الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

فهذا نص قولنا ، وبطلان قولهم ، لأن الله تعالى سمى أفعالهم الماضية سيئات والسيئات مذمومة عنده تعالى بلا شك ، ثم أخبر تعالى أنه أحالها وبدلها حسنات مرضية ، فمن أنكر هذا فهو مكذب لله تعالى والله تعالى مكذب له ، وكذلك قال الله تعالى أنه سخط أكل آدم من الشجرة ، وذهاب يونس مغاضبا ، ثم أخبر عزوجل أنه تاب عليهما ، واجتبى يونس بعد أن لامه ، ولا يشك كل ذي عقل أن اللائمة غير الاجتباء.

قال أبو محمد : ثم نقول لهم : أفي الكافر كفر إذا كان كافرا قبل أن يؤمن ، وفي الفاسق فسق قبل أن يتوب ، وفي المؤمن إيمان قبل أن يرتد أم لا ..؟ فإن قالوا : لا كابروا وأحالوا ، وإن قالوا : نعم. قلنا لهم : فهل يسخط الله الكفر والفسق أو يرضى عنهما؟ فإن قالوا بل يسخطهما تركوا قولهم. وإن قالوا : بل يرضى عن الكفر والفسق ، كفروا. ونسألهم عن قتل وحشي حمزة رضي الله عنه أرضا كان لله تعالى؟ فإن قالوا : نعم كفروا ، وإن قالوا : بل ما كان إلا سخطا ، سألناهم أيؤاخذه الله تعالى به إذا أسلم؟ فمن قولهم : لا. وهكذا في كل حسنة ، وسيئة ، فظهر فساد قولهم ، وبالله تعالى التوفيق.

وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

٣٦١

الكلام في من لم تبلغه الدعوة ومن تاب عن ذنبه

أو كفر ثم رجع فيما تاب عنه

قال أبو محمد : قال الله عزوجل : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [سورة الأنعام آية رقم ١٩].

وقال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [سورة الإسراء آية رقم ١٥].

فنص تعالى على أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه ، وأنه تعالى لا يعذب أحدا حتى يأتيه رسول من عند الله عزوجل.

فصح بذلك أنّ من لم يبلغه الإسلام أصلا فإنه لا عذاب عليه.

وهكذا جاء النص عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه يؤتى يوم القيامة بالشيخ الخرف ، والأصلح الأصم ، ومن كان في الفترة والمجنون ، فيقول المجنون : يا رب أتاني الإسلام وأنا لا أعقل ، ويقول الخرف الأصم والذي في الفترة أشياء ذكرها ، فيوقد لهم نار ، ويقال لهم ادخلوها ، فمن دخلها وجدها بردا وسلاما» (١) وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين فإنه معذور لا ملامة عليه وقد كان جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم بأرض الحبشة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة والقرآن ينزل والشرائع تشرع ، فلا يبلغ إلى جعفر وأصحابه أصلا ، لانقطاع الطريق جملة من المدينة إلى أرض الحبشة ، وبقوا كذلك ست سنين فما ضرهم ذلك في دينهم شيئا إذ عملوا بالمحرم وتركوا المفروض.

قال أبو محمد : ورأيت قوما يذهبون إلى أن الشرائع لا تلزم من كان جاهلا بها ولا من لم تبلغه.

قال أبو محمد : وهذا باطل بل هي لازمة له لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى الإنس كلهم ، وإلى الجن كلهم ، وإلى كل من لم يولد إذا بلغ بعد الولادة.

__________________

(١) رواه الإمام أحمد في المسند (٤ / ٢٤ ، ٥٠).

٣٦٢

قال أبو محمد : قال الله تعالى آمرا له أن يقول : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [سورة الأعراف آية رقم ١٥٨]. وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه أحد.

وقال تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) [سورة القيامة آية رقم ٣٦].

فأبطل سبحانه أنه يكون أحد سدى ، والسدى : هو المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى ، فأبطل عزوجل هذا الأمر ، ولكنه معذور بجهله ومغيبه عن المعرفة فقط ، وأما من بلغه ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث ما كان من أقاصي الأرض ففرض عليه البحث عنه ، فإذا بلغته نذارته ففرض عليه التصديق به ، واتباعه ، وطلب الدين اللازم له ، والخروج عن وطنه لذلك ، وإلا فقد استحق الكفر ، والخلود في النار ، والعذاب بنص القرآن ، وكل ما ذكرنا يبطل قول من قال من الخوارج أنه في حين بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلزم من في أقاصي الأرض الإيمان به ، ومعرفة شرائعه ، فإن ماتوا في تلك الحال ماتوا كفارا إلى النار ، ويبطل هذا قول الله عزوجل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [سورة البقرة آية رقم ٢٨٦] وليس في وسع أحد علم الغيب.

فإن قالوا : فهذه حجة الطائفة القائلة إنه لا يلزم أحدا شيء من الشرائع حتى تبلغه ، قلنا : لا حجة لهم فيها لأن كل ما كلف الناس فهو في وسعهم ، واحتمال بنيتهم ، إلا أنهم معذورون بمغيب ذلك عنهم ولم يكلفوا ذلك تكليفا يعذبون به إن لم يفعلوه ، وإنما كلفوه تكليف من لا يعذبون حتى يبلغهم ومن بلغه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن له أمرا من الحكم مجملا أو لم يبلغه نصه ، ففرض عليه إجهاد نفسه في طلب ذلك الأمر ، وإلا فهو عاص لله عزوجل.

قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [سورة الأنبياء آية رقم ٧].

وبقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [سورة التوبة آية رقم ١٢٢].

وأما من تاب عن ذنب أو كفر ، ثم رجع إلى ما تاب عنه ، فإنه إن كانت توبته تلك وهو معتقد للعودة فهو عابث ، مستهزئ ، مخادع لله تعالى ، قال الله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إلى قوله : (عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [سورة البقرة آية رقم ٩ ، ١٠].

وأما من كانت توبته نصوحا ، ثابت العزيمة في أن لا يعود ، فهي توبة صحيحة مقبولة بلا شك مسقطة لكل ما تاب عنه بالنص.

قال عزوجل : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) [سورة طه آية رقم

٣٦٣

٨٢] فإن عاد بعد ذلك إلى الذنب الذي تاب منه فلا يعود عليه ذنب قد غفره الله له أبدا ، فإن ارتد ومات كافرا فقد سقط عمله والتوبة عمل فقد حبطت ، فهذا يعود عليه كل ما عمل خاصة.

وأما من راجع الإسلام ومات عليه فقد سقط عنه الكفر وغيره.

قال أبو محمد : ولا تكون التوبة إلا بالندم ، والاستغفار ، وترك المعاودة ، والعزيمة على ذلك ، والخروج من مظلمة إن تاب عنها إلى صاحبها بتحلل أو إنصاف ، ورأيت لأبي بكر أحمد بن علي بن بيغجور المعروف بابن الإخشيد (١) وهو أحد أركان المعتزلة ، وكان أبوه من أبناء ملوك فرغانة من الأتراك وولي أبوه الثغور ، وكان هذا أبو بكر ابنه يتفقه للشافعي ، فرأيت له في بعض كتبه يقول : إن التوبة هي الندم فقط وإن لم ينو مع ذلك ترك المراجعة لتلك الكبيرة.

قال أبو محمد : هذا أشنع ما يكون من قول المرجئة لأن كل معتقد للإسلام فبلا شك ندري أنه نادم على كل ذنب يعمله عالما بأنه مسيء فيه مستغفر منه ، ومن كان بخلاف هذه الصفة لكان مستحسنا لما فعل غير نادم عليه فليس مسلما ، فكل صاحب كبيرة فهو على قول ابن الإخشيد غير مؤاخذ بها لأنه تائب منها ، وهذا خلاف الوعيد.

فإن قال قائل : فإنكم تقطعون على قبول إيمان المؤمن ، أفتقطعون على قبول توبة التائب ، وعمل العامل للخير ، إن كان ذلك مقبولا؟

وهل تقطعون على المكثر من السيئات أنه في النار ..؟

قلنا وبالله تعالى التوفيق :

إن الأعمال لها شروط من توفية النية حقها وتوفية صفة العمل حقه ، فلو أيقنا أن العمل وقع كاملا كما أمر الله تعالى لقطعنا على قبول الله عزوجل له ، وأما التوبة فإذا وقعت نصوحا فنحن نقطع بقبولها ، وأما القطع على مظهر الخير بأنه في الجنة ، وعلى مظهر الشر والمعاصي بأنه في النار ، فهذا خطأ لأننا لا نعلم ما في النفوس ولعل

__________________

(١) هو شيخ المعتزلة أبو بكر أحمد بن علي بن بيغجور الإخشيد صاحب التصانيف. كان يدري الحديث ويرويه عن أبي مسلم الكجّي وطبقته ويحتجّ به في تواليفه ، وكان ذا تعبّد وزهادة ، له قرية تقوم بأمره ، وكان يؤثر الطلبة. وله تواليف في الفقه والنحو والكلام. وله من المصنفات : كتاب نقل القرآن ، وكتاب الإجماع ، وكتاب اختصار تفسير محمد بن جرير ، وكتاب المعرفة في الأحوال ، وغير ذلك. توفي في شعبان سنة ٣٢٦ ه‍. انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (١٥ / ٢١٧) والفهرست (٢٤٥) وتاريخ بغداد (٤ / ٣٠٩) والوافي بالوفيات (٧ / ٢١٦) وطبقات المعتزلة (ص ١٠٠) ولسان الميزان (١ / ٢٣١).

٣٦٤

المظهر الخير مبطن للكفر أو مبطن على كبائر لا نعلمها فواجب أن لا نقطع من أجل ذلك عليه بشيء ، وكذلك المعلن بالكبائر فإنه يمكن أن يبطن الكفر في باطن أمره فإذا قرب من الموت آمن فاستحق الجنة ، أو لعلّ له حسنات في باطن حاشا من جاء النص فيه من الصحابة رضي الله عنهم بأنهم في الجنة ، وبأن الله علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ، وأهل بدر وأهل السوابق ، فإنا نقطع على هؤلاء بالجنة لأن الله تعالى أخبرنا بذلك على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحاشا من مات معلنا للكفر ، فإنا نقطع عليه بالنار ، ونقف فيمن عدا هؤلاء. إلا أننا نقطع على الصفات فنقول : من مات معلنا للكفر ، أو مبطنا له فهو في النار خالدا فيها ، ومن أتى الله تعالى راجح الحسنات على السيئات والكبائر أو متساويهما فهو في الجنة ، لا يعذب بالنار.

ومن لقي الله تعالى راجح الكبائر على الحسنات ففي النار ، ويخرج منها بالشفاعة إلى الجنة وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : ورأيت بعض أصحابنا يذهب إلى شيء يسميه شاهد الحال ، وهو أن من كان مظهرا لشيء من الديانات ، متحملا للأذى فيه غير مستجلب بما يلقى من ذلك حالا ، فإنه مقطوع على باطنه وظاهره قطعا لا شك فيه كعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والحسن البصري وابن سيرين ومن جرى مجراهم ممن قبلهم أو معهم أو بعدهم ، فإن هؤلاء رضي الله عنهم رفضوا من الدنيا ما لو استعملوه لما حط من وجاهتهم شيئا ، واحتملوا من المضنى ما لو خففوه عن أنفسهم لم يقدح ذلك فيهم عند أحد ، فهؤلاء مقطوع على إسلامهم عند الله عزوجل ، وعلى خيرهم وفضلهم ، وكذلك نقطع على أن عمرو بن عبيد كان يدين بإبطال القدر بلا شك في باطن أمره ، وأن أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما كانا في باطن أمرهما يدينان لله تعالى بالقياس ، وأن داود بن علي كان في باطن الأمر يدين الله تعالى بإبطال القياس بلا شك ، وأن أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان يدين الله تعالى بالتدين بالحديث في باطن أمره بلا شك ، وبأن القرآن غير مخلوق بلا شك ، وهكذا كل أمر تناصرت أحواله ، وظهر جده ، في معتقد ما ، وترك المسامحة فيه ، واحتمل الأذى والمضض من أجله.

قال أبو محمد : وهذا قول صحيح لا شك فيه إذ لا يمكن البتة في بنية الطبائع أن يحتمل أحد أذى ومشقة لغير فائدة يتعجلها أو يتأجلها ، وبالله تعالى التوفيق.

ولا بد لكل ذي عقد من أن يبين عليه شاهد عقده بما يبدو منه من مسامحة فيه ، أو صبر عليه.

وأما من كان بغير هذه الصفة فلا نقطع على عقده ، وبالله تعالى التوفيق.

٣٦٥

الكلام في الشفاعة والميزان والحوض والصراط

وعذاب القبر والفتنة

قال أبو محمد : اختلف الناس في الشفاعة فأنكرها قوم ، وهم المعتزلة ، والخوارج ، وكل من منع أن يخرج أحد من النار بعد دخوله فيها ، وذهب أهل السنة ، والأشعرية ، والكرامية ، وبعض الرافضة إلى القول بالشفاعة ، واحتج المانعون منها بقول الله عزوجل : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [سورة المدثر آية رقم ٤٨].

وبقوله عزوجل : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [سورة الانفطار آية رقم ١٩].

وبقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) [سورة الجن آية رقم ٢١].

وبقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) [سورة البقرة آية رقم ٤٨].

وبقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [سورة البقرة آية رقم ٢٥٤].

وبقوله تعالى : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [سورة الشعراء آية رقم ١٠٠].

وبقوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [سورة البقرة آية رقم ١٢٣].

قال أبو محمد : من يؤمن بالشفاعة أنه لا يجوز الاقتصار على بعض القرآن دون بعض ، ولا على بعض السنن دون بعض ، ولا على القرآن دون بيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذي قال له ربه عزوجل (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [سورة النحل آية رقم ٤٤].

وقد نص الله تعالى على صحة الشفاعة في القرآن.

فقال تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) [سورة مريم آية رقم ٨٧].

٣٦٦

فأوجب عزوجل الشفاعة إلا من اتخذ عنده عهدا بالشفاعة ونفاها عن سواه فقد اتخذ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الله عهدا بالشفاعة وصحت بذلك الأخبار المتواترة المتناصرة ، بنقل الكواف لها.

وقال تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [سورة طه آية رقم ١٠٩].

وقال تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سورة سبأ آية رقم ٢٣].

فنص تعالى على أن الشفاعة يوم القيامة تنفع عنده عزوجل ، ممن أذن له فيها ، ورضي قوله ، ولا أحد من الناس أولى بذلك من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه أفضل ولد آدم عليه‌السلام.

وقال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [سورة البقرة آية رقم ٥٥].

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [سورة النجم آية رقم ٢٦].

وقال تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة الزخرف آية رقم ٨٦].

وقال تعالى : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) [سورة يونس آية رقم ٣].

فقد صحت الشفاعة بنص القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فصح يقينا أن الشفاعة التي أبطلها الله عزوجل ، هي غير الشفاعة التي أثبتها عزوجل ، وإذ لا شك في ذلك فالشفاعة التي أبطل عزوجل هي الشفاعة للكفار ، الذين هم مخلدون في النار.

قال تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [سورة فاطر آية رقم ٣٦]. نعوذ بالله منها ، فإذ لا شك فيه ، فقد صح يقينا أن الشفاعة التي أوجب الله عزوجل لمن أذن له ، واتخذ عنده عهدا ، ورضي قوله ، فإنما هي لمذنبي أهل الإسلام وهكذا جاء الخبر الثابت (١).

قال أبو محمد : وهما شفاعتان إحداهما عامة لكل محسن ومسيء في تعجيل

__________________

(١) بلفظ : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». رواه أبو داود في السنّة باب ٢١ ، والترمذي في القيامة باب ١١ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٧ ، وأحمد في المسند (٣ / ٢١٣).

٣٦٧

الحساب يوم القيامة ، وإراحة الناس مما هم فيه من هول الموقف وشنعة الحال وهو المقام المحمود ، الذي جاء النص في القرآن به ، في قوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [سورة الإسراء آية رقم ٧٩] وهكذا جاء الخبر الثابت نصا.

والشفاعة الثانية : في إخراج أهل الكبائر من النار ، طبقة طبقة ، على ما صح في ذلك الخبر.

وأما قول الله تعالى : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) [سورة الجن آية رقم ٢١] (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) [سورة الانفطار آية رقم ١٩].

فما خالفناهم في هذا أصلا ، وليس هذا من الشفاعة في شيء ، فنعم لا يملك أحد لأحد نفعا ، ولا ضرا ، ولا رشدا ، ولا هدى ، وإنما الشفاعة رغبة إلى الله تعالى ، وضراعة ، ودعاء.

وقال بعض منكري الشفاعة : إن الشفاعة ليست إلا في المحسنين فقط.

واحتجوا بقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [سورة الأنبياء آية رقم ٢٨].

قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ، لأن من أذن الله في إخراجه من النار وإدخاله الجنة ، وأذن للشافع في الشفاعة له في ذلك ، فقد ارتضاه ، وهذا حق وفضل الله تعالى على من قد غفر له ذنوبه ، بأن رجحت حسناته على كبائره ، أو بأن لم تكن له كبيرة ، أو بأن تاب عنها فهو مغن له عن شفاعة كل شافع ، فقد حصلت له الرحمة والفوز من الله تعالى وأمر به إلى الجنة ففي ما ذا يشفع له؟ وإنما الفقير إلى الشفاعة من غلبت كبائره على حسناته ، فأدخل النار ، ولم يأذن تعالى بإخراجه منها إلا بالشفاعة ، وكذلك الخلق في كونهم في الموقف هم أيضا في مقام شنيع فهم أيضا محتاجون إلى الشفاعة وبالله تعالى التوفيق ، وبما صحت به الأخبار من ذلك. نقول : وأما الميزان فقد أنكره قوم فخالفوا كلام الله تعالى جرأة ، وإقداما ، وتنطع آخرون ، فقالوا : هو ميزان بكفتين من ذهب ، وهذا إقدام آخر لا يحل ، قال الله عزوجل : (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) [سورة النور آية رقم ١٥].

قال أبو محمد : وأمور الآخرة لا تعلم إلا بما جاء في القرآن الكريم ، أو بما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يأت عنه عليه‌السلام شيء يصح في صفة الميزان ، ولو صح عنه عليه‌السلام في ذلك شيء لقلنا به ، فإذ لا يصح عنه عليه‌السلام في ذلك شيء فلا يحل لأحد أن يقول على الله عزوجل ما لم يخبرنا به ، لكن نقول كما قال الله عزوجل : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) إلى قوله : (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [سورة الأنبياء آية رقم ٤٧].

٣٦٨

وقال تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) [سورة الأعراف آية رقم ٨].

وقال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [سورة القارعة آية رقم ٦ إلى ٩].

فنقطع على أن الموازين توضع يوم القيامة لوزن أعمال العباد.

قال تعالى عن الكفار : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [سورة الكهف آية رقم ١٠٥].

وليس هذا على أن لا توزن أعمالهم ، بل توزن لكن أعمالهم شائلة وموازينهم خفاف ، قد نص الله تعالى على ذلك إذ يقول : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) إلى قوله : (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [سورة المؤمنون آية رقم ١٠٣].

فأخبر عزوجل أن هؤلاء المكذبين بآياته خفت موازينهم ، والمكذبون بآيات الله عزوجل كفار بلا شك ، ونقطع على أن تلك الموازين أشياء يبين الله عزوجل بها لعباده مقادير أعمالهم من خير أو شر ، من مقدار الذرة التي لا يحس وزنها في موازيننا أصلا ، فما زاد ، ولا ندري كيف تلك الموازين ، إلا أننا ندري أنها بخلاف موازين الدنيا ، وأن ميزان من تصدق بدينار أو بلؤلؤة أثقل من ميزان من تصدق بدابة وليس هكذا وزن الدنيا وندري أن إثم القاتل أعظم من إثم اللاطم ، وأن ميزان مصلي الفريضة أعظم من ميزان مصلي مثلها من التطوع ، بل بعض الفرائض أعظم أجرا من بعض ، فقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّ من صلى الصّبح في جماعة كمن قام ليلة ، ومن صلّى العتمة في جماعة فكأنّما قام نصف ليلة» (١) وكلاهما فرض وهكذا جميع الأعمال ، فإنما يوزن عمل العبد خيره مع شره ، ولو نصح المعتزلة أنفسهم لعلموا أن هذا عين العدل ، وأما من قال بما لا يدري من أن ذلك الميزان ذو كفتين فإنما قاله قياسا على موازين الدنيا وقد أخطأ في قياسه ، إذ في موازين الدنيا ما لا كفة له كالقرسطون ، وأما نحن فإنما اتبعنا النصوص الواردة في ذلك فقط ، ولا نقول إلا بما جاء به قرآن ، أو سنة

__________________

(١) لفظ الحديث كما رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (حديث ٢٦٠) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلّى الليل كله». ورواه أيضا الترمذي في الصلاة باب ٥١ ، وابن ماجة في المساجد باب ١٨ ، والدارمي في الصلاة باب ٢٨ ، وأحمد في المسند (١ / ٥٨ ، ٦٨).

٣٦٩

صحيحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا ننكر إلا ما لم يأت فيهما ، ولا تكذيب إلا بما فيهما إبطاله وبالله تعالى التوفيق.

«وأما الحوض»

فقد صحت الآثار فيه (١) وهو كرامة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولمن ورد عليه من أمته. ولا ندري لمن أنكره متعلقا إلا الجهل بالآثار ولا يجوز مخالفة ما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا وغيره وبالله تعالى التوفيق.

«وأما الصراط»

فقد ذكرناه في الباب الأول الذي قبل هذا ، وأنه كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يوضع الصّراط بين ظهراني جهنّم ويمرّ عليه النّاس فمخدوج وناج ومكدوس (٢) في نار جهنّم» (٣) وأن الناس يجيزون عليه على قدر أعمالهم كمر الطرف فما دون ذلك إلى من يقع في النار ، وهو طريق أهل الجنة إليها من المحشر في الأرض إلى السماء ، وهو معنى قول الله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [سورة مريم آية رقم ٧١ ، ٧٢].

وأما كتاب الملائكة لأعمالنا فحق قال الله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً

__________________

(١) وهي كثيرة ، منها : «... اصبروا حتى تلقوني على الحوض» رواه البخاري في الفتن باب ١ و ٢ ، والجنائز باب ٧٢ ، والخمس باب ١٩ ، والمناقب باب ٢٥ ، ومناقب الأنصار باب ٨ ، والمغازي باب ٥٦ ، والرقاق باب ٧ و ٥٣ ، والتعبير باب ٣٠ ، والتوحيد باب ٢٤. ومسلم في الزكاة حديث ١٣٢ ، والإمارة حديث ٤٥ ، والفضائل حديث ٢٧ و ٢٨. والترمذي في القيامة باب ٩ ، والفتن باب ٢٥. والنسائي في القضاة باب ٤. والدارمي في المقدمة باب ١٤. وأحمد في المسند (٣ / ٥٧ ، ١٦٦ ، ١٧١ ، ١٧٨ ، ٢٢٤ ، ٣٤٥ ، ٤ / ٤٢ ، ٢٩٢ ، ٥ / ١٨٢ ، ١٩٠). ومنها : «أنا فرطكم على الحوض» رواه البخاري في الفتن باب ١ ، والرقاق باب ٥٣. ومسلم في الطهارة حديث ٣٩ ، والفضائل حديث ٢٥ و ٢٦ و ٢٩ و ٣١ و ٣٢ و ٤٤ و ٤٥. والنسائي في الطهارة باب ١٠٩. وابن ماجة في المناسك باب ٧٦ ، والفتن باب ٥ ، والزهد باب ٣٦. ومالك في الطهارة حديث ٢٨. وأحمد في المسند (١ / ٢٥٧ ، ٣٨٤ ، ٤٠٢ ، ٤٠٦ ، ٤٠٧ ، ٤٢٥ ، ٤٣٩ ، ٤٥٣ ، ٤٥٥ ، ٢ / ٤٠٨ ، ٣ / ١٨ ، ٦٢ ، ٣٨٤ ، ٤ / ٣١٣ ، ٣٤٩ ، ٣٥١ ، ٣٥٢ ، ٥ / ٤١ ، ٤٨ ، ٨٦ ، ٨٨ ، ٨٩ ، ٣٣٣ ، ٣٣٩ ، ٣٩٣ ، ٤١٢). ومنها : «... ومنبري على حوضي». ومنها : «لأذودن عن حوضي رجالا ...» ومنها : «إن في حوضي من الأباريق بعدد نجوم السماء». ومنها : «ولا يرد عليّ الحوض ...» وغيرها.

(٢) مكدوس : قال في النهاية : «أي مدفوع ، وتكدّس الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط».

(٣) جزء من حديث طويل رواه البخاري في التوحيد باب ٢٤. ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢ و ٣٢٩. وابن ماجة في الزهد باب ٣٣. وأحمد في المسند (٣ / ١٧ ، ٦ / ١١٠).

٣٧٠

كاتِبِينَ) [سورة الانفطار آية رقم ١٠ ، ١١].

وقال تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة الجاثية آية رقم ٢٩].

وقال تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ) [سورة الإسراء آية رقم ١٣ ، ١٤].

وقال تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [سورة ق آية رقم ١٧ ، ١٨].

قال أبو محمد : وكل هذا لا خلاف فيه بين أحد ممن ينتمي إلى الإسلام ، إلا أنه لا يعلم أحد من الناس كيفية ذلك الكتاب.

٣٧١

عذاب القبر

قال أبو محمد : ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر.

وهو قول من لقينا من الخوارج.

وذهب أهل السنة وبشر بن المعتمر والجبائي وسائر المعتزلة إلى القول به.

وبه نقول لصحة الآثار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو محمد : وقد احتج من أنكره بقول الله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [سورة غافر آية رقم ١١].

وبقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [سورة البقرة آية رقم ٢٨] الآية.

قال أبو محمد : وهذا حق لا يدفع عذاب القبر لأن فتنة القبر وعذابه والمساءلة إنما هي للروح فقط بعد فراقه للجسد إثر ذلك ، قبر أو لم يقبر.

برهان ذلك قول الله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ) الآية [سورة الأنعام الآية : ٩٣].

وهذا قبل القيامة بلا شك وإثر الموت وهذا هو عذاب القبر.

وقال تعالى : (إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة آل عمران آية رقم ١٨٥].

وقال تعالى في آل عمران (١) (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [سورة غافر آية رقم ٤٦].

فهذا العرض المذكور هو عذاب القبر ، وإنما قيل عذاب القبر فأضيف إلى القبر لأن المعهود في أكثر الموتى أنهم يقبرون.

وقد علمنا أن فيهم أكيل السبع ، والغريق تأكله دواب البحر ، والمحرق ،

__________________

(١) كذا في الأصل. والصواب أن الآية التالية من سورة غافر.

٣٧٢

والمصلوب ، والمعلق ، فلو كان على ما يقدر من يظن أنه لا عذاب إلا في القبر المعهود لما كان لهؤلاء فتنة ، ولا عذاب قبر ، ولا مساءلة ، ونعوذ بالله من هذا ، بل كل ميت فلا بد له من فتنة ، وسؤال ، وبعد ذلك سرور أو نكد إلى يوم القيامة فيوفون حينئذ أجورهم وينقلبون إلى الجنة أو النار.

وأيضا فإن جسد كل إنسان فلا بد له من العود إلى التراب يوما ما ، كما قال تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) [سورة طه آية رقم ٥٥].

فكل من ذكرنا من مصلوب أو معلق أو محرق أو أكيل سبع أو دابة فإنه يعود رمادا أو رجيعا ، أو يتقطع فيعود إلى الأرض ، ولا بدّ ، وكل مكان استقرت فيه النفس إثر خروجها من الجسد فهو قبر لها إلى يوم القيامة ، وأما من ظن أن الميت يحيى في قبره فخطأ لأن الآيات التي ذكرنا تمنع من ذلك ، ولو كان ذلك لكان تعالى قد أماتنا ثلاثا وأحيانا ثلاثا ، وهذا باطل ، وخلاف القرآن ، إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء. (الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) [سورة البقرة آية رقم ٢٤٢]. (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) [سورة البقرة آية رقم ٢٥٩].

وكذلك قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) إلى قوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة الزمر آية رقم ٤٢].

فصح بنص القرآن أن روح من مات لا ترجع إلى جسده إلا إلى الأجل المسمى ، وهو يوم القيامة ، وكذلك أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى الأرواح ليلة أسري به عند سماء الدنيا عن يمين آدم عليه‌السلام أرواح أهل السعادة ، وعن شماله أرواح أهل الشقاء ، وأخبر عليه‌السلام يوم بدر إذ خاطب القتلى وأخبر أنهم وجدوا ما توعدهم به حقا قبل أن يكون لهم قبور ، فقال المسلمون يا رسول الله أتخاطب قوما قد جيّفوا فقال عليه‌السلام «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» (١) فلم ينكر عليه‌السلام على المسلمين قولهم إنهم قد جيّفوا وأعلمهم أنهم سامعون فصح أن ذلك لأرواحهم فقط بلا شك ، وأما الجسد فلا حس له.

قال أبو محمد : ولم يأت قط عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خبر يصح أن أرواح

__________________

(١) رواه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها حديث رقم ٧٧ ، والنسائي في الجنائز باب ١١٧ ، وأحمد في المسند (١ / ٧٢).

٣٧٣

الموتى ترد إلى أجسادهم عند المساءلة ، ولو صحّ ذلك عنه عليه‌السلام لقلنا به ، فإذ لا يصح فلا يحل لأحد أن يقوله ، وإنما انفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح المنهال بن عمرو وحده ، وليس بالقوي ، تركه شعبة وغيره ، وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك ، وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضا عن الصحابة رضي الله عنهم ، لم يصح عن أحد منهم غير ما قلنا كما حدثنا محمد بن سعيد بن بيان حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا عيسى بن حبيب ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري عن جده محمد بن عبد الله ، عن سفيان بن عيينة : عن منصور ابن صفية ، عن أمه صفية بنت شيبة ، قالت : دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يصلب ، فقيل له : هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق ، فمال إليها فعزاها ، وقال : إن هذه الجثث ليست بشيء ، وإن الأرواح عند الله ، فقالت أسماء : وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل. وحدثنا محمد بن بيان ، حدثنا أحمد بن عون الله حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى الزمن ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان الثوري ، عن ابن إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود ، في قول الله عزوجل : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [سورة غافر آية رقم ١١].

قال ابن مسعود : هي التي في البقرة (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [سورة البقرة آية رقم ٢٨].

فهذا ابن مسعود ، وأسماء بنت أبي بكر الصديق ، وابن عمر رضي الله عنهم ، ولا مخالف لهم من الصحابة رضي الله عنهم ، تقطع أسماء وابن عمر على أن الأرواح باقية عند الله ، وأن الجثث ليست بشيء ، ويقطع ابن مسعود بأن الحياة مرتان ، والوفاة كذلك ، وهذا قولنا ، وبالله التوفيق.

قال أبو محمد : وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى موسى عليه‌السلام قائما في قبره يصلي ليلة الإسراء ، وأخبر أنه رآه في السماء السادسة ، أو السابعة ، وبلا شك إنما رأى روحه ، وأما جسده فموارى بالتراب بلا شك.

فعلى هذا أن موضع كل روح يسمى قبرا له فتعذب الأرواح حينئذ ، وتسأل حيث كانت ، وبالله تعالى التوفيق.

٣٧٤

مستقر الأرواح

قال أبو محمد : اختلف الناس في مستقر الأرواح ، وقد ذكرنا بطلان قول أصحاب التناسخ في صدر كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين.

فذهب قوم من الروافض إلى أن أرواح الكفار ببرهوت ، وهو بئر بحضرموت ، وأن أرواح المؤمنين بموضع آخر أظنه الجابية (١). وهذا قول فاسد ، لأنه لا دليل عليه أصلا ، وما لا دليل عليه فهو ساقط ، ولا يعجز أحد عن أن يدعي للأرواح مكانا آخر غير ما ادعاه هؤلاء ، وما كان هكذا فلا يدين به إلا مخذول ، وبالله تعالى التوفيق.

وذهب عوامّ أصحاب الحديث إلى أن الأرواح على أفنية قبورها ، وهذا قول لا حجة له أصلا تصححه إلا خبر ضعيف لا يحتج بمثله ، لأنه في غاية السقوط لا يشتغل به أحد من علماء الحديث ، وما كان هكذا فهو ساقط أيضا. وذهب أبو الهذيل العلاف والأشعرية إلى أن الأرواح أعراض تفنى ولا تبقى وقتين ، فإذا مات الميت فلا روح هنالك أصلا.

ومن عجائب أصحاب هذه المقالة الفاسدة ، قولهم : إن روح الإنسان الآن غير روحه قبل ذلك ، وأنه لا ينفك تحدث له روح ثم تفنى ، ثم روح ثم تفنى ، وهكذا أبدا ، وأن الإنسان يبدل ألف ألف روح وأكثر في مقدار أقل من ساعة زمانية ، وهذا يشبه تخليط من هاج به البرسام. وزاد بعضهم فقال إن صحّت الآثار في عذاب الأرواح فإن الحياة ترد إلى أقل جزء لا يتجزأ من الجسم فهو يعذب ، وهذا أيضا حمق آخر ، ودعاوى في غاية الفساد. وبلغني عن بعضهم أنه يزعم أن الحياة ترد إلى عجب الذنب فهو يعذّب أو ينعم ، وتعلق بالحديث الثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ ابن آدم يأكله التّراب ، إلّا عجب الذّنب ، منه خلق وفيه يركّب» (٢).

__________________

(١) الجابية : قرية من أعمال دمشق ، ثم من عمل الجيدور من ناحية الجولان قرب مرج الصّفر في شمالي حوران. انظر مراصد الاطلاع (ص ٣٠٤ ، ٣٠٥).

(٢) رواه البخاري في تفسير سورة ٣٩ باب ٣ ، وسورة ٧٨ باب ١. ومسلم في الفتن حديث ١٤١

٣٧٥

قال أبو محمد : وهذا الخبر صحيح إلا أنه لا حجة فيه لأنه ليس فيه أن عجب الذنب يحيا ، ولا أنه يركب فيه حياة ، ولا أنه يعذب ولا ينعم وهذا كله مقحم في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإنما في الحديث أن عجب الذنب خاصة لا يأكله التراب ، فلا يحول ترابا وأنه منه ابتداء خلق المرء ، ومنه يبتدأ إنشاؤه ثانية فقط ، وهذا خارج أحسن خروج على ظاهره ، وأن عجب الذنب خاصة تتبدد أجزاؤه ، وهي عظام تحسها لا تحول ترابا ، وأن الله تعالى يبتدئ الإنشاء الثاني يجمعها ثم يركب تمام الخلق للإنسان عليه ، وأنه أول ما خلق من جسم الإنسان ، ثم ركب عليه سائره.

وإذ هذا ممكن لو لم يأت به نص فخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحق بالتصديق من كل خبر ، لأنه عن الله عزوجل.

قال تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [سورة النجم آية رقم ٣٢].

وقال تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [سورة الكهف آية رقم ٥١].

وقال أبو بكر بن كيسان الأصم : لا أدري ما الروح ولم يثبت شيء غير الجسد.

قال أبو محمد : وسنبين إن شاء الله تعالى فساد هاتين المقالتين في باب الكلام في الروح والنفس من كتابنا هذا بحول الله وقوته.

والذي نقول به في مستقر الأرواح ، هو ما قاله الله تعالى ، ونبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا نتعداه فهو البرهان الواضح ، وهو أن الله تعالى قال : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) [سورة الأعراف آية رقم ١٧٢].

وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) [سورة الأعراف آية رقم ١١].

فصح أن الله عزوجل خلق الأرواح جملة وهي الأنفس.

__________________

ـ ١٤٣. وأبو داود في السنّة باب ٢٢. والنسائي في الجنائز باب ١١٧. وابن ماجة في الزهد باب ٣٢. ومالك في الجنائز (حديث ٤٩). وأحمد في المسند (٢ / ٣٢٢ ، ٤٢٨ ، ٤٩٩ ، ٣ / ٢٨).

٣٧٦

وكذلك أخبر عليه‌السلام : «أن الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (١).

قال أبو محمد : وهي العاقلة الحساسة ، وأخذ عزوجل عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة ، قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم على جميعهم السلام ، وقبل أن يدخلها في الأجساد ، والأجساد يومئذ تراب وماء ، ثم أقرها تعالى حيث شاء ، لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظة «ثم» التي توجب التعقيب والمهلة ، ثم أقرها عزوجل حيث شاء وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت ، لا تزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المنيّ المنحدر من أصلاب الرجال ، وأرحام النساء ، كما قال تعالى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) [سورة القيامة آية رقم ٣٧].

وقال عزوجل : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) [سورة المؤمنون آية رقم ١٣].

وكذلك أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه يجمع خلق ابن آدم في بطن أمّه أربعين يوما ، ثمّ يكون علقة مثل ذلك ، ثمّ يكون مضغة مثل ذلك ، ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الرّوح». (٢)

وهذا نص قولنا والحمد لله ، فيبلوهم الله عزوجل في الدنيا كما شاء ثم يتوفاها فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا ، أرواح أهل السعادة عن يمين آدم عليه الصلاة والسلام ، وأرواح أهل الشقاوة عن يساره عليه‌السلام ، وذلك عند منقطع العناصر ، وتعجّل أرواح الأنبياء عليهم‌السلام وأرواح الشهداء إلى الجنة.

وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا القول الذي قلنا بعينه وقال : على هذا أجمع أهل العلم.

__________________

(١) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء باب ٢. ومسلم في البر والصلة والآداب حديث ١٥٩ و ١٦٠. وأبو داود في الأدب باب ١٦. وأحمد في المسند (٢ / ٢٩٥ ، ٥٢٧ ، ٥٣٧).

(٢) رواه البخاري في بدء الخلق باب ٦ ، وأحاديث الأنبياء باب ١ ، والقدر باب ١ ، والتوحيد باب ٢٨. ومسلم في القدر حديث ١. وأبو داود في السنّة باب ٦. والترمذي في القدر باب ٤. وابن ماجة في المقدمة باب ١٠.

٣٧٧

قال أبو محمد : وهذا قول جميع أهل الإسلام حتى خالف من ذكرنا ، وهذا هو قول الله عزوجل : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [سورة الواقعة آية رقم ٩].

وقوله تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [سورة الواقعة آية رقم ٩٣].

ولا تزال الأرواح هنالك حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في أجسادها ، ثم برجوعها إلى البرزخ المذكور فتقوم الساعة ، ويعيد الله عزوجل الأرواح ثانية إلى الأجساد ، وهي الحياة الثانية ، ويحاسب الخلق ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، مخلدين أبدا.

قال أبو محمد : وقال الأشعرية : معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العهد المأخوذ في قول الله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [سورة الأعراف آية رقم ١٧٢] أن «إذ» هاهنا بمعنى إذا ، فقول في غاية السقوط ، لوجوه خمسة أولها : أنه دعوى بلا دليل ، والثانية : أن «إذ» بمعنى إذا لا يعرف في اللغة ، وثالثها : أنه لو صح له تأويله هذا الفاسد وهذا لا يصح لكان كلاما لا يعقل ولا يفهم ، وإنما أورده عزوجل حجة ، ولا يحتج الله عزوجل إلا بما نفهم لا بما لا نفهم ، لأن الله تعالى قد تفضل علينا بإسقاط الإصر عنا ، ولا إصر أعظم من تكليفنا فهم ما ليس في بنيتنا فهمه ، ورابعها : أنه لو كان كما ادعى لما كان على ظهر الأرض إلا مؤمن.

والعيان يبطل هذا لأننا نشاهد كثيرا من الناس لم يقولوا قط ربنا الله ممن نشأ على الكفر وولد عليه إلى أن مات ، وممن يقول بأن العالم لم يزل ولا محدث له من الأوائل والمتأخرين.

وخامسها : أن الله عزوجل إنما أخبر بهذه الآية عما فعل ودلنا بذلك على أن الذكر يعود بعد فراق الروح للجسد كما كان قبل حلوله فيه ، لأنه تعالى أخبرنا أنه أقام علينا الحجة بذلك الإشهاد دليلا ، كراهية أن نقول يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين ، أي عن ذلك الإشهاد المذكور ، فصح أن ذلك الإشهاد كان قبل هذه الدار التي نحن فيها التي أخبرنا الله عزوجل فيها بذلك الخبر وقبل يوم القيامة أيضا ، فبطل بذلك قول بعض الأشعرية وغيرها ، وصح أن قولنا هو نص الآية والحمد لله رب العالمين.

٣٧٨

قال أبو محمد : وإنما أتى المخالفون منهم أنهم عقدوا على أقوال ثم راموا رد كلام الله تعالى ، وكلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها ، وهذا هو الباطل الذي لا يحل ، ونحن ولله الحمد إنما أتينا إلى ما قاله الله عزوجل وما صح عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلنا به ، ولم نحكم في ذلك بطرا ولا هوى ، ولا رددناهما إلى قول أحد ، بل رددنا جميع الأقوال إلى نصوص القرآن والسنن.

والحمد لله رب العالمين كثيرا ، وهذا هو الحق الذي لا يحل تعدّيه.

قال أبو محمد : وأما أرواح الأنبياء عليهم‌السلام فهم الذين ذكر الله تعالى أنهم المقربون في جنات النعيم ، وأنهم غير أصحاب اليمين ، وكذلك أخبر عليه‌السلام أنه رآهم في السموات ليلة أسري به في سماء سماء ، وكذلك الشهداء أيضا هم في الجنة لقول الله عزوجل : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) [سورة البقرة آية رقم ١٥٤] وقال : (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [سورة آل عمران آية رقم ١٦٩].

وهذا الرزق للأرواح بلا شك ولا يكون إلا في الجنة.

وقد بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديث الذي روي «نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنّة ثمّ تأوي إلى قناديل تحت العرش» (١) وروينا هذا الحديث مبينا من طريق ابن مسعود رضي الله عنه وأنهم الشهداء وبهذا تتآلف الأحاديث والآيات والحمد لله رب العالمين.

فإن قال قائل : كيف تخرج الأنبياء عليهم‌السلام والشهداء من الجنة إلى حضور الموقف يوم القيامة.؟

قيل له وبالله التوفيق : لسنا ننكر شهادة القرآن والحديث الصحيح بدخول الجنة ، والخروج عنها ، قبل يوم القيامة ، فقد خلق الله عزوجل فيها آدم عليه‌السلام ، وحواء ثم أخرجهما منها إلى الدنيا. والملائكة في الجنة ، ويخرجون منها برسالات رب العالمين إلى الرسل والأنبياء إلى الدنيا ، وكل ما جاء به نص قرآن أو سنة فلا ينكره إلا جاهل ، أو مغفل ، أو رديء الدين ، وأما الذي ينكر ولا يجوز أن يكون البتة فخروج روح من دخل الجنة إلى النار ، فالمنع من هذا إجماع من جميع الأمة ، متيقن مقطوع به ، وكذلك من دخلها يوم القيامة جزاء أو تفضلا من الله عزوجل ، فلا سبيل إلى خروجه منها أبدا بالنص ، وبالله تعالى التوفيق.

__________________

(١) رواه مسلم في الإمارة حديث ١٢١. وأبو داود في الجهاد باب ٢٥. والترمذي في تفسير سورة ٣ باب ١٩. وابن ماجة في الجهاد باب ١٦. وأحمد في المسند (١ / ٢٦٦).

٣٧٩

الكلام على من مات من أطفال

المسلمين والمشركين قبل البلوغ

قال أبو محمد : اختلف الناس في حكم من مات من أطفال المسلمين والمشركين ذكورهم وإناثهم.

فقالت الأزارقة من الخوارج : أما أطفال المشركين ففي النار. وذهبت طائفة إلى أنه يوقد لهم يوم القيامة نار ويؤمرون باقتحامها فمن دخلها منهم دخل الجنة ، ومن لم يدخلها منهم أدخل النار.

وذهب آخرون إلى الوقوف فيهم.

وذهب جمهور الناس إلى أنهم في الجنة وبه نقول.

قال أبو محمد : فأما الأزارقة فاحتجوا بقول الله تعالى حاكيا عن نوح عليه‌السلام أنه قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [سورة نوح آية رقم ٢٧].

ويقول : روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : يا رسول الله أين أطفالي منك؟ قال : «في الجنّة» قالت : فأطفالي من غيرك؟ قال «في النّار» فأعادت عليه فقال لها : «إن شئت أسمعتك تضاغيهم». (١)

وبحديث آخر في : «الوائدة والموءودة في النّار». (٢)

وقالوا : إن كانوا عندكم في الجنة فهم مؤمنون ، لأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، فإن كانوا مؤمنين فيلزمكم أن تدفنوا أطفال المشركين مع المسلمين ، وأن لا تتركوه يلتزم إذا بلغ دين أبيه فتكون ردة وخروجا عن الإسلام إلى الكفر ، وينبغي لكم أن ترثوه وتورثوه من أقاربه من المسلمين.

__________________

(١) رواه الإمام أحمد في المسند (٦ / ٢٠٨).

(٢) سيأتي تخريجه ص ٩٣ حاشية ٣.

٣٨٠