أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

الشيخ جعفر السبحاني

أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6293-80-8
الصفحات: ٧٧٤

تمهيد

إنّ الحديث عن دور الإنسان في بناء الحضارة البشرية حديث ذو شجون لا يسع المرء وهو يتحدّث عنه إلّا أن يتبيّن بوضوح أثر العمق العقائدي في استقرار هذه الحضارات المتلاحقة والتي تركت ـ وبلا شكّ ـ لها بعض الآثار الدالّة عليها ، وهذا العامل الداعم لقيام تلك الحضارات يكون وبلا أدنى ريب المفصل الأساسي في هيكلية ذلك البناء الكبير.

ولقد شهدت الحياة البشرية على هذا الكوكب (الأرض) حضارات متعدّدة ، لكلّ ميزاتها وخصائصها التي ضبطها التاريخ ، وأفصحت عنها الاكتشافات الأثرية.

ومن مشاهير هذه الحضارات : الحضارة الصينية ، المصرية ، البابلية ، اليونانية ، الرومانية ، الفارسية ، وأخيراً الحضارة الغربية القائمة في عصرنا الحاضر ، ولكلّ من هذه الحضارات انطباعاتها الخاصة.

وأمّا الحضارة الإسلامية والتي تتوسّط بين الحضارة الأخيرة (الغربية) وما تقدّمها فهي تعدّ بلا شكّ من أكبر الحضارات في تاريخ الإنسان وأكثرها اهتماماً بالعلم والفلسفة والأدب والفنون. وهي الأساس الوطيد الذي قامت عليه حركة

٢٤١

النهضة الأوروبية. ولقد وضع عشرات من العلماء موسوعات وكتباً لبيان ما قدّمته الحضارة الإسلامية من خدمات جليلة إلى المجتمع البشري في المجالات المختلفة.

ولا يمكن لأحد القول بأنّ الحضارة الإسلامية حضارة عربية بحتة تفرَّد العرب في إقامة بنيانها وتثبيت أركانها ، بقدر ما كانت تمثّل الجهد المتفاعل لجميع الشعوب الإسلامية بقومياتها المختلفة من عرب وفرس وترك وغيرهم من القوميات ، الذين ذابوا في الإسلام ونسوا قوميّاتهم ومشخّصاتهم العنصرية والبيئية.

ومن هنا فإنّ أيّ تعبير عن الحضارة التي سادت إبّان تلك الحقبة الزاهرة من حياة البلاد العربية وما يجاورها ، فإنّ المراد به الإشارة إلى الحضارة الإسلامية بكلّ أبعادها وأُسس بنيانها ، والتي شارك فيها جميع المسلمين ، المخلصين لرسالة السماء التي جاء بها نبيّ الرحمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إنّ المسلمين الأوائل وبفضل جهدهم المخلص في بناء حياة الأُمم والشعوب ، استطاعوا أن يقيموا للإسلام حضارة عظيمة ورائعة مترامية الأطراف كانت متوازية مع خطّ انتشار الدعوة الإسلامية ، فلا غرو أن تخفق راياتها في بقاع واسعة من العالم تمتد من حدود الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً.

بلى لقد استطاع المسلمون أن يقيموا حضارة حقيقية ترتكز على أُسس أخلاقية وعقائدية سماوية ، ضربت جذورها في أعماق البناء الإنساني واستطاعت أن تجعل منه وكما أراد خالقه له أن يكون خليفته في أرضه.

وإذا كان «ويل دورانت» في كتابه الشهير «قصّة الحضارة» قد أشار إلى أنّ الحضارة تتألّف من عناصر أربعة ، وهي :

١ ـ الموارد الاقتصادية.

٢ ـ النظم السياسية.

٣ ـ التقاليد الخلقية.

٢٤٢

٤ ـ متابعة العلوم والفنون.

وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق ؛ لأنّه إذا ما أمن الإنسان من الخوف تحرّرت في نفسه دوافع التضلّع وعوامل الإبداع والإنشاء ، وبعدئذ لا تنفكّ الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها (١).

فإنّ ما ذكره ذلك العالم الباحث من أُسس الحضارة وأركانها يرجع إلى تفسير الحضارة بالمعنى الجامع الشامل للحضارة الإلهية والماديّة ، وأمّا بالنظر إلى الحضارة المرتكزة على الأُسس الدينية فمن أهمّ أركانها توعية الإنسان في ظلال الاعتقاد بالله سبحانه واليوم الآخر ، حتى يكون هو الدافع إلى العمل والالتزام بالسلوك الأخلاقي والديني ، فالحضارة المنقطعة عن التوعية الدينية حضارة صناعية لا إنسانية ، وتمدّن مادّي وليس بإلهي.

إنّ مؤسّس الحضارة الإسلامية هو النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد جاء بسنن وقوانين دفعت البشرية إلى مكارم الأخلاق كما دفعتهم إلى متابعة العلوم والفنون ، واستغلال الموارد الطبيعية ، وتكوين مجتمع تسود فيه النظم الاجتماعية المستقيمة.

ولا يشكّ في ذلك من قرأ تاريخ الإسلام ، وتاريخ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خصوصاً إذا قارن بين حياة البشرية بعد بزوغ شمس الإسلام بما قبلها.

ثمّ إنّ المسلمين شيّدوا أركان الحضارة الإسلامية في ظل الخطوط التي رسمها النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من خلال القرآن والسنّة ، فأصبحت لهم قوّة اقتصادية ، ونظم سياسية ، وتقاليد دينية وخلقية ، وأعطوا العلوم المختلفة جلّ اهتمامهم ، فبرز منهم العديد من العلماء المتفوّقين والبارعين في شتّى مناحي العلم ، ورفدوا حركة تطوّر الحضارة البشرية بجهودهم المخلصة ، والتي تعكسها مؤلّفاتهم القيّمة والتي لا زالت حتّى يومنا هذا مثار إعجاب الجميع ، بل إنّهم عمدوا إلى ترجمة كتب العلم المختلفة

__________________

(١) ويل دورانت ، قصة الحضارة ١ : ٣.

٢٤٣

لدى غيرهم من الأُمم ، مثل الفرس واليونانيين وغيرهم ، فأغنوا المكتبة الإسلامية بسيل وافر من المؤلّفات القيّمة والمهمة.

لقد شملت الحضارة الإسلامية كلّ ميادين الحياة المختلفة ، فلم تلق جلّ جهدها في جانب واحد من جوانب الرقيّ الحضاري دون غيره ، بل شمل اهتمامها كلّ جوانب الحياة المختلفة ، وتلك حقيقة لا يمكن لأحد الإغضاء عنها ، فإذا كانت كلّ حضارة من الحضارات المعروفة قد تميّزت برقيّ في جانب واحد من الجوانب الحياتية ، سواء الاقتصادي كان أو العسكري ، فإنّ الحضارة الإسلامية تتمتّع بمجموع هذه المميزات ؛ فلم تترك ميزة دون أُخرى.

والذي يطيب لنا هنا ذكر مشاركة الشيعة في بناء هذه الحضارة ، خصوصاً فيما يتعلّق بالركن الرابع وهو متابعة العلوم والفنون ، وأمّا الأركان الثلاثة الباقية فغير مطلوبة لنا في هذا المقام ؛ وذلك لأنّ الموارد الاقتصادية شارك فيها المسلمون انطلاقاً من دوافعهم النفسية من خلال الاهتمام بالأُمور التالية :

١ ـ التنمية الزراعية بجوانبها المختلفة.

٢ ـ استخراج وصناعة المعادن المختلفة ، مثل الذهب والفضة والأحجار الكريمة بأنواعها النفيسة المختلفة.

٣ ـ إحداث القنوات المائية وبناء السدود.

٤ ـ الاهتمام بتطوير الثروة الحيوانية وتوسيعها.

٥ ـ صناعة الألبسة والأقمشة وغيرها.

٦ ـ صناعة الورق وكتابة الكتب ونشرها في العالم.

٧ ـ إيجاد المواصلات البريّة والبحريّة ، وتنظيم حركة الملاحة ، ومحاربة قطّاع الطرق واللصوص في البرّ والبحر.

٨ ـ العناية الفائقة بالتجارة ، وعقد الاتّفاقيات التجارية مع البلدان المجاورة.

٢٤٤

إلى غير ذلك ممّا يوجب ازدهار الوضع الاقتصادي ، فلا يصح إبعاد قوم عن تلك الساحة وتخصيص الازدهار الاقتصادي بطائفة دون أُخرى ؛ فإنّ الإنسان حسب الفطرة والدافع الغريزي ينساق إلى ذلك.

وأمّا النظم السياسية ؛ فإنّ الدول الإسلامية المختلفة قد ساهمت في إرساء دعائمها وتثبيت أركانها خلال سني حكمها ، ولا فرق في ذلك بين دول الشيعة منها كالحمدانيين والبويهيين والفاطميين وغيرهم كالساميين والسلاجقة وغيرهم.

وأمّا التقاليد الخلقية فقد كانت منبثقة من صميم الإسلام ، ومأخوذة من الكتاب والسنّة ، كما أنّ التقاليد القومية للشعوب المختلفة ، والتي لم تكن معارضة لمبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء فقد فسح لها الإسلام المجال ولم ينه عنها.

فلأجل ذلك نركّز على الركن الرابع من هذه الأركان الأربعة للحضارة ، وهو متابعة العلوم والفنون ، فهي الطابع الأساسي للحضارة الإسلامية ، وبها تتميّز عمّا تقدّم عليها وما تأخّر ، فنأتي بموجز عن دور الشيعة في بناء هذا الركن ـ أي ازدهار العلوم والفنون ـ ليظهر أنّهم كانوا في الطليعة ، وكان لهم الدور الأساسي في ازدهارها.

ولمّا كانت الحضارة الإسلامية تستمدّ أسباب وجودها من الكتاب والسنّة ، فكلّ من قدّم خدمة للقرآن والسنّة لفظاً ومعنى ، صورة ومادة ، فقد شارك في بناء الحضارة الإسلامية. وإليك هذا البيان تأييداً لما أسلفنا :

١ ـ قدماء الشيعة وعلم البيان

٢ ـ قدماء الشيعة وعلم النحو

إنّ دراسة القرآن بين الأُمّة ونشر مفاهيمه يتوقّف على معرفة العلوم التي تعدّ مفتاحاً له ؛ إذ لو لا تلك العلوم لكانت الدراسة ممتنعة ، ونشرها في ربوع العالم غير ميسور جدّاً. بل لو لا هذه العلوم ونضجها لحرم جميع المسلمين حتّى العرب منهم

٢٤٥

من الاستفادة من القرآن الكريم ؛ لأنّ الفتوحات فرضت على المجتمع العربي الاختلاط مع بقية القوميات ، وسبَّب ذلك خطراً على بقاء اللغة العربية ، وكان العرب عند ظهور الإسلام يعربون كلامهم على النحو الذي كان في القرآن ، إلّا من خالطهم من الموالي والمتعرّبين ، ولكن اللحن لم يكثر إلّا بعد الفتوح وانتشار العرب في الآفاق ، فشاع اللحن في قراءة القرآن ، فمسّت الحاجة الشديدة إلى ضبط قواعد اللّغة (١).

فقام أبو الأسود الدؤلي بوضع قواعد نحوية بأمر الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فأبو الأسود إمّا واضع علم النحو أو مدوّنه ، وكان من سادات التابعين ، وقد صاحب عليّاً وشهد معه صفّين ، ثمّ أقام في البصرة.

يقول الشيخ أبو الحسن سلامة الشامي النحوي : إنّ علياً دخل عليه أبو الأسود يوماً. قال : فرأيته مفكّراً ، فقلت له : ما لي أراك مفكّراً يا أمير المؤمنين؟ قال : «إنّي سمعت من بعض الناس لحناً ، وقد هممت أن أضع كتاباً أجمع فيه كلام العرب».

فقلت : إن فعلت ذلك أحييت أقواماً من الهلاك.

فألقى إليَّ صحيفة فيها : «الكلام كلّه اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما دلّ على المسمّى ، والفعل ما دلّ على حركة المسمّى ، والحرف ما أنبأ عن معنى وليس باسم ولا فعل». وجعل يزيد على ذلك زيادات.

قال : واستأذنته أن أصنع في النحو ما صنع ، فأذن ، وأتيته به فزاد فيه ونقص.

وفي رواية : أنّه ألقى إليه الصحيفة وقال له : «انحَ نحو هذه» فلهذا سمّي النحو نحواً (٢).

__________________

(١) جرجي زيدان : تاريخ آداب اللغة العربية ١ : ٢١٩.

(٢) حسن الصدر ، تأسيس الشيعة : ٥١ ولقد بلغ الغاية في ذلك المجال فنقل كلمات المؤرّخين فيما قام به الإمام وتلميذه في تأسيس علم النحو.

٢٤٦

ومن المعلوم أنّ هذه القواعد لم تكن لتسد الحاجة الملحّة ، ولكن أبا الأسود قام بإكمالها وضبطها وبتمييز المنصوب من المرفوع ، والاسم من الفعل ، بعلامات نسمّيها الإعراب. فالروايات مجمعة على أنّ أبا الأسود (وهو شيعي المذهب توفّي سنة (٦٩ ه‍) إمّا مدوّن علم النحو أو واضعه ، وأضحى ما دوّنه مصدراً لهذا العلم في العصور اللاحقة.

وهناك كلام لابن النديم دونك لفظه ، يقول :

قال محمّد بن إسحاق : زعم أكثر العلماء أنّ النحو أُخذ عن أبي الأسود الدؤلي ، وأنّ أبا الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

ثمّ نقل عن الطبري وقال : إنّما سمّي النحو نحواً لأنّ أبا الأسود الدؤلي قال لعليّ عليه‌السلام وقد ألقى عليه شيئاً من أُصول النحو ، قال أبو الأسود : واستأذنته أن أصنع نحو ما صنع. فسمّي ذلك نحواً (١).

٢ ـ وإذا كان أبو الأسود الدؤلي واضعاً للنحو ، فالخليل بن أحمد الفراهيدي هو المنقّح له والباسط له. قال أبو بكر محمّد بن الحسن الزبيدي : والخليل بن أحمد ، أوحد العصر ، وفريد الدهر ، وجهبذ الأُمّة ، وأُستاذ أهل الفطنة ، الذي لم ير نظيره ، ولا عرف في الدنيا عديله ، وهو الذي بسط النحو ومدّ أطنابه وبيّن علله وفتق معانيه وأوضح الحجاج فيه ، حتّى بلغ أقصى حدوده ، وانتهى إلى أبعد غايته ... وسيوافيك أنّ الخليل من أصحاب الإمام الصادق ومن شيعته.

ثمّ إنّ علماء الفريقين شاركوا في إنضاج هذا العلم وإيصاله إلى القمّة. وليس للمنصف بخس حق طائفة لمصالح أُخرى ، ولكن لمّا كان الهدف هو بيان دور الشيعة في تطوير العلوم وتتبّعها فانّا نذكر من ألّف في علم النحو من قدماء الشيعة فقط ، ومنهم :

__________________

(١) ابن النديم ، الفهرست : ٦٦ وللكلام صلة فمن أراد فليرجع إلى المصدر.

٢٤٧

١ ـ عطاء بن أبي الأسود : قال الشيخ الطوسي في باب أصحاب الحسين بن عليّ : ومنهم ابن أبي الأسود الدؤلي.

وقال الحافظ السيوطي في الطبقات : عطاء ، أُستاذ الأصمعي وأبو عبيدة (١).

٢ ـ أبو جعفر محمّد بن الحسن بن أبي سارة الرواسي الكوفي : قال السيوطي : هو أوّل من وضع من الكوفيين كتاباً في النحو وسمّاه الفيصل ، وهو أُستاذ الكسائي والفرّاء (٢).

قال النجاشي : روى هو وأبوه عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام وله : كتاب الوقف والابتداء ، وكتاب الهمز ، وكتاب إعراب القرآن (٣).

٣ ـ حمران بن أعين ، أخو زرارة بن أعين : كان نحوياً إماماً فيه ، عالماً بالحديث واللغة والقرآن ، أخذ النحو والقراءة عن ابن أبي الأسود ، وأخذ عنه الفرّاء ، وكان قد أخذ الحديث عن الإمام السجّاد والباقر والصادق. وآل أعين بيت كبير بالكوفة من أجلّ بيوت الشيعة ، ولأبي غالب الزراري رسالة في ترجمة آل أعين قال : كان حمران من أكابر مشايخ الشيعة وكان عالماً بالنحو واللغة (٤).

٤ ـ أبو عثمان المازني ، بكر بن محمّد : قال النجاشي : كان سيّد أهل العلم بالنحو والعربية واللغة ، ومقدّمته بذلك مشهورة ، وكان من علماء الإمامية ، قد تأدّب على يد إسماعيل بن ميثم (٥) ، له في الأدب : كتاب التصريف ، كتاب ما يلحن فيه العامة ،

__________________

(١) تأسيس الشيعة : ٦٥.

(٢) المصدر نفسه : ص ٦٧.

(٣) النجاشي : الرجال ٢ : ٢٠٠ / ٨٨٤.

(٤) أبو غالب ، رسالة في آل أعين : ٢ ـ ٣ بتلخيص.

(٥) وهو من أئمّة المتكلّمين الشيعة.

٢٤٨

التعليق. مات سنة ٢٤٨ ه‍ (١).

٥ ـ ابن السكيت ، يعقوب بن إسحاق السكيت : كان مقدّماً عند أبي جعفر (الجواد) وأبي الحسن (الهادي) عليهما‌السلام وكانا يختصّانه. وله عن أبي جعفر عليه‌السلام رواية ومسائل ، وقتله المتوكّل لأجل تشيّعه عام ٢٤٤ ه‍ ، وأمره مشهور. وكان وجيهاً في علم العربية واللغة ، ثقة ، مصدّقاً ، لا يطعن عليه. وله كتب : إصلاح المنطق ، كتاب الألفاظ ، كتاب ما اتّفق لفظه واختلف معناه ، كتاب الأضداد ، كتاب المذكّر والمؤنث ، كتاب المقصور والممدود ، و... (٢).

وسبب قتله : أنّ المتوكّل سأله يوماً وهو يعلّم ابنيه وقال : يا يعقوب ، أيّهما أحبّ إليك ، ابناي هذان ، أم الحسن والحسين؟ فأجابه : «انّ قنبر خادم علي خير منك ومن ابنيك» فأمر المتوكّل ، فسلّوا لسانه من قفاه فمات ، وقد خلّف بضعة وعشرين أثراً في النحو واللغة والشعر (٣).

٦ ـ ابن حمدون ، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود بن حمدون : قال فيه النجاشي : الكاتب النديم شيخ أهل اللغة ووجههم. أُستاذ أبي العبّاس (٤) وكان خصّيصاً بسيّدنا أبي محمّد العسكري وأبي الحسن قبله. له كتب. ثمّ ذكر كتبه (٥).

٧ ـ أبو إسحاق النحوي ، ثعلبة بن ميمون : قال عنه النجاشي : كان وجهاً في أصحابنا ، قارئاً ، فقيهاً ، نحويّاً ، لغويّاً ، راوية ، وكان حسن العمل ، كثير العبادة

__________________

(١) النجاشي ، الرجال ١ : ٢٧٢ / ٢٧٧ وذكره ابن النديم في أخبار النحويين واللغويين : ٩٠ ، والخطيب البغدادي في تاريخ مدينة بغداد ج ٧ / ٣٥٢٩.

(٢) رجال النجاشي ٢ : ٤٢٥ / ١٢١٥.

(٣) جرجي زيدان : تاريخ آداب اللغة العربية ١ : ٤٢٤ وترجمه ابن خلّكان في وفياته ، وياقوت في طبقات الأُدباء وغيرهم.

(٤) يريد ثعلباً (٢٠٠ ـ ٢٩١ ه‍).

(٥) النجاشى : الرجال ١ : ٢٣٧ / ٢٢٨.

٢٤٩

والزهد ، روى عن الصادق والكاظم (١). وبما أنّ الإمام الكاظم توفّي عام مائة وثلاثة وثمانين ، فهو من أهل المائة الثانية.

٨ ـ قتيبة النحوي الجعفي الكوفي : قال النجاشي : المؤدّب ، المقرئ ، ثقة عين ، روى عن الصادق عليه‌السلام (٢).

وذكره السيوطي في بغية الوعاة ، ووصفه في تأسيس الشيعة بأنّه إمام أهل النحو واللغة (٣).

٩ ـ إبراهيم بن أبي البلاد : قال النجاشي : كان ثقة ، قارئاً ، أديباً ، روى عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام (٤).

١٠ ـ محمّد بن سلمة اليشكري : قال النجاشي : جليل من أصحابنا الكوفيين ، عظيم القدر ، فقيه ، قارئ ، لغوي ، راوية ، خرج إلى البادية ولقى العرب وأخذ عنهم. وأخذ عنه يعقوب بن السكّيت. ثمّ ذكر كتبه (٥) ، وبما أنّه شيخ ابن السكيت فهو من أهل المائة الثانية وأوائل الثالثة.

١١ ـ أبو عبد الله النحوي ، الحسين بن أحمد بن خالويه : سكن حلب ومات بها ، وكان عارفاً بمذهبنا ، مع علمه بعلوم العربية ، واللغة ، والشعر. وله كتب ، ومن كتبه : مستحسن القراءات والشواذّ ، كتاب في اللغة (٦).

ووصفه السيوطي في الطبقات : إنّه إمام اللغة والعربية ، وغيرهما من العلوم الأدبية ، دفن ببغداد سنة ٣١٤ ه‍.

__________________

(١) المصدر نفسه : ١ : ٢٩٤ / ٣٠٠ ، وذكره ابن حجر في لسان الميزان ج ٢ برقم ٣٣٢.

(٢) المصدر نفسه : ٢ : ١٨٥ / ٨٦٧.

(٣) تأسيس الشيعة : ٧٦.

(٤) النجاشي ، الرجال ١ : ١٠٢ / ٣١.

(٥) المصدر نفسه ٢ : ٢١٨ / ٨٩٧.

(٦) المصدر نفسه ١ : ١٨٨ / ١٥٩.

٢٥٠

١٢ ـ أبو القاسم التنوخي : قال الشيخ رشيد الدين بن شهرآشوب : إنّه من جملة الشعراء المجاهرين بالشعر في مدح أهل البيت.

وقال ياقوت : كان في النحو وحفظ الأحكام وعلم الهيئة والعروض قدوة ، وكان يحفظ من اللغة والنحو شيئاً عظيماً (١).

ما ذكرناه نماذج من أئمّة اللغة من الشيعة الإمامية في القرون الأُولى ، وأمّا من وليهم من الأئمّة فحدّث عنهم ولا حرج ، فإنّ ذكر أسمائهم ونبذٍ من حياتهم يدفعنا إلى تأليف كتاب مفرد ، وقد كفانا في ذلك ما كتبه السيد الصدر في هذا المجال ، فقد بلغ النهاية ، وقد ذكر أئمّة النحو من الشيعة إلى القرن السابع (٢) فبلغوا (١٤٠) إماماً وأُستاذاً ومؤلّفاً في الأدب العربي ، ولا سيما النحو ، وبينهم شخصيات بارزة كالشريف المرتضى والشريف الرضى وابن الشجريّ الذي يقول في حقّه السيوطي : كان أوحد زمانه ، وفرد أوانه في علم العربية ومعرفة اللغة وأشعار العرب ، توفّي عام (٥٤٢ ه‍).

ونجم الأئمّة الرضي الاسترآبادي ، إلى غير ذلك من الشخصيات البارزة.

٣ ـ قدماء الشيعة وعلم الصرف

إنّ أوّل من دوّن الصرف أبو عثمان المازني ، وكان قبل ذلك مندرجاً في علم النحو ، كما ذكره في كشف الظنون ، وشرحه أبو الفتح عثمان بن جنّي المتوفّى في (٣٩٢ ه‍) (٣).

وأبسط كتاب في الصرف ، ما كتبه نجم الأئمّة محمّد بن الحسن الاسترآبادي

__________________

(١) تأسيس الشيعة : ٩١.

(٢) لاحظ تأسيس الشيعة : ٣٩ ـ ١٣٧.

(٣) كشف الظنون ١ : ٢٤٩ مادة «كافية».

٢٥١

الغروي ، وله شرح الشافية في الصرف ، كما له شرح الكافية في النحو ، وكلا كتابيه جليل الخطر ، محمود الأثر ، قد جمع فيهما بين الدلائل والمباني.

قال في كشف الظنون : للكافية شروح أعظمها شرح الشيخ رضيّ الدين محمّد ابن الحسن الطوسي الاسترآبادي النحوي. قال السيوطي : لم يؤلّف عليها ، بل ولا في غالب كتب النحو مثله جمعاً وتحقيقاً ، فتداوله الناس واعتمدوا عليه ، وله فيه أبحاث كثيرة ومذاهب ينفرد بها ، فرغ من تأليفه سنة (٦٨٣ ه‍).

أقول : فرغ من شرح الكافية سنة (٦٨٦ ه‍) في النجف الأشرف ، كما هو مذكور في آخر الكتاب.

ولنكتف بهذا المقدار عن مساهمة الشيعة مع غيرهم في بناء الأدب العربي ، وتجديد قواعده وإرسائها في مجالي النحو والصرف ، وفيما ذكرناه غنى وكفاية.

٤ ـ قدماء الشيعة وعلم اللغة

ونريد بعلم اللغة : الاشتغال بألفاظ اللغة من حيث أُصولها ، واشتقاقاتها ومعانيها ، وهو يعدّ بحقّ من العلوم الإنسانية التي ساهمت بشكل مباشر في إقامة صرح الحضارة الإسلامية ، وقد ظهر في ميدان هذا العلم المهم جملة واسعة من علماء الشيعة ، خلَّفوا آثاراً مهمة أصبحت زاداً لطلّاب العلم والمعرفة ، ومن هؤلاء الأفاضل :

١ ـ أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد البصري الفراهيدي الأزدي : سيد أهل الأدب ، وهو أوّل من ضبط اللغة ، وأوّل من استخرج علم العروض إلى الوجود ، فهو أسبق العرب إلى تدوين اللغة وترتيب ألفاظها على حروف المعجم ، فألّف كتابه «العين» الذي جمع فيه ما كان معروفاً في أيّامه من ألفاظ اللغة ، وأحكامها ، وقواعدها ، ورتّب ذلك على حروف الهجاء ، لكنّه رتّب الحروف حسب مخارجها

٢٥٢

من الحلق ، فاللسان ، فالأسنان ، فالشفتين ، وبدأ بحرف العين وختمها بحروف العلّة «وا ي» وسُمِّي الكتاب بأوّل لفظ من ألفاظه (١).

وكان الكتاب مخطوطاً عزيز النسخة ، لكنّه رأى النور أخيراً وطبع محقّقاً.

والخليل بن أحمد الذي لا يشكّ أحد في تشيّعه من أعلام القرن الثاني الهجري ، قال المرزباني : إنّه ولد عام مائة من الهجرة وتوفّي سنة (١٧٠) أو (١٧٥ ه‍) ، وقال ابن قانع : إنّه توفّي سنة (١٦٠ ه‍) (٢).

قد ألّف كتاباً في الإمامة ، أورده بتمامه محمّد بن جعفر المراغي في كتابه ، واستدرك عليه ما لم يذكره وأسماه «الخليلي».

قال النجاشى : محمّد بن جعفر بن محمّد ، أبو الفتح الهمداني الوادعي المعروف ب «المراغي» كان يتعاطى الكلام ، له : كتاب مختار الأخبار ، كتاب الخليلي في الإمامة ، وكتاب ذكر المجاز من القرآن (٣).

قال العلّامة في الخلاصة : كان خليل بن أحمد أفضل الناس في الأدب وقوله حجّة فيه واخترع علم العروض ، وفضله أشهر من أن يذكر ، وكان إماميّ المذهب (٤).

وقال ابن داود : الخليل بن أحمد شيخ الناس في علوم الأدب ، فضله وزهده أشهر من أن يخفى ، كان إماميّ المذهب (٥).

٢ ـ أبان بن تغلب بن رباح الجريري : من أصحاب الباقر والصادق ، قال

__________________

(١) آداب اللغة العربية : ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

(٢) المامقاني : تنقيح المقال ١ : ٤٠٣ / ٣٧٣٩.

(٣) النجاشي : الرجال ٢ : ٣١٨ / ١٠٥٤.

(٤) العلّامة الحلّي ، الخلاصة ، القسم الأول : ٦٧.

(٥) ابن داود الحلّي : الرجال ، القسم الأول : ٨٨ / ٥٧٤.

٢٥٣

النجاشي : كان قارئاً من وجوه القرّاء ، فقيهاً ، لغوياً ، سمع من العرب ، وحكى عنهم (١).

وقال ياقوت : ذكره أبو جعفر الطوسي في مصنّفي الإمامية. وقال : هو ثقة جليل القدر عظيم المنزلة ، وقال : كان قارئاً ، فقيهاً ، لُغويّاً ، نبيهاً ، ثبتاً (٢).

٣ ـ ابن حمدون النديم : شيخ أهل اللغة ووجههم وأُستاذ أبي العباس ثعلب (٣).

٤ ـ أبو بكر محمّد بن الحسن بن دريد الأزدي : الأديب اللغوي ، صاحب الجمهرة في اللغة ، مات هو وأبو هاشم الجبّائي في يوم واحد ، فقال الناس : مات علم اللغة والكلام. وألّف كتاب «جمهرة اللغة» على منوال كتاب «العين» للخليل ، واختصره الصاحب بن عباد وسمّاه «جوهرة الجمهرة» (٤).

٥ ـ الصاحب بن عباد : عظيم الشأن ، جليل القدر في العلم والأدب ، وألّف الصدوق (٣٠٦ ـ ٣٨١ ه‍) كتاب عيون أخبار الرضا عليه‌السلام لأجله ، ومن كتبه في اللغة : «المحيط» عشرة مجلدات ، قد عرفت تلخيص «الجوهرة» ، وأمّا تشيّعه فحدّث عنه ولا حرج.

وكم له من قصائد في مدح أهل البيت نذكر منها :

ألم تعلموا أنّ الوصيّ هو الذي

آتى الزكاة وكان في المحراب

ألم تعلموا أنّ الوصيّ هو الذي

حكم الغدير له على الأصحاب (٥)

وهكذا فإنّنا نتوقّف عند هذا الحد من إيراد نماذج من كبار القدماء الذين

__________________

(١) النجاشي : الرجال ١ : ٧٣ / ٦.

(٢) ياقوت : معجم الأدباء ١ : ١٠٧.

(٣) الطوسي : الفهرست ١١ : ٥٦. وقد تقدم ذكره في أساتذة النحو.

(٤) الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد ٢ : ١٩٥.

(٥) الغدير ٤ : ٦٦ وله قصائد أُخرى مذكورة فيه

٢٥٤

شاركوا المسلمين في تأسيس العلوم العربية وتطويرها ، ومن أراد التفصيل فليطلبه من محالّه (١).

٥ ـ قدماء الشيعة وعلم العروض

كما أسلفنا سابقاً من أنّ الشيعة بمفكّريها كانت هي المبتكرة لعلم النحو بتوجيه من الإمام علي عليه‌السلام باب علم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّها أيضاً المبتكرة لعلم العروض والمؤسسة لبنيانه الشامخ ، وإليك أسماء بعض روّاده ورجاله :

١ ـ الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري : قال ابن خلّكان : هو الذي استنبط علم العروض وأخرجه إلى الوجود ، وحصر أقسامه في خمس دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحراً (٢).

٢ ـ كافي الكفاة الصاحب بن عباد : الطائر الصيت ، له كتاب الإقناع في العروض (٣).

وقد توالى التأليف بعده إلى عصرنا هذا ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المعاجم حول مصنّفات الشيعة الإمامية.

ومن أبرز ما ألّف في العروض أخيراً أثران :

أحدهما : للسيد الشريف هبة الدين الشهرستاني (١٣٠١ ـ ١٣٨٦ ه‍) أسماه «رواشح الفيوض في علم العروض» وقد طبع في طهران (١٣٢٤ ه‍).

ثانيهما : منظومة رصينة قيّمة قلّما رأى الدهر مثلها للشيخ مصطفى

__________________

(١) لاحظ تأسيس الشيعة للسيد الصدر فقد ترجم فيه (٢٤) شخصاً كلّهم من أقطاب علم اللغة ، وللمناقشة في بعض ما ذكره وإن كان له مجال لكنّه لا يحطّ من عظم الجهد الذي بذله في طريق تأليفه.

(٢) وفيات الأعيان ٢ : ٢٤٤ / ٢٢٠.

(٣) قال في كشف الظنون ١ : ١٤٠ : الاقناع في العروض لأبي القاسم إسماعيل عباد الوزير المعروف بالصاحب المتوفّى سنة (٣٨٥ ه‍) ، كشف الظنون ١ : ١٣٢.

٢٥٥

التبريزي (١٢٩٨ ـ ١٣٣٨ ه‍) شرحها العلّامة أبو المجد الشيخ محمّد رضا الأصفهاني (١٢٨٦ ـ ١٣٦٢ ه‍) وأسماها «أداء المفروض في شرح أُرجوزة العروض» وإليك مستهلّها :

الحمد لله على إسباغ ما

أولى لنا من فضله وأنعما

وخصّنا منه بواف وافر

من بحر جوده المديد الزاخر

صلّى على نبيّنا المختار

ما عاقب الليل على النهار

وآله معادن الرسالة

بهم يداوي علل الجهالة

خذها ودع عنك رموز الزامرة

كعادة تجلى عليك بارزة

تجمع كلّ ظاهر وخافِ

في علمي العروض والقوافي (١)

٦ ـ قدماء الشيعة وطرائف الشعر

لا نريد من الشعر في المقام الألفاظ المسبوكة ، والكلمات المنضَّدة على أحد الأوزان الشعرية ، وانّما نريد منه ما يحتوي على المضامين العالية في الحياة ، وما يبثّ روح الجهاد في الإنسان ، أو الذي يشتمل على حجاج في الدين أو تبليغ للحقّ.

وعلى مثل هذا الشعر بنيت الحضارة الإنسانية ، وهو مقياس ثقافة الأُمّة ورقيّها ، وله خلود عبر القرون لا تطمسه الدهور والأيّام.

فما نقرأه في الذكر الحكيم من التنديد بالشعراء من قوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) (٢) ، إنّما يراد بذلك الشعراء المأجورون الذين يتاجرون بالشعر فيقلبون الحقائق ، ويصنعون من الظالم مظلوماً ، ومن المظلوم ظالماً ، ولأجل ذلك

__________________

(١) نحتفظ منها بنسخة بخطّ السيد الإمام الخميني قدس‌سره وفرغ من نسخها عام ١٣٤٦ ه

(٢) الشعراء : ٢٢٤.

٢٥٦

قال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ») (١).

ومن هنا فإنّا نعني بحديثنا هنا أُولئك الشعراء الذين أوقفوا أشعارهم في خدمة كلمة الحق وإعلاء شأن الدين الحنيف. ولقد ظهرت في سماء الشعر وفي القرون الأُولى للعهد الإسلامي من بين رجالات الشيعة طائفة من الشعراء حظوا برعاية أهل البيت عليهم‌السلام وتقديرهم.

وإليك أسماء بعض من شعراء الشيعة مع ذكر أبيات من شعرهم الخالد :

١ ـ قيس بن سعد بن عبادة :

سيّد الخزرج ، والصحابي الجليل ، كان زعيماً مطاعاً ، كريماً ممدوحاً ، وكان من شيعة عليّ عليه‌السلام ومن أشدّ المتحمّسين له ، بعثه أميراً على مصر سنة (٣٦ ه‍) ، وهو وأبوه وأهل بيته من الذين لم يبايعوا أبا بكر وقالوا : لا نبايع إلّا عليّاً (٢).

ومن أشعاره التي أنشدها بين يدي أمير المؤمنين عليه‌السلام في صفّين :

قلتُ لما بغى العدوّ علينا

حسبنا ربّنا ونعم الوكيلُ

حسبنا الذي فتح البص

 ـ رة بالأمس والحديث الطويلُ

وعليٌّ إمامنا وإمامٌ

لسوانا أتى به التنزيلُ

يوم قال النبيّ من كنت مو

لاه فهذا مولاه خطبٌ جليلُ

إنّما قاله النبيّ على الأُمّ

 ـ ة حتمٌ ما فيه قالٌ وقيلُ (٣)

__________________

(١) الشعراء : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(٢) الطبري ، التاريخ ٣ : ٤٦٢.

(٣) المفيد ، الفصول المختارة : ٨٧ ؛ الكراجكي ، كنز الفوائد : ٢٣٤ ؛ سبط ابن الجوزي ، تذكرة الخواص : ٢٠

٢٥٧

٢ ـ الكميت بن زيد (٦٠ ـ ١٢٦ ه‍) :

شاعر مقدم ، عالم بلغات العرب ، خبير بأيّامها ، ومن شعراء مضر. كان معروفاً بالتشيّع لبني هاشم ، مشهوراً بذلك ، وقد حظي بتقدير أئمّة أهل البيت لإجهاره بالحق ، ولجهاده في سبيله ، وهاشمياته المقدّرة ب ٥٧٨ بيتاً خلّدت ذكراه في التاريخ وهي مشتملة على ميمية وبائية ورائية وغيرها.

وإليك أبياتاً من عينيّته :

ويوم الدوح دوح غدير خمٍ

أبان له الولاية لو أُطيعا

ولكن الرجال تبايعوها

فلم أر مثلها خطراً مبيعا

إلى أن قال :

أضاعوا أمر قائدهم فضلّوا

وأقومهم لدى الحدثان ريعا

تناسوا حقّه وبغوا عليه

بلا ترة وكان لهم قريعا

فقل لبني أُميّة حيث حلّوا

وإن خفت المهنّد والقطيعا

ولقد طبع ديوان الكميت غير مرّة ، وشرحه الأُستاذ محمد شاكر الخيّاط والأُستاذ الرافعي (١).

٣ ـ السيد الحميري (ت ١٧٣ ه‍) :

أبو هاشم إسماعيل بن محمّد الملقّب بالسيّد ، الشاعر المعروف ، ومن المكثرين المجيدين ، ومن الثلاثة الذين عدّوا أكثر الناس شعراً في الجاهلية والإسلام وهم : «السيّد» و «بشار» و «أبو العتاهية» ، وكان السيّد الحميري متفانياً في حبّ العترة الطاهرة فلم يكن يرى لمناوئيهم حرمة وقدراً ، وكان يشدّد النكير عليهم في كلّ

__________________

(١) اقرأ حياة الكميت في الغدير ٢ : ١٨٠ ـ ٢١٢.

٢٥٨

موقف ويهجوهم بألسنة حداد في كلّ حول وطول.

ومن قصائده المعروفة عينيّته ، وقد شرحها عدة من الأُدباء ومستهلّها :

لأُمّ عمرو باللوى مربَع

طامسة أعلامها بلقعُ

تروع عنها الطير وحشيّة

والوحشُ من خيفته تفزعُ (١)

٤ ـ دعبل الخزاعي (المتوفّى ٢٤٦ ه‍) :

أبو عليّ دعبل بن عليّ الخزاعي ، من بيت علم وفضل وأدب ، يرجع نسبه إلى بديل بن ورقاء الخزاعي الذي دعا له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال النجاشي : أبو علي الشاعر المشهور في أصحابنا ، صنّف كتاب طبقات الشعراء ، ومن أراد التوغّل في حياته وسيرته فليقرأ النواحي الأربعة من حياته :

١ ـ تهالكه في ولائه لأهل البيت عليهم‌السلام.

٢ ـ نبوغه في الشعر والأدب والتاريخ وتآليفه.

٣ ـ روايته للحديث والرواة عنه ومن يروي عنهم.

٤ ـ سيرته مع الخلفاء ثمّ ملحه ونوادره ثمّ ولادته ووفاته (٢).

وإليك مطلع تائيّته المعروفة :

تجاوبن بالأرنان والزفراتِ

نوائح عجم اللفظ والنطقات

٥ ـ الأمير أبو فراس الحمداني (٣٢٠ ـ ٣٥٧ ه‍) :

أبو فراس الحارث بن أبي العلاء ، قال عنه الثعالبي : كان فرد دهره ، وشمس

__________________

(١) اقرأ ترجمة السيّد في الغدير ٢ : ٢١٣ ـ ٢٨٩

(٢) لاحظ حياته في الغدير ٢ : ٣٦٩ ـ ٣٨٦. وقد تقدّم الكلام في تائيته في الفصل الأوّل والثاني من هذا الكتاب فراجع.

٢٥٩

عصره ، أدباً وفضلاً وكرماً ونبلاً ومجداً وبلاغة وبراعة وفروسية وشجاعة ، وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة ، والسهولة والجزالة ، والعذوبة والفخامة ، والحلاوة والمتانة (١).

وتبعه في إطرائه والثناء عليه ابن عساكر.

من قصائده المعروفة ميميّته التي مستهلّها :

الحقّ مهتضم والدين مخترم

وفيء آل رسول الله مقتسمُ

والناس عندك لا ناس فيحفظهم

سوم الرعاة ولا شاءٌ ولا نعمُ

إلى أن قال :

يا للرجال أما لله منتصر

من الطغاة أما لله منتقم

بنو عليّ رعايا في ديارهم

والأمر تملكه النسوان والخدمُ

إلى أن قال :

أبلغ لديك بني العباس مالكةً

لا يدّعوا ملكها ملّاكها العجمُ

أيّ المفاخر أمست في منازلكم

وغيركم آمر فيها ومحتكمُ

أنّى يزيدكم في مفخر علَمٌ

وفي الخلاف عليكم يخفق العلمُ

يا باعة الخمر كُفّوا عن مفاخركم

لمعشرٍ بَيْعهم يوم الهياج دمُ (٢)

ويطيب لي في هذا المقام أن أُشير إلى أسماء بعض من أنجبتهم مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام في حلبة الشعر والأدب في القرن الرابع والخامس ، من أُناس معدودين في القمّة ، يمكن للقارئ الكريم أن يجد الشيء الكثير عن حياتهم في دواوينهم ، أو في كتب الأدب المختلفة :

__________________

(١) يتيمة الدهر : ٢٧٠.

(٢) الغدير ٣ : ٣٩٩ ـ ٤٠١

٢٦٠