أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

الشيخ جعفر السبحاني

أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6293-80-8
الصفحات: ٧٧٤

الفصل الثاني :

الأئمّة الاثنا عشر

١٠١
١٠٢

الأئمة الاثنا عشر

تعرف الشيعة الإمامية بالفرقة الاثني عشرية ، ومبعث هذه التسمية هو اعتقادهم باثني عشر إماماً من بني هاشم نصّ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما هو معلوم للجميع ، ثمّ نصّ كلّ إمام على الإمام الذي بعده ، بشكل يخلو من الشكّ والإبهام.

لقد تضافر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه يملك هذه الأُمّة اثنا عشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل ، وكما هو معلوم ومبسّط في كتب الشيعة بشكل لا يقبل الشك. إنّ هذه الروايات مع ما فيها من المواصفات لا تنطبق إلّا على أئمّة الشيعة والعترة الطاهرة «وإذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الشجرة وهم أغصانها ، والدوحة وهم أفنانها ، ومنبع العلم وهم عيبته ، ومعدن الحكم وهم خزائنه ، وشارع الدين وهم حفظته ، وصاحب الكتاب وهم حملته» (١) فتلزم علينا معرفتهم ، كيف وهم أحد الثقلين اللَّذَين تركهما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قدوة للأُمّة ونوراً على جبين الدهر.

ونحن نحاول هنا أن نعرض في هذا الفصل موجزاً عن أحوالهم وحياتهم متوخّين الاختصار والإيجاز فيما نورده ، لأنّ بسط الكلام عنهم يحتاج إلى تدوين

__________________

(١) اقتباس ممّا ذكره أمين الإسلام الطبرسي في مقدّمة كتابه إعلام الورى بأعلام الهدى : ٣.

١٠٣

موسوعة كبيرة ، وقد قام بذلك لفيف من علماء الإسلام فأثبتوا الشيء الكثير عن حياتهم وسيرتهم وأقوالهم ، جزاهم الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

الأئمّة الاثنا عشر في حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

إنّ من تصفّح مصنّفات الحديث النبوي الشريف يجد أنّ هناك روايات تحدِّد وتعيِّن عدد الأئمّة بعد الرسول وسماتهم ، من دون ذكر لأسمائهم ، وهي أحاديث الأئمّة الاثني عشر التي رواها أصحاب الصحاح والمسانيد ، وهي على وجه لا ينطبق إلّا على من عيّنهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للخلافة والزعامة ، ولذلك نذكرها في عداد أدلّة التنصيص على الخلافة ، والإمعان فيها يرشد القارئ إلى الحقّ ، ويأخذ بيده حتّى يرسي مركبه على شاطئ الأمان والحقيقة.

ويطيب لي أن أذكر مجموع هذه النصوص ؛ فإنّها تؤكّد بعضها بعضاً ، وإليك البيان.

١ ـ روى البخاري عن جابر بن سمرة ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «يكون اثنا عشر أميراً» فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : أنّه قال : «كلّهم من قريش» (١).

٢ ـ روى مسلم عنه أيضاً ، قال : دخلت مع أبي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فسمعته يقول :

«إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة». قال : ثمّ تكلّم بكلام خفي عليّ ، قال : فقلت لأبي : ما قال؟ قال : «كلّهم من قريش».

٣ ـ وروى عنه أيضاً ، قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً» ثمّ تكلّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بكلمة خفيت عليّ ، فسألت أبي : ما ذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال : قال : «كلّهم من قريش».

__________________

(١) صحيح البخاري ٩ : ١٠١ ، كتاب الأحكام ، الباب ٥١ (باب الاستخلاف).

١٠٤

٤ ـ وروى عنه أيضاً نفس الحديث إلّا أنّه لم يذكر : «لا يزال أمر الناس ماضياً».

٥ ـ وروى مسلم عنه أيضاً قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة» ثمّ قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي : ما قال؟ فقال : قال : «كلّهم من قريش» (١).

٦ ـ وروى مسلم عنه أيضاً ، قال : انطلقت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعي أبي فسمعته يقول : «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة» فقال كلمة صمّنيها الناس ، فقلت لأبي : ما قال؟ فقال : قال : «كلّهم من قريش».

٧ ـ وروى مسلم عنه أيضاً قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم جمعة عشية رجم الأسلمي يقول : «لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش» (٢).

٨ ـ روى أبو داود عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة» فكبّر الناس وضجّوا ، ثمّ قال كلمة خفيّة ، قلت لأبي : يا أبتِ ما قال؟ فقال : قال : «كلّهم من قريش» (٣).

٩ ـ روى الترمذي عن جابر بن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يكون من بعدي اثنا عشر أميراً» ثمّ تكلّم بشيء لم أفهمه فسألت الذي يليني ، فقال : قال : «كلّهم من قريش».

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وقد روي من غير وجه عن جابر ، ثمّ ذكر طريقاً آخر إلى جابر (٤).

__________________

(١) صحيح مسلم ٦ : ٣.

(٢) صحيح مسلم ٦ : ٣ ـ ٤.

(٣) سنن أبي داود ٢ : ٢٠٧ كتاب المهدي ط مصر. وروى أيضاً نحوه بطريقين آخرين.

(٤) صحيح الترمذي ٢ : ٤٥ ط سنة ١٣٤٢ ه‍.

١٠٥

١٠ ـ روى أحمد في مسنده عن جابر بن سمرة ، قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «يكون لهذه الأُمّة اثنا عشر خليفة» ورواه عن ٣٤ طريقاً (١).

١١ ـ روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين في كتاب معرفة الصحابة عن عون بن جحيفة عن أبيه ، قال : كنت مع عمّي عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «لا يزال أمر أُمّتي صالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة» ثمّ قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمّي ـ وكان أمامي ـ : ما قال يا عمّ؟ قال : يا بني قال : «كلّهم من قريش» (٢).

١٢ ـ وروى أيضاً بسنده عن جرير عن المغيرة عن الشعبي عن جابر ، قال : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسمعته يقول : «لا يزال أمر هذه الأُمّة ظاهراً حتى يقوم اثنا عشر خليفة» وقال كلمة خفيت عليّ ، وكان أبي أدنى إليه مجلساً منّي فقلت : ما قال؟ فقال : «كلّهم من قريش».

١٣ ـ قال ابن حجر في الصواعق : أخرج الطبراني عن جابر بن سمرة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش» (٣).

كما أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد شبَّه عدّة خلفائه بعدّة نقباء بني إسرائيل.

١٤ ـ فقد روى أحمد بسنده عن مسروق ، قال : كنّا جلوساً عند عبد الله بن مسعود وهو يقرؤنا القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، هل سألتم رسول الله كم يملك هذه الأُمّة من خليفة؟ فقال عبد الله بن مسعود : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ، ثمّ قال : نعم ، ولقد سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «اثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل» (٤).

__________________

(١) مسند أحمد ٥ : ٨٦ ـ ١٠٨.

(٢) المستدرك على الصحيحين (كتاب معرفة الصحابة) ٣ : ٦١٧ ـ ٦١٨ (ط الهند).

(٣) الصواعق : ١٨٩.

(٤) مسند أحمد ١ : ٣٩٨.

١٠٦

١٥ ـ ورواه الخطيب في تاريخه بسنده عن جابر بن سمرة (١).

١٦ ـ وأورده المتقي الهندي في منتخب كنز العمّال عن أحمد والطبراني في المعجم الكبير ، والحاكم في المستدرك (٢).

١٧ ـ قال السيوطي في تاريخ الخلفاء بسند حسن عن ابن مسعود : أنّه سئل كم يملك هذه الأُمّة من خليفة؟ فقال : سألنا عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «اثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل» (٣).

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالّة على أنّ الأئمّة بعد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله اثنا عشر ، وقد جاء فيها سماتهم وصفاتهم وعددهم ، غير أنّ المهمّ هو تعيين مصاديقها والإشارة إلى أعيانها وأشخاصها ، ولا تعلم إلّا باستقصاء وحصر السمات الواردة في هذه الأحاديث ، وهذا ما يمكن إجماله بما يلي :

١ ـ لا يزال الإسلام عزيزاً.

٢ ـ لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً.

٣ ـ لا يزال الدين قائماً.

٤ ـ لا يزال أمر الأُمّة صالحاً.

٥ ـ لا يزال أمر هذه الأُمّة ظاهراً.

٦ ـ كلّ ذلك حتّى يمضي فيهم اثنا عشر أميراً من قريش.

٧ ـ وحتى يليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش.

٨ ـ وإنّ عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل.

وهذه السمات والخصوصيات لا تتمثّل مجتمعة إلّا في الأئمة الاثني عشر

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٤ / ٣٥٣ برقم ٧٦٧٣.

(٢) منتخب كنز العمّال بهامش مسند أحمد ٥ : ٣١٢.

(٣) تاريخ الخلفاء : ص ١٠.

١٠٧

المعروفين عند الفريقين ، وهذه الأحاديث من أنباء الغيب ومعجزات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خصوصاً إذا ضُمّت إليها أحاديث الثقلين والسفينة وكون أهل بيت النبي أماناً لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء ، وسيوافيك تفصيل هذه الأحاديث الثلاثة.

فالأئمّة الاثنا عشر المعروفون بين المسلمين ، والذين ينادي بإمامتهم الشيعة الإمامية ، والذين أوّلهم علي أمير المؤمنين وآخرهم المهدي تنطبق عليهم تلك العلائم ، ومن وقف على حياتهم العلمية والاجتماعية والسياسية يقف على أنّهم هم المَثَل الأعلى في الأخلاق ، والقمّة السامقة في العلم والعمل والتقوى والإحاطة بالقرآن والسنّة ، وبهم حفظ الله تعالى دينه وأعزّ رسالته.

وأمّا ما ورد في بعض هذه الطرق أنّ : «كلّهم تجتمع عليهم الأُمّة» فهو على فرض الصحّة ، فالمراد منه تجتمع على الإقرار بإمامتهم جميعاً وقت ظهور آخرهم ، و ـ على فرض الإبهام ـ لا تمنع عن الأخذ بمضامين الحديث.

هلمّ معي نقرأ ما ذا يقول غير الشيعة في حقّ هذه الأحاديث ، وكيف يؤوّلونها بالخلفاء القائمين بالأمر بعد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإليك نصوص كلامهم :

١ ـ إنّ قوله اثنا عشر إشارة إلى عدد خلفاء بني أُميّة!! وأوّل بني أُميّة يزيد بن معاوية وآخرهم مروان الحمار وعدّتهم اثنا عشر ، ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير ؛ لكونهم صحابة ، ولا مروان بن الحكم لكونه صحابياً أو لأنّه كان متغلّباً بعد أن اجتمع الناس على عبد الله بن الزبير ، وليس على المدح بل على استقامة السلطنة ، وهم يزيد بن معاوية وابنه معاوية ثمّ عبد الملك ثمّ الوليد ثمّ سليمان ثمّ عمر ابن عبد العزيز ثمّ يزيد بن عبد الملك ثمّ هشام بن عبد الملك ثمّ الوليد بن يزيد ثمّ يزيد بن الوليد ثمّ إبراهيم بن الوليد ثمّ مروان بن محمد (١).

__________________

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١٣ : ٢١٢ ط دار المعرفة. وفي المصدر : عدّتهم ثلاثة عشر.

١٠٨

وجوابه : أنّه لو كان الرسول أراد هذا ولم يكن في مقام مدحهم فأيّ فائدة في الإخبار بذلك. ثمّ كيف يقول : إنّها صدرت على غير سبيل المدح مع ما عرفت من السمات الواردة الصريحة في المدح مثل : «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً قائماً» ، أو «أمر أُمّتي صالحاً». والعجب أنّه جعل أوّل الخلفاء يزيد بن معاوية بحجّة أنّه استقامت له السلطنة ، مع أنّه كيف استتبّت له السلطنة وقد ثار عليه العراق في السنة الأُولى ، وثار عليه أهل المدينة في السنة الثانية ، وكان مجموع أيّامه مؤلّفة من حروب دامية وقتل ونهب وتدمير لا يقرّ بها صاحب ذرّة من الشرف والإيمان.

٢ ـ «إنّ المراد أنّه يملك اثنا عشر خليفة بهذه السمات بعد وفاة المهدي» (١) وهذا من أغرب التفاسير ؛ لأنّ الأخبار ظاهرة في اتصال خلافتهم بعصر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولأجل تبادر ذلك في أذهان الناس سألوا عبد الله بن مسعود عن عدد من يملك أمر هذه الأُمّة.

٣ ـ ما نقله ابن حجر في فتح الباري عن القاضي عياض : أنّ المراد بهم الخلفاء الذين اجتمع عليهم الناس ، وهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، ومعاوية ، ويزيد ، وعبد الملك ، وأولاده الأربعة ، الوليد ثمّ سليمان ثمّ يزيد ثمّ هشام ، وعمر بن عبد العزيز بن سليمان ويزيد ، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين ، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك (٢).

ولا يكاد ينقضي تعجّبي من القاضي عياض وابن حجر كيف يعرّفان هؤلاء بمن عزّ بهم الإسلام والدين وصار منيعاً وفيهم يزيد بن معاوية ذلك السكير المستهتر الذي كان يشرب الخمر ويدع الصلاة ، ولم يكتف بذلك بل ضرب الكعبة

__________________

(١) المصدر نفسه ١٣ : ٢١٣ ومثله ما نقله أيضاً : اثنا عشر خليفة في جميع مدّة الإسلام إلى يوم القيامة.

(٢) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١٣ : ٢١٣ ، ولاحظ تاريخ الخلفاء : ص ١١.

١٠٩

بالمنجنيق ، وأباح المدينة ثلاثة أيّام بأعراضها وأموالها وأنفسها بعد قتله لابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحسين بن علي عليه‌السلام وإخوانه وأبنائه وخيرة أصحابه ، وسيَّر بنات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سبايا دون حرمة لجدّهم إلى الشام من أرض كربلاء ، فليت شعري ما هو ميزان القوم في تفسيرهم للسنّة النبوية وتعاملهم معها؟ وكلّ الحقائق تكذب ما ذهبوا إليه وما صرّحوا به.

وهل اعتزّ الإسلام بعبد الملك الذي يكفي في ذكر مساوئه تنصيبه الحجّاج على العراق فقتل من الصحابة والتابعين ما لا يخفى (١)؟!

وكيف اعتزّ الدين بالوليد بن يزيد بن عبد الملك المنتهك لحرمات الله حاول أن يشرب الخمر فوق ظهر الكعبة ففتح المصحف فإذا بالآية الكريمة : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (٢) فألقاه ورماه بالسهام وأنشد :

تهدّدني بجبّار عنيد

فها أنا ذاك جبّار عنيد

إذا ما جئت ربّك يوم حشر

فقل يا ربّ مزّقني الوليد

ومن أراد أن يقف على جنايات الرجل وأقربائه وأجداده فليقرأ التاريخ الذي اسودّت صفحاته بأفعالهم الشنيعة التي لا يسترها شيء ولا يغفل عنها إلّا السذج والبلهاء.

أقول : إنّ للكاتب القدير السيّد محمد تقي الحكيم كلاماً في هذه الأحاديث يطيب لي نقله. قال : والذي يستفاد من هذه الروايات :

١ ـ أنّ عدد الأُمراء أو الخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر وكلّهم من قريش.

٢ ـ أنّ هؤلاء الأُمراء معيّنون بالنص ، كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ٢٥٠ وغيره.

(٢) إبراهيم : ١٥.

١١٠

بني إسرائيل ، لقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (١).

٣ ـ أنّ هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الإسلامي أو حتى تقوم الساعة كما هو مقتضى رواية مسلم : «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة» وأصرح من ذلك روايته الأُخرى في نفس الباب : «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان».

إذا صحّت هذه الاستفادة فهي لا تلتئم إلّا مع مبنى الإمامية في عدد الأئمّة وبقائهم وكونهم من المنصوص عليهم من قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي منسجمة جدّاً مع حديث الثقلين وبقاؤهما حتّى يردا عليه الحوض.

وصحّة هذه الاستفادة موقوفة على أن يكون المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الإمامة والخلافة بالاستحقاق لا بالسلطة الظاهرية ؛ لأنّ الخليفة الشرعي خليفة يستمدّ سلطته من الله ، وهي في حدود السلطة التشريعية لا التكوينية ؛ لأنّ هذا النوع من السلطة هو الذي تقتضيه وظيفته باعتباره مشرّعاً ، ولا ينافي ذلك ذهاب السلطة منهم في واقعها الخارجي وتسلّط الآخرين عليهم ، على أنّ الروايات تبقى بلا تفسير لو تخلّينا عن حملها على هذا المعنى ، لبداهة أنّ السلطة الظاهرية قد تولّاها من قريش أضعاف أضعاف هذا العدد ، فضلاً عن انقراض دولهم وعدم النص على أحد منهم ـ أُمويين وعباسيين ـ باتّفاق المسلمين.

ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح والمسانيد قبل أن يكتمل عدد الأئمّة ، فلا تحتمل أن تكون من الموضوعات بعد اكتمال العدد المذكور ، على أنّ جميع رواتها من أهل السنّة ومن الموثوقين لديهم ، ولعلّ حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الأحاديث ، ومحاولة ملائمتها للواقع

__________________

(١) المائدة : ١٢.

١١١

التاريخي كان منشؤها عدم تمكّنهم من تكذيبها ، ومن هنا تضاربت الأقوال في توجيهها وبيان المراد منها.

والسيوطي ـ بعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة ـ خرج برأي غريب وهو أنّه وجد من الاثني عشر الخلفاء الأربعة ، والحسن ، ومعاوية ، وابن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز في بني أُمية ، وكذلك الظاهر لما أُوتيه من العدل ، وبقي اثنان منتظران ، أحدهما المهدي ؛ لأنّه من أهل بيت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولم يُبيّن المنتظر الثاني ، ورحم الله من قال في السيوطي : إنّه حاطب ليل.

١١٢

الإمام الأوّل :

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام

إنّ الإمام علي بن أبي طالب أشهر من أن يعرَّف ، ولقد قام لفيف من السنّة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات عن حياته ، ومناقبه ، وفضائله ، وجهاده ، وعلومه ، وخطبه ، وقصار كلماته ، وسياسته ، وحروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين ، فالأولى لنا الاكتفاء بالميسور في هذا المجال ، وإحالة القارئ إلى تلك الموسوعات ، بيد أنّنا نكتفي هنا بذكر أوصافه الواردة في السنّة فنقول :

هو أمير المؤمنين ، وسيّد المسلمين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وخاتم الوصيّين ، وأوّل القوم إيماناً ، وأوفاهم بعهد الله ، وأعظمهم مزيّة ، وأقومهم بأمر الله ، وأعلمهم بالقضية ، وراية الهدى ، ومنار الإيمان ، وباب الحكمة ، والممسوس في ذات الله ، خليفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الهاشمي ، وليد الكعبة المشرّفة ، ومُطهّرها من كل صنم ووثن ، الشهيد في البيت الإلهي (مسجد الكوفة) في محرابه حال الصلاة سنة ٤٠ ه‍.

وكلّ جملة من هذه الجمل ، وعبارة من هذه العبارات ، كلمة قدسيّة نبويّة أخرجها الحفّاظ من أهل السنّة (١).

__________________

(١) راجع مسند أحمد ١ : ٣٣١ و ٥ : ١٨٢ ـ ١٨٩ ، حلية الأولياء ١ : ٦٢ ـ ٦٨ ؛ الغدير ٢ : ٣٣.

١١٣

مكوّنات الشخصيّة الإنسانية

تعود شخصية كلّ إنسان ـ حسب ما يرى علماء النفس ـ إلى ثلاثة عوامل هامّة لكلّ منها نصيب وافر في تكوين الشخصية وأثر عميق في بناء كيانها.

وكأنّ الشخصية الإنسانية لدى كل إنسان أشبه بمثلث يتألّف من اتّصال هذه الأضلاع الثلاثة بعضها ببعض ، وهذه العوامل الثلاثة هي :

١ ـ الوراثة.

٢ ـ التعليم والثقافة.

٣ ـ البيئة والمحيط.

إنّ كلّ ما يتّصف به المرء من صفات حسنة أو قبيحة ، عالية أو وضيعة تنتقل إلى الإنسان عبر هذه القنوات الثلاث ، وتنمو فيه من خلال هذه الطرق.

وإنّ الأبناء لا يرثون منّا المال والثروة والأوصاف الظاهرية فقط كملامح الوجه ولون العيون وكيفيات الجسم ، بل يرثون كلّ ما يتمتّع به الآباء من خصائص روحية وصفات أخلاقية عن طريق الوراثة كذلك.

فالأبوان ـ بانفصال جزئي «الحويمن» و «البويضة» المكوّنين للطفل منهما ـ إنّما ينقلان ـ في الحقيقة ـ صفاتهما ملخّصة إلى الخلية الأُولى المكوّنة من ذينك الجزءين ، تلك الخلية الجنينية التي تنمو مع ما تحمل من الصفات والخصوصيات الموروثة.

ويشكّل تأثير الثقافة والمحيط ، الضلعين الآخرين في مثلث الشخصية الإنسانية ، فإنّ لهذين الأمرين أثراً مهمّاً وعميقاً في تنمية السجايا الرفيعة المودعة في باطن كل إنسان بصورة فطرية جبليّة أو الموجودة في كيانه بسبب الوراثة من الأبوين.

١١٤

فإنّ في مقدور كل معلّم أن يرسم مصير الطفل ومستقبله من خلال ما يلقي إليه من تعليمات وتوصيات وما يعطيه من سيرة وسلوك ومن آراء وأفكار ، فكم من بيئة حوّلت أفراداً صالحين إلى فاسدين ، أو فاسدين إلى صالحين.

وإنّ تأثير هذين العاملين المهمّين من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى المزيد من البيان والتوضيح. على أنّنا يجب أن لا ننسي دور إرادة الإنسان نفسه وراء هذه العوامل الثلاثة.

مكوّنات شخصيّة الإمام على عليه‌السلام

لم يكن الإمام علي عليه‌السلام بصفته بشراً بمستثنى من هذه القاعدة ؛ فقد ورث الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام جانباً كبيراً من شخصيته النفسية والروحية والأخلاقية من هذه العوامل والطرق الثلاثة ، وإليك تفصيل ذلك :

١ ـ الإمام علي عليه‌السلام والوراثة من الأبوين :

لقد انحدر الإمام علي من صلب والد عظيم الشأن ، رفيع الشخصيّة هو أبو طالب ، ولقد كان أبو طالب زعيم مكّة ، وسيّد البطحاء ، ورئيس بني هاشم ، وهو إلى جانب ذلك ، كان معروفاً بالسماحة والبذل والجود والعطاء والعطف والمحبّة والفداء والتضحية في سبيل الهدف المقدّس ، والعقيدة التوحيديّة المباركة.

فهو الذي تكفّل رسول الله منذ توفّي جدّه وكفيله الأوّل عبد المطلب وهو آنذاك في الثامنة من عمره ، وتولّى العناية به والقيام بشئونه ، وحفظه وحراسته في السفر والحضر ، بإخلاص كبير واندفاع وحرص لا نظير لهما ، بل وبقي يدافع عن رسالة التوحيد ، والدين الحق الذي جاء به النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوم في سبيل إرساء قواعده ونشر تعاليمه بكل تضحية وفداء ، ويتحمّل لتحقيق هذه الأهداف العليا كلّ تعب

١١٥

ونصب وعناء.

وقد انعكست هذه الحقيقة وتجلّى موقفه هذا في كثير من أشعاره وأبياته المجموعة في ديوانه بصورة كاملة مثل قوله :

ليعلم خيار الناس أنّ محمّداً

نبيّ كموسى والمسيح ابن مريم

وقوله :

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّداً

رسولاً كموسى خُطّ في أوّل الكتب (١)

إنّ من المستحيل أن تصدر أمثال هذه التضحيات التي كان أبرزها محاصرة بني هاشم جميعاً في الشعب ، ومقاطعتهم القاسية ، من دافع غير الإيمان العميق بالهدف والشغف الكبير بالمعنوية ، الذي كان يتّصف به أبو طالب ؛ إذ لا تستطيع مجرّد الوشائج العشائرية ، وروابط القربى ، أن توجِد في الإنسان مثل هذه الروح التضحويّة.

إنّ الدلائل على إيمان أبي طالب بدين ابن أخيه تبلغ من الوفرة والكثرة بحيث استقطبت اهتمام كلّ المحقّقين المنصفين والمحايدين ، ولكن بعض المتعصّبين توقّف في إيمان تلك الشخصية المتفانية العظيمة ، بالدعوة المحمدية ، بينما تجاوز فريق هذا الحدّ إلى ما هو أبعد من ذلك ، حيث قالوا بأنّه مات غير مؤمن.

ولو صحّت عُشر هذه الدلائل الدالّة على إيمان أبي طالب الثابتة في كتب التاريخ والحديث في حقّ رجل آخر لما شكّ أحد في إيمانه فضلاً عن إسلامه ، ولكن لا يعلم الإنسان لما ذا لا تستطيع كل هذه الأدلّة إقناع هذه الزمرة ، وإنارة الحقيقة لهم؟!

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٣٧.

١١٦

هذا عن والد الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وأمّا أُمّه فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي من السابقات إلى الإسلام والإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد كانت قبل ذلك تتّبع ملّة إبراهيم.

إنّها المرأة الطاهرة التي لجأت ـ عند المخاض ـ إلى المسجد الحرام ، وألصقت نفسها بجدار الكعبة وأخذت تقول :

«يا ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم وإنّه بنى البيت العتيق ، فبحقّ الذي بنى هذا البيت و (بحقّ) المولود الذي في بطني إلّا ما يسّرت عليّ ولادتي». فدخلت فاطمة بنت أسد الكعبة ووضعت عليّاً هناك (١).

تلك فضيلة نقلها قاطبة المؤرّخين والمحدّثين الشيعة ، وكذا علماء الأنساب في مصنّفاتهم ، كما نقلها ثلّة كبيرة من علماء السنّة وصرّحوا بها في كتبهم ، واعتبروها حادثة فريدة ، وواقعة عظيمة لم يسبق لها مثيل (٢).

وقال الحاكم النيسابورى : وقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه في جوف الكعبة (٣).

وقال شهاب الدين أبو الثناء السيد محمود الآلوسي : «وكون الأمير كرّم الله وجهه ، ولد في البيت ، أمر مشهور في الدنيا ولم يشتهر وضع غيره كرّم الله وجهه ، كما اشتهر وضعه» (٤).

__________________

(١) كشف الغمّة ١ : ٦٠.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٤٩ ، شرح الشفاء للقاضي عياض ١ : ١٥١ وغيرهما ، وقد أفرد العلّامة الاردوبادي رسالة في هذه المنقبة وسمّاها : عليّ وليد الكعبة.

(٣) شرح عينية عبد الباقي العمري : ١٥.

(٤) الغدير ٦ : ٢٢.

١١٧

٢ ـ الامام عليّ وتربيته في حجر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وأمّا التربية الروحية والفكرية والأخلاقية فقد تلقّاها علي عليه‌السلام في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي الضلع الثاني من أضلاع شخصيته الثلاثة.

ولو أنّنا قسّمنا مجموعة سنوات عمر الإمام عليه‌السلام إلى خمسة أقسام لوجدنا القسم الأوّل من هذه الأقسام الخمسة من حياته الشريفة ، يؤلّف السنوات التي قضاها عليه‌السلام قبل بعثة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وانّ هذا القسم من حياته الشريفة لا يتجاوز عشر سنوات ؛ لأنّ اللّحظة التي ولد فيها عليّ عليه‌السلام لم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تجاوز الثلاثين من عمره المبارك ، هذا مع العلم بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بعث بالرسالة في سنّ الأربعين.

وعلى هذا الأساس لم يكن الإمام عليّ عليه‌السلام قد تجاوز السنة العاشرة من عمره يوم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة ، وتوّج بالنبوّة.

إنّ أبرز الحوادث في حياة الإمام عليّ عليه‌السلام هو تكوين الشخصية العلوية ، وتحقّق الضلع الثاني من المثلّث الذي أسلفناه بواسطة النبيّ الأكرم ، وفي ظلّ ما أعطاه صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام من أخلاق وأفكار ؛ لأنّ هذا القسم في حياة كل إنسان وهذه الفترة من عمره هي من اللحظات الخطيرة ، والقيّمة جدّاً ، فشخصيّة الطفل في هذه الفترة تشبه صفحة بيضاء نقيّة تقبل كلّ لون ، وهي مستعدّة لأن ينطبع عليها كلّ صورة مهما كانت ، وهذه الفترة من العمر تعتبر ـ بالتالي ـ خير فرصة لأن ينمي المربّون والمعلّمون فيها كلّما أودعت يد الخالق في كيان الطفل من سجايا طيّبة وصفات كريمة ، وفضائل أخلاقية نبيلة ، ويوقفوا الطفل ـ عن طريق التربية ـ على القيم الأخلاقية والقواعد الإنسانية وطريقة الحياة السعيدة ، وتحقيقاً لهذا الهدف الساميّ تولّى النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه تربية عليّ عليه‌السلام بعد ولادته ، وذلك عند ما أتت فاطمة بنت أسد بوليدها عليّ عليه‌السلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلقيت من رسول الله حبّاً

١١٨

شديداً لعليّ حتّى أنّه قال لها : «اجعلي مهده بقرب فراشي» وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يطهّر علياً في وقت غسله ، ويوجره اللّبن عند شربه ، ويحرّك مهده عند نومه ، ويناغيه في يقظته ، ويلاحظه ويقول : «هذا أخي ، ووليّي ، وناصري ، وصفيّي ، وذخري ، وكهفي ، وصهري ، ووصيّي ، وزوج كريمتي ، وأميني على وصيّتي ، وخليفتي» (١).

ولقد كانت الغاية من هذه العناية هي أن يتمّ توفير الضلع الثاني في مثلّث الشخصية (وهو التربية) بواسطته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن لا يكون لأحد غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل في تكوين الشخصية العلوية الكريمة.

وقد ذكر الإمام عليّ عليه‌السلام ما أسداه الرسول الكريم إليه وما قام به تجاهه في تلكم الفترة إذ قال :

«وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخَصيصة ، وضعني في حجره وأنا وليد ، يضمّني إلى صدره ، ويَكنُفني في فراشه ، ويمسُّني جسدَه ، ويُشمّني عَرْفَه ، وكان يمضغ الشيء ثمّ يُلقمنيه» (٢).

النبي يأخذ عليّاً إلى بيته :

وإذ كان الله تعالى يريد لولي دينه أن ينشأ نشأة صالحة وأن يأخذ النبي عليّاً إلى بيته وأن يقع منذ نعومة أظفاره تحت تربية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ألفت نظر نبيّه إلى ذلك.

قد ذكر المؤرّخون أنّه أصابت مكّة ـ ذات سنة ـ أزمة مهلكة وسنة مجدبة منهكة ، وكان أبو طالب ـ رضي الله عنه ـ ذا مال يسير وعيال كثير فأصابه ما أصاب قريشاً من العدم والضائقة والجهد والفاقة ، فعند ذلك دعا رسول الله عمّه

__________________

(١) كشف الغمة ١ : ٦٠.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة (١٩٢) المسمّاة بالخطبة القاصعة.

١١٩

العباس إلى أن يتكفّل كل واحد منهما واحداً من أبناء أبي طالب وكان العباس ذا مال وثروة وجدة فوافقه العباس على ذلك ؛ أخذ النبي عليّاً ، وأخذ العباس جعفراً وتكفّل أمره ، وتولّى شئونه (١).

هكذا وللمرّة الأُخرى أصبح عليّ عليه‌السلام في حوزة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بصورة كاملة ، واستطاع بهذه المرافقة الكاملة أن يقتطف من ثمار أخلاقه العالية وسجاياه النبيلة ، الشيء الكثير ، وأن يصل تحت رعاية النبي وعنايته وبتوجيهه وقيادته ، إلى أعلى ذروة من ذرى الكمال الروحي.

وهذا هو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يشير إلى تلك الأيام القيّمة وإلى تلك الرعاية النبويّة المباركة المستمرّة إذ يقول :

«ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أُمّه ، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به» (٢).

عليّ في غار حراء

كان النبيّ ـ حتّى قبل أن يبعث بالرسالة والنبوّة ـ يعتكف ويتعبّد في غار حراء شهراً من كلّ سنة ، فإذا انقضى الشهر وقضى جواره من حراء انحدر من الجبل ، وتوجّه إلى المسجد الحرام رأساً وطاف بالبيت سبعاً ، ثمّ عاد إلى منزله. وهنا يطرح سؤال : ما ذا كان شأن عليّ عليه‌السلام في تلك الأيام التي كان يتعبّد ويعتكف فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك المكان مع ما عرفناه من حبّ الرسول الأكرم له؟ هل كان يأخذ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً معه إلى ذلك المكان العجيب أم كان يتركه ويفارقه؟

إنّ القرائن الكثيرة تدلّ على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ أن أخذ علياً لم يفارقه يوماً أبداً ؛

__________________

(١) بحار الأنوار ٣٥ : ٤٤ ، وسيرة ابن هشام ١ : ٢٤٦.

(٢) نهج البلاغة ـ شرح عبده ـ ٢ : ١٨٢.

١٢٠