أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

الشيخ جعفر السبحاني

أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6293-80-8
الصفحات: ٧٧٤

قيل لي أنت أحسن الناس طراً

في فنون من الكلام النبيه

لك من جيّد القريض مديحٌ

يثمر الدر في يديّ مجتنيه

فعلامَ تركت مدح ابن موسى

والخصال التي تجمّعن فيه

قلت لا أستطيع مدح إمامٍ

كان جبريلُ خادماً لأبيه

وقال فيه عليه‌السلام أيضاً :

مطهّرون نقيّات جيوبهم

تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

من لم يكن علوياً حين تنسبه

فما له في قديم الدهر مفتخر

الله لمّا برا خلقاً فأتقنه

صفّاكُم واصطفاكم أيّها البشر

فأنتم الملأ الأعلى وعندكم

علم الكتاب وما جاءت به السور (١)

شهادته عليه‌السلام

واستشهد في طوس من أرض خراسان في صفر ٢٠٣ ه‍ ، وله يومئذ ٥٥ سنة.

ولما استشهد الإمام عليه‌السلام دفن في مدينة طوس في قبر ملاصق لقبر هارون الرشيد ، وقبر الإمام الرضا الآن مزار مهيب يتقاطر المسلمون على زيارته والتبرك به.

فسلام الله عليه يوم ولد ، ويوم استشهد ، ويوم يبعث حيّاً.

__________________

(١) ابن خلّكان ، وفيات الأعيان ٣ : ٢٧٠

٢٠١

الإمام التاسع :

أبو جعفر محمّد بن عليّ الجواد عليه‌السلام

ولادته عليه‌السلام

ولد بالمدينة المنورة في شهر رمضان من سنة خمس وتسعين بعد المائة ، فورث الشرف من آبائه وأجداده ، واستسقت عروقه من منبع النبوّة ، وارتوت شجرته من منهل الرسالة.

إمامته عليه‌السلام

قام بأمر الولاية بعد شهادة والده الرضا عليه‌السلام عام ٢٠٣ ه‍ ، واستشهد ببغداد عام ٢٢٠ ه‍ ، أدرك خلافة المأمون وأوائل خلافة المعتصم.

أمّا إمامته ووصايته فقد وردت فيها النصوص الوافرة (١).

لقّب بالجواد والقانع والمرتضى والنجيب والتقيّ والزكيّ وغيرها من الألقاب الدالّة على علو شأنه وارتفاع منزلته.

__________________

(١) انظر الكافي ١ : ٣٢٠ ـ ٣٢٣ ، إثبات الهداة ٣ : ٣٢١ ـ ٣٢٨.

٢٠٢

استقدامه إلى بغداد

لمّا توفّي الرضا عليه‌السلام كان الإمام الجواد في المدينة ، وقام بأمر الإمامة بوصية من أبيه وله من العمر تسع أو عشر سنين ، وكان المأمون قد مارس معه نفس السياسة التي مارسها مع أبيه عليه‌السلام خلافاً لأسلافه من العباسيين ، حيث إنّهم كانوا يتعاملون مع أئمّة أهل البيت بالقتل والسجن ، وكان ذلك يزيد في قلوب الناس حبّاً لأهل البيت وبغضاً للخلفاء ، ولمّا شعر المأمون بذلك بدّل ذلك الأُسلوب بأُسلوب آخر وهو استقدام أهل البيت من موطنهم إلى دار الخلافة لكي يشرف على حركاتهم وسكناتهم ، وقد استمرّت هذه السياسة في حقّهم إلى الإمام الحادي عشر كما ستعرف.

وما كان من المأمون عند ما استقدم الإمام إلى مركز الخلافة ، إلّا أن شغف به لما رأى من فضله مع صغر سنّه وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان ، فزوّجه ابنته أُمّ الفضل وحملها معه إلى المدينة ، وكان حريصاً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره ، ونحن نكتفي في المقام بذكر أمرين :

١ ـ لمّا توفّي الإمام الرضا عليه‌السلام وقدم المأمون بغداد ، اتّفق أنّ المأمون خرج يوماً يتصيّد ، فاجتاز بطرف البلدة وصبيان يلعبون ومحمّد الجواد واقف عندهم ، فلمّا أقبل المأمون فرّ الصبيان ووقف محمّد الجواد ، وعمره آنذاك تسع سنين ، فلمّا قرب منه الخليفة قال له : يا غلام ما منعك أن لا تفرّ كما فرّ أصحابك؟! فقال له محمّد الجواد مسرعاً : «يا أمير المؤمنين فرّ أصحابي فرقاً والظنّ بك حسن أنّه لا يفرّ منك من لا ذنب له ، ولم يكن بالطريق ضيق فانتحي عن أمير المؤمنين» فأعجب

٢٠٣

المأمون كلامه وحسن صورته فقال له : ما اسمك يا غلام؟ قال : «محمّد بن عليّ الرضا عليه‌السلام» فترحّم على أبيه (١).

٢ ـ لمّا أراد المأمون تزويج ابنته أُمّ الفضل من الإمام الجواد ثقل ذلك على العباسيين وقالوا له : ننشدك الله أن تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ؛ فانّا نخاف أن تخرج به عنّا أمراً قد ملّكناه الله! وتنزع منّا عزّاً قد ألبسناه الله! فقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً ، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم ، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا حتى كفى الله المهمّ من ذلك ـ إلى أن قالوا ـ : إنّ هذا الفتى وإن راقك منه هديه ؛ فإنّه صبي لا معرفة له ؛ فأمهله حتّى يتأدّب ويتفقّه في الدين ثمّ اصنع ما ترى.

قال المأمون : ويحكم إنّي أعرف بهذا الفتى منكم ، وإنّ أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى وإلهامه ، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب من الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال ، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر حتّى يتبيّن لكم ما وصفت لكم من حاله. قالوا : رضينا.

فخرجوا واتّفق رأيهم على أنّ يحيى بن أكثم يسأله مسألة وهو قاضي الزمان فأجابهم المأمون على ذلك.

واجتمع القوم في يوم اتّفقوا عليه ، وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ففعل ذلك ، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه ، وقام الناس في مراتبهم ، والمأمون جالس في دست متّصل بدست أبي جعفر عليه‌السلام.

فقال يحيي بن أكثم للمأمون : أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟

فقال : استأذنه في ذلك.

فأقبل عليه يحيى وقال : أتأذن لي ـ جعلت فداك ـ في مسألة؟

__________________

(١) الفصول المهمّة : ٢٦٦.

٢٠٤

فقال : «سل إن شئت».

فقال : ما تقول ـ جعلت فداك ـ في مُحْرم قتل صيداً؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «في حلّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً كان بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم غيرها؟ من صغار الصيد أم كبارها؟ مصرّاً كان على ما فعل أو نادماً؟ ليلاً كان قتله للصيد أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً؟».

فتحيّر يحيى وبان في وجهه العجز والانقطاع ، وتلجلج حتّى عرف أهل المجلس أمره.

فقال المأمون : الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ، ثمّ قال لأبي جعفر عليه‌السلام : اخطب لنفسك فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجك أُمّ الفضل ابنتي (١).

ولمّا تمّ الزواج قال المأمون لأبي جعفر : إن رأيت ـ جعلت فداك ـ أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المُحْرم الصيد لنعلمه ونستفيده.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة ، فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً ؛ فإن قتل فرخاً في الحلّ فعليه حمل قد فطم من اللّبن ، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة ، وإن كان نعامة فعليه بدنة ، وإن كان ظبياً فعليه شاة ، فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة ، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحج نحره بمنى ، وإن كان إحرامه بالعمرة نحره

__________________

(١) الإرشاد : ٣١٩ ـ ٣٢١ ، إعلام الورى : ٣٥٢ وللقصّة صلة فراجع.

٢٠٥

بمكّة ، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء ، وفي العمد له المأثم وهو موضوع عنه في الخطأ ، والكفّارة على الحرّ في نفسه ، وعلى السيّد في عبده ، والصغير لا كفّارة عليه وهي على الكبير واجبة ، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة ، والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة».

فقال له المأمون : أحسنت يا أبا جعفر ... (١).

رجوعه عليه‌السلام إلى المدينة

ثمّ إنّ أبا جعفر بعد أن أقام مدّة في بغداد هاجر إلى المدينة وسكن بها مدّة إلى أن توفّي المأمون وبويع المعتصم ، ولم يزل المعتصم متفكّراً في أبي جعفر يخاف من اجتماع الناس حوله ووثوبه على الخلافة ، فلأجل ذلك مارس نفس السياسة التي مارسها أخوه المأمون من قبله فاستقدم الإمام الجواد عليه‌السلام إلى بغداد سنة ٢٢٠ (٢) وبقي فيها عليه‌السلام حتى توفّي في آخر ذي القعدة من تلك السنة ، وله من العمر ٢٥ سنة وأشهر. ودفن عند جدّه موسى بن جعفر في مقابر قريش.

وقال ابن شهرآشوب : إنّه قبض مسموماً (٣).

فسلام الله على إمامنا الجواد يوم ولد ، ويوم مات أو استشهد بالسمّ ، ويوم يبعث حيّاً.

__________________

(١) الإرشاد : ٣٢٢.

(٢) وفي الإرشاد : ص ٣٢٦ ، وفي إعلام الورى : ص ٣٠٤ : وكان سبب ورود الإمام إلى بغداد إشخاص المعتصم له من المدينة ، فورد بغداد لليلتين بقيتا من محرّم الحرام سنة ٢٢٥ ه‍ ... ثمّ يقول : وكان له يوم قبض ٢٥ سنة.

ولا يخفى أنّه لو كان تاريخ وروده إلى بغداد هي سنة ٢٢٥ ه‍ ، يكون له يوم وفاته ٣٠ سنة من العمر لأنّه ولد عام ١٩٥ ه‍.

(٣) ابن شهرآشوب ، المناقب ٤ : ٣٧٩.

٢٠٦

الإمام العاشر :

أبو الحسن عليّ بن محمّد الهادي عليه‌السلام

ولادته وإمامته عليه‌السلام

ولد عام ٢١٢ ه‍ ، وهو من بيت الرسالة والإمامة ، ومقر الوصاية والخلافة ، وثمرة من شجرة النبوّة.

قام عليه‌السلام بأمر الإمامة بعد والده الإمام الجواد عليه‌السلام ، وقد عاصر خلافة المعتصم والواثق والمتوكّل والمنتصر والمستعين والمعتز ، وله مع هؤلاء قضايا لا يتّسع المقام لذكرها.

قال ابن شهرآشوب : كان أطيب الناس مهجة ، وأصدقهم لهجة ، وأملحهم من قريب ، وأكملهم من بعيد ، إذا صمت علَتْه هيبة الوقار ، وإذا تكلّم سماه البهاء (١).

وقال عماد الدين الحنبلي : كان فقيهاً إماماً متعبّداً (٢).

__________________

(١) ابن شهرآشوب ، مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٠١ ط قم.

(٢) شذرات الذهب ٢ : ١٢٨ في حوادث سنة ٢٥٤.

٢٠٧

وقال المفيد : تقلّد الإمامة بعد أبي جعفر ابنه أبو الحسن عليّ بن محمّد ، وقد اجتمعت فيه خصال الإمامة وثبت النص عليه بالإمامة ، والإشارة إليه من أبيه بالخلافة (١).

وقد تضافرت النصوص على إمامته عن طرقنا ، فمن أراد فليرجع إلى الكافي وإثبات الهداة وغيرهما من الكتب المعدّة لذلك (٢).

المتوكّل ومواقفه الشنيعة مع الإمام عليه‌السلام

لقد مارس المتوكّل نفس الأُسلوب الخبيث الذي رسمه المأمون ثمّ أخوه المعتصم من إشخاص أئمّة أهل البيت من موطنهم وإجبارهم على الإقامة في مقرّ الخلافة ، وجعل العيون والحرّاس عليهم حتى يطّلعوا على دقيق حياتهم وجليلها.

وكان المتوكّل من أخبث الخلفاء العباسيين ، وأشدّهم عداءً لعليّ ، فبلغه مقام عليّ الهادي بالمدينة ومكانته هناك ، وميل الناس إليه ، فخاف منه (٣) ، فدعا يحيى ابن هرثمة وقال : اذهب إلى المدينة ، وانظر في حاله وأشخصه إلينا.

قال يحيى : فذهبت إلى المدينة ، فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله ، خوفاً على عليّ الهادي ، وقامت الدنيا على ساق ؛ لأنّه كان مُحْسِناً إليهم ، ملازماً للمسجد لم يكن عنده ميل إلى الدنيا.

قال يحيى : فجعلت أُسكِنهم وأحلِف لهم أنّي لم أُومر فيه بمكروه ، وأنّه لا بأس عليه ، ثمّ فتّشت منزله فلم أجد فيه إلّا مصاحف وأدعية وكتب العلم ، فعظم في

__________________

(١) الارشاد : ٣٢٧.

(٢) الكلينى ، الكافي ١ : ٣٢٣ ـ ٣٢٥ ؛ الشيخ الحرّ العاملي ، إثبات الهداة ٣ : ٣٥٥ ـ ٣٥٨.

(٣) روي أنّ بريحة العباسي أحد أنصار المتوكل وأزلامه كتب إليه : إن كان لك بالحرمين حاجة فأخرج منها عليّ بن محمد ؛ فإنّه قد دعا الناس إلى نفسه وتبعه خلق كثير.

٢٠٨

عينى ، وتولّيت خدمته بنفسى ، وأحسنت عشرته ، فلمّا قدمت به بغداد ، بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان والياً على بغداد ، فقال لي : يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله ، والمتوكّل مَنْ تعلَم ، فإن حرّضته عليه قتله ، كان رسول الله خصمك يوم القيامة. فقلت له : والله ما وقعت منه إلّا على كلّ أمر جميل.

ثمّ صرت به إلى «سرّ من رأى» فبدأت ب «وصيف» التركي ، فأخبرته بوصوله ، فقال : والله لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك ، فلمّا دخلت على المتوكّل سألني عنه فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته ، وأنّي فتّشت داره ولم أجد فيها إلّا المصاحف وكتب العلم ، وأنّ أهل المدينة خافوا عليه ، فأكرمه المتوكّل وأحسن جائزته وأجزل برّه ، وأنزله معه سامراء (١).

ومع أنّ الإمام كان يعيش في نفس البلد الذي يسكن فيه المتوكّل ، وكانت العيون والجواسيس يراقبونه عن كثب ، إلّا أنّه وشي به إلى المتوكّل بأنّ في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم ، وأنّه عازم على الوثوب بالدولة ، فبعث إليه جماعة من الأتراك ، فهاجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً ، ووجدوه في بيت مغلق عليه ، وعليه مدرعة من صوف وهو جالس على الرمل والحصى ، وهو متوجّه إلى الله تعالى يتلو آيات من القرآن ، فحمل على حاله تلك إلى المتوكل وقالوا له : لم نجد في بيته شيئاً ، ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة ، وكان المتوكّل جالساً في مجلس الشراب فأُدخل عليه والكأس في يده ، فلمّا رآه هابه وعظّمه وأجلسه إلى جانبه ، وناوله الكأس التي كانت في يده ، فقال الإمام عليه‌السلام : «والله ما خامر لحمي ودمي قط ، فاعفني» فأعفاه ، فقال له : انشدني شعراً ، فقال عليّ : «أنا قليل الرواية للشعر» فقال : لا بدّ ، فأنشده وهو جالس عنده :

__________________

(١) سبط ابن الجوزي ، تذكرة الخواص : ٣٢٢.

٢٠٩

«باتوا على قلل الأجبال تحرسهم

غلب الرجال فما أغنتهم القلل

واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم

وأُسكنوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهمُ صارخ من بعد دفنهم

أين الأسرّة والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعّمة

من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الدود يقتتل (١)

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا»

فبكى المتوكّل حتى بلّتْ لحيته دموع عينه وبكى الحاضرون ، ورفع إلى عليّ أربعة آلاف دينار ثمّ ردّه إلى منزله مكرّماً (٢).

آثاره العلمية

روى الحفّاظ والرواة عن الإمام أحاديث كثيرة في شتّى المجالات من العقيدة والشريعة ، وقد جمعها المحدّثون في كتبهم ، وبثّها الحرّ العاملي في كتابه الموسوم ب «وسائل الشيعة» على أبواب مختلفة ، وممّا نلفت إليه النظر أنّ للإمام عليه‌السلام بعض الرسائل ؛ وهي :

١ ـ رسالته في الردّ على الجبر والتفويض وإثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين ، أوردها بتمامها الحسن بن علي بن شعبة الحرّاني في كتابه الموسوم ب «تحف العقول» (٣).

٢ ـ أجوبته ليحيى بن أكثم عن مسائله ، وهذه أيضاً أوردها الحرّاني في تحف العقول.

__________________

(١) ربّما يروى «ينتقل»

(٢) المسعودي ، مروج الذهب ٤ : ١١.

(٣) تحف العقول ٢٣٨ ـ ٣٥٢.

٢١٠

٣ ـ قطعة من أحكام الدين ، ذكرها ابن شهرآشوب في المناقب.

ولأجل إيقاف القارئ على نمط خاصّ من تفسير الإمام نأتي بنموذج من هذا التفسير :

قُدّم إلى المتوكّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحدّ ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب ، كتب : «يضرب حتى يموت» فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلّة ، فكتب : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (١) ، فأمر به المتوكّل فضرب حتّى مات (٢).

شهادته عليه‌السلام

توفّي أبو الحسن عليه‌السلام في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين ودفن في داره بسرّمن رأى ، وخلّف من الولد أبا محمّد الحسن ابنه وهو الإمام من بعده ، والحسين ، ومحمّد ، وجعفر ، وابنته عائشة ، وكان مقامه بسرّمن رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهر ، وتوفّي وسنّه يومئذ على ما قدمناه إحدى وأربعون سنة (٣).

وقد ذكر المسعودي في إثبات الوصيّة «تفصيل كيفية وفاته وتشييعه وإيصاء الإمامة لابنه أبي محمّد العسكري» فمن أراد فليراجع (٤).

__________________

(١) غافر : ٨٤ ـ ٨٥.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٠٣ ـ ٤٠٥.

(٣) الإرشاد : ٣٢٧.

(٤) إثبات الوصية : ٢٥٧.

٢١١

الإمام الحادي عشر :

أبو محمّد الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام

أبو محمّد الحسن بن علي الهادي بن محمّد الجواد ، أحد أئمّة أهل البيت ، والإمام الحادي عشر ، الملقب بالعسكري ، ولد عام ٢٣٢ ه‍ (١) ، وقال الخطيب في تاريخه (٢) وابن الجوزي في تذكرته (٣) : أنّه ولد عام ٢٣١ ه‍ وأشخص والده إلى العراق سنة ٢٣٦ ه‍ وله من العمر أربع سنين وعدّة شهور ، وقام بأمر الامامة والقيادة الروحية بعد شهادة والده ، وقد اجتمعت فيه خصال الفضل ، وبرز تقدّمه على كافة أهل العصر ، واشتهر بكمال الفعل والعلم والزهد والشجاعة (٤) ، وقد روى عنه لفيف من الفقهاء والمحدّثين يربو عددهم على ١٥٠ شخصاً (٥). وتوفّي عام ٢٦٠ ه‍ ودفن في داره التي دفن فيها أبوه بسامراء.

وخلّف ابنه المنتظر لدولة الحق ، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة

__________________

(١) الكليني الكافي ١ : ص ٥٠٣.

(٢) الخطيب تاريخ بغداد ٧ : ٣٦٦.

(٣) ابن الجوزي تذكرة الخواص : ص ٣٢٢.

(٤) المفيد ، الارشاد : ص ٣٣٥.

(٥) العطاردي ، مسند الإمام العسكري وقد جمع فيه كلّ ما روي عنه وأُسند إليه.

٢١٢

الوقت ، وشدّة طلب السلطة ، واجتهادها في البحث عن أمره ، ولكنّه سبحانه حفظه من شرار أعدائه كما حفظ سائر أوليائه كإبراهيم الخليل وموسى الكليم ، فقد خابت السلطة في طلبهما والاعتداء عليهما.

وقد اشتهر الإمام بالعسكري لأنّه منسوب إلى عسكر ، ويراد بها سرّ من رأى التي بناها المعتصم ، وانتقل إليها بعسكره ، حيث أشخص المتوكل أباه عليّاً إليها وأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر فنُسب هو وولده إليها (١). قال سبط ابن الجوزي : كان عالماً ثقة روى الحديث عن أبيه عن جدّه ومن جملة مسانيده حديث في الخمر عزيز.

ثمّ ذكر الحديث عن جدّه أبي الفرج الجوزيّ في كتابه المسمّى ب «تحريم الخمر» ، ثمّ ساق سند الحديث إلى الحسن العسكري وهو يسند الحديث إلى آبائه إلى علي بن أبي طالب وهو يقول : «أشهد بالله لقد سمعت محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : أشهد بالله لقد سمعت جبرائيل يقول : أشهد بالله لقد سمعت ميكائيل يقول : أشهد بالله لقد سمعت إسرافيل يقول : أشهد بالله على اللوح المحفوظ أنّه قال : سمعت الله يقول : شارب الخمر كعابد الوثن» (٢).

ولقد وقع سبط ابن الجوزي في الاشتباه عند ما توهّم أنّ اسناد الإمام عليه‌السلام هذا الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مختص بهذا المورد ، ولكن الحقيقة غير ذلك ، فإنّ أحاديث أهل البيت مروية كلّها عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهم لا يروون في مجال الفقه والتفسير والأخلاق والدعاء إلّا ما وصل إليهم عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريق آبائهم وأجدادهم ، ومروياتهم لا تعبّر عن آرائهم الشخصية ، فمن قال بذلك وتصوّر كونهم مجتهدين مستنبطين ، فقد قاسهم بالآخرين ممن يعتمدون على آرائهم

__________________

(١) ابن خلّكان ، وفيات الأعيان ٢ : ٩٤.

(٢) تذكرة الخواص : ص ٣٢٤.

٢١٣

الشخصية ، وهو في قياسه خاطئ ؛ منذ نعومة أظفارهم إلى أن لبّوا دعوة ربّهم لم يختلفوا إلى أندية الدروس ، ولم يحضروا مجلس أحد من العلماء ، ولا تعلّموا شيئاً من غير آبائهم ، فما يذكرونه من علوم ورثوها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وراثة غيبية لا يعلم كنهها إلّا الله سبحانه والراسخون في العلم.

وهذا الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام يبيّن هذا الأمر بوضوح لا لبس فيه ، حيث يقول : «إنّ حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدي علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، وحديث علي أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحديث رسول الله قول الله عزوجل» (١).

وروى حفص بن البختري ، قال : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك ، فقال : «ما سمعته منّي فاروه عن أبي ، وما سمعته منّي فاروه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

فأئمّة المسلمين على حد قول القائل :

ووال أُناساً نقلهم وحديثهم

روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري

ولقد عاتب الإمام الباقر عليه‌السلام سلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة حيث كانا يأخذان الحديث من الناس ولا يهتمان بأحاديث أهل البيت ، فقال لهما : «شرّقا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلّا شيئاً خرج من عندنا أهلَ البيت».

ورغم أنّ الخلفاء العباسيين قد وضعوا الإمام تحت الإقامة الجبرية وجعلوا عليه عيوناً وجواسيساً ، ولكن روى عنه الحفّاظ والرواة أحاديث جمّة في شتى المجالات ، بل يروى أنّ الإمام عليه‌السلام ورغم كلّ ذلك كان على اتّصال مستمر بالشيعة الذين كان عددهم يقدر بعشرات الملايين ، وحيث كان لا مرجع لهم سوى الإمام عليه‌السلام.

__________________

(١) الارشاد : ص ٢٧٤.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٨ ، الباب الثامن من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٨٦.

٢١٤

كما أنّ الكلام عن أخلاقه وأطواره ، ومناقبه وفضائله ، وكرمه وسخائه ، وهيبته وعظمته ، ومجابهته للخلفاء العباسيين بكل جرأة وعزّة وما نقل عنه من الحكم والمواعظ والآداب ، يحتاج إلى تأليف مفرد وكفانا في ذلك علماؤنا الأبرار ، بيد أنّا نشير إلى لمحة من علومه.

١ ـ لقد شغلت الحروف المقطّعة بال المفسّرين فضربوا يميناً وشمالاً ، وقد أنهى الرازي أقوالهم فيها في أوائل تفسيره الكبير إلى قرابة عشرين قولاً ، ولكن الإمام عليه‌السلام عالج تلك المعضلة بأحسن الوجوه وأقربها للطبع ، فقال : «كذبت قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا سحر مبين تقوّله ، فقال الله : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ) أي : يا محمّد ، هذا الكتاب الذي نزّلناه عليك هو الحروف المقطّعة التي منها «ألف» ، «لام» ، «ميم» وهو بلغتكم وحروف هجائكم ، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم ، ثمّ بيّن أنّه لا يقدرون عليه بقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١)» (٢).

وقد روي هذا المعنى عن أبيه الإمام الهادي عليه‌السلام (٣).

٢ ـ كان أهل الشغب والجدل يلقون حبال الشك في طريق المسلمين فيقولون إنّكم تقولون في صلواتكم : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أو لستم فيه؟ فما معنى هذه الدعوة؟ أو أنّكم متنكّبون عنه فتدعون ليهديكم إليه؟ ففسّر الإمام الآية قاطعاً لشغبهم فقال : «أدِم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمالنا».

__________________

(١) الإسراء : ٨٨.

(٢) الصدوق ، معاني الأخبار : ص ٢٤ ، وللحديث ذيل فمن أراد فليرجع إلى الكتاب.

(٣) الكليني : الكافي ج ١ كتاب العقل والجهل الحديث : ص ٢٠ ، ٢٤ ـ ٢٥.

٢١٥

ثمّ فسّر الصراط بقوله : «الصراط المستقيم هو : صراطان : صراط في الدنيا وصراط في الآخرة ، أمّا الأوّل فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل ، وأمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة الذي هو مستقيم ، لا يعدلون عن الجنّة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنّة» (١) ، وكان قد استفحل أمر الغلاة في عصر الإمام العسكري ونسبوا إلى الأئمّة الهداة أُموراً هم عنها براء ، ولأجل ذلك يركّز الإمام على أنّ الصراط المستقيم لكل مسلم هو التجنّب عن الغلو والتقصير.

٣ ـ ربّما تغتر الغافل بظاهر قوله سبحانه : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ويتصوّر أنّ المراد من النعمة هو المال والأولاد وصحّة البدن ، وإن كان كلّ هذا نعمة من الله ، ولكنّ المراد من الآية بقرينة قوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٢) هو نعمة التوفيق والهداية ، ولأجل ذلك نرى أنّ الإمام يفسّر هذا الإنعام بقوله : «قولوا اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك ، وهم الذين قال الله عزوجل : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) ثمّ قال : ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحّة البدن وإن كان كلّ هذا نعمة من الله ظاهرة» (٣).

٤ ـ لقد تفشّت آنذاك فكرة عدم علمه سبحانه بالأشياء قبل أن تخلق ، تأثراً بتصورات بعض المدارس الفكرية الفلسفية الموروثة من اليونان ، فسأله محمّد بن صالح عن قول الله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٤) فقال : «هل

__________________

(١) الصدوق معاني الأخبار : ص ٣٣.

(٢) الفاتحة : ٧.

(٣) المصدر نفسه : ٣٦.

(٤) الرعد : ٣٩ :

٢١٦

يمحو إلّا ما كان وهل يثبت إلّا ما لم يكن»؟

فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقوله هشام الفوطي : إنّه لا يعلم الشيء حتى يكون ، فنظر إليَّ شزراً ، وقال : «تعالى الله الجبّار العالم بالشيء قبل كونه ، الخالق إذ لا مخلوق ، والربّ إذ لا مربوب ، والقادر قبل المقدور عليه» (١).

__________________

(١) المسعودي ، اثبات الوصية : ص ٢٤١.

٢١٧

الإمام الثاني عشر :

المهدي ابن الحسن المنتظر عليه‌السلام

هو أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري الحجّة ، الخلف الصالح ، ولد عليه‌السلام بسرّمن رأى ليلة النصف من شعبان ، سنة خمس وخمسين ومائتين ، وله من العمر عند وفاة أبيه خمس سنين ، آتاه الله الحكم صبيّاً كما حدث ليحيى ، حيث قال سبحانه : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (١) ،

وجعله إماماً وهو طفل ، كما جعل المسيح نبيّاً وهو رضيع قال سبحانه عن لسانه وهو يخاطب قومه : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٢).

اتّفق المسلمون على ظهور المهدي في آخر الزمان لإزالة الجهل والظلم ، والجور ، ونشر أعلام العدل ، وإعلاء كلمة الحق ، وإظهار الدين كلّه ولو كره المشركون ، فهو بإذن الله ينجي العالم من ذلّ العبودية لغير الله ، ويلغي الأخلاق والعادات الذميمة ، ويبطل القوانين الكافرة التي سنّتها الأهواء ، ويقطع أُواصر التعصّبات القومية والعنصرية ، ويمحي أسباب العداء والبغضاء التي صارت سبباً

__________________

(١) مريم : ١٢.

(٢) مريم : ٣٠.

٢١٨

لاختلاف الأُمّة وافتراق الكلمة ، ويحقّق الله سبحانه بظهوره وعده الذي وعد به المؤمنين بقوله :

١ ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (١).

٢ ـ (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (٢).

٣ ـ (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (٣).

وتشهد الأُمّة بعد ظهوره عليه‌السلام عصراً ذهبياً لا يبقى فيه على الأرض بيت إلّا ودخلته كلمة الإسلام ، ولا تبقى قرية إلّا وينادى فيها بشهادة «لا إله إلّا الله» بكرة وعشياً.

أقول : لقد تواترت النصوص الصحيحة والأخبار المروية من طريق أهل السنّة والشيعة المؤكدة على إمامة أهل البيت عليه‌السلام ، والمشيرة صراحة إلى أنّ عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل ، وأنّ آخر هؤلاء الأئمّة هو الذي يملأ الأرض ـ في عهده ـ عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، وأنّ أحاديث الإمام الثاني عشر الموسوم بالمهدي المنتظر قد رواها جملة من محدثي السنَّة في صحاحهم المختلفة كأمثال الترمذي (المتوفّى عام ٢٩٧ ه‍) ، وأبي داود (المتوفّى عام ٢٧٥ ه‍) وغيرهم ؛ حيث

__________________

(١) النور : ٥٥.

(٢) القصص : ٥.

(٣) الأنبياء : ١٠٥.

٢١٩

أسندوا رواياتهم هذه إلى جملة من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصحابته ، أمثال علي ابن أبي طالب عليه‌السلام ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر عليه‌السلام وأُمّ سلمة زوجة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة وغيرهم :

١ ـ روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو لم يبق من الدهر إلّا يوم واحد لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً» (١).

٢ ـ أخرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي» (٢).

٣ ـ أخرج أبو داود عن أُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «المهدي من عترتي من ولد فاطمة» (٣).

٤ ـ أخرج الترمذي عن ابن مسعود : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي» (٤).

إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة التي بلغت أعلى مراتب التواتر على وجه حتّى قال الدكتور عبد الباقي : إنّ المشكلة ليست مشكلة حديث أو حديثين أو راو أو راويين ، إنّها مجموعة من الأحاديث والآثار تبلغ الثمانين تقريباً ، اجتمع على تناقلها مئات الرواة وأكثر من صاحب كتاب صحيح (٥).

هذا هو المهدي الذي اتّفق المحدّثون والمتكلّمون عليه ، وإنّما الاختلاف بين الشيعة والسنّة في ولادته ، فالشيعة ذهبت إلى أنّ المهدي الموعود هو الإمام الثاني

__________________

(١) مسند أحمد ١ : ٩٩ ، ٣ : ١٧ و ٧٠.

(٢) جامع الأُصول ١١ : ٤٨ برقم ٧٨١٠.

(٣) جامع الأُصول ١١ : ٤٨ برقم ٧٨١٢.

(٤) المصدر نفسه برقم ٧٨١٠.

(٥) الدكتور عبد الباقي ، بين يدي الساعة ١٢٣.

٢٢٠