمام بالحديث يقف على تواتر البشارة عن النبي وآله وأصحابه ، بظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجهل والظلم ، ونشر أعلام العلم والعدل ، وإعلاء كلمة الحقّ ، وإظهار الدين كلّه ، ولو كره المشركون ، وهو بإذن الله ينجي العالم من ذُلِّ العبودية لغير الله ، ويبطل القوانين الكافرة التي سنّتها الأهواء ، ويقطع أواصر التعصّبات القومية والعنصرية ، ويميت أسباب العداء والبغضاء التي صارت سبباً لاختلاف الأُمّة واضطراب الكلمة ، ومصدراً خطيراً لإيقاد نيران الفتن والمنازعات ، ويحقق الله بظهوره وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله :

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ

٤٠١

الْفاسِقُونَ) (١).

قال سبحانه : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (٢).

هذا ما اتّفق عليه المسلمون في الصدر الأوّل والأزمنة اللاحقة ، وقد تضافر مضمون قول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد ، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من ولدي ، فيملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً».

بلى إنّ جميع المسلمين يتفقون أساساً على فكرة قيام المهدي وما سيعم الأرض في عهده من العدل والأمن والخير العميم ، وإن كان هناك من اختلاف يذكر في مضمون هذا الأمر العظيم ، والحلم المنشود ، فإنّه قد لا يتجاوز في أهم نقاطه الحدود الأساسية المرتكز عليها ، والتي تتمحور أهمها في تحديد ولادته عليه‌السلام ، فانّ الأكثرية من أهل السنّة يقولون بأنّه سيولد في آخر الزمان ، وأمّا الشيعة ولاستنادهم على جملة واسعة من الروايات والأدلّة الصحيحة يذهبون إلى أنّه عليه‌السلام ولد في «سرّ من رأى» عام ٢٥٥ ه‍ ، وغاب بأمر الله سبحانه سنة وفاة والده الإمام الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام ، عام ٢٦٠ ه‍ ، وهو يحيا حياة طبيعية كسائر الناس ، غير أنّ الناس يرونه ولا يعرفونه ، وسوف يظهره الله سبحانه ليحقّق عدله.

هذا المقدار من الاختلاف لا يجعل العقيدة بالمهدي عقيدة خلافية ، ومن أراد أن يقف على عقيدة السنّة والشيعة في مسألة المهدي فعليه أن يرجع إلى الكتب التالية لمحقّقي السنّة ومحدّثيهم :

ـ «صفة المهدي» للحافظ أبي نعيم الأصفهاني.

__________________

(١) النور : ٥٥.

(٢) الأنبياء : ١٠٥.

٤٠٢

ـ «البيان في أخبار صاحب الزمان» للكنجي الشافعي.

ـ «البرهان في علامات مهدي آخر الزمان» لملّا علي المتقي.

ـ «العرف الوردي في أخبار المهدي» للحافظ السيوطي.

ـ «القول المختصر في علامات المهدي المنتظر» لابن حجر.

ـ «عقد الدرر في أخبار الإمام المنتظر» للشيخ جمال الدين الدمشقي.

من أراد التفصيل فليرجع إلى «منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر» للعلّامة الصافي ـ دام ظلّه ـ ، وإلى كتاب «المهدي عند أهل السنّة» صدر في مجلّدين وطبع في بيروت.

لعلّ الروايات والأخبار المستفيضة المؤكدة على قضية الإمام المهدي من الوفرة وقوّة الحجية بحيث لا يرقى إليها الشك والنقاش سواء في متونها أو في أسانيدها ، وعلى ذلك دأب الماضون وتبعهم اللاحقون ، إلّا ما أورده ابن خلدون في مقدمته من تضعيفه لهذه الأخبار والتشكيك في صحّتها ، وفي مدى حجيتها ، وقد فنّد مقالته محمّد صديق برسالة أسماها «إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون». قد كتب أخيراً الدكتور عبد الباقي كتاباً قيّماً في الموضوع أسماه «بين يدي الساعة» يشير فيه إلى تضافر الأخبار الواردة في حق المهدي بقوله :

«إنّ المشكلة ليست في حديث أو حديثين أو راو أو راويين ، إنّها مجموعة من الأحاديث والأخبار تبلغ الثمانين تقريباً ، اجتمع على تناقلها مئات الرواة ، وأكثر من صاحب كتاب صحيح.

لما ذا نردّ كل هذه الكمّية؟ أكلّها فاسدة؟ لو صحّ هذا الحكم لانهار الدين ـ والعياذ بالله ـ نتيجة تطرّق الشك والظن الفاسد إلى ما عداها من سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ إنّي لا أجد خلافاً حول ظهور المهدي ، أو حول حاجة العالم إليه ، وإنّما

٤٠٣

الخلاف حول من هو ، حسنى أو حسيني؟ سيكون في آخر الزمان ، أو موجود الآن؟ خفي وسيظهر؟ ظهر أو سيظهر؟ ولا عبرة بالمدّعين الكاذبين ، فليس لهم اعتبار.

ثمّ إنّي لا أجد مناقشة موضوعية في متن الأحاديث ، والذي أجده إنّما هو مناقشة وخلاف حول السند ، واتّصاله وعدم اتّصاله ، ودرجة رواته ، ومن خرّجوه ، ومن قالوا فيه.

إذا نظرنا إلى ظهور المهدي نظرة مجرّدة فإنّنا لا نجد حرجاً من قبولها وتصديقها ، أو على الأقل عدم رفضها. فإذا ما تؤيّد ذلك بالأدلّة الكثيرة ، والأحاديث المتعددة ، ورواتها مسلمون مؤتمنون ، والكتب التي نقلتها إلينا كتب قيمة ، والترمذي من رجال التخريج والحكم ، بالإضافة إلى أنّ أحاديث المهدي لها ما يصح أن يكون سنداً لها في البخاري ومسلم ، كحديث جابر في مسلم الذي فيه : «فيقول أميرهم (أي لعيسى) : تعال صلّ بنا» (١) ، وحديث أبي هريرة في البخاري ، وفيه : «كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح بن مريم وإمامكم منكم» (٢) ، فلا مانع من أن يكون هذا الأمير ، وهذا الإمام هو المهدي.

يضاف إلى هذا انّ كثيراً من السلف ـ رضي الله عنهم ـ لم يعارضوا هذا القول ، بل جاءت شروحهم وتقريراتهم موافقة لإثبات هذه العقيدة عند المسلمين» (٣).

__________________

(١) صحيح مسلم ١ (باب نزول عيسى) : ٥٩.

(٢) صحيح البخاري ، بشرح الكرماني ١٤ : ٨٨.

(٣) بين يدي الساعة للدكتور عبد الباقي : ١٢٣ ـ ١٢٥.

٤٠٤

المسألة الرابعة :

التقية

(مفهومها ، غايتها ، دليلها ، حدّها في ضوء الكتاب والسنّة)

التقية من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم ، وفي تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد التي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة ، ليصون بها نفسه أو من يمت إليه بصلة وعرضه وماله ، كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل والتنكيل (١) ولاذ بها عمّار عند ما أُخذ وأُسِر وهُدِّد بالقتل (٢) إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب والسنّة ، فمن المحتّم علينا أن نتعرّف عليها ، مفهوماً وغايةً ودليلاً وحدّاً ، حتّى نتجنَّب الإفراط والتفريط في مقام القضاء والتطبيق.

إنّ التقية ، اسم ل «اتّقى يتّقي» (٣) والتاء بدل من الواو ، وأصله من الوقاية ،

__________________

(١) القصص : ٢٠.

(٢) النحل : ١٠٦.

(٣) قال ابن الأثير في النهاية ٥ : ٢١٧ ، وأصل اتّقى : اوتقى فقلبت الواو ياء لكسرة قبلها ثمّ أُبدلت تاء وأُدغمت. ومنه حديث علي عليه‌السلام : «كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أي جعلناه وقاية من العدوّ. ولاحظ لسان العرب مادة «وقى».

٤٠٥

ومن ذلك إطلاق التقوى على إطاعة الله ؛ لأنّ المطيع يتّخذها وقاية من النار والعذاب. والمراد هو التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ.

مفهومها

إذا كانت التقيّة هي اتّخاذ الوقاية من الشرّ ، فمفهومها في الكتاب والسنّة هو : إظهار الكفر وإبطان الإيمان ، أو التظاهر بالباطل وإخفاء الحقّ. وإذا كان هذا مفهومها ، فهي تُقابل النفاق ، تَقابُل الإيمان والكفر ، فإنّ النفاق ضدّها وخلافها ، فهو عبارة عن إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، والتظاهر بالحقّ وإخفاء الباطل ، ومع وجود هذا التباين بينهما فلا يصحّ عدّها من فروع النفاق. نعم من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن ، وبه صوَّر التقية ـ الواردة في الكتاب والسنّة ـ من فروعه ، فقد فسّره بمفهوم أوسع ممّا هو عليه في القرآن ؛ فإنّه يُعرِّف المنافقين المتظاهرين بالإيمان والمبطنين للكفر بقوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) فإذا كان هذا حدُّ المنافق فكيف يعمُّ من يستعمل التقية تجاه الكفّار والعصاة ؛ فيخفي إيمانه ويظهر الموافقة لغاية صيانة النفس والنفيس ، والعرض والمال من التعرّض؟!

ويظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الإسلامي ، ولو كانت من قسم النفاق ، لكان ذلك أمراً بالقبح ويستحيل على الحكيم أن يأمر به : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢).

__________________

(١) المنافقون : ١.

(٢) الأعراف : ٢٨.

٤٠٦

غايتها

الغاية من التقيّة : هي صيانة النفس والعرض والمال ، وذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحقّ صريحاً خوفاً من أن يترتّب على ذلك مضارّ وتهلكة من قوى ظالمة غاشمة كلجوء الحكومات الظالمة إلى الإرهاب ، والتشريد والنفي ، والقتل والتنكيل ، ومصادرة الأموال ، وسلب الحقوق الحقّة ، فلا يكون لصاحب العقيدة الذي يرى نفسه محقّاً محيص عن إبطانها ، والتظاهر بما يوافق هوى الحاكم وتوجّهاته حتّى يسلم من الاضطهاد والتنكيل والقتل ، إلى أن يُحدِث الله أمراً.

إنّ التقيّة سلاح الضعيف في مقابل القويّ الغاشم ، سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله ، لا لشيء إلّا لأنّه لا يتّفق معه في بعض المبادئ والأفكار.

إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول والعمل ، والرأي والعقيدة فلا ينجو المخالف إلّا بالصمت والسكوت مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها ، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لا بدّ منها من أجل إغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الذي لا حول له ولا قوّة ، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولاً إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.

إنّ أكثر من يَعيبُ التقيّة على مستعملها ، يتصوّر أو يصوّر أنّ الغاية منها هو تأليف جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب ، كما هو المعروف من الباطنيين والأحزاب الإلحادية السرّية ، وهو تصوّر خاطئ ذهب إليه أُولئك جهلاً أو عمداً دون أن يرتكزوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة ، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يذكره؟ ولو لم تُلجئ الظروف القاهرة والأحكام المتعسّفة هذه الجموع

٤٠٧

المستضعفة من المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية ، ولما تحمّلوا عبء إخفاء معتقداتهم ولدعوا الناس إليها علناً ودون تردّد ، إلّا أنّ السيف والنطع سلاح لا تتردّد كلّ الحكومات الفاسدة من التلويح به أمام من يخالفها في معتقداتها وعقائدها.

أين العمل الدفاعي من الأعمال البدائية التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرّية للإطاحة بالسلطة وامتطاء ناصية الحكم ، فأعمالهم كلّها تخطيطات مدبّرة لغايات ساقطة.

وهؤلاء هم الذين يحملون شعار «الغايات تبرّر الوسائل» فكلّ قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشئومة.

إنّ القول بالتشابه بين هؤلاء وبين من يتّخذ التقية غطاءً ، وسلاحاً دفاعياً ليسلم من شرّ الغير ، حتّى لا يُقْتَل ولا يُستأصل ، ولا تُنهب داره وماله ، إلى أن يُحدث الله أمراً ، من قبيل عطف المباين على مثله.

إنّ المسلمين القاطنين في الاتّحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب والمحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها ولا أن تتصوّرها ؛ فإنّ الشيوعيّين وطيلة تسلّطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر المجَنّ ، فصادروا أموالهم وأراضيهم ، ومساكنهم ، ومساجدهم ، ومدارسهم ، وأحرقوا مكتباتهم ، وقتلوا كثيراً منهم قتلاً ذريعاً ووحشياً ، فلم ينج منهم إلّا من اتّقاهم بشيء من التظاهر بالمرونة ، وإخفاء المراسم الدينية ، والعمل على إقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم الله سبحانه بانحلال تلك القوّة الكافرة ، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد ، فملكوا أرضهم وديارهم ، وأخذوا يستعيدون مجدهم وكرامتهم شيئاً فشيئاً ، وما هذا إلّا ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها الله تعالى لعباده بفضله وكرمه سبحانه على المستضعفين.

٤٠٨

فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها ، وكانت هذه غايتها وهدفها ، فهو أمر فطري يسوق الإنسان إليه قبل كلّ شيء عقلُه ولبُّه ، وتدعوه إليه فطرته ، ولأجل ذلك يستعملها كلّ من ابتُلي بالملوك والساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم وسلطتهم ولا يتردّدون عن التنكيل بكلّ من يعارضهم في ذلك ، من غير فرق بين المسلم ـ شيعياً كان أم سنيّاً ـ وغيره ، ومن هنا تظهر جدوى التقية وعمق فائدتها.

ولأجل دعم هذا الأصل الحيويّ ندرس دليله من القرآن والسنّة.

دليلها في القرآن والسنّة

شرّعت التقية بنصّ القرآن الكريم حيث وردت جملة من الآيات الكريمة (١) سنحاول استعراضها في الصفحات التالية :

الآية الأُولى :

قال سبحانه : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢)

ترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً ومجاراةً للكافرين خوفاً منهم ، بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان ، وصرّح بذلك لفيف من المفسّرين القدامى والجدد ، سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم تجنّباً عن الإطالة والإسهاب ، ولمن يبتغي المزيد فعليه بمراجعة كتب التفسير المختلفة :

__________________

(١) غافر : ٢٨ و ٤٥ ، القصص : ٢٠ وستوافيك نصوص الآيات في ثنايا البحث.

(٢) النحل : ١٠٦.

٤٠٩

١ ـ قال الطبرسي : قد نزلت الآية في جماعة أُكرهوا على الكفر ، وهم عمّار وأبوه ياسر وأُمّه سميّة ، وقُتلَ الأبوان لأنّهما لم يظهرا الكفر ولم ينالا من النبيّ ، وأعطاهم عمّار ما أرادوا منه ، فأطلقوه ، ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول الله ، وانتشر خبره بين المسلمين ، فقال قوم : كفر عمّار ، فقال الرسول : «كلّا إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه».

وفي ذلك نزلت الآية السابقة ، وكان عمّار يبكي ، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول : «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» (١).

٢ ـ وقال الزمخشري : روي أنّ أُناساً من أهل مكة فُتِنُوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أُكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان ، منهم عمّار بن ياسر وأبواه : ياسر وسميّة ، وصهيب وبلال وخباب.

أمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً ... (٢).

٣ ـ وقال الحافظ ابن ماجة : «والإيتاء : معناه الإعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقيّة ، والتقيّة في مثل هذه الحال جائزة ؛ لقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)» (٣).

٤ ـ وقال القرطبي : قال الحسن : التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة ـ ثمّ قال : ـ أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل إنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بالكفر ، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي (٤).

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان ٣ : ٣٨٨.

(٢) الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل ٢ : ٤٣٠.

(٣) ابن ماجة ، السنن ١ : ٥٣ ، شرح حديث رقم ١٥٠.

(٤) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ٤ : ٥٧.

٤١٠

٥ ـ قال الخازن : «التقية لا تكون إلّا مع خوف القتل مع سلامة النيّة ، قال الله تعالى : ِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ثمّ هذه التقية رخصة» (١).

٦ ـ قال الخطيب الشربيني : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) أي على التلفّظ به (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فلا شيء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب» (٢).

ـ وقال إسماعيل حقّي : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) أُجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه ... لأنّ الكفر اعتقاد ، والإكراه على القول دون الاعتقاد ، والمعنى : ولكن المكره على الكفر باللسان ، (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) لا تتغيّر عقيدته ، وفيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند الله ، هو التصديق بالقلب» (٣).

الآية الثانية :

قال سبحانه : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٤).

وكلمات المفسّرين حول الآية تغنينا عن أيّ توضيح :

١ ـ قال الطبري : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : قال أبو العالية : التقيّة باللسان ، وليس بالعمل ، حُدّثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحّاك يقول في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) قال : التقيّة باللسان من حُمِلَ على أمر يتكلّم به وهو لله معصية فتكلّم مخافة على نفسه (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ

__________________

(١) تفسير الخازن ١ : ٢٧٧.

(٢) الخطيب الشربيني : السراج المنير في تفسير الآية.

(٣) إسماعيل حقّي : تفسير روح البيان ٥ : ٨٤.

(٤) آل عمران : ٢٨.

٤١١

بِالْإِيمانِ) فلا إثم عليه ، إنّما التقية باللسان (١).

٢ ـ وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة : مخالفة ومعاشرة ظاهرة ، والقلب مطمئنّ بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع (٢).

٣ ـ قال الرازي في تفسير قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : المسألة الرابعة : اعلم : أنّ للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها :

أ : إنّ التقية إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار ، ويخاف منهم على نفسه ، وماله ، فيداريهم باللسان ، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبّة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كلّ ما يقول ؛ فإنّ للتقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.

ب : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قتل دون ماله فهو شهيد» (٣).

٤ ـ وقال النسفي : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) إلّا أن تخافوا جهتهم أمراً يجب اتقاؤه ، أي ألّا يكون للكافر عليك سلطان ، فتخافه على نفسك ومالك ، فحينئذ يجوز لك إظهار الموالاة وإبطان المعاداة (٤).

٥ ـ وقال الآلوسي : وفي الآية دليل على مشروعية التقية ؛ وعرَّفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شرّ الأعداء. والعدوّ قسمان :

__________________

(١) الطبري ، جامع البيان ٣ : ١٥٣.

(٢) الزمخشري ، الكشّاف ١ : ٤٢٢.

(٣) مفاتيح الغيب ٨ : ١٣.

(٤) النسفي ، التفسير بهامش تفسير الخازن ١ : ٢٧٧.

٤١٢

الأوّل : من كانت عداوته مبنيّة على اختلاف الدين ، كالكافر والمسلم.

الثاني : من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية ، كالمال والمتاع والملك والإمارة (١).

٦ ـ وقال جمال الدين القاسمي : ومن هذه الآية : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار الحقّ على الخلق» (٢).

٧ ـ وفسر المراغي قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) بقوله : أي ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلّا في حال الخوف من شيء تتّقونه منهم ، فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يبقى ذلك الشيء ؛ إذ القاعدة الشرعية «إنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح».

وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين ، إذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأُولى إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة ، وليس لها أن تواليها في شيء يضرّ المسلمين ، ولا تختصّ هذه الموالاة بحال الضعف ، بل هي جائزة في كلّ وقت.

وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحقّ ، لأجل التوقّي من ضرر يعود من الأعداء إلى النفس ، أو العرض ، أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك ، وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، لا يكون كافراً بل يُعذر كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مطمئنّ بالإيمان وفيه نزلت الآية :

__________________

(١) الآلوسي ، روح المعاني ٣ : ١٢١.

(٢) جمال الدين القاسمي ، محاسن التأويل ٤ : ٨٢.

٤١٣

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (١).

هذه الجمل الوافية والعبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالاً إلّا أن يحكم بشرعية التقية بالمعنى الذي عرفته ، بل قد لا يجد أحد مفسّراً أو فقيهاً وقف على مفهومها وغايتها يتردّد في الحكم بجوازها ، كما أنّك أخي القارئ لا تجد إنساناً واعياً لا يستعملها في ظروف عصيبة ، ما لم تترتّب عليها مفسدة عظيمة ، كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها.

وإنّما المعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها ، فإنّما يفسّرها بالتقيّة الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرّية والمذاهب الهدّامة كالنصيرية والدروز ، والباطنية كلّهم ، إلّا أنّ المسلمين جميعاً بريئون من هذه التقيّة الهدامة لكلّ فضيلة رابية.

الآية الثالثة :

قال تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٢).

وكانت عاقبة أمره أن : (وقاه اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) (٣).

وما كان ذلك إلّا لأنّه بتقيّته استطاع أن يُنجي نبيّ الله من الموت : «قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» (٤).

وهذه الآيات تدلّ على جواز التقيّة لإنقاذ المؤمن من شرّ عدوّه الكافر.

__________________

(١) تفسير المراغي ٣ : ١٣٦.

(٢) غافر : ٢٨.

(٣) غافر : ٤٥.

(٤) القصص : ٢٠.

٤١٤

اتّقاء المسلم من المسلم في ظروف خاصّة

إنّ مورد الآيات وإن كان هو اتّقاء المسلم من الكافر ، ولكن المورد ليس بمخصّص لحكم الآية فقط ، إذ ليس الغرض من تشريع التقيّة عند الابتلاء بالكفّار إلّا صيانة النفس والنفيس من الشرّ ، فإذ ابتُلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردّد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر ، كأن ينكّل به أو ينهب أمواله أو يقتله ، ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة النفس والنفيس عن طريق كتمان العقيدة واستعمال التقية ، ولو كان هناك وزر إنّما يتوجّه على من يُتّقى منه لا على المتّقي ، فلو سادت الحرّية جميع الفرق الإسلامية ، وتحمّلت كلّ فرقة آراء الفرقة الأُخرى بصدر رحب ، وفهمت بأنّ ذلك هو قدر اجتهادها ، لم يضطرّ أحد من المسلمين إلى استخدام التقيّة ، ولساد الوئام مكان النزاع.

وقد فهم ذلك لفيف من العلماء وصرّحوا به ، وإليك نصوص بعضهم :

١ ـ يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) ظاهر الآية على أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين ، إلّا أنّ مذهب الشافعي ـ رضي الله عنه ـ : أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقيّة محاماة عن النفس.

وقال : التقيّة جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قتل دون ماله فهو شهيد» (١).

٢ ـ ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار الحقّ

__________________

(١) الرازي ، مفاتيح الغيب ٨ : ١٣ في تفسير الآية.

٤١٥

على الخلق» ما هذا نصه : «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران : أحدهما : خوف العارفين ـ مع قلّتهم ـ من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقيّة عند ذلك بنصّ القرآن ، وإجماع أهل الإسلام ، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ ، ولا برح المحقّ عدوّاً لأكثر الخلق ، وقد صحّ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال في ذلك العصر الأوّل : «حفظت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعاءين ، أمّا أحدهما فبثثته في الناس ، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم» (١).

٣ ـ وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) : ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة ، وإلانة الكلام لهم ، والتبسّم في وجوههم ، وبذل المال لهم ؛ لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم ، ولا يعدّ هذا من الموالاة المنهيّ عنها ، بل هو مشروع ، فقد أخرج الطبراني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة» (٢).

إنّ الشيعة تتّقي الكفار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتّقيهم السنّيّ ، غير أنّ الشيعي ولأسباب لا تخفى ، يلجأ إلى اتّقاء أخيه المسلم لا قصور في الشيعي ، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك ؛ لأنّه يدرك أنّ الفتك والقتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الذي هو موافق لأُصول الشرع الإسلامي وعقائده ، نعم كان الشيعي وإلى وقت قريب يتحاشى أن يقول : إنّ الله ليس له جهة ، أو إنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة ، وإنّ المرجعية العلمية والسياسية لأهل البيت بعد رحيل النبيّ الأكرم ، أو إنّ حكم المتعة غير منسوخ ؛ فإنّ الشيعي إذا صرّح بهذه الحقائق ـ التي استنبطت من الكتاب والسنّة ـ سوف يُعرّض نفسه ونفيسه للمهالك والمخاطر. وقد مرّ عليك كلام الرازي وجمال الدين القاسمي والمراغي الصريح في جواز هذا

__________________

(١) جمال الدين القاسمي ، محاسن التأويل : ٤ : ٨٢.

(٢) مصطفى المراغي ، التفسير ٣ : ١٣٦.

٤١٦

النوع من التقية ، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب جمود على ظاهر الآية وسدّ لباب الفهم ، ورفض للملاك الذي شُرّعت لأجله التقية ، وإعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهمّ إذا عارض المهمّ.

والتاريخ بين أيدينا يحدّثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من كبار المسلمين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تؤدي بحياتهم وبما يملكون ، وخير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه (٧ : ١٩٥ ـ ٢٠٦) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً حتّى وإن استلزم ذلك قتل الجميع دون رحمة ، ولمّا أبصر أُولئك المحدِّثون حد السيف مشهراً عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه وأسرّوا معتقدهم في صدورهم ، ولمّا عوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون ، برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أُكره على الشرك وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، والقصّة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض على التشنيع فيها على الشيعة ؛ وكأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد وأُصول إسلامية ثابتة ومعلومة.

الظروف العصيبة التى مرّت بها الشيعة

الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين إخوانهم وأبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة ، فلو لم يكن هناك في غابر القرون ـ من عصر الأُمويين ثمّ العباسيين والعثمانيين ـ أيّ ضغط على الشيعة ، ولم تكن بلادهم وعقر دارهم مخضّبة بدمائهم ـ والتاريخ خير شاهد على ذلك ـ كان من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية ، وأن تحذفها من ديوان حياتها ، ولكن يا للأسف!! فإنّ كثيراً من إخوانهم

٤١٧

كانوا أداة طيّعة بيد الأُمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم ، فكانوا يؤلِّبون العامّة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم ويضطهدونهم وينكّلون بهم ، ولذا ونتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن للشيعة ، بل لكلّ من يملك شيئاً من العقل وسيلة إلّا اللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادئ المقدّسة التي هي أغلى عنده من نفسه وماله.

والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تعدّ ، إلّا أنّا سنستعرض جانباً مختصراً منها : فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا وكيفما كانوا.

كتاب معاوية إلى عماله

قد مرّ ذكر كتاب معاوية إلى عمّاله في بحث الشيعة في موكب التاريخ فراجع.

ونتيجة لذلك شهدت أوساط الشيعة مجازر بشعة على يد السلطات الغاشمة ، فقتل الآلاف منهم ، وأمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرّض إلى شتّى صنوف التنكيل والإرهاب والتخويف ، والحق يقال إنّ من الأُمور العجيبة أن يبقى لهذه الطائفة باقية رغم كلّ ذلك الظلم الكبير والقتل الذريع ، بل العجب العجاب أن تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوّة وعدّة ، وأقامت دولاً وشيدت حضارات وبرز منها الكثير من العلماء والمفكرين.

فلو كان الأخ السنّي يرى التقية أمراً محرّماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي ، وأن لا يضيق عليه في الحرّية التي سمح بها الإسلام لأبنائه ، وليعذره في عقيدته وعمله كما عذر أُناساً كثيراً خالفوا الكتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الدور ، فكيف بطائفة تدين بدينه وتتّفق معه في كثير من معتقداته؟ وإذا كان معاوية وأبناء بيته والعباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخالفيهم ، فما ذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين؟

٤١٨

وإذا كانوا يقولون ـ وذاك هو العجيب ـ إنّ الخروج على الإمام عليّ عليه‌السلام غير مضرّ بعدالة الخارجين والثائرين عليه ، وفي مقدّمتهم طلحة والزبير وأُمّ المؤمنين عائشة ، وإنّ إثارة الفتن في صفّين ـ التي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة والتابعين ، وإراقة دماء الآلاف من العراقيين والشاميين ـ لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين ، وهم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد وأخطأ ، فلم لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم ، ويذهب إلى أنّهم معذورون ومثابون!!

نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة وتتضاءل أُخرى ، حسب قوّة الضغط وضآلته ، فشتّان ما بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت ، ويكرم العلويين ، وبين عصر المتوكّل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة.

فهذا ابن السكّيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكّل ، وقد اختاره معلّماً لولديه فسأله يوماً : أيّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ قال ابن السكّيت : والله إنّ قنبر خادم عليّ عليه‌السلام خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل : سلّوا لسانه من قفاه ، ففعلوا ذلك به فمات. وذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع وأربعين ومائتين ، وقيل ثلاث وأربعين ، وكان عمره ثمانياً وخمسين سنة. ولمّا مات سيَّر المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم وقال : هذه دية والدك!! (١).

وهذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته التي يرثي بها يحيى بن عمر ابن الحسين بن زيد بن علي :

أكلّ أوانٍ للنبيّ محمّد

قتيل زكيّ بالدماء مضرّجُ

بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم

لبلواكم عمّا قليل مفرِّجُ

__________________

(١) ابن خلّكان : وفيات الأعيان ٣ : ٣٣ ، الذهبي : سير أعلام النبلاء ١٢ : ١٦.

٤١٩

أبعد المكنّى بالحسين شهيدكم

تضيء مصابيح السماء فتسرجُ (١)

فإذا كان هذا هو حال أبناء الرسول ، فما هو حال شيعتهم ومقتفي آثارهم؟!

قال العلّامة الشهرستاني : إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية. إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها ؛ لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى ، فكانت مسلوبة الحريّة في عهد الدولة الأُموية كلّه ، وفي عهد العباسيين على طوله ، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية ، ولأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أيّ قوم ، ولمّا كانت الشيعة تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهمّ من الاعتقادات في أُصول الدين ، وفي كثير من الأحكام الفقهيّة ، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة ، وتصدّقه التجارب ، لذلك أضحت شيعة الأئمة من آل البيت مضطرة في أكثر الأحيان إلى كتمان ما تختصّ به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك ، تبتغي بهذا الكتمان صيانة النفس والنفيس ، والمحافظة على الوداد والأُخوّة مع سائر إخوانهم المسلمين ، لئلا تنشق عصا الطاعة ، ولكي لا يحسّ الكفار بوجود اختلاف ما في المجتمع الإسلامي ، فيوسع الخلاف بين الأُمّة المحمّدية.

لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقيّة وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الأُخرى ، متّبعة في ذلك سيرة الأئمة من آل محمّد وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل : «التقية ديني ودين آبائي» ، إذ أنّ دين الله يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية ، دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم (٢).

روي عن صادق آل البيت عليهم‌السلام في الأثر الصحيح : «التقية ديني ودين آبائي»

__________________

(١) ديوان ابن الرومي ٢ : ٢٤٣

(٢) غافر : ٢٨ ، النحل : ١٠٦.

٤٢٠