الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

وفسر ذلك أيضا عزوجل في آية أخرى قد تلوناها آنفا بأنه يجعل أكنة على قلوب الكافرين ، تحول بين قلوبهم وبين تفهم القرآن والإصاغة إلى بيانه وهداه ، وأن يفقهوه ، وأنه تعالى جعل بينهم وبين قول الرسول حجابا مانعا لهم من الهدى ، وفسّره أيضا بأنه ختم على قلوبهم وطبع عليها ، فامتنعوا بذلك عن وصول الهدى إليها.

وفسر تعالى إضلال من دونه : أنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ، وفسر تعالى أيضا القوة التي أعطاها المؤمنين وحرمها الكافرين بأنها تثبت على قبول الحق ، وأنه تعالى شرح صدورهم لفهم الحق واعتقاده ، والعمل به ، وأنه صارف لكيد الشيطان وفتنته عنهم ، نسأل الله تعالى أن يمدنا بهذه العطية ، وأن يصرف عنا الإضلال بمنه ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا ، فقد خاب وخسر من ظنّ في نفسه أنه قد استكمل الهدى حتى استغنى أن يزيده ربه توفيقا وعصمة ، ولم يحتج إلى خالقه في أن يصرف عنه فتنته ولا كيده ، لا سيما من جعل نفسه أقوى على ذلك من خالقه تعالى ، ولم يجعل عند خالقه قوة يصرف بها عنه كيد الشيطان نعوذ بالله مما امتحنهم به ، ونبرأ إلى الله خالقنا من الحول والقوة كلها إلا ما آتانا منها متفضلا علينا ، وأن كلّ ما في القرآن من إضلال الشيطان للناس وإنسائه إياهم ذكر الله تعالى ، وتزيينه لهم ، ووسوسته ، وفعل بعض الناس ببعض فصحيح كما جاء في القرآن دون تكلف ، وهذا كله إلقاء لما ذكرنا في قلوب الناس ، وهو من الله تعالى خلق لكل ذلك في القلوب ، وخلق الأفعال لهؤلاء المضلين من الجن والإنس ، وكذلك قوله تعالى (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [سورة البقرة : ١٠٩] لأنه فعل أضيف إلى النفس لظهوره منها ، وهو خلق الله تعالى فيها ، فإن ذكروا قول الله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) [سورة التوبة : ١١٥].

فهو كما قال تعالى ، وهو حجة على المعتزلة لأن الله تعالى أخبر أنه لا يضل قوما حتى يبين لهم ما يتقون وما يلزمهم وصدق عزوجل ، لأن المرء قبل أن يأتيه خبر الرسول غير ضال بشيء مما يفعل أصلا فإنما سمى الله تعالى فعله في العبد إضلالا بعد بلوغ البيان إليه لا قبل ذلك وبالله تعالى التوفيق.

فصح بهذه الآيات أنه تعالى يضلهم بعد أن يبين لهم وقد فسر بعضهم الإضلال بأنه منع اللطف الذي يقع به الإيمان فقط.

قال أبو محمد : ونصوص القرآن تزيد على هذا المعنى زيادة لا شك فيها وتوجب أن الإضلال معنى زائد أعطاه الله تعالى الكفار والعصاة ، وهو ما ذكرنا من تضييق الصدور وتحرجها والختم على القلوب ، والطبع عليها ، وإكنانها عن أن يفقهوا

٨١

الحق. فإن قالوا : إن هذا فعل النفوس كلها إن لم يهدها الله تعالى بالتوفيق. قلنا لهم : فمن خالق هذه الخلقة المفسدة إن لم يؤيدها بالتوفيق.

فإن قالوا : الله تعالى هو الذي خلقها كذلك ، أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه البلية ، وركب فيها هذه القوة المهلكة لها ، فإن فروا إلى قول معمر والجاحظ إن هذا كله فعل الطبيعة لم يتخلصوا من سؤالنا ، وقلنا لهم : فمن خلق النفس وخلق لها هذه الطبيعة الموجبة لهذه الأفاعيل؟ فإن قالوا الله تعالى ، أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه الصفة المهلكة لها إن لم يهدها بلطف وتوفيق ، وكذلك إن قالوا إن النفس هي التي فعلت الطبيعة الموجبة لهذه المهالك كانوا مع خروجهم من الإسلام بهذا القول مجلين أيضا محالا ظاهرا ، لأن النفس لو فعلت هي طبيعتها لكانت إما مختارة لعملها ، وإما كارهة مضطرة فمن خلقها مضطرة إلى فعلها على ما هي عليه ، فإن كانت مختارة فقد يجب أن تقع طبيعتها مرارا بخلاف ما توجد الآن عليه ، وإن كانت مضطرة فمن خلقها مضطرّة إلى هذا الفعل؟ فلا بد أنه الله تعالى فرجعوا ضرورة إلى أن الله تعالى هو الذي أعطاها هذه الصفة المهلكة التي بها كانت المعصية مع أنه لم يقل أحد من المسلمين إن النفس أحدثت طبيعتها مع أنه أيضا قول يبطله الحس والمشاهدة وضرورة العقل.

قال أبو محمد : وأما القائلون بالأصلح من المعتزلة فإنهم انقطعوا هاهنا وقالوا : ما ندري ما معنى الإضلال ، ولا ما معنى الختم على قلوبهم ، ولا الطبع عليها؟ وقال بعضهم معنى ذلك أن الله تعالى سماهم ضالين وحكم أنهم ضالون ، وقال بعضهم معنى أضلهم أتلفهم كما تقول : أضللت بعيري.

قال أبو محمد : ولم نجد لهم تأويلا أصلا في قول الله عزوجل حكاية عن موسى عليه‌السلام أنه قال : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) [سورة الأعراف : ١٥٥].

قال أبو محمد : وهذا هو الضلال حقا وهو أن يحملهم اللجاج والعمى في لزوم أصل قد ظهر فساده وتقليد من لا خير فيه من أسلافهم ، على أن يدعوا أنهم لا يعرفون ما معنى الإضلال والختم والطبع والأكنة على القلوب ، وقد فسر الله تعالى ذلك تفسيرا جليا ، فإنها ألفاظ عربية معروفة المعاني في اللغة التي بها نزل القرآن فلا يحلّ لأحد أن يصرف لفظة معروفة المعنى في اللغة عن معناها الذي وضعت له في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى في القرآن إلى معنى غير ما وضعت له إلا أن يأتي قرآن أو كلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو إجماع من علماء الأمة كلها على أنها مصروفة عن ذلك المعنى إلى غيره ، أو يوجب ذلك ضرورة حسّ أو بديهة عقل فيوقف حينئذ عند ما جاء من ذلك.

٨٢

ولم يأت في هذه الألفاظ التي أضلّهم الله تعالى فيها وحيّرهم الشيطان عن فهمها نص ولا إجماع ولا ضرورة بأنها مصروفة عن موضوعها في اللغة بل قد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ ميسّر لما خلق له» (١) فبين عليه‌السلام أن الهدى والتوفيق هو تيسير الله تعالى المؤمن للخير الذي له خلقه ، وأن الخذلان : تيسيره الفاسق للشر الذي له خلقه ، وهذا موافق للغة والقرآن والبراهين الضرورية العقلية ، ولما عليه الفقهاء والأئمة المحدثون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين ، حاش من أضله الله تعالى على علم من أتباع العيارين الخلعاء ، كالنظام والعلاف وثمامة والجاحظ.

قال أبو محمد : ونبين هذا أيضا بيانا طبيعيا ضروريا لا خفاء به بعون الله تعالى وتأييده على من له أدنى بصر بالنفس وأخلاقها ، وقدرة الله تعالى في إبداعها وتصويرها فنقول ـ وبالله تعالى التوفيق : إن الله تعالى خلق نفس الإنسان ميسرة مميزة عاقلة عارفة بالأشياء على ما هي عليه فهمة بما تخاطب به وجعلها مأمورة منهية ، فعّالة معذبة ملتذة آلمة حساسة ، وخلق فيها قوتين متعاديتين متضادتين في التأثير ، وهما التمييز والهوى كل واحدة منهما تريد الغلبة على آفاق النفس.

فالتمييز هو الذي خصت به نفس الإنسان ، والجن والملائكة دون الحيوان الذي لا يكلف ، والذي ليس ناطقا.

والهوى هو الذي يشاركها فيه نفوس الجن والحيوان الذي ليس ناطقا من حب اللذات والغلبة.

قال أبو محمد : وهذه القوة في كلّ الحيوان حاشا الملائكة فإنما فيها قوة التمييز فقط ولذلك لم يقع منها معصية أصلا بوجه من الوجوه ، فإذا عصم الله تعالى العبد غلب التمييز بقوة من عنده هي له مدد وعون ، فجرت أفعال النفس على ما رتّب الله تعالى فيها تمييزها من فعل الطاعات ، وهذا هو الذي يسمى العقل ، وإذا خذل الله تعالى النفس أمدّ الهوى بقوة هي الإضلال ، فجرت أفعال النفس على ما رتب الله تعالى في هواها من الشهوات وحب الغلبة ، والحرص والبغي والحسد ، وسائر الأخلاق الرذيلة ،

__________________

(١) روي في الصحاح بألفاظ وطرق متعددة. رواه البخاري في تفسير سورة ٩٢ باب ٣ و ٤ و ٥ و ٧ ، والأدب باب ١٢٠ ، والقدر باب ٤ ، والتوحيد باب ٥٤. ومسلم في القدر حديث ٦ و ٧ و ٨. وأبو داود في السنّة باب ١٦. والترمذي في القدر باب ٣ ، وتفسير سورة ١١ باب ٣. وابن ماجة في المقدمة باب ١٠ ، والتجارات باب ٢. وأحمد في المسند (١ / ٦ ، ٢٩ ، ٨٢ ، ١٢٩ ، ١٣٣ ، ١٤٠ ، ١٥٧ ، ٢ / ٥٢ ، ٧٧ ، ٣ / ٢٩٣ ، ٤ / ٦٧ ، ٤٣١).

٨٣

والمعاصي ، وقد قامت البراهين على أن النفس مخلوقة ، وكذلك جميع قواها المنتجة عن قوتيها الأوليين : التمييز والهوى ، وكل ذلك مخلوق مركب في النفس على ما هو عليه فيها ، كل جار على طبيعته المخلوقة مجرى كيفياته بها على ما هي عليه.

فإذ قد صح أن كلّ ذلك خلق الله عزوجل فلا مغلب لبعض ذلك على بعض ، إلا خالق الكل وحده لا شريك له ، وقد نص الله تعالى على ذم النفس جملة ، إلا من رحمها الله تعالى وعصمها.

قال تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) [سورة يوسف : ٥٣].

فأخبر عزوجل بنص ما قلنا أن المرحومة المستثناة لا تأمر بسوء وبالله تعالى التوفيق.

وقال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [سورة النازعات : ٤٠ ، ٤١].

وذم الله تعالى الهوى في غير موضع من كتابه ، وهذا نص ما قلنا وحسبنا الله ونعم الوكيل.

الكلام في القضاء والقدر

قال أبو محمد : ذهب بعض الناس لكثرة استعمال المسلمين هاتين اللفظتين إلى أن ظنوا أن فيهما معنى الإكراه والإجبار ، وليس كما ظنوا وإنما معنى القضاء في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبها نتخاطب ونتفاهم مرادنا أنه الحكم فقط ، لذلك يقولون : القاضي : بمعنى الحاكم ، وقضى الله عزوجل بكذا أي حكم به ، ويكون أيضا بمعنى أمر ، قال الله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [سورة الإسراء : ٢٣].

إنما معناه بلا خلاف أنه تعالى أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ، ويكون أيضا بمعنى أخبر ، قال تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [سورة الحجر : ٦٦].

بمعنى أخبرنا أن دابرهم مقطوع بالصباح ، وقال تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) [سورة الإسراء : ٤].

أي أخبرناهم بذلك ، ويكون أيضا بمعنى أراد وهو قريب من معنى حكم. قال

٨٤

تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة آل عمران : ٤٧] ومعنى ذلك حكم بكونه فكوّنه.

ومعنى القدر في اللغة العربية الترتيب والحد الذي ينتهي إليه الشيء ، تقول : قدرت البناء تقديرا : رتبته وحددته ، وقال تعالى : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) [سورة فصلت : ١٠] بمعنى رتب أقواتها وحدّدها ، وقال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [سورة القمر : ٤٩]. يريد تعالى : برتبة وحدّ ، فمعنى قضى وقدر حكم ورتب ، ومعنى القضاء والقدر : حكم الله تعالى في شيء بحمده أو ذمه ، أو تكوينه أو ترتيبه على صفة كذا إلى وقت كذا. وبالله تعالى التوفيق.

الكلام في البدل

قال أبو محمد : قال بعض القائلين بالاستطاعة مع الفعل إذ سئل هل يستطيع الكافر ما أمر به من الإيمان أم لا يستطيع؟ فأجاب : إن الكافر مستطيع للإيمان على البدل ، بمعنى أنه لا يتمادى على الكفر ، لكن يقطعه ويبدل منه الإيمان.

قال أبو محمد : وهذا الذي يجيب به هو الجواب الذي بينا صحته بحول الله تعالى وقوته في كلامنا في الاستطاعة ، وهو أن نقول : هو مستطيع في ظاهر الأمر بسلامة جوارحه ، وارتفاع موانعه ، غير مستطيع للجمع بين الإيمان والكفر ما دام كافرا أو ما دام لا يؤتيه الله تعالى العون ، فإذا أتاه وتمت استطاعته فعل ولا بد ، فإن قيل : هو مكلف مأمور؟ قلنا : نعم ، فإن قيل أهو عاجز عن ما هو مأمور به ومكلف أن يفعله ..؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق : هو غير عاجز بظاهر نيته وسلامة جوارحه ، وارتفاع الموانع ، وهو عاجز عن الجمع بين الفعل وضده ، ما لم يؤته الله عزوجل العون فيتم ارتفاع العجز عنه ، ويوجد الفعل ولا بد ، ونقول إن العجز في اللغة إنما يقع على الممنوع بآفة من الجوارح أو بمانع ظاهر إلى الحواس ، والمأمور بالفعل ليس في ظاهر أمره عاجزا إذ لا آفة في جوارحه ، ولا مانع له ظاهرا ، وهو في الحقيقة عاجز عن الجمع بين الفعل وضده ، وبين الفعل وتركه ، وعن فعل ما لم يؤته الله عزوجل عونا عليه ، وعن تكذيب علم الله عزوجل الذي لم يزل بأنه لا يفعل إلا ما سبق فيه علمه ، هذا حقيقة الجواب في هذا الباب والحمد لله رب العالمين.

فإن قيل : فهو مختار لما يفعل؟ قلنا : نعم اختيارا صحيحا لا مجازا ، لأنه مريد لكونه منه ، محبّ له ، مؤثر له على تركه ، وهذا معنى لفظه الاختيار على الحقيقة ، وليس مضطرا ولا مجبرا ولا مكرها في حالة واحدة ، كإنسان في رجله أكلة لا دواء له ،

٨٥

إلا بقطعها ، فيأمر أعوانه مختارا لأمره إياهم بقطعها ، وبحسمها بالنار بعد القطع ، ويأمرهم بإمساكه وضبطه ، وأن لا يلتفتوا إلى صياحه ولا إلى أمره لهم بتركه إذا أحس الألم ويتوعدهم على التقصير في ذلك بالضرب والنكال الشديد ، فيفعلون به ذلك ، فهو مختار لقطع رجله ، إذ لو كره ذلك كراهية تامة لم يكرهه أحد على ذلك ، وهو بلا شك كاره لقطعها مضطر إليه ، إذ لو وجد سبيلا بوجه من الوجوه دون الموت إلى ترك قطعها لم يقطعها ، فهو مكره مجبر بالضبط من أعوانه له حتى يتم القطع والحسم ، إذ لو لم يضبطوه ويقسروه ويكرهوه لم يمكن قطعها البتة ، وإنما آتينا بهذا لئلا ينكر الجاهلون أن يوجد أحد مختارا من وجه ، ومكرها من وجه آخر ، مستطيعا من وجه ، عاجزا من آخر ، قادرا من وجه ، ممنوعا من آخر ، وبالله تعالى التوفيق.

الكلام في خلق الله تعالى لأفعال خلقه

قال أبو محمد : اختلفوا في خلق الله عزوجل لأفعال عباده ، فذهب أهل السنة كلهم ، وكل من قال بالاستطاعة مع الفعل ، كالمريسيّ وبرغوث والنجارية والأشعرية والجهمية ، وطوائف من الخوارج ، والمرجئة والشيعة إلى أن جميع أفعال العباد مخلوقة قد خلقها الله عزوجل في الفاعلين لها ، ووافقهم على هذا من المعتزلة موافقة صحيحة ضرار بن عمرو وصاحبه أبو يحيى حفص الفرد (١).

وذهب سائر المعتزلة ومن وافقهم على ذلك من المرجئة والخوارج والشيعة إلى أن جميع أفعال العباد محدثة ، فعلها فاعلوها ولم يخلقها الله عزوجل ، على تخليط منهم في ماهية أفعال النفس ، إلا بشر بن المعتمر عطف فقال : إنه ليس شيء من أفعال العباد إلا ولله عزوجل فيه فعل من طريق الاسم والحكم يريد بذلك أنه ليس للناس فعل إلا ولله تعالى فيه حكم بأنه صواب أو خطأ ، وتسميته بأنه حسن أو قبيح طاعة أو معصية.

قال أبو محمد : وقد أدى هذا القول الفاحش الملعون برجل من كبار المعتزلة ، وهو عبّاد بن سلمان (٢) تلميذ هشام بن عمرو الفوطيّ إلى أن قال : إن الله تعالى لم يخلق الكفار لأنهم ناس وكفر معا ، لكن خلق أجساهم دون كفرهم.

__________________

(١) أبو يحيى حفص الفرد. قال النسائي : صاحب كلام لا يكتب حديثه ، وكفّره الشافعي في مناظراته (لسان الميزان : ٢ / ٣٣٠).

(٢) أبو سهل عباد بن سلمان البصري المعتزلي. كان أبو علي الجبائي يصفه بالحذق في الكلام

٨٦

قال أبو محمد : ويلزمه هذا بعينه في المؤمنين وجميع الملائكة والجن لأنه ليس إلا مؤمن أو كافر ، والمؤمن إنسان وإيمان ، أو ملك وإيمانه ، أو جنيّ وإيمانه أو كفره.

فعلى قول هذا البائس السخيف لا يجوز أن يقال : إنّ الله عزوجل خلق من الناس ولا الجن ولا الملائكة سعيدا ، بل يكون القول بهذا كذبا وحسبك بهذا القول خلافا للقرآن وللمسلمين.

وقال معمّر (١) والجاحظ : إن أفعال العباد كلّها لا فعل لهم فيها وإنما نسبت إليهم مجازا لظهورها منهم ، وإنها فعل الطبيعة حاشا الإرادة فقط ، فإنه لا فعل للإنسان غيرها البتة.

قال أبو محمد : ومن تدبّر هذا القول علم أنه أقبح من قول جهم وجميع المجبرة لأنهم جعلوا أفعال العباد اضطرارية طبيعية كفعل النار للإحراق بطبعها ، وفعل الثلج التبريد بطبعه وفعل السقمنيا (٢) في إحداثها الصفراء بطبعها ، وهذا صفة الأموات لا صفة الأحياء المختارين ، وإذا لم يبق على قول هذين الرجلين للإنسان فعل إلا الإرادة فقد وجدنا الإرادة لا يقدر الإنسان على صرفها ولا على إحالتها ولا على تبديلها بوجه من الوجوه ، وإنما يظهر من المرء تبديل كل حركاته وسكونه وأما إرادته فلا حيلة له فيها ، ونحن نجد كل قويّ الآلة من الرجال يحب وطئ كلّ جميلة يسمع بها ، لو لا التقوى ، ويحب النوم عن الصلوات في الليالي القارة (٣) والهواجر الحارّة ، ويحب الأكل في أيام الصوم ، ويحب إمساك ماله عن الزكاة ، وإنما يأتي خلاف ذلك مغالبة لإرادته وقهرا لها وإما صرفا لها ولا سبيل إليه فقد تم الإجبار صحيحا على قول هذين الرجلين. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

__________________

ويقول : لو لا جنونه. وله كتاب «إنكار أن يخلق الناس أفعالهم» وكتاب «تثبيت دلالة الأعراض» وكتاب «إثبات الجزء الذي لا يتجزأ». انظر ترجمته في فهرست ابن النديم (ص ٢١٥) وسير أعلام النبلاء (١٠ / ٥٥١) وطبقات المعتزلة (ص ٧٧).

(١) هو أبو المعتمر معمر بن عمرو ، وقيل : ابن عباد ، البصري السلمي مولاهم العطار المعتزلي. كان يقول : في العالم أشياء موجودة لا نهاية لها ولا لها عند الله عدد ولا مقدار ، وكان يزعم أن الله لم يخلق لونا ولا طولا ولا عرضا ولا عمقا ولا رائحة ولا حسنا ولا قبحا ولا سمعا ولا بصرا ، بل ذلك فعل الأجسام بطباعها. توفي سنة ٢١٥ ه‍. انظر ترجمته في الفهرست (ص ٢٠٧) وسير الأعلام (١٠ / ٥٤٦) وطبقات المعتزلة (ص ٥٤).

(٢) السقمنيا أو السقمونيا : نبات يستخرج منه دواء مسهل للبطن ومزيل لدوده (المعجم الوسيط : ص ٤٣٧).

(٣) الليالي القارّة : الشديدة البرد.

٨٧

قال أبو محمد : والبرهان على صحة قول من قال : إن الله تعالى خلق أفعال العباد كلها نصوص من القرآن وبراهين ضرورية منتجة من بديهة العقل والحواس ، لا يغيب عنها إلا جاهل وبالله تعالى التوفيق.

فمن النّصوص : قول الله عزوجل : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [سورة فاطر : ٣].

قال أبو محمد : هذا كاف لمن عقل واتقى ربه.

وقال لي بعضهم : إنما أنكر الله عزوجل أن يكون هاهنا خالق غيره يرزقنا كما في نص الآية.

قال أبو محمد : وجواب هذا أنه ليس كما ظن هذا القائل بل القضية قد تمت في قول الله تعالى : (غَيْرُ اللهِ) ثم ابتدأ عزوجل بتعديد نعمه علينا ، فأخبرنا أنه يرزقنا من السماء والأرض.

وقال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [سورة الروم : ٣٠].

وهذا نص جلي على أن الدين مخلوق لله تعالى.

وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) [سورة الفرقان : ٣].

قال أبو محمد : ومنهم من يعبد المسيح ، وقالت الملائكة : كذبوا بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم. فصحّ أنّ كلّ ما عبدوه وفيهم المسيح والجن لا يخلقون شيئا ، ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، فثبت يقينا أنهم مصرّفون مدبّرون ، وأن أفعالهم مخلوقة لغيرهم.

وقال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [سورة النحل : ١٧].

قال أبو محمد : وهذا نص جلي على إبطال أن يخلق أحد دون الله تعالى شيئا ، لأنه لو كان هاهنا أحد غيره يخلق لكان من يخلق موجودا جنسا في حيز ، ومن لا يخلق جنسا آخر.

وكان الشبه بين من يخلق وبين من لا يخلق موجودا ، وكان من يخلق لا يشبه من لا يخلق وهذا إلحاد عظيم.

فصحّ بنص هذه الآية أن الله تعالى هو يخلق وحده ، وكلّ من عداه لا يخلق شيئا ، وليس أحد مثله تعالى ، فليس من يخلق وهو الله تعالى كمن لا يخلق وهو كل من سواه.

٨٨

وقال تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) [سورة البقرة : ١٤٨].

وهذا نصّ جلي ، من كذبه كفر.

وقد علمنا أنه تعالى لم يأمر بتلك الوجهات كلها بل فيها كفر قد نهى الله تعالى عنه ، فلم يبق إذ هو مولي كل وجهة إلا أنه خالق كل وجهة لأحد من الناس.

وهذا كاف لمن عقل ونصح نفسه. ومنها : قول الله عزوجل : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [سورة لقمان : ١١]. وهذا إيجاب بأن الله تعالى خلق كل ما في العالم وأن كل من دونه لا يخلق شيئا أصلا ولو كان هاهنا خالق لشيء من الأشياء غير الله تعالى لكان جواب هؤلاء المغرورين جوابا قاطعا ، ولقالوا : نعم نريك أفعالنا خلقها من دونك وهاهنا خالقون كثير وهم نحن لأفعالنا.

وقوله تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة الرعد : ١٦].

وهذا بيان جلي أن الخلق كله جواهر وأعراض ولا شك في أنه لا يفعل الجواهر أحد إلا الله تعالى وإنما يفعلها الله تعالى وحده فلم يبق إلّا الأعراض فلو كان الله تعالى خالقا لبعض الأعراض ، ويكون الناس خالقين لبعضها ، لكانوا له شركاء في الخلق ، ولكانوا قد خلقوا كخلقه ، خلق أعراضا وخلقوا أعراضا.

وهذا تكذيب لله تعالى وردّ للقرآن مجرد ، فصح أنه لا يخلق شيئا غير الله تعالى وحده ، والخلق : هو الاختراع فالله تعالى مخترع لأعراضنا كسائر الأعراض ولا فرق ، فإن نفوا خلق الله تعالى لجميع الأعراض لزمهم أن يقولوا إنها أفعال لغير فاعل ، أو إنها فعل لمن ظهرت منه من الأجرام (١) الجمادية وغيرها.

فإن قالوا : هي أفعال لغير فاعل فهذا قول أهل الدهر ويكلّمون حينئذ بما يكلم به أهل الدهر ، وإن قالوا إنها أفعال الأجرام كانوا قد جعلوا الجمادات فاعلة مخترعة وهذا باطل وهو أيضا خلاف قولهم ، والطبيعة لا تفعل شيئا مخترعة له وإنما الفاعل لما ظهر منها خالق الطبيعة المظهر منها ما ظهر ، وهو خالق الكل ولا بد ولله الحمد.

ومنها قوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [سورة الصافات : ٩٥. ٩٦].

__________________

(١) الأجرام : الأجسام.

٨٩

وهذا نص جلي على أنه تعالى خالق أعمالنا.

وقد فسر بعضهم قول الله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦] أنه خلقنا وخلق العيدان والمعادن التي تعمل منها الأوثان.

قال أبو محمد : وهذا كلام سخيف دل على جهل قائله وعناده وانقطاعه ، لأنه لا يقول أحد في اللغة التي بها خوطبنا في القرآن وبها نتفاهم فيما بيننا أن الإنسان يعمل العود والحجر ، هذا ما لا يجوز في اللّغة أصلا ولا في المعقول ، وإنما يستعمل ذلك موصولا فنقول عملت هذا العود صنما ، وهذا الحجر وثنا.

فإنما بيّن الله تعالى أنه خلق الصنمية التي هي شكل الصنم ، فنص على ذلك بقوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٥ ، ٩٦].

فإنما النحت بنص الآية وضرورة الحس ، هو الذي عملنا ، وهو الذي أخبر تعالى أنه خلقنا.

قال أبو محمد : وقد ذكر عن كبير منهم وهو محمد بن عبد الله الإسكافي (١) أنه كان يقول إنّ الله تعالى لم يخلق العيدان ولا الطنابير ولا المزامير.

ولقد يلزم المعتزلة أن توافقه على هذا ، لأن الخشبة لا تسمى عودا ولا طنبورا ، ولو حلف إنسان أنه لا يشتري طنبورا فاشترى خشبا لم يحنث ، ولو حلف أن لا يشتري خشبا فاشترى طنبورا لم يقع عليه حنث لأن الطنبور لا يقع عليه في اللغة اسم خشبة.

وقال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [سورة السجدة : ٤] فهي مخلوقة بنص القرآن.

وقد قال بعضهم : إنما خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام فكانت أعمال العبد مخلوقة في تلك الستة الأيام.

قال أبو محمد : لم ينف الله تعالى أن يخلق شيئا بعد الستة الأيام ، بل قال عزوجل : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [سورة الزمر : ٦].

__________________

(١) هو العلامة أبو جعفر محمد بن عبد الله السمرقندي الإسكافي المتكلم. كان في صباه خياطا ، ثم برع في الكلام وبقي المعتصم معجبا به كثيرا ، فأدناه وأجزل عطاءه. ذكر له النديم مصنفات عدة ، منها «نقض كتاب حسين النجار» وكتاب «الرّدّ على من أنكر خلق القرآن» وكتاب «تفضيل عليّ». توفي الإسكافي سنة ٢٤٠ ه‍. انظر ترجمته في الفهرست (ص ٢١٣) وسير أعلام النبلاء (١٠ / ٥٥٠) وطبقات المعتزلة (ص ٧٨).

٩٠

وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون : ١٢ ـ ١٤].

وكان هذا كله في غير تلك الستة الأيام ، فإذ قد جاء النص بأن الله تعالى يخلق بعد تلك الأيام أبدا ، ولا يزال يخلق بعد ناشئة الدنيا ، ثم لا يزال يخلق نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أبدا بلا نهاية ، إلا أن عموم خلقه تعالى السموات والأرض وما بينهما باق على كل موجود.

وقال بعضهم : لا نقول إن أعمالنا بين السماء والأرض لأنها غير مماسة للسماء والأرض.

قال أبو محمد : وهذا عين التخليط لأن الله تعالى لم يشترط المماسة في ذلك ، وقد قال تعالى : (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [سورة البقرة : ١٦٤].

فصح أن السحاب ليست مماسة للسماء ولا للأرض.

فهي إذن على قول هذا الجاهل غير مخلوقة.

ويلزمه أيضا أن يقول بقول معمّر والجاحظ ، في أن الله تعالى لم يخلق الألوان ولا الطعوم ولا الروائح ، ولا الموت ولا الحياة ، لأن كل هذا غير مماس للسماء ولا للأرض.

قال أبو محمد : فأمّا قول معمر والجاحظ إن كل هذا فعل الطبيعة فغباوة شديدة ، وجهل بالطبيعة ومعنى لفظ الطبيعة إنما هو قوة في الشيء تجري بها كيفياته على ما هي عليه. وبالضرورة نعلم أن تلك القوة عرض لا تعقل ، وكل ما كان مما لا اختيار له من جسم أو عرض كالحجارة وسائر الجمادات فمن نسب إلى ما يظهر أنها أفعاله وهي مخترعة لها فهو في غاية الجهل ، فبالضرورة نعلم أن تلك الأفعال خلق غيرها فيها ولا خالق لها هاهنا إلا الله تعالى خالق الكل ، وهو الله لا إله إلا هو.

قال أبو محمد : ومن بلغ هاهنا فقد كفانا الله تعالى شأنه لمجاهرته بالجهل العظيم والكفر المجرد في موافقته أهل الدّهر في تكذيبه للقرآن ، إذ يقول الله تعالى : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [سورة الملك : ٢].

وقوله تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [سورة الرعد : ٤]. فأخبر تعالى أن تفاضلها في الطعوم من فعله عزوجل ، نعوذ بالله مما ابتلاهم به ، وأقحمهم فيه.

٩١

وقال معمّر : معنى قوله تعالى (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] إنما معناه خلق الإماتة والإحياء.

قال أبو محمد : فما زاد على أنه أبدى تمام جهله بوجهين.

أحدهما : إحالته النص من كلام ربه عزوجل بلا دليل.

والثاني : أنه لم يزل عمّا لزمه ، لأن الموت والحياة هما الإحياء والإماتة بلا شك ، لأن الإحياء والحياة هو جمع النفس مع الجسد المركب الأرضي ، والموت والإماتة شيء واحد وهو التفريق بين الجسد والنفس المذكورة فقط.

وإذا كان جمع الجسد والنفس وتفريقهما مخلوقين لله عزوجل فقد صح أن الموت والحياة مخلوقان له عزوجل يقينا ، وبطل تمويه هذا المجنون.

قال أبو محمد : ومن النصوص القاطعة في هذا المعنى قول الله عزوجل : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [سورة القمر : ٤٩]. فلجأ بعضهم إلى عدوى الخصوص وذكروا قول الله تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [سورة الأحقاف : ٢٥].

وقال تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة النمل : ٢٣].

وقوله : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) [سورة الأنعام : ٤٤].

قال أبو محمد : وهذا كله لا حجة لهم فيه لأن قوله تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) بيان جلي على أنّها إنما دمرت كل شيء أمرها الله عزوجل بتدميره ، لا ما لم يأمرها ، فهو عموم لكل شيء أمرها به الله عزوجل.

وقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).

فمن للتبعيض : فمن آتاه الله تعالى شيئا من الأشياء فقد آتاه من كل شيء ، لأنه قد آتاه بعض الأشياء ، وأما قوله تعالى : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) فحق ونحن وهم سواء في أنا لا ندري كيفية ذلك الفتح إلا أننا ندري أن الله تعالى صدق فيما قال ، وأنه تعالى إنما آتاهم بعض الأشياء التي فتح عليهم أبوابها ، ثم لو صح برهان في بعض هذا العموم أنه ليس على ظاهره وأنه أريد به الخصوص لما وجب من ذلك أن يحمل كل عموم على خلاف ظاهره ، بل كل عموم على ظاهره حتى يقوم برهان بأنه مخصوص أو أنه منسوخ فيوقف عنده ولا يتعدى بالتخصيص أو بالنسخ إلى ما لم يقم

٩٢

برهان بأنه منسوخ أو مخصوص ولو كان غير هذا لما صحت حقيقة في شيء من أخبار الله تعالى ولا صحت شريعة أبدا.

إذ لا يعجز أحد في كل أمر من أوامر الله تعالى وفي كل خبر من أخباره عزوجل أن يحمله على غير ظاهره ، وعلى بعض ما يقتضيه عمومه ، وهذا عين السفسطة والكفر والحماقة ونعوذ بالله من الخذلان.

ولم يقم برهان على تخصيص قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩].

قال أبو محمد : ومن ذلك قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [سورة الحديد : ٢٢ ـ ٢٣].

قال أبو محمد : فنص على أنه برأ المصائب كلها ، فهو بارئ لها ، والبارئ هو الخالق نفسه بلا شك ، فصح يقينا أن الله تعالى خالق كل شيء ، إذ هو خلق كل مصيبة في الأرض وفي النفوس ، ثم زاد تعالى بيانا برفع الإشكال جملة بقوله (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [الحديد : ٢٣].

فبيّن تعالى أن ما أصاب الأموال والنفوس من المصائب فهو خالقها. وقد تكون تلك المصائب أفعال الظالمين بإتلاف الأموال وأذى النفوس ، فنص تعالى على أن كل ذلك خلق له عزوجل ، وبه التوفيق.

وأمّا من طريق النظر (١).

فإن الحركة الثقيلة نوع واحد وكل ما يسأل عنه تعالى على جهة النوع فهو منقول على أشخاص ذلك النوع ولا بدّ ، فإن كان النوع مخلوقا فأشخاصه مخلوقة ، وأيضا فلو كان في العالم شيء غير مخلوق لله تعالى لكان من قال : العالم مخلوق والأشياء مخلوقة وما دون الله تعالى مخلوق لله ، كاذبا لأن في كل ذلك عندهم ما ليس بمخلوق ولكان من قال : من العالم غير مخلوق ولم يخلق الله تعالى العالم ، أو الأشياء كلها صادقا ، ونعوذ بالله من قول أدّى إلى هذا.

ونسألهم : هل الله تعالى إله ما في العالم ورب كل شيء أم لا؟ فإن قالوا : نعم ، سئلوا عموما أم خصوصا؟ فإن قالوا : بل عموما صدقوا ، ولزمهم ترك قولهم ، فمحال أن يكون إلها لم يخلق.

__________________

(١) أي البرهان على صحة قول من قال إن الله تعالى خلق أفعال العباد كلها ، من طريق النظر ، بعد أن برهن على ذلك من النصوص.

٩٣

وإن قالوا : بل خصوصا. قيل لهم : ففي العالم إذن ما ليس الله تعالى إلها له ، وما لا رب له ، فإن كان هذا فمن قال إن الله تعالى رب العالمين كاذب ، ومن قال : ليس الله تعالى إلها للعالمين ولا ربا للعالمين صادق.

وهذا خروج عن الإسلام وتكذيب لله تعالى في قوله : إنه رب العالمين وخالق كل شيء. وقد وافقونا على أن الله تعالى خالق حركات المختارين ، من سائر الحيوان غير الملائكة والإنس والجن ، وبالضرورة ندري أن الحركات الاختيارية كلها نوع واحد ، فمن المحال الباطل أن يكون بعض النوع مخلوقا ، وبعضه غير مخلوق.

قال أبو محمد : واحتجوا بأشياء من القرآن وهي أنهم قالوا : قال الله عزوجل : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [سورة البقرة : ٧٩].

وقال تعالى : (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [سورة آل عمران : ٧٨]. وقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون : ١٤].

وقوله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) [سورة العنكبوت : ١٧].

وقوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [سورة النمل : ٨٨].

وقوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [سورة السجدة : ٧].

وقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [سورة الملك : ٣].

واعترضوا بأشياء من طريق النظر وهي أن قالوا : إن كان الله عزوجل خلق أفعال العباد فهو إذن يغضب مما خلق ، ويكره ما فعل ويسخط فعله ، ولا يرضى ما فعل ولا ما دبّر.

وقالوا أيضا : كل من فعل شيئا فهو مسمّى به ومنسوب إليه لا يعقل غير ذلك ، فلو خلق الله تعالى الخطأ والكذب والكفر والظلم لنسب كل ذلك إليه ، تعالى الله عن ذلك.

وقالوا أيضا : لا يعقل فعل واحد من فاعلين ، هذا فعله كله ، وهذا فعله كله.

وقالوا أيضا : أنتم تقولون : إن الله عزوجل خلق الفعل ، وأن العبد اكتسبه. فأخبرونا هل هذا الاكتساب الذي انفرد به العبد ، أهو خلق الله تعالى أم هو غيره ..؟ فإن قلتم : إنه خلق الله تعالى لزمكم أنكم خالقون له ، وأنه تعالى اكتسبه إذ الخلق هو

٩٤

الكسب ، والكسب هو الخلق. وإن قلتم : إن الكسب غير الخلق ، وليس خلقا لله تركتم قولكم ، ورجعتم إلى قولنا.

وقالوا أيضا إذا كانت أفعالكم مخلوقة لله تعالى ، وأنتم تقولون إنكم مستطيعون على فعلها وعلى تركها ، فقد أوجدتم أنكم مستطيعون على أن لا يخلق الله بعض خلقه.

وقالوا أيضا : إذا كان فعلكم خلقا لله عزوجل ، وعذبكم على فعلكم فقد عذبكم على ما خلق.

وقالوا أيضا قد فرض الله علينا الرضى بما خلق فإن كان الظلم والكفر والكذب مما خلق ، ففرض علينا الرضى بالكفر والظلم والكذب.

قال أبو محمد : هذه عمدة اعتراضاتهم التي لا يشذ عنها شيء من تفريعاتهم. وكل ما ذكروا لا حجة لهم فيه على ما نبين إن شاء الله تعالى بعونه وتأييده ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

فنقول وبالله تعالى التوفيق : أمّا قول الله تعالى : (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) [سورة البقرة : ٧٩]. فلا حجة لهم في هذا لأن أول الآية في قوم كتبوا كتابا وقالوا هذا من عند الله ، فأكذبهم الله تعالى في ذلك وأخبر أنه ليس منزلا من عنده ولا مما أمر به تعالى ، ولم يقل هؤلاء القوم إن هذا الكتاب مخلوق ، فأكذبهم الله عزوجل في ذلك وقال تعالى إن هذا الكتاب ليس مخلوقا لله ، فبطل تعلّقهم بهذه الآية جملة. ولا شك عند المعتزلة وعندنا أن ذلك الكتاب مخلوق لله عزوجل ، لأنه قرطاس أو أديم ومداد وكل ذلك مخلوق بلا شك.

وأما قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون : ١٤].

فقد علمنا أنّ كتاب الله عزوجل لا يتعارض ولا يتدافع.

قال الله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء : ٨٢].

فإذ لا شك في هذا فقد وجدناه تعالى أنكر على الكافرين.

فقال تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [سورة الرعد : ١٦].

فهذه الآية تثبت فساد ما تعلقت به المعتزلة وذلك أن قوما جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ، فجعلوهم خالقين فأنكر الله تعالى ذلك ، فعلى هذا خرج قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون : ١٤].

٩٥

كما قال تعالى : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً) [سورة الطارق : ١٥ و ١٦] وكما قال : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [سورة آل عمران : ٥٤].

ويبين بطلان ظنون قول المعتزلة في هذه الآية قول الله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) [سورة فصلت : ٤٧]. أفيكون مسلما من أوجب لله تعالى شركاء من أجل قوله للكفار الذين جعلوا لله شركاء أين شركائي؟ لا شك أن هذا الخطاب إنما خرج جوابا عن إيجابهم له الشركاء ، تعالى الله عن ذلك.

وكذلك قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [سورة الدخان : ٤٩].

إنما هذا على حكم ذلك المعذّب لنفسه في الدنيا أنه العزيز الكريم وقد علمنا أن كلام الله عزوجل كله على ظاهره ، إلا أن ينقله عن ظاهره نص آخر ، أو إجماع ، أو ضرورة عقل.

وبضرورة العقل وبالنص علمنا أنه ليس لله تعالى شركاء ، وأنه لا خالق غيره عزوجل ، وأنه خلق كل شيء في العالم من عرض أو جوهر ، وبهذا خرج قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون : ١٤] مع قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [سورة النحل : ١٧].

فلو أمكن أن يكون في العالم خالق غير الله تعالى يخلق شيئا لما أنكر ذلك عزوجل إذ هو عزوجل لا ينكر وجود الموجودات ، وإنما ينكر وجود الباطل ، فصحّ ضرورة لا شك فيها أنه لا خالق غير الله تعالى.

فإذ لا شك في هذا فليس في قوله عزوجل (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) إثبات بأن في العالم خالق غير الله تعالى يخلق شيئا وبالله تعالى التوفيق.

وأما قوله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) [سورة العنكبوت : ١٧].

وقوله تعالى عن المسيح صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً) [سورة آل عمران : ٤٩].

وقول زهير بن أبي سلمى المزني شعرا :

وأراك تخلق ما فريت

وبعض القوم يخلق ثم لا يفري (١)

__________________

(١) الرواية الصحيحة للشطر الأول : «ولأنت تفري ما خلقت». والبيت في ديوان زهير (ص ٩٤) ولسان العرب ١٠ / ١٨٧ (خلق) و ١٥ / ١٥٣ (فرا) وتهذيب اللغة (٧ / ٢٦ ، ١٥ / ٢٤٢) ومقاييس اللغة (٢ / ٢١٤ ، ٤ / ٤٩٧) وديوان الأدب (٢ / ١٢٣) وكتاب الجيم (٣ / ٤٩) والمخصص (٤ / ١١١) وجمهرة اللغة (ص ٦١٩) وتاج العروس (مادة فرا).

٩٦

فقد قلنا إن كلام الله عزوجل لا يختلف وقد قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [سورة النحل : ١٧].

وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [سورة الفرقان : ٣].

ويتعين على كل ذي عقل أن من جملة أولئك الآلهة الذين اتخذهم الكفار : الجن والملائكة والمسيح عليه‌السلام.

قال الله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [سورة المائدة : ١٧].

وقال حاكيا عن الملائكة أنهم قالوا عن الكفار : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سورة سبأ : ٤١].

فقد صح يقينا بنص الآية أن الملائكة والجنّ والمسيح لا يخلقون شيئا أصلا ، ولا يختلف اثنان في أن جميع الإنس في فعلهم كمن ذكرنا إن كان هؤلاء يخلقون أفعلهم فسائر الناس يخلقون أفعالهم ، وإن كان هؤلاء لا يخلقون أفعالهم فسائر هؤلاء لا يخلقون شيئا من أفعالهم فإن ذلك كذلك ، وكلام الله عزوجل لا يختلف فإذ لا شك في هذا فإن الخلق الذي أثبته الله تعالى للمسيح عليه‌السلام في الطير ، وللكفار في الإفك ، هو غير الخلق الّذي نفاه عنهم وعن جميع الخلق ، لا يجوز البتة غير هذا.

فإذ هذا هو الحق بيقين فالخلق الذي أوجبه الله تعالى لنفسه ونفاه عن غيره هو الاختراع والإبداع وإحداث الشيء من لا شيء بمعنى من عدم إلى وجود ، وأمّا الخلق الذي أوجبه الله لغيره فإنما هو ظهور الفعل منهم فقط ، وانفرادهم به ، والله خالقه فيهم.

وبرهان ذلك أن العرب تسمّي الكذب اختلاقا ، والقول الكاذب مختلقا.

وذلك القول بلا شك إنما هو لفظ ومعنى ، واللفظ مركّب من حروف الهجاء ، وقد كان ذلك موجودا لشيء قبل وجود أشخاص هؤلاء المختلقين وهذا كقوله عزوجل : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [سورة الواقعة : ٦٣ ، ٦٤].

وبيقين يدري كل ذي حس سليم مؤمن بالله تعالى وبالقرآن أن الزرع والرمي والقتل الذي نفاه الله تعالى عن الناس وعن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو غير الزرع والرمي والقتل الذي أضافه إليهم ، لا يمكن البتة غير ذلك ، لأنه تعالى لا يقول إلا الحق ، فإذ ذلك كذلك فإن الذي نفاه عمن ذكرنا هو خلق كل ذلك واختراعه ، وإبداعه وتكوينه ،

٩٧

وإخراجه من عدم إلى وجود والذي أوجب لهم منه ظهوره فيهم ونسبه كله إليهم فقط. وبالله تعالى التوفيق.

وقول زهير «ولأنت تخلق ما فريت» لا يشك من له أقل فهم بالعربية أنه لم يعن الإبداع ، ولا إخراج الخلق من عدم إلى وجود ، وإنما أراد النفاذ في الأمر فقط ، فقد وضح أن لفظة الخلق مشتركة تقع على معنيين : أحدهما : لله تعالى لا لأحد دونه ، وهو الإبداع والإخراج من عدم إلى وجود.

والثاني : الكذب فيما لم يكن ، أو ظهور فعل لم يتقدم لغيره ، أو نفاذ فيما يحاول ، وهذا كلّه موجود في الحيوان ، والله خالق كل ذلك وبالله تعالى التوفيق. وبهذا تتالت الأحاديث كلها وأما قوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [سورة النحل : ٨٨] فهو عليهم لا لهم ، لأن الله تعالى أخبر أنه بصنعه أتقن كل شيء ، وهذا على عمومه وظاهره ، فالله تعالى صانع كل شيء ومتقنه ، وإتقانه له أن خلقه جوهرا أو عرضا جاريين على رتبة واحدة أبدا وهذا عين الإتقان.

وأما قوله تعالى : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [سورة السجدة آية رقم : ٧] فإنهما قراءتان مشهورتان من قراءات المسلمين. إحداهما : «أحسن كل شيء خلقه» بإسكان اللام فيكون خلقه بدلا من كل شيء ، بدل البيان ، فهذه القراءة عليهم ، لأن معناها أن الله تعالى أحسن خلقه لكل شيء وصدق الله عزوجل ، وهكذا نقول : إن خلق الله لكل شيء حسن ، والله تعالى محسن في كل شيء والقراءة الأخرى «خلقه» بفتح اللام. وهذه أيضا لا حجة لهم فيها ، لأنه ليس فيها إيجاب ، لأن هاهنا أشياء لم يخلقها الله عزوجل ، ومن ادّعى أن هذا مقتضى الآية فقد كذب ، وإنما يقتضي لفظ الآية : أن كل شيء فالله تعالى خلقه كما في سائر الآيات ، والله تعالى أحسن كل شيء إذ خلقه ، وهذا قولنا ، وكذلك نقول إن الإنسان لا يفعل شيئا إلا الحركة أو السكون والاعتقاد والإرادة والفكر ، وكل هذه كيفيات وأعراض حسان خلقها الله تعالى فقد أحسن رتبتها وإيقاعها في النفوس والأجسام ، وإنما قبّح ما قبّح من ذلك من الإنسان ، لأن الله تعالى سمّى وقوع ذلك أو بعضه ممن وقعت منه قبيحا ، وسمّى بعض ذلك حسنا ، كما كانت الصلاة إلى بيت المقدس حركة حسنة إيمانا ، ثم سماها الله تعالى قبيحة كفرا وهذه تلك الحركة نفسها فصحّ أنه ليس في العالم شيء حسن لعينه ، ولا شيء قبيح لعينه ، لكن ما سمّى الله حسنا فهو حسن وفاعله محسن.

قال تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) [سورة الإسراء : ٧].

٩٨

وقال تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [سورة الرحمن : ٦٠].

وما سماه الله تعالى قبيحا فهو حركة قبيحة ، وقد سمى الله تعالى خلقه لكل شيء في العالم حسنا ، فهو كله من الله تعالى حسن ، وسمّى ما وقع من ذلك من عباده كما شاء. فبعض ذلك قبّحه فهو قبيح ، وبعض ذلك حسّنه فهو حسن ، وبعض ذلك قبّحه ثم حسّنه. فكان قبيحا ثم حسنا ، وبعض ذلك حسّنه ثم قبّحه فكان حسنا ثم قبح ، كما صارت الصلاة إلى الكعبة حسنة بعد أن كانت قبيحة ، وكذلك جميع أفعال الناس التي خلقها الله تعالى فيهم كالوطء قبل النكاح وبعده ، وكسبي من نقض الذمة وكسائر الشريعة كلها.

وقد اتفقت المعتزلة معنا على أن الله تعالى خلق الخمر والخنازير ، والحجارة المعبودة من دونه ، وأن كل ذلك منه تعالى حسن بلا شك ، وهي مسماة قبائح وأرجاسا وحراما ونجسا وسيئا وخبيثا وهكذا القول في خلقه للأعراض في عباده ولا فرق ، وكذلك وافقنا أكثرهم على أنه تعالى خلق فساد الدماغ والجنون المتولد منه والجذام والعمى والصمم والفالج والحدبة والأدرة (١) وكل هذا من خلق الله تعالى له حسن ، وكله فيما بيننا قبيح رديء جدّا يستعاذ بالله تعالى منه.

وقد نص الله تعالى على أنه خلق المصائب كلها ، فقال عزوجل (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [سورة الحديد : ٢٢].

فنص تعالى على أنه برأ المصائب كلها ، وبرأ : خلق بلا خلاف من أحد ، ولا فرق بين إلزامهم إيانا أن الله تعالى أحسن الكفر والظلم والجور والكذب والقبائح إذ خلق كل ذلك وبين إقرارهم معنا أن الله قد أحسن الخمر والخنازير والدم والميتة والعذرة وإبليس وكل من قال : أنا إله من دون الله تعالى والأوثان المعبودة من دون الله تعالى والمصائب كلها والأمراض والعاهات إذ خلق كل ذلك ، فأي شيء قالوه في هذه الأشياء هو قولنا في خلق الله تعالى للكفر به ولشتمه والظلم والكذب ولا فرق ، وكل ذلك قد أحسن الله تعالى خلقه ، إذ خلقه حركة أو سكونا أو تمييزا في النفس ، وسمّى ظهوره من العبد قبيحا ، موصوفا به الإنسان.

وأما قوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [سورة الملك : ٣].

__________________

(١) الأدرة : انتفاخ الخصية لتسرب سائل فيها (المعجم الوسيط : ص ١٠).

٩٩

فلا حجة لهم فيه أصلا لأن التفاوت المعهود : ما نافر النفوس أو خرج عن المعهود فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتا ، فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه فإذ ليس هو هذا الذي يسميه الناس تفاوتا ، فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى عما خلق هو شيء غير موجود فيه البتة ، لأنه لو وجد في خلق الله تعالى تفاوت لكذب قول الله عزوجل (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [سورة الملك : ٣].

ولا يكذّب الله تعالى إلا كافر ، فبطل ظن المعتزلة أن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت لأن كل ذلك موجود في خلق الله تعالى ، مرئي مشاهد بالعيان فيه. فبطل احتجاجهم. والحمد لله رب العالمين.

فإن قال قائل : فما هذا التفاوت الذي أخبر الله تعالى أنه لا يرى في خلقه ..؟

قيل لهم نعم وبالله تعالى التوفيق : هو اسم لا يقع على مسمّى موجود في العالم أصلا ، بل هو معدوم جملة ، إذ لو كان شيئا موجودا في العالم لوجد التفاوت في خلق الله تعالى ، والله تعالى قد أكذب هذا وأخبر أنه لا يرى في خلقه ، ثم نقول وبالله تعالى نتأيد : إن العالم كله ما دون الله تعالى وهو كله مخلوق لله تعالى ، أجسامه وأعراضه كلها ، لا نحاشي شيئا منها ، ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه وأنواع أجسامه جرت القسمة جريا مستويا في تفصيل أجناسه وأنواعه بحدودها المميزة لها وفصولها المفرقة بينها على رتبة واحدة ، وهيئة واحدة ، إلى أن يبلغ الأشخاص التي تلي أنواع الأنواع لا تفاوت في شيء من ذلك البتة بوجه من الوجوه ، ولا تخالف في شيء منه أصلا ، ومن وقف على هذا علم أن الصورة المستقبحة عندنا والصورة المستحسنة عندنا واقعتان معا تحت نوع الشكل والتخطيط ، ثم تحت نوع الكيفية ، ثم تحت اسم العرض ، وقوعا مستويا لا تفاضل فيه ولا تفاوت البتة.

وكذلك أيضا نعلم أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع الاعتقاد ، ثم تحت نوع النفس ، ثم تحت نوع الكيفية والعرض ، وقوعا مستويا لا تفاوت فيه من هذا الوجه من التقسيم ، وكذلك أيضا نعلم أن الإيمان والكفر باللسان واقعان تحت نوع الهواء بآلات الكلام ، ثم تحت نوع الحركة وتحت نوع الكيفية ، وتحت نوع العرض وقوعا مستويا لا تفاوت فيه ولا اختلاف ، وهكذا القول في الظلم وفي الإنصاف وفي العدل وفي الجور وفي الصدق ، وفي الكذب وفي الزنا ، وفي الوطء الحلال والوطء الحرام ولا فرق ، وكذلك كل ما في العالم حتى ترجع جميع الموجودات إلى الرءوس الأول التي ليس فوقها رأس يجمعها إلا كونها مخلوقة لله عزوجل ، وهي الجوهر

١٠٠