أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

الشيخ جعفر السبحاني

أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6293-80-8
الصفحات: ٧٧٤

الإمام الثاني :

أبو محمد الحسن بن علي المجتبى عليه‌السلام

هو ثاني أئمّة أهل البيت الطاهر ، وأوّل السبطين ، وأحد سيّدي شباب أهل الجنّة ، وريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأحد الخمسة من أصحاب الكساء ، أُمّه فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيّدة نساء العالمين.

ولادته

ولد في المدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث أو اثنتين من الهجرة ، وهو أوّل أولاد عليّ وفاطمة عليهما‌السلام.

نسب كان عليه من شمس الضحى

نور ومن فلق الصباح عمودا

وروي عن أنس بن مالك قال : لم يكن أحد أشبه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الحسن بن علي عليهما‌السلام (١).

__________________

(١) ابن الصباغ المالكي (المتوفّى عام ٨٥٥ ه‍) : الفصول المهمّة : ١٥٢.

١٤١

فلمّا ولد الحسن قالت فاطمة لعليّ : سمّه ، فقال : «ما كنت لأسبق باسمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فجاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأُخرج إليه فقال : «اللهمّ إنّي أُعيذه بك وولده من الشيطان الرجيم ، وأذّن في أُذنه اليمني وأقام في اليسرى.

ألقابه عليه‌السلام

أشهرها : التقيّ والزكيّ والسبط.

علمه عليه‌السلام

يكفي أنّه كان يجلس في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويجتمع الناس حوله فيتكلّم بما يشفي غليل السائل ويقطع حجج المجادلين. من ذلك ما رواه الإمام أبو الحسن عليّ ابن أحمد الواحدي في تفسير الوسيط : أنّ رجلاً دخل إلى مسجد المدينة فوجد شخصاً يحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والناس حوله مجتمعون فجاء إليه الرجل ، قال : أخبرني عن (شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) (١)؟ فقال : «نعم ، أمّا الشاهد فيوم الجمعة والمشهود فيوم عرفة».

فتجاوزه إلى آخر غيره يحدّث في المسجد ، فسأله عن (شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال : «أمّا الشاهد فيوم الجمعة ، وأمّا المشهود يوم النحر».

قال : فتجاوزه إلى ثالث ، غلام كأنّ وجهه الدينار ، وهو يحدّث في المسجد ، فسأله عن شاهد ومشهود ، فقال : «نعم ، أمّا الشاهد فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمّا المشهود فيوم القيامة ، أما سمعته عزوجل يقول : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً

__________________

(١) البروج : ٣.

١٤٢

وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (١) ، وقال تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (٢).

فسأل عن الأوّل ، فقالوا : ابن عبّاس ، وسأل عن الثاني ، فقالوا : ابن عمر ، وسأل عن الثالث ، فقالوا : الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٣).

زهده عليه‌السلام

يكفي في ذلك ما نقله الحافظ أبو نعيم في حليته بسنده أنّه عليه‌السلام قال : «إنّي لأستحيي من ربّي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته» فمشى عشرين مرّة من المدينة إلى مكّة على قدميه.

وروي عن الحافظ أبي نعيم في حليته أيضاً : أنّه عليه‌السلام خرج من ماله مرّتين ، وقاسم الله تعالى ثلاث مرّات ماله وتصدّق به.

وكان عليه‌السلام من أزهد الناس في الدنيا ولذّاتها ، عارفاً بغرورها وآفاتها ، وكثيراً ما كان عليه‌السلام يتمثّل بهذا البيت شعراً :

يا أهل لذّات دنيا لا بقاء لها

إنّ اغتراراً بظلّ زائلٍ حَمَقُ (٤)

حلمه عليه‌السلام

روى ابن خلّكان عن ابن عائشة : أنّ رجلاً من أهل الشام قال : دخلت

__________________

(١) الأحزاب : ٤٥.

(٢) هود : ١٠٣.

(٣) بحار الأنوار ١ : ١٣.

(٤) ابن الصبّاغ المالكي ، الفصول المهمّة : ١٥٤.

١٤٣

المدينة ـ على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ـ فرأيت رجلاً راكباً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتاً ولا ثوباً ولا دابّة منه ، فمال قلبي إليه ، فسألت عنه فقيل : هذا الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، فامتلأ قلبي له بغضاً وحسدت عليّاً أن يكون له ابن مثله ، فصرت إليه وقلت له : أأنت ابن عليّ بن أبي طالب؟ قال : «أنا ابنه» ، قلت : فعل بك وبأبيك ، أسبّهما ، فلمّا انقضى كلامي قال لي : «أحسبك غريباً»؟ قلت : أجل ، قال : «مِلْ بنا ، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك ، أو إلى مال آتيناك ، أو إلى حاجة عاونّاكَ» قال : فانصرفت عنه وما على الأرض أحبّ إليّ منه ، وما فكرت فيما صنع وصنعت إلّا شكرته وخزيت نفسي (١).

إمامته عليه‌السلام

يكفي في ذلك ما صرّح به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «هذان ابناي إمامان قاما أو قعدا ...».

وروت الشيعة بطرقهم عن سليم بن قيس الهلالي قال : شهدت أمير المؤمنين عليه‌السلام حين أوصى إلى ابنه الحسن عليه‌السلام وأشهد على وصيّته الحسين عليه‌السلام ومحمّداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ، ثمّ دفع إليه الكتاب والسلاح وقال له : «يا بنيّ إنّه أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن أُوصي إليك ، وأدفع إليك كتبي وسلاحي ، كما أوصى إليّ ودفع إليّ كتبه وسلاحه ، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين ، ثمّ أقبل على ابنه الحسين عليه‌السلام فقال : وأمرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تدفعها إلى ابنك هذا ، ثمّ أخذ بيد عليّ بن الحسين وقال : وأمرك رسول الله أن تدفعها إلى ابنك محمّد بن عليّ فاقرئه من رسول الله

__________________

(١) ابن خلّكان ، وفيات الأعيان ٢ : ٦٨.

١٤٤

ومني السلام» (١).

روى أبو الفرج الأصفهاني : أنّه خطب الحسن بن عليّ بعد وفاة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وقال : «قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل ، ولا يدركه الآخرون بعمل ، ولقد كان يجاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقيه بنفسه ، ولقد كان يوجّهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه ، ولقد توفّي في هذه الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم ، ولقد توفّي فيها يوشع بن نون وصي موسى ، وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلّا سبعمائة درهم بقيّة من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله».

ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه.

ثمّ قال : «أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله عزوجل بإذنه ، وأنا ابن السراج المنير ، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، والذين افترض الله مودّتهم في كتابه إذ يقول : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) (٢) فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت».

قال أبو مخنف عن رجاله : ثمّ قام ابن عباس بين يديه فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا له وقالوا : ما أحبّه إلينا وأحقّه بالخلافة ، فبايعوه (٣).

وقال المفيد : كانت بيعته يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة ، فرتّب العمّال وأمّر الأُمراء ، وأنفذ عبد الله بن العبّاس إلى

__________________

(١) الشيخ الطبرسي ، إعلام الورى بأعلام الهدى ١ : ٤٠٥ تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام ، ومن أراد الوقوف على نصوص إمامته فعليه أن يرجع إلى الكافي ١ : ٢٩٧ ، وإثبات الهداة ٢ : ٥٤٣ ـ ٥٦٨ فقد نقل خمسة نصوص في المقام.

(٢) الشورى : ٢٣.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٥٢.

١٤٥

البصرة ، ونظر في الأُمور (١).

وقال أبو الفرج الأصفهاني : وكان أوّل شيء أحدثه الحسن [عليه‌السلام] أنّه زاد في المقاتلة مائة مائة ، وقد كان عليّ فعل ذلك يوم الجمل ، وهو فعله يوم الاستخلاف ، فتبعه الخلفاء بعد ذلك (٢).

قال المفيد : فلمّا بلغ معاوية وفاة أمير المؤمنين وبيعة الناس ابنه الحسن ، دسَّ رجلاً من حمير إلى الكوفة ، ورجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الأُمور ، فعرف ذلك الحسن ، فأمر باستخراج الحميري من عند لحّام في الكوفة فأُخرج وأمر بضرب عنقه ، وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم ، فأُخرج وضربت عنقه (٣).

صلحه عليه‌السلام مع معاوية

ثمّ إنّه استمرّت المراسلات (٤) بين الحسن ومعاوية وانجرّت إلى حوادث مريرة إلى أن أدّت إلى الصلح واضطرّ إلى التنازل عن الخلافة لصالح معاوية ، فعقدا صلحاً وإليك صورته :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هذا ما صالح عليه الحسن بن عليّ بن أبي طالب معاوية بن أبي

__________________

(١) المفيد : الإرشاد : ١٨٨.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٥٥.

(٣) الارشاد للمفيد : ١٨٨ ، مقاتل الطالبيين : ٥٢.

(٤) ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى مقاتل الطالبيين : ٥٣ ـ ٧٢ وبالإمعان فيها وما أظهر أصحابه من التخاذل ، يتضح سرّ صلح الإمام وتنازله عن الخلافة ، فلم يطاع إلّا أنّه أتم الحجّة عليهم ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين.

١٤٦

سفيان ، صالحه على أن يسلّم إليه ولاية المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة رسول الله ، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً ، على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم.

على أنّ أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا ، وعلى معاوية بذلك عهد الله وميثاقه.

على أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غائلة سوء سرّاً وجهراً ، ولا يخيف أحداً في أُفق من الآفاق. شهد عليه بذلك فلان وفلان ، وكفى بالله شهيداً (١).

ولمّا تمّ الصلح صعد معاوية المنبر وقال في خطبته : إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ، إنّكم لتفعلون ذلك ، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا وإنّي كنت منّيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدميّ هاتين لا أفي بشيء منها له (٢).

شهادته ودفنه عليه‌السلام

لمّا نقض معاوية عهده مع الإمام الحسن عليه‌السلام ، وما كان ذلك بغريب على رجل أبوه أبو سفيان ، وأُمّه هند ، وهو طليق ابن طلقاء عمد إلى أخذ البيعة ليزيد ولده المشهور بمجونه وتهتكه وزندقته ، وما كان شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن عليّ عليهما‌السلام ، فدسّ إليه السمّ ، فمات بسببه.

__________________

(١) ابن صبّاغ المالكي ، الفصول المهمّة : ١٦٣.

(٢) الارشاد للمفيد : ١٩١.

١٤٧

فقد روي : أنّ معاوية أرسل إلى ابنة الأشعث ـ وكانت تحت الحسن عليه‌السلام ـ : إنّي مزوّجك بيزيد ابني على أن تسمّي الحسن بن عليّ. وبعث إليها بمائة ألف درهم ، فقبلت وسمّت الحسن ، فسوّغها المال ولم يزوّجها منه (١).

فلمّا دنا موته أوصى لأخيه الحسين عليه‌السلام وقال : «إذا قضيت نحبي غسّلني وكفّني واحملني على سريري إلى قبر جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد فادفنّي هناك ، وبالله أُقسم عليك أن تهريق في أمري محجمة دم».

فلمّا حملوه إلى روضة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يشكّ مروان ومن معه من بني أُميّة أنّهم سيدفنونه عند جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتجمّعوا له ولبسوا السلاح ، ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول : ما لي ولكم تريدون أن تُدخلوا بيتي من لا أُحبّ!! وجعل مروان يقول : يا ربّ هيجاء هي خير من دعةٍ ، أيدفن عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ؟! وكادت الفتنة تقع بين بني هاشم وبني أُميّة. ولأجل وصيّة الحسن مضوا به إلى البقيع ودفنوه عند جدّته فاطمة بنت أسد (٢).

وتوفّي الحسن وله من العمر (٤٧) عاماً وكانت سنة وفاته سنة (٥٠) من الهجرة النبويّة. والعجيب أنّ مروان بن الحكم حمل سريره إلى البقيع فقال له الحسين : «أتحمل سريره؟! أما والله لقد كنت تجرّعه الغيظ» فقال مروان : إنّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال (٣).

فرح معاوية بموته :

ولما بلغ معاوية موت الحسن عليه‌السلام سجد وسجد من حوله وكبّر وكبّروا معه.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٧٣.

(٢) الارشاد : ١٩٣ ، كشف الغمة ١ : ٢٠٩ ، مقاتل الطالبيين : ٧٤ ـ ٧٥.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٧٦.

١٤٨

ذكره الزمخشري في ربيع الأبرار وابن عبد البرّ في الاستيعاب وغيرهما.

فقال بعض الشعراء :

أصبح اليوم ابن هند شامتاً

ظاهر النخوة إذ مات الحسن

يا ابن هند إن تذق كأس الردى

تكُ في الدهر كشيء لم يكنْ

لستَ بالباقي فلا تشمت به

كلّ حيّ للمنايا مرتهن (١)

هذه لمحة عن حياة الحسن المشحونة بالحوادث المريرة. وتركنا الكثير ممّا يرجع إلى جوانب حياته ، خصوصاً ما نقل عنه من الخطب والرسائل والكلم القصار ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى تحف العقول (٢) فقد ذكر قسماً كبيراً من كلماته.

__________________

(١) الأمين العاملي ، في رحاب أئمّة أهل البيت : ٤٣.

(٢) الحرّاني الحسن بن شعبة ، تحف العقول : ٢٢٥ ـ ٢٣٦.

١٤٩

الإمام الثالث :

أبو عبد الله الحسين بن علي سيّد الشهداء عليه‌السلام

هو ثالث أئمّة أهل البيت الطاهر ، وثاني السبطين ، وسيدي شباب أهل الجنّة ، وريحانتي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأحد الخمسة أصحاب الكساء ، وسيّد الشهداء ، وأُمّه فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولادته عليه‌السلام

ولد في المدينة المنوّرة في الثالث من شعبان سنة ثلاث أو أربع من الهجرة ، ولمّا ولد جيء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستبشر به ، وأذّن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، فلمّا كان اليوم السابع سمّاه حسيناً ، وعقَّ عنه بكبش ، وأمر أُمّه أن تحلق رأسه وتتصدّق بوزن شعره فضّة ، كما فعلت بأخيه الحسن ، فامتثلت عليها‌السلام ما أمرها به.

خصائصه عليه‌السلام

إنّ حياة الإمام الحسين من ولادته إلى شهادته حافلة بالأحداث ،

١٥٠

والإشارة ـ فضلاً عن الإحاطة ـ إلى كلّ ما يرجع إليه يحتاج إلى تأليف مفرد ، وقد أغنانا في ذلك ما كتبه المؤلّفون والباحثون عن جوانب حياته عليه‌السلام ، حيث تحدّثوا في مؤلّفاتهم المختلفة عن النصوص الواردة من جدّه وأبيه في حقّه ، وعن علمه ومناظراته ، وخطبه وكتبه وقصار كلمه ، وفصاحته وبلاغته ، ومكارم أخلاقه ، وكرمه وجوده ، وزهده وعبادته ، ورأفته بالفقراء والمساكين ، وعن أصحابه والرواة عنه ، والجيل الذي تربّى على يديه. وذلك في مؤلّفات قيّمة لا تعد ولا تحصى.

كفاحه وجهاده الرسالي :

غير إنّ للحسين عليه‌السلام وراء ذلك ، خصّيصة أُخرى وهي كفاحه وجهاده الرسالي والسياسي الذي عُرِفَ به ، والذي أصبح مدرسة سياسية دينيّة ، لعلها أصبحت الطابع المميّز له عليه‌السلام والصبغة التي اصطبغت حياته الشريفة بها ، وأُسوة وقدوة مدى أجيال وقرون ، ولم يزل منهجه يؤثّر في ضمير الأُمّة ووعيها ، ويحرّك العقول المتفتّحة ، والقلوب المستنيرة إلى التحرّك والثورة ، ومواجهة طواغيت الزمان بالعنف والشدّة.

وها نحن نقدّم إليك نموذجاً من غرر كلماته في ذلك المجال حتّى تقف على كفاحه وجهاده أمام التيّارات الإلحاديّة والانهيار الخلقي.

إباؤه للضيم ومعاندة الجور

لمّا توفّي أخوه الحسن في السنة الخمسين من الهجرة أوصى إليه بالإمامة فاجتمعت الشيعة حوله ، يرجعون إليه في حلّهم وترحالهم ، وكان لمعاوية عيون في المدينة يكتبون إليه ما يكون من الأحداث المهمّة التي لا توافق هوى السلطة

١٥١

الأُموية المنحرفة ، والتي قد تؤلّف خطراً جدّياً على وجودها غير المشروع ، ولقد كان همّ هذه السلطة هو الإمام الحسين عليه‌السلام لما يعرفونه عنه من موقف لا يلين ولا يهادن في الحقّ ، ومن هنا فقد كتب مروان بن الحكم ـ وكان عامل معاوية على المدينة ـ : إنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن عليّ وأنّه لا يأمن وثوبه ، ولقد بحثت عن ذلك فبلغني أنّه لا يريد الخلاف يومه هذا ، ولست آمن أن يكون هذا أيضاً لما بعده.

ولمّا بلغ الكتاب إلى معاوية كتب رسالة إلى الحسين وهذا نصّها :

أمّا بعد ؛ فقد انتهت إليّ أُمور عنك إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها ، ولعمر الله إنّ من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء ، وإنّ أحقَّ الناس بالوفاء من كان في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله لها ... (١).

ولمّا وصل الكتاب إلى الحسين بن عليّ ، كتب إليه رسالة مفصّلة ذكر فيها جرائمه ونقضه ميثاقه وعهده ، نقتبس منها ما يلي :

«ألست قاتل حجر بن عديّ أخا كندة وأصحابه المصلّين ، العابدين ، الّذين ينكرون الظلم ، ويستفظعون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة ، ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ، جرأة على الله واستخفافاً بعهده؟ أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفرّ لونه ، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من شعف الجبال (٢).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٦٣.

(٢) أي قممها وأعاليها.

١٥٢

أولست المدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد بن ثقيف فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ، فتركت سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعمّداً وتبعت هواك بغير هدي من الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ، ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويُسمل أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النخل ، كأنّك لست من هذه الأُمّة وليسوا منك.

أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سميّة أنّهم على دين عليّ ـ صلوات الله عليه ـ فكتبت إليه : أن اقتل كلّ من كان على دين عليّ ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودين عليّ هو دين ابن عمّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك ، وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه ، ولو لا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف» (١).

هذا هو الحسين ، وهذا هو إباؤه للضيم ودفاعه عن الحق ونصرته للمظلومين في عصر معاوية. وذكرنا هذه المقتطفات كنموذج من سائر خطبه ورسائله التي ضبطها التاريخ.

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٦٤.

١٥٣

الإمام الحسين عليه‌السلام وكربلاء

رفضه البيعة ليزيد :

لمّا هلك معاوية في منتصف رجب سنة ٦٠ هجرية كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة والي المدينة أن يأخذ الحسين عليه‌السلام بالبيعة له ، فأنفذ الوليد إلى الحسين عليه‌السلام فاستدعاه ، فعرف الحسين ما أراد ، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح وقال : «اجلسوا على الباب فإذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه ولا تخافوا عليّ».

وصار عليه‌السلام إلى الوليد فنعى الوليد إليه معاوية ، فاسترجع الحسين عليه‌السلام ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد بن معاوية ، فقال الحسين عليه‌السلام : «إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتّى أُبايعه جهراً فيعرف ذلك الناس» ، فقال له الوليد : أجل ، فقال الحسين عليه‌السلام : «فتصبح وترى رأيك في ذلك» فقال الوليد : انصرف على اسم الله تعالى ، فقال مروان : والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى يكثر القتلى بينكم وبينه ، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه ، فوثب عند ذلك الحسين عليه‌السلام وقال : «أنت يا بن الزرقاء تقتلني أو هو؟ كذبت والله وأثمت» ثمّ خرج (١).

وأصبح الحسين من غده يستمع الأخبار ، فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه فقال : أبا عبد الله إنّي لك ناصح فأطعني ترشد وتسدّد ، فقال : «وما ذاك قل اسمعْ» فقال : إنّي أرشدك لبيعة يزيد ؛ فانّها خير لك في دينك وفي

__________________

(١) الإرشاد : ٢٠٠.

١٥٤

دنياك!! فاسترجع الحسين وقال : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون وعلى الإسلام السَّلام إذا بليت الأُمّة براع مثل يزيد ، ثمّ قال : يا مروان أترشدني لبيعة يزيد!! ويزيد رجل فاسق ، لقد قلت شططاً من القول وزللاً ، ولا ألومك ؛ فإنّك اللعين الذي لعنك رسول الله وأنت في صلب أبيك الحكم بن العاص ، ومن لعنه رسول الله فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد ، إليك عنّي يا عدوّ الله ، فإنّا أهل بيت رسول الله الحقّ فينا ينطق على ألسنتنا ، وقد سمعت جدّي رسول الله يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء ، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول الله فلم يفعلوا به ما أُمروا فابتلاهم بابنه يزيد» (١).

خروجه من مكّة ومكاتبة أهل الكوفة له :

ثمّ إنّ الحسين غادر المدينة إلى مكّة ، ولمّا بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد فاتّفقوا أن يكتبوا إلى الحسين رسائل وينفذوا رسلاً طالبين منه القدوم إليهم في الكوفة ؛ لأنّ القوم قد بايعوه ونبذوا بيعة الأمويّين ، وألحّوا في ذلك الأمر أيّما إلحاح ، مبيّنين للإمام عليه‌السلام أنّ السبل ميسّرة والظروف مهيّأة لقدومه ، حيث كتب له وجهاؤهم من جملة ما كتبوه :

«أمّا بعد ؛ فقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار ، فإذا شئت فأقبل على جند لك مجنّدة».

ولما جاءت رسائل أهل الكوفة تترى على الحسين عليه‌السلام أرسل ابن عمّه مسلم ابن عقيل ـ رضوان الله عليه ـ إلى الكوفة ممثّلاً عنه لأخذ البيعة له منهم ، وللتحقّق

__________________

(١) الخوارزمي ، مقتل الحسين ١ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

١٥٥

من جدّية هذا الأمر ، ثمّ كتب إليهم : «أمّا بعد ؛ فإنّ هانئاً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم ، وكانا آخر من قدم عليَّ من رسلكم ، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جلّكم أنّه ليس علينا إمام فاقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى ، وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل ، فإن كتب إليَّ : أنّه قد اجتمع رأي ملَئِكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم ، وقرأته في كتبكم ، فإنّي أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله ، فلعمري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحق ، الحابس نفسه على ذات الله» (١).

ثمّ خرج الإمام من مكة متوجّهاً إلى الكوفة يوم التروية أو يوماً قبله مع أهل بيته وجماعة من أصحابه وشيعته ، وكان كتاب من مسلم بن عقيل قد وصل إليه يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً من أهل الكوفة ، وذلك قبل أن تنقلب الأُمور على مجاريها بشكل لا تصدّقه العقول ، حيث استطاع عبيد الله بن زياد بخبثه ودهائه ، وإفراطه في القتل ، أن يثبّط همم أهل الكوفة ، وأن تنكث بيعة الإمام الحسين عليه‌السلام ، ويقتل سفيره بشكل وحشيّ بشع.

ولمّا أخذ الإمام عليه‌السلام يقترب من الكوفة استقبله الحرّ بن يزيد الرياحي بألف فارس مبعوثاً من الوالي عبيد الله بن زياد لاستقدامه وإكراهه على إعطاء البيعة ليزيد ، وإرساله قهراً إلى الكوفة ، فعند ذلك قام الإمام وخطب بأصحابه وأصحاب الحرّ بقوله : «أيّها الناس إنّ رسول الله قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلّا حرم الله ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباده بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله ، ألا

__________________

(١) المفيد ، الارشاد : ٢٠٤.

١٥٦

وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من غَيَّر» (١).

الدافع الواقعي للهجرة إلى العراق :

رغم انّ الدافع الظاهري لهجرته عليه‌السلام إلى العراق كانت رسائل أهل الكوفة ورسلهم حتّى أنّ الإمام احتجّ بها عند ما واجه الحرّ بن يزيد الرياحي وعمر بن سعد عند ما سألاه عن سرّ مجيئه إلى العراق فقال : «كتب إليَّ أهل مصركم هذا أن أقدم» (٢). إلّا أنّ السرّ الحقيقي لهجرته عليه‌السلام رغم إدراكه الواضح لما سيترتّب عليها من نتائج خطرة ستؤدي بحياته الشريفة ـ وهو ما وطّن نفسه عليه‌السلام عليه ـ يمكن إدراكه من خلال الاستقراء الشامل لمسيرة حياته ، وكيفية تعامله مع مجريات الأحداث.

إنّ الأمر الذي لا مناص من الذهاب إليه هو إدراك الإمام عليه‌السلام ما ينتجه الإذعان والتسليم لتولّي يزيد بن معاوية خلافة المسلمين رغم ما عُرف عنه من تهتّك ومجون وانحراف واضح عن أبسط المعايير الإسلامية ، وفي هذا مؤشّر خطر على عظم الانحراف الذي أصاب مفهوم الخلافة الإسلامية ، وابتعادها الرهيب عن مضمونها الشرعي.

ومن هنا فكان لا بدّ من وقفة شجاعة تعيد للأُمّة جانباً من رشدها المضاع وتفكيرها المسلوب. إنّ الإمام الحسين عليه‌السلام قد أعلنها صراحة بقوله لمّا طالبه مروان بن الحكم بالبيعة ليزيد ، حيث قال : «فعلى الإسلام السلام إذا بليت الأُمّة

__________________

(١) الطبري ، التاريخ ٤ : ٣٠٤ حوادث سنة ٦١ ه‍ ، ولمعرفة ما جرى على الإمام وأهل بيته حتّى نزل أرض كربلاء راجع المقاتل.

(٢) الارشاد : ٢٢٤ ـ ٢٢٨.

١٥٧

براع مثل يزيد» كما عرفت سابقاً.

نعم إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «صنفان من أُمّتي إذا صلحا صلحت أُمّتي ، وإذا فسدا فسدت أُمّتي ، قيل : يا رسول الله ومن هما؟ فقال : الفقهاء والأُمراء» (١) ، فإذا كان صلاح الأُمّة وفسادها رهن صلاح الخلافة وفسادها ، فقيادة مثل يزيد لا تزيد الأمر إلّا عيثاً وفساداً.

إنّ القيادة الإسلامية بين التنصيص والشورى ، ولم يملك يزيد السلطة لا بتنصيص من الله سبحانه ولا بشورى من الأُمّة ، وهذا ما أدركه المسلمون آنذاك حيث كتبوا إلى الحسين عليه‌السلام رسالة جاء فيها : أمّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الأُمّة فابتزّها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضى منها ، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها (٢).

ولم يكن الولد (يزيد) فريداً في غصب حقّ الأُمّة ، بل سبقه والده معاوية إلى ذلك كما هو معروف ، وليس بخاف على أحد ، وإلى تلك الحقيقة المرّة يشير الإمام عليّ عليه‌السلام في كتاب له إلى معاوية ، حيث يقول :

«فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الأُمور ، فقد سلكت مدارج أسلافك بادّعائك الأباطيل واقتحامك غرور المين والأكاذيب ، وبانتحالك ما قد علا عنك ، وابتزازك لما قد اختزن دونك فراراً من الحقّ وجحوداً لما هو ألزم لك من لحمك ودمك ممّا قد وعاه سمعك ، وملئ به صدرك ، فما ذا بعد الحق إلّا الضلال المبين» (٣).

هذا ونظائره المذكورة في التاريخ ما دفع الحسين إلى الثورة ، وتقديم نفسه

__________________

(١) القمّي ، سفينة البحار ٢ : ٣٠ مادة أمر.

(٢) ابن الأثير ، الكامل ٢ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧ ، الارشاد : ٢٠٣.

(٣) نهج البلاغة / الكتاب ٦٥.

١٥٨

وأهل بيته قرابين طاهرة من أجل نصرة هذا الدين العظيم ، مع علمه بأنّه وفقاً لما تحت يديه من الإمكانات المادّية لن يستطيع أن يواجه دولة كبيرة تمتلك القدرات المادّية الضخمة ما يمكنها من القضاء على أيّ ثورة فتيّة ، نعم إنّ الإمام الحسين عليه‌السلام كان يدرك قطعاً هذه الحقيقة ، إلّا أنّه أراد أن يسقي بدمائه الطاهرة المقدّسة شجرة الإسلام الوارفة التي يريد الأُمويّون اقتلاعها من جذورها.

كما أنّ الإمام عليه‌السلام أراد أن يكسر حاجز الخوف الذي أصاب الأُمّة فجعلها حائرة متردّدة أمام طغيان الجبابرة وحكّام الجور ، وأن تصبح ثورته مدرسة تتعلّم منها الأجيال معنى البطولة والتضحية من أجل المبادئ والعقائد ، وكان كلّ ذلك بعد استشهاد الإمام عليه‌السلام ، والتاريخ خير شاهد على ذلك.

كان المعروف منذ ولادة الإمام الحسين عليه‌السلام أنّه سيستشهد في العراق في أرض كربلاء وعرف المسلمون ذلك في عصر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصيّه ، لذا كان الناس يترقّبون حدوث تلك الفاجعة ، كما أنّ هناك الكثير من القرائن التي تدلّ بوضوح على حتميّة استشهاده عليه‌السلام ، ومن ذلك :

١ ـ روى غير واحد من المحدّثين عن أنس بن الحارث الذي استشهد في كربلاء أنّه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إنّ ابني هذا يقتل بأرض يقال لها كربلاء ، فمن شهد ذلك منكم فلينصره» فخرج أنس بن الحارث فقتل بها مع الحسين عليه‌السلام (١).

٢ ـ إنّ أهل الخبرة والسياسة في عصر الإمام كانوا متّفقين على أنّ الخروج إلى العراق يكون خطراً كبيراً على حياة الإمام عليه‌السلام وأهل بيته ، ولأجل ذلك أخلصوا له النصيحة ، وأصرّوا عليه عدم الخروج ، ويتمثّل ذلك في كلام أخيه محمّد بن الحنفيّة ، وابن عمّه ابن عبّاس ، ونساء بني عبد المطّلب ، ومع ذلك اعتذر لهم الإمام

__________________

(١) الإصابة ١ : ٨١ / ٢٦٦.

١٥٩

وأفصح عن عزمه على الخروج (١).

٣ ـ لمّا عزم الإمام المسير إلى العراق خطب وقال : «الحمد لله وما شاء الله ولا قوّة إلّا بالله وصلّى الله على رسوله ، خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي ، اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخُيّر لي مصرع أنا أُلاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات ، بين النواويس وكربلاء فيملأن منّي أكراشاً جُوَّفاً وأجربة سغباً ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم. رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفينا أُجور الصابرين ، لن تشذّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لحمته ، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تَقرّ بهم عينه ، وينجز بهم وعده ، ألا ومن كان فينا باذلاً مهجته ، موطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ؛ فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى» (٢).

٤ ـ لمّا بلغ عبد الله بن عمر ما عزم عليه الحسين عليه‌السلام دخل عليه فلامه في المسير ، ولما رآه مصرّاً عليه قبّل ما بين عينيه وبكى وقال : أستودعك الله من قتيل (٣).

٥ ـ لمّا خرج الحسين عليه‌السلام من مكّة لقيه الفرزدق الشاعر فقال له : إلى أين يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ ما أعجلك عن الموسم؟ قال : «لو لم أعجل لأُخذْتُ ، ثمّ قال له : أخبرني عن الناس خلفك» فقال : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وأسيافهم عليك (٤).

٦ ـ لما أتى إلى الحسين خبر قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن

__________________

(١) لاحظ المحاورات التي جرت بين الإمام وهؤلاء في الإرشاد : ٢٠١ ـ ٢٠٢ ، مقاتل الطالبيين ١٠٩ ، اللهوف : ٢٠ ط بغداد.

(٢) اللهوف : ٤١.

(٣) تذكرة الخواصّ : ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٤) الإرشاد : ٢١٨.

١٦٠