الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

العربية في أنهما إنما عنيا بذلك القوة على وجود زاد وراحلة ، وبرهان ذلك أن الزاد والرواحل كثير في العالم ، وليس كونهما في العالم موجبا عندهما فرض الحج على من لا يجدهما.

فصح ضرورة أنهما إنما عنيا بذلك قوة على إحضار زاد وراحلة ، والقوة على ذلك عرض كما قلنا وبالله تعالى التوفيق.

وهكذا القول إن ذكروا قول الله عزوجل : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) [سورة الأنفال : ٦٠].

لأن هذا نص قولنا لأن القوة عرض ، ورباط الخيل عرض ، فسقط هذا القول أيضا. فإذ قد سقطت هذه الأقوال كلها وصح أن الاستطاعة عرض من الأعراض ، فواجب علينا معرفة ما تلك الأعراض؟ فنظرنا في ذلك بعون الله وتأييده ، فوجدنا بالضرورة الفعل لا يقع منه باختيار إلا من صحيح الجوارح التي بها يكون ذلك الفعل ، فصح يقينا أن سلامة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة ، ثم نظرنا سالم الجوارح لا يفعل مختارا إلا حتى يستضيف إلى ذلك إرادة الفعل ، فعلمنا أن الإرادة أيضا محركة للاستطاعة ولا نقول : إن الإرادة استطاعة ، لأن كل عاجز عن الحركة فهو مريد لها وهو غير مستطيع ، وقد علمنا ضرورة أن العاجز عن الفعل فليس فيه استطاعة للفعل لأنهما ضدان ، والضدان لا يجتمعان معا ، ولا يمكن أيضا أن تكون الإرادة بعض الاستطاعة لأنه كان يلزم من ذلك أن في العاجز المريد استطاعة ما ، لأن بعض الاستطاعة استطاعة ، وبعض العجز عجز ، ومحال أن يكون في العاجز عن الفعل استطاعة له البتة.

والاستطاعة ليست عجزا فإن من استطاع على شيء وعجز عن أكثر منه ففيه استطاعة على ما يستطيع عليه ، وفيه عجز أيضا عما لا يستطيع عليه ، هو غير الاستطاعة فيه على ما استطاع عليه ، ثم نظرنا فوجدنا السالم الجوارح المريد للفعل قد يعترضه دون الفعل مانع لا يقدر معه على الفعل أصلا ، فعلمنا أن هاهنا شيئا آخر به تتم الاستطاعة ولا بدّ ، وبه يوجد الفعل ، فعلمنا ضرورة أن هذا الشيء هو تمام الاستطاعة ولا بد ، فلا تصح الاستطاعة إلا به. فهو بالضرورة قوة ، إذ الاستطاعة قوة وإذا ذلك الشيء قوة ولا بد ، فقد علمنا أنه ما أتى به من عند الله تعالى لأنه تعالى مؤتي القوى ،

__________________

٢٨٩٦) عن ابن عمر قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال : «الزاد والراحلة».

٦١

إذ لا يمكن ذلك لأحد دونه عزوجل ، فصح ضرورة أن الاستطاعة صحة الجوارح مع ارتفاع الموانع ، وهذان الوجهان قبل الفعل قوة أخرى من عند الله عزوجل وهذا الوجه مع الفعل باجتماعها يكون الفعل وبالله تعالى التوفيق.

ومن البرهان على صحة هذا القول إجماع الأمة كلها على سؤال الله عزوجل التوفيق والاستعانة والاستعاذة من الخذلان ، فالقوة التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها الخير تسمى توفيقا وتأييدا وعصمة ، والقوة التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها الشر تسمى بالإجماع خذلانا ، والقوة التي ترد من الله تعالى فيفعل بها العبد ما ليس طاعة ولا معصية تسمى عونا أو قوة أو حولا ، وتبين من صحة هذا قول المسلمين لا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

والقوة لا يكون لأحد البتة فعل إلا بها ، فصح أنه لا قوة لأحد إلا بالله تعالى ، ذلك يسمى تيسيرا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ ميسّر لما خلق له». (١) وقد وافقنا جميع المعتزلة على أن الاستطاعة فعل الله تعالى وأنه لا يفعل أحد خيرا ولا شرا إلا بقوة أعطاها الله تعالى إياها ، إلا أنهم قالوا : إنما يصلح بها الخير والشر معا.

قال أبو محمد : فجملة القول في هذا أن عناصر الأخبار ثلاثة وهي ممتنع ، أو واجب ، أو ممكن بينهما. هذا أمر يعلم بضرورة العقل والحس والتمييز ، فإذ الأمر كذلك فإن صحة الجوارح ، وارتفاع الموانع ، استطاعة بها يمكن وجود الفعل ويكون لا واجبا ولا ممتنعا ، وبعده يكون الفعل ممتنعا ، إذ لا سبيل لعادم صحة الجوارح أو من له مانع إلى الفعل ، وأما الصحيح الجوارح المرتفع الموانع فقد يكون فيه الفعل وقد لا يكون ، فهذه الاستطاعة الموجودة قبل الفعل ، برهان ذلك قوله تعالى حكاية عن القائلين (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [سورة التوبة : ٤٢]. فأكذبهم الله تعالى في إمكان استطاعة الخروج قبل الخروج ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [سورة آل عمران : ٩٧].

__________________

(١) روي في الصحاح بألفاظ وطرق متعددة. فرواه البخاري في تفسير سورة ٩٢ باب ٣ و ٤ و ٥ و ٧ ، والأدب باب ١٢٠ ، والقدر باب ٤ ، والتوحيد باب ٥٤. ومسلم في القدر حديث ٦ و ٧ و ٨. وأبو داود في السنّة باب ١٦. والترمذي في القدر باب ٣ ، وتفسير سورة ١١ باب ٣. وابن ماجة في المقدمة باب ٢١٠ ، والتجارات باب ٢. وأحمد في المسند (١ / ٦ ، ٢٩ ، ٨٢ ، ١٢٩ ، ١١٣ ، ١٤٠ ، ١٥٧ ، ٢ / ٥٢ ، ٧٧ ، ٣ / ٢٩٣ ، ٤ / ٦٧ ، ٤٣١).

٦٢

فلو لم يكن هاهنا قبل الفعل الذي هو فعل المرء الحج لما لزم الحج إلا لمن حج فقط ، ولما كان أحد عاصيا بترك الحج لأنه إن لم يكن مستطيعا الحج حتى يحج فلا حج عليه ، ولا هو مخاطب بالحج ، وقوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) [سورة النساء : ٩٢].

فلو لم يكن على المظاهر العائد لقوله استطاعة على الصيام قبل أن يصوم لما كان مخاطبا بوجوب الصوم عليه ، إذا لم يجد الرقبة أبدا ولكان حكمه مع عدم الرقبة وجوب الإطعام فقط ، وهذا باطل.

وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن تابعه من أصحابه رضي الله عنهم : «فيما استطعتم» ، (١) وأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يصلوا قياما فمن لم يستطع فقاعدا ، فمن لم يستطع فعلى جنب ، (٢) في هذا إجماع متفق على صحته لا شك فيه ، فلو لم يكن الناس مستطيعين معذورا إن صلى قاعدا أو على جنب بكل وجه ، لأنه إذا صلى كذلك لم يكن مستطيعا للقيام وهذا باطل ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم» فلو لم تكن هاهنا استطاعة لشيء مما أمرنا به (٣) قبل أن نفعل لما أمرنا به ولما لزمنا شيء من ذلك ، ولكنا غير عصاة بالترك ، لأننا لم نكلف بالنص إلا ما استطعنا.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتستطيع أن تصوم شهرين؟» قال : لا. (٤)

__________________

(١) روى البخاري في الاعتصام (باب ٢ ، حديث ٧٢٨٨) عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دعوني ما تركتكم ، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». ورواه أيضا مسلم في الحج (حديث ٤١٢) والنسائي في المناسك باب ١ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١ ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٤٧ ، ٢٥٨ ، ٣١٤ ، ٣٥٥ ، ٣٦٨ ، ٤٤٨ ، ٤٥٧ ، ٤٦٧ ، ٤٨٢ ، ٤٩٥ ، ٥٠٨).

(٢) رواه البخاري في تقصير الصلاة باب ١٩ (حديث ١١١٧) وأبو داود في الصلاة باب ١٧٥ ، والترمذي في الصلاة باب ١٥٧ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٣٩ ، وأحمد في المسند (٤ / ٤٢٦). ولفظه كما عند البخاري : عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : كانت بي بواسير ، فسألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة فقال : «صلّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب».

(٣) انظر الحاشية رقم (١).

(٤) تمام الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما نحن جلوس عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ جاءه رجل فقال : يا رسول الله هلكت. قال : «ما لك؟» قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل تجد رقبة تعتقها»؟ قال : لا. قال : «فهل تستطيع أن تصوم شهرين

٦٣

فلو لم يكن أحد مستطيعا للصوم إلا حتى يصوم لكان هذا السؤال منه محالا وحاشا له من ذلك.

ومما يبين صحة هذا وأن المراد بكل ما ذكرنا سلامة الجوارح وارتفاع الموانع قول الله عزوجل : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) [سورة القلم : ٤٢ ، ٤٣].

فنص تعالى على أن في عدم السلامة بطلان الاستطاعة وأن وجود السلامة بخلاف ذلك ، فصح أن سلامة الجوارح استطاعة ، وإذ قد صح هذا فبيقين ندري أن سلامة الجوارح يكون بها الفعل وضده ، والعمل وتركه ، والطاعة والمعصية ، لأن كل هذا يكون بصحة الجوارح.

فإن قال قائل : فإن سلامة الجوارح عرض ، والعرض لا يبقى وقتين؟ قيل له : هذه دعوى بلا برهان ، والآيات المذكورات مبطلة لهذه الدعوى وموجبة أن هذه الاستطاعة من سلامة صحة الجوارح وارتفاع الموانع موجودة قبل الفعل ، ثم لو كان ما ذكرنا لما كان فيه دفع لما قاله الله تعالى من ذلك ، ثم وجدنا الله تعالى قد قال : (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) [سورة الكهف : ١٠١].

وقال تعالى حاكيا قول الخضر لموسى عليهما‌السلام : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) [سورة الكهف : ٦٧]. وقال : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [سورة الكهف : ٨٢].

وعلمنا أن كلام الله عزوجل لا يتعارض ولا يختلف.

قال الله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء : ٨٢].

فأيقنا أن الاستطاعة التي نفاها الله عزوجل هي غير الاستطاعة التي أثبتها ، لا يجوز غير ذلك البتة.

__________________

متتابعين؟» قال : لا. فقال : «فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟» قال : لا. قال : فمكث عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرق فيه تمر ـ والعرق : المكتل ـ قال : «أين السائل؟» فقال : أنا. قال : «خذها فتصدق به!» فقال الرجل : أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فو الله ما بين لابتيها ـ يريد الحرّتين ـ أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت أنيابه ، ثم قال : «أطعمه أهلك». رواه البخاري في الصوم باب ٣٠ (حديث ١٩٣٦) ورواه أيضا برقم ١٩٣٧ و ٢٦٠٠ و ٥٣٦٨ و ٦٠٨٧ و ٦١٦٤ و ٦٧٠٩ و ٦٧١٠ و ٦٧١١ و ٦٨٢١. ورواه أبو داود في الصوم باب ٣٧ ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٨١ ، ٥١٦).

٦٤

فإذ ذلك كذلك فالاستطاعة كما قلنا شيئان ، أحدهما قبل الفعل ، وهو سلامة الجوارح ، وارتفاع الموانع.

والثاني : لا يكون إلا مع الفعل ، وهو القوة الواردة من الله عزوجل بالعون أو الخذلان وهذا خلق الله تعالى للفعل فيما ظهر منه ، وسمي من أجل ذلك فاعلا ، لما ظهر منه إذ لا سبيل إلى وجود معنى غير هذا البتة ، فهذا هو حقيقة الكلام في الاستطاعة ، بما جاءت به نصوص القرآن والسنن والإجماع ، وضرورة الحس ، وبديهة العقل. فعلى هذا التقسيم بيّنا الكلام في هذا الباب ، فإذا نفينا وجود الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بذلك الاستطاعة التي بها يقع الفعل ويوجد واجبا ولا بد ، وهي خلق الله تعالى للفعل في فاعله ، فإذا أثبتنا الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بها صحة الجوارح ، وارتفاع الموانع التي بها يكون الفعل ممكنا متوهما ، لا واجبا ولا ممتنعا ، وبهذا يكون المرء مخاطبا مكلفا ، مأمورا ، منهيا ، وبعدمها يسقط عنه الخطاب ، والتكليف ، ويصير الفعل منه ممتنعا ، ويكون عاجزا عن الفعل.

قال أبو محمد رضي الله عنه : فإذ قد تبين ما الاستطاعة فنقول بعون الله عزوجل : ما اعترضت به المعتزلة الموجبة للاستطاعة جملة قبل الفعل ولا بد.

فنقول وبالله تعالى التوفيق : إنهم أيضا أخبرونا عن الكافر المأمور بالإيمان : أهو مأمور بما لا يستطيع أم بما يستطيع؟

فجوابنا وبالله تعالى نتأيد أننا قد بينا آنفا أن صحة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة ، وحامل هذه الصفة مستطيع بظاهر حاله من هذا الوجه ، وغير مستطيع لما لم يفعل الله تعالى فيه ما به يكون تمام استطاعة ووجود الفعل ، فهو مستطيع من وجه غير مستطيع من وجه آخر ، وهذا مع أنه نص القرآن كما أوردنا فهو أيضا مشاهد كالبنّاء المجيد ، فهو مستطيع بظاهر حاله ومعرفته بالبناء ، غير مستطيع بعدم الآلات التي لا يوجد البناء إلا بها.

وهكذا في جميع الأعمال ، وأيضا فقد يكون المرء عاصيا لله تعالى في وجه ، مطيعا له في وجه آخر ، مؤمنا بالله كافرا بالطاغوت.

فإن قالوا : قد نسبتم إلى الله تعالى تكليف ما لا يستطاع.

قلنا : هذا باطل بل ما نسبنا إليه تعالى إلا ما أخبر به عن نفسه أنه لا يكلف أحدا إلا ما يستطيع بسلامة جوارحه ، وقد يكلفه ما لا يستطيع في علم الله تعالى ، لأن الاستطاعة التي يكون بها الفعل ليست فيه بعد ، فلا يجوز أن يطلق على الله تعالى أحد القسمين دون الآخر.

٦٥

وأما قولهم : هذا كتكليف المعقد الجري ، والأعمى النظر ، وإدراك الألوان ، والارتفاع إلى السماء. فإن هذا باطل ، فإن هؤلاء ليس فيهم شيء من قسمي الاستطاعة ، فلا استطاعة لهم أصلا ، وأما الصحيح الجوارح ففيه أحد قسمي الاستطاعة وهو سلامة الجوارح ، فلو لا أن الله عزوجل أمننا بقوله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [سورة الحج : ٧٨] لكان غير منكر أن يكلف الله عزوجل الأعمى إدراك الألوان ، والمقعد الجري والطلوع إلى السماء ، ثم يعذبهم عند عدم ذلك منهم ، ولله تعالى أن يعذب من شاء دون أن يكلفه وأن ينعم من شاء دون أن يكلفه كما رزق من يشاء العقل وحرمه الجماد والحجارة وسائر الحيوان ، وجعل عيسى ابن مريم عليهما‌السلام نبيا في المهد عند ولادته ، وشدّ على قلب فرعون فلم يؤمن ، قال تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [سورة الأنبياء : ٢٣].

وليس في بداية العقل حسن ولا قبيح بعينه البتة.

وقالت المعتزلة : متى أعطي الإنسان الاستطاعة قبل وجود الفعل فإن كان قبل وجود الفعل قالوا : فهذا قولنا ، وإن كان حين وجود الفعل ، فما حاجتنا إليه؟

فجوابنا وبالله تعالى التوفيق : أن الاستطاعة قسمان كما قلنا.

فأحدهما : قبل الفعل ، ومع الفعل ، وهو صحة الجوارح وارتفاع الموانع.

والآخر : مع الفعل ، وهو العون والخذلان اللذان بهما يقع الفعل ، ولو لا هما لم يقع والآخر : مع الفعل ، وهو العون والخذلان اللذان بهما يعق الفعل ، ولو لا هما لم يقع كما قال الله تعالى ، ولو كانت الاستطاعة لا تكون إلا قبل الفعل ولا بد ، ولا تكون مع الفعل أصلا كما زعم أبو الهذيل (١) لكان الفاعل إذا فعل عديم الاستطاعة ، وفاعلا فعلا لا استطاعة له على فعله حين فعله ، وإذ لا استطاعة له عليه فهو عاجز عنه ، فهو فاعل عاجز عما يفعل معا ، وهذا تناقض ومحال بين.

قال أبو محمد : ولهم إلزامات سخيفة هي لازمة لهم ، كما تلزم غيرهم سواء سواء ، منها قولهم : متى أحرقت النار العود أفي حال سلامته وهو محرق؟ فإن كانت أحرقته في حالة سلامته فهو إذن محرق غير محرق. وإن كانت أحرقته وهو محروق فما الذي أحرقت فيه؟ وسؤالهم : متى كسر المرء العود؟ أكسره وهو صحيح فهو إذن مكسور صحيح؟ أو كسره وهو مكسور؟ فما الذي أحدث فيه؟ وكسؤالهم : متى أعتق المرء عبده في حال رقه فهو حر عبد معا؟ أو في حال عتقه؟ فأي معنى لعتقه إياه؟

__________________

(١) أبو الهذيل العلّاف ، تقدّم التعريف به.

٦٦

ومتى طلق المرء زوجته؟ أطلقها وهي غير مطلقة فهي مطلقة غير مطلقة معا؟ أم طلقها وهي مطلقة ، فما الذي أثر فيها طلاقه؟ ومتى مات المرء أفي حياته أم مات وهو ميت؟ ومثل هذا كثير.

قال أبو محمد : وهذه كلها سفسطة مجردة ، وسؤالات سخيفة مموهة ، والحق فيها أن تفريق النار أجزاء العود هو المسمى إحراقا ، وليس الإحراق شيئا غير ذلك ، وقولهم : هل أحرقته وهو محرق تخليط ، لأن ابتداء الإحراق هو ابتداء زوال ، لأن لا إحراق ولا كسر ثم كذلك في سائر ما قلنا. وهذه الأسئلة فيها إيهام أن الإحراق غير الإحراق ، وهذه سخافة.

وكذلك كسر العود إنما هو إخراجه عن حال الصحة ، والكسر نفسه هو حال العود حينئذ وكذلك إخراج العبد من الرق إلى العتق هو عتقه ولا مزيد ، ليست له حال أخرى.

وكذلك خروج المرأة من الزوجية إلى الطلاق : هو تطليقها نفسه.

وكذلك فراق الروح الجسد هو الإماتة ، وهو الموت نفسه ولا مزيد ليست هاهنا حالة أخرى وقع فيها ، وبالله تعالى التوفيق.

٦٧

الكلام في أن تمام الاستطاعة لا يكون

إلا مع الفعل لا قبله

قال أبو محمد : يقال لمن قال : إن الاستطاعة كلها ليست إلا قبل الفعل ، أو أنها قبل الفعل بتمامها ، وتكون أيضا مع الفعل ، أخبرونا عن الكافر هل يقدر قبل أن يؤمن في حال كفره على الإيمان قدرة تامة أم لا؟ وعن تارك الصلاة هل يقدر قدرة تامة على الصلاة في حال تركه لها؟ وعن الزاني هل يقدر عليه في حال زناه على ترك الزنى بأن لا يكون منه الزنا أصلا أم لا ..؟

وبالجملة فالأوامر كلها إنما هي أمر بحركة أو أمر بسكون ، أو أمر باعتقاد إثبات شيء ما أو أمر باعتقاد إبطال شيء ، وهذا كله يجمعه فعل أو ترك ، فأخبرونا هل يقدر الساكن المأمور بالحركة على الحركة في حال السكون ..؟ وهل يقدر المتحرك المأمور بالسكون على السكون في حال الحركة ..؟

وهو مأمور باعتقادات إثباته هل يقدر في حال اعتقاد إثباته على اعتقاد إبطاله أو بالعكس؟ وعن معتقد إثبات شيء ما وهو مأمور باعتقاد إبطاله ، هل يقدر في حال اعتقاده إثباته على اعتقاد إبطاله أم لا ..؟

وعن المأمور بالترك وهو فاعل ما أمر بتركه ، أيقدر على تركه في حال فعله فيكون فاعلا لشيء تاركا لذلك الشيء معا أم لا ..؟

فإن قالوا : نعم هو قادر على ذلك كابروا العيان ، وخالفوا المعقول والحس ، وأجازوا كل طامّة من كون المرء قائما قاعدا مؤمنا كافرا معا وهذا أعظم ما يكون من المحال الممتنع.

وإن قالوا : إنه لا يقدر على ذلك قدرة تامة يكون بها الفاعل لشيء هو فاعل لخلافه ، قالوا الحق ورجعوا إلى أنه لا يستطيع أحد استطاعة تامة يقع بها الفعل إلا حتى يفعله ، وكل هذا حق ، وكل جواب أجابوا به هاهنا فإنما هو إيهام ، ولواذ ومدافعة بالراح ، لأنه إلزام ضروري حسي متيقن لا محيد عنه ، وبالله تعالى التوفيق.

فإن قالوا : لسان نقول إنه يقدر على أن يجمع بين الفعلين المتضادين معا ، ولكنا قلنا إنه قادر على أن يترك ما هو فيه ويفعل ما أمر به.

٦٨

قيل لهم : هذا هو نفسه الذي أردنا منكم وهو أنه لا يقدر قدرة تامة ، ولا يستطيع استطاعة تامة على فعل ما دام فاعلا لما يمانعه ، فإذا ترك كل ذلك وشرع فيما أمر به ، فحينئذ تمت قدرته واستطاعته ، لا بد من ذلك ، وهذا هو نفسه ما موّهوا به في سؤالهم لنا : هل أمر الله تعالى العبد بما يستطيع قبل أن يفعله أم بما لا يستطيع حتى يفعل ..؟

وهذا لازم لهم ، لأنهم شنعوه وعظموه فلما ألزموه أنكروه ، ونحن لا ننكره ولا نرى ذلك إلزاما صحيحا فقبحه عائد عليهم ، وإنما يلزم الشيء لمن صححه ، وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : وقد أجاب في هذه المسألة عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبيّ البلخي ، أحد رؤساء المعتزلة القائلين بالأصلح ، بأن قال : إنا لا نختلف بأن الله تعالى قادر على تسكين المتحرك وتحريك الساكن ، وليس يوصف بالقدرة على أنه يجعله ساكنا متحركا معا.

قال أبو محمد : وليس كما قال الجاهل الملحد فيما وصف به الله تعالى ، بل هو قادر على أن يجعل الشيء ساكنا متحركا معا في وقت واحد من وجه واحد ، ولكن كلام البلخي هذا لازم لمن التزم هذه الكفرة الصلعاء ، من أن الله عزوجل لا يوصف بالقدرة على المحال ، وهذه طائفة معجّزة لله تعالى ، إلا أنها أدغمت قبيح قولها بأن قالت : لا يوصف بالقدرة على المحال.

ويقال لهم : لم لا يوصف بالقدرة على ذلك ألأن له قدرة على ذلك ولا يوصف بها ، أم لأنه لا قدرة له على ذلك؟ ولا محيد لهم عن هذا. وهذه طائفة جعلت قدرة ربها تعالى متناهية ، بل قطعوا بأنه تعالى لا يقدر على الشيء حتى يفعله ، وهذا كفر مجرد لا خفاء به ، ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد : ويقال للمعتزلة أيضا : أنتم تقرون معنا بأن الله عزوجل لم يزل عليما بأن كل كائن فإنه سيكون على ما هو عليه إذا كان ولم يزل الله تعالى عليما بأن فلانا سيطأ فلانة في وقت كذا فتحمل منه بولد يخلقه الله تعالى من منيّهما الخارج منهما عند جماعه إياها ، وأنه يعيش ثمانين سنة ، ويملك ويفعل ويصنع ، فإذا قلتم : إن ذلك الفلان يقدر قدرة تامة على ترك الوطء الذي لم يزل الله تعالى يعلم أنه سيكون ، وأنه يخلق منه ذلك الولد ، فقد قطعتم بأنه قادر على أن يمنع الله تعالى من خلق ما قد علم أنه سيخلقه ، وأنه قادر قدرة تامة على إبطال علم الله تعالى وهذا كفر ممن أجازه.

٦٩

فإن قال قائل فإنكم أنتم تطلقون أن المرء مستطيع قبل الفعل لصحة جوارحه فهذا يلزمكم. قلنا : هذا لا يلزمنا لأننا لم نطلق أن له قدرة تامة على ذلك أصلا ، بل قلنا إنه لا يقدر على ذلك قدرة تامة البتة ، ومعنى قولنا إنه مستطيع بصحة جوارحه أي أنه متوهّم منه ذلك لو كان ، ونحن لم نطلق الاستطاعة إلا على هذا الوجه حيث أطلقها الله تعالى.

فإن قالوا : إن الله تعالى قادر على كل ذلك ، ولا يوصف بالقدرة على فسخ علمه الذي لم يزل ، قلنا : وهذا أيضا مما تكلمنا فيه آنفا بل الله تعالى قادر على كل ذلك ، بخلاف خلقه ، على ما قد مضى كلامنا فيه وبالله تعالى التوفيق.

وقد نص الله تعالى على ما قلنا بقوله عزوجل : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [سورة التوبة : ٤٢].

إلى قوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) [سورة التوبة : ٤٦].

فأكذبهم الله عزوجل في نفيهم عن أنفسهم الاستطاعة التي هي صحة الجوارح وارتفاع الموانع ، ثم نص تعالى على أنه قادر «اقعدوا مع القاعدين».

ولا يكون هذا إلا أمر تكوين لا أمرا بالقعود ، لأنه تعالى ساخط عليهم لقعودهم ، وقد نص الله تعالى على أنه (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس : ٨٢].

فقد ثبت يقينا أنهم مستطيعون بظاهر الأمر بالصحة في الجوارح ، وارتفاع الموانع ، وأن الله تعالى كوّن فيهم قعودهم فبطل أن تتم استطاعتهم ، بخلاف فعلهم الذي ظهر منهم ، وقال عزوجل : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [سورة الكهف : ١٧].

فبين عزوجل بيانا جليا أن من أعطاه الهدى اهتدى ، ومن أضله فلا يهتدي ، فصح يقينا أن بوقوع الهدى له من الله تعالى وهو التوفيق يفعل العبد ما يكون به مهتديا ، وأنّ بوقوع الإضلال من الله تعالى ، وهو الخذلان وخلق ضلال العبد ، يفعل المرء ما يكون به ضلالا.

فإن قال قائل : معنى هذا أن من سماه الله تعالى مهتديا ، ومن سماه ضلالا قيل له هذا. قلنا له هذا باطل لأن الله تعالى نص على أن من أضلّه الله فلن تجد له وليا مرشدا فلو أراد الله عزوجل التسمية كما زعمتم ، لكان هذا القول منه عزوجل كذبا ،

٧٠

لأن كل ضال فله أولياء على ضلاله يسمونه مهتديا وراشدا ، وحاشا لله من هذا الكذب ، فبطل تأويلهم الفاسد ، وصح قولنا والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد :

وقال تعالى مخبرا عن الخضر عليه‌السلام الذي آتاه الله عزوجل العلم والحكم والنبوة ، حاكيا عن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفتاه : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [سورة الكهف : ٦٥].

وقال تعالى مخبرا عنه ومصدقا له : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) [سورة الكهف : ٨٢].

فصحّ أن كل ما قال الخضر عليه‌السلام فمن وحي الله تعالى ، ثم أخبر عزوجل بأن الخضر قال لموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) [سورة الكهف : ٦٧ و ٧٢].

فلم ينكر الله عزوجل على كلامه ذلك ولا أنكره موسى عليه‌السلام ولكن أجابه بأن قال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) [سورة الكهف : ٦٩].

فلم يقل له موسى عليه‌السلام : إني مستطيع للصبر ، بل صدق قوله في ذلك إذ أقره ولم ينكره ، ورجا أن يحدث الله تعالى له استطاعة على الصبر فيصبر ، فلم ينكر ذلك موسى عليه‌السلام ، ولم يوجب موسى عليه‌السلام أيضا لنفسه إلا أن يشاء الله ثم كرره الخضر عليه‌السلام بعد ذلك مرات أنه غير مستطيع للصبر إذ لم يصبر ، فهذه شهادة ثلاثة أنبياء محمد وموسى والخضر صلوات الله عليهم ، وأكبر من شهادتهم شهادة الله تعالى بتصديقهم في ذلك إذ قصه تعالى غير منكر له ، بل مصدقا لهم وهذا لا يرده إلا مخذول.

وقال عزوجل : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) [سورة الكهف : ١٠٠ و ١٠١].

فنص تعالى نصا جليا على أنهم ما كانوا يستطيعون السمع الذي أمروا به ، وأنهم مع ذلك كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله عزوجل ، ومع ذلك استحقوا عليه جهنم ، وكانوا في ظاهر الأمر مستطيعين بصحة جوارحهم ، وهذا نص قولنا بلا تكلف والحمد لله رب العالمين على هداه لنا وتوفيقه إيانا ، لا إله إلا هو إذ يقول تعالى : وقال الظالمون : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [سورة الفرقان : ٨].

٧١

فنفى الله عزوجل عنهم استطاعة شيء من السبل غير سبيل الضلال وحده ، وهذا كفاية لمن عقل.

وقال الله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [سورة يونس : ١٠٠].

فنص الله تعالى على أن من لم يأذن له في الإيمان لم يؤمن ، وأن من أذن له في الإيمان آمن ، وهذا الإذن هو التوفيق الذي ذكرنا ، فيكون به الإيمان ولا بدّ ، وعدم الإذن هو الخذلان الذي ذكرنا نعوذ بالله تعالى منه.

وقال تعالى حاكيا عن يوسف عليه‌السلام ومصدقا : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [سورة يوسف : ٣٣ و ٣٤].

فنص على أن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إن لم يعنه بصرف الكيد عنه صبا ، وجهل ، وأنه تعالى صرف عنه الكيد فسلم ، وهذا نص جليّ على أنه إذا وفقه اعتصم واهتدى.

وقال تعالى حاكيا عن إبراهيم خليله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومصدقا له : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) [سورة الأنعام : ٧٧].

فهذا نص جليّ على أنّ من أعطاه الله تعالى قوة الإيمان آمن واهتدى ، ومن منعه تلك القوة كان من الضالّين ، وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.

وقال تعالى : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) [سورة النحل : ١٢٧].

فنص تعالى على أنه أمره بالصبر ثم أخبره أنه لا صبر له إلا بعون الله عزوجل ، وإذا أعانه بالصّبر صبر.

وقال تعالى : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) [سورة النحل : ٣٧].

وهذا نص جلي على أن من أضلّه الله تعالى بالخذلان فلا يكون مهتديا.

وقال تعالى : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [سورة الإسراء : ٤٥ و ٤٦].

فهذا نص جليّ لا إشكال فيه على أن الله تعالى خذلهم ومنعهم أن يفقهوه.

فإن قال قائل : إنما قال تعالى إنه يفعل ذلك بالذين لا يؤمنون ، وكذلك قال تعالى (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [سورة البقرة : ٢٦] و (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) [سورة الأعراف : ١٠١].

٧٢

قيل له وبالله تعالى التوفيق : لو صح لك هذا التأويل لكان حجة عليك لأنه تعالى قد منعهم التوفيق وسلّط عليهم الخذلان وأضلهم وطبع على قلوبهم ، فاجعله كيف شئت فكيف وليس ذلك على ما تأولت ، ولكن الآيات على ظواهرها وعلى ما يقتضيه لفظها دون تكلف ، وهو أن الله تعالى لما أضلهم صاروا ضالين فاسقين حين أضلهم لا قبل أن يضلهم ، وكذلك إنما صاروا لا يؤمنون حين جعل بينهم وبين نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجابا مستورا ، وحين جعل على قلوبهم الأكنة ، وفي آذانهم الوقر ، لا قبل ذلك ، وإنما صاروا كافرين حين طبع على قلوبهم لا قبل ذلك ، وقال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [سورة الإسراء : ٧٤].

فنص تعالى على أنه لو لا أن ثبت نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتوفيق لركن إليهم ، فإنما ثبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين ثبته ربه تعالى لا قبل ذلك ، ولو لم يعطه التثبيت وخذله لركن إليهم ، وضلّ واستحق العذاب على ذلك ، ضعف الحياة وضعف الممات ، فتبّا لكل مخذول يظن في نفسه أنه مستغن عن ما افتقر إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من توفيق الله تعالى وتثبته وأنه قد استوفى من الهدى ما لا مزيد فيه ، وأنه ليس عند ربه أفضل مما أعطاه بعد ولا أكثر ، وقد أمرنا تعالى أن نقول : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة :٥ ـ ٧].

فنص على أمرنا بطلب العون منه ، وهذا نصّ قولنا والحمد لله رب العالمين ، فلو لم يكن هاهنا عون خاص ، من آتاه الله تعالى اهتدى ومن حرمه إياه وخذله ضل ، لما كان لهذا الدعاء معنى ، لأن الناس كانوا كلهم يكونون معانين منعما عليهم ، مهديين غير معذبين ، وهذا خلاف النص المذكور ، وقال تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة البقرة : ٧].

فنص على أنه ختم على قلوب الكافرين ، وأن على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة حائلة بينهم وبين قبول الحق ، فمن هو الجاعل هذه الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم إلا الذي ختم على قلوبهم جلّ وعلا؟ وهذا هو الخذلان الذي ذكرنا ، نعوذ بالله منه ، وهذا نص جلي أنهم لا يستطيعون الإيمان ما دام ذلك الختم على قلوبهم ، والغشاوة على سمعهم وأبصارهم ، فلو أزالها تعالى لآمنوا إلا أن يعجزوا ربهم تعالى عن إزالة ذلك فهذا خروج عن الإسلام ، وقال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) [سورة النساء : ٨٣].

٧٣

فنص تعالى كما ترى على أنه من لم يتفضل عليه ولم يرحمه اتبع الشيطان ضرورة ، فصح أن التوفيق به يكون الإيمان ، وأن الخذلان به يكون الكفر والعصيان ، وهو اتّباع الشيطان ، ومعنى قوله : «إلا قليلا» إنما هو على ظاهره وهو استثناء من المنعم عليهم المرحومين الذين لم يتبعوا الشيطان برحمته تعالى عليهم ، أي لاتّبعتم الشيطان إلا قليلا لم يرحمهم‌الله تعالى ، فاتبعوا الشيطان ، فلم تتبعون إذ رحمكم الله؟ وهذا نص ما قلنا ولله الحمد.

وقال تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [سورة النساء : ٨٨].

وهذا نص ما قلنا : أن من أضله الله تعالى فلا سبيل له إلى الهدى ، وأن الضلال وقع مع الإضلال من الله تعالى للكافر والفاسق.

وقال تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [سورة الأنعام : ٨٨].

فأخبر تعالى أنّ عنده هدى يهدي به من يشاء من عباده فيكون مهتديا ، وهذا تخصيص ظاهر كما ترى ، وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [سورة الأنعام : ١٢٥].

فهذا نص على ما قلناه وأن الله تعالى قد نص لنا على أن من أراد هداه شرح صدره للإسلام ، فآمن بلا شك ، وأن من أراد إضلاله ولم يرد هداه ضيّق صدره وأحرجه ، حتى يكون كمريد الصعود إلى السماء ، فهذا لا يؤمن البتة ، ولا يستطيع الإيمان ، وأنه في حقيقة أمره كمن كلف الصعود إلى السماء ، فهذا لا يؤمن البتة ، وهو في ظاهر أمره مستطيع بصحة جوارحه.

قال أبو محمد : إن الضال لمن ضل بعد ما ذكرنا من النصوص التي لا تحتمل تأويلا ، ومن شهادة خمسة من الأنبياء عليهم‌السلام : إبراهيم وموسى ويوسف والخضر ومحمد عليهم الصلاة والسلام ، بأنهم لا يستطيعون فعلا لشيء من الخير إلا بتوفيق الله تعالى لهم ، وأنهم إن لم يوفقهم ضلوا جميعا مع ما أوردنا من البراهين الضرورية المعروفة بالحس وبديهة العقل ، ومن علم تراكيب الأخلاق الحميدة والمذمومة علم أنه لا يستطيع أحد غير ما يفعل مما خلقه الله عزوجل فيه ، فتجد الحافظ لا يقدر على تأخير الحفظ ، والبليد لا يقدر على الحفظ ، والفهم لا يقدر على الغباوة ، والغبي لا

٧٤

يستطيع ذكاء الفهم ، والحسود لا يقدر على ترك الحسد ، والنزيه النفس لا يقدر على الحسد ، والحريص لا يقدر على ترك الحرص ، والبخيل لا يقدر الى البذل ، والجبان لا يقدر على الشجاعة والكذّاب لا يقدر على ضبط نفسه من الكذب ، كذلك يوجدون من طفولتهم ، والسيئ الخلق لا يقدر على الحلم ، والحيي لا يقدر على القحة ، والوقاح لا يقدر على الحياء ، والعيي لا يقدر على البيان ، والطيوش (١) لا يقدر على الصبر ، والصبور لا يقدر على الطيش ، والحليم لا يقدر على الغضب ، والغضوب لا يقدر على الحلم ، والعزيز النفس لا يقدر على المهانة ، والمهين لا يقدر على عزة النفس ، وهكذا في كل شيء ، فصحّ أنه لا يقدر أحد إلا على ما يقدر ، مما جعل الله تعالى فيه من القوة على فعله ، وإن كان خلاف ذلك متوهما منهم بصحة البنية وعدم المانع حكمنا على الطبع لا على ما يتطبع.

قال أبو محمد : والملائكة والحور العين ، والجن والإنس وجميع الحيوان في الاستطاعة سواء كما ذكرنا ، ولا فرق بين شيء من ذلك كله ، فقد خلق الله عزوجل فيهم الاستطاعة الظاهرة لصحة الجوارح فيهم ، ولا يكون منهم فعل إلا بعون وارد من الله عزوجل ، إذا ورد كان الفعل منه ولا بد ، فقد خلق الله تعالى فيهم اختيارا وإرادة ، وحركة ، وسكونا ، هي أفعالهم لا غيرها ، فالملائكة وحور العين معصومون ، لم يخلق الله تعالى فيهم معصية أصلا.

وأما الجن فكبني آدم عليه‌السلام في التوفيق والخذلان سواء سواء ، وأما سائر الحيوان فلا عبادة عليه ، لا طاعة ولا معصية.

وأما الذي يقدر على كل ما يفعل ولم يزل قادرا على كل ما يخطر على القلب ، فهو واحد لا شريك له وهو الله عزوجل ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [سورة الشورى : ١١].

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [سورة الإخلاص : ٤].

وبالله تعالى التوفيق.

__________________

(١) أي الطائش.

٧٥

الكلام في الهدى والتوفيق

قال أبو محمد : وهو متصل بالكلام في الاستطاعة.

احتجت المعتزلة بقول الله عزوجل : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [سورة فصلت : ١٧].

وبقوله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) [سورة الإنسان ٢ ـ ٤].

قال أبو محمد : وهذا حق وقد قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [سورة النحل : ٣٦].

فأخبر تعالى أن الذي هدى بعض الناس لا كلهم ، وقال تعالى (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) [سورة النحل : ٣٧].

وهي قراءة مشهورة عن عاصم بفتح الياء من «يهدي» وكسر الدال. فأخبر تعالى أن في الناس من لم يهده.

وقال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) [سورة البقرة : ٢٦].

فأخبر تعالى أن الذي هدى غير الذي أضل فلم يهد. وقال تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [سورة الأعراف : ١٨٦]. فأخبر تعالى أن الذين أضل لم يهدهم وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [سورة الأنعام : ١٢٥].

فأخبر تعالى أن الذين هدى غير الذين أضلّ ، ومثل هذا كثير وكل هذا كلام الله عزوجل وكله حق ، ولا يتعارض ، ولا يبطل بعضه بعضا.

وقال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء : ٨٢].

٧٦

فصح يقينا أن كلّ ما أوردنا من الآيات فكلها متفق لا يختلف ، فنظرنا في الآيات المذكورة فوجدناها ظاهرة لائحة ، وهو أن الله تعالى أخبر أنه هدى ثمود فلم يهتدوا ، وهدى الناس كلّهم السبيل ثم هم بعد هذا «إما شاكرا وإمّا كفورا».

وأخبر تعالى في الآيات الأخر أنه هدى قوما فاهتدوا ، ولم يهد آخرين فلم يهتدوا ، فعلمنا ضرورة أن الهدى الذي أعطاه الله تعالى جميع الناس هو غير الذي أعطاه بعضهم ومنعه بعضهم فلم يعطهم إياه ، هذا أمر معلوم بضرورة العقل وبديهته ، فإذ لا شك في ذلك فقد لاح الأمر وهو أن الهدى في اللغة العربية من الأسماء المشتركة ، فهي التي يقع الاسم منها على مسميين مختلفين بنوعهما فصاعدا ، فالهدى يكون بمعنى الدلالة ، تقول هديت فلانا الطريق ، بمعنى أريته إياه ، وأوقفته عليه ، وأعلمته إياه ، سواء سلكه أو تركه ، وتقول : فلان هاد للطريق ، أي هو دليل فيه ، فهذا هو الهدى الذي هدى الله تعالى ثمود وجميع الجن والملائكة ، وجميع الإنس كافرهم ومؤمنهم لأنه تعالى دلهم على الطاعات والمعاصي وعرفهم ما يسخط مما يرضى.

فهذا معنى ، ويكون الهدى بمعنى التوفيق والعون على الخير ، والتيسير له ، وخلقه لقبول الخير في النفوس ، فهذا هو الذي أعطاه الله عزوجل الملائكة كلهم ، والمهتدين من الإنس والجن ، ومنعه الكفار من الطائفتين والفاسقين فيما فسقوا فيه ، ولو أعطاهم إياه تعالى لما كفروا ولا فسقوا ، وبالله تعالى التوفيق.

ومما يبين قوله في الآيات المذكورة : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [سورة الإنسان : ٣].

فيبين أن الذي هداهم له هو الطريق فقط ، وكذلك أيضا قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [سورة البلد : ٨ ـ ١٠].

فهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.

وكذلك قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [سورة السجدة : ١٣].

وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [سورة الأنعام : ٣٥].

وهذا بلا شك غير ما هدى جميعهم عليه من الدلالة والتبيين للحق من الباطل.

قال أبو محمد : وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) [سورة النساء : ١٦٨].

٧٧

قال أبو محمد : وهذا نص جليّ على ما قلنا ، وبيان جليّ أن الدلالة لهم على طريق جهنم يحملون إليها ، فهذا هو الهدى لهم إلى تلك الطريق ، ونفى عنهم في الآخرة هدى إلى شيء من الطرق إلا طريق جهنم نعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد : وقال بعض من يتعسف القول بغير علم : إن قول الله عزوجل : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧].

وقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) [الإنسان : ٣].

وقوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠].

إنما أراد تعالى بكلّ ذلك المؤمنين خاصة.

قال أبو محمد : وهذا باطل لوجهين.

أحدهما : تخصيص الآيات بلا برهان ، وما كان هكذا فهو باطل.

والثاني : أن نص الآيات يمنع من التخصيص ولا بد ، وهو أن الله تعالى قال : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى).

فرد تعالى الضمير في (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) إلى المهديين أنفسهم ، فصح أن الذين هدوا لم يهتدوا ، وأيضا فإن الله تعالى قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة البقرة آية ٢٧٢].

وقال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ) [سورة الشورى : آية ٥٢ ، ٥٣].

فصح يقينا أن الهدى الواجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الدلالة وتعليم الدين وهو غير الهدى الذي ليس هو عليه ، وإنما هو لله تعالى وحده. فإن ذكر ذاكر قوله الله عزوجل : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [سورة الأنفال : ٢٣].

فليس هذا على ما ظنه من لا ينعم النظر ، من أن الله وحده لو أسمعهم لم يسمعوا بذلك ، بل ظاهر الآية مبطل لهذا الظن ، لأن الله تعالى قال : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ).

فصح يقينا أن من علم الله فيهم خيرا أسمعهم ، وثبت أن فيه خيرا ، ثم قال تعالى : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ).

فصح يقينا أنه أراد بلا شك : أنه لو أسمعهم لتولّوا عن الكفر ، وهم معرضون

٧٨

عنه. لا يجوز غير هذا أصلا لأنه تعالى قد نص على أن إسماعه لا يكون إلا لمن علم فيه خيرا ، ومن المحال الباطل أن يكون من علم الله فيه خيرا يتولى عن الخير ويعرض عنه ، فبطل ما حرفوا بظنونهم من كلام الله عزوجل ، وكذلك قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣].

فإنه تعالى قسم من هدى السبيل قسمين : كفورا وشاكرا.

فصح أن الكفور أيضا هدي السبيل ، فبطل ما توهموه من الباطل ، ولله تعالى الحمد. وصح ما قلنا.

٧٩

الكلام في الإضلال

قال أبو محمد : قد تلونا من كلام الله تعالى في الباب الذي قبل هذا والباب الذي قبله متصلا به نصوصا كثيرة بأن الله تعالى أضل من شاء من خلقه ، وجعل صدورهم ضيقة حرجة ، فإن اعترضوا بقول الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا : (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) [سورة الشعراء : ٩٩].

فلا حجة لهم في هذا لوجوه :

أحدها : أنه قول الكفار قد قالوا الكذب وحكى الله تعالى أنهم يقولون حينئذ (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [سورة الأنعام : ٢٣].

وقال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [سورة الأنعام : ٢٤].

فإن أبوا إلا الاحتجاج بقول الكفار فليجعلوه إلى جنب قول إبليس : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [سورة الحجر : ٣٩].

والوجه الثاني : أنا لا ننكر ضلال المجرمين وإضلال إبليس لهم ، لكنه إضلال آخر غير إضلال الله عزوجل لهم.

والثالث : أنه لا عذر لأحد في أن الله تعالى أضلّه ، ولا لوم على الخالق تعالى في ذلك ، وأما من أضل آخر ممن دون الله تعالى فملوم ، وقد فسر الله تعالى إضلاله لمن يضل كيف هو وتفسيره تعالى ذلك الإضلال أغنانا به عن تفسير الخلعاء العيّارين كالنظام والعلاف وثمامة وبشر بن المعتمر والجاحظ والناشئ (١) ، ومن هنالك من الأحزاب ، ومن تبعهم من الجهال ، فبيّن تعالى في نص القرآن أن إضلاله لمن أضل من عباده إنما هو أن يضيّق صدره عن قبول الإيمان وأن يحرجه حتى لا يرغب في تفهمه والجنوح إليه ، ولا يصبر عليه ، ويوعّر عليه الرجوع إلى الحق حتى يكون كأنه يكلف في ذلك الصعود إلى السماء.

__________________

(١) تقدم التعريف بالمذكورين.

٨٠