الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

وأما المحال في الوجود : فكانقلاب الجماد حيوانا ، والحيوان جمادا ، أو حيوانا آخر ، وكنطق الحجر ، واختراع الأجسام ، وما أشبه ذلك ، فإن هذا النوع ليس ممكنا عندنا البتة ، ولا موجودا ، ولكنه متوهم في العقل ، متشكل في النفس كيف يكون لو كان. وبهذين القسمين يأتي الأنبياء عليهم‌السلام في معجزاتهم الدالة على صدقهم في النبوة.

وأمّا المحال فيما بيننا في بنية العقل : فككون المرء قائما قاعدا معا في حين واحد وكسؤال السائل : هل يقدر الله تعالى على أن يجعل المرء قاعدا لا قاعدا معا ..؟ وسائر ما لا يتشكل في العقل فيما يفعل فيه التأثير لو أمكن فيما دون الباري عزوجل ـ فهذه الوجوه الثلاثة من سأل عنها أيقدر الله تعالى عليها فهو سؤال صحيح مفهوم ، معروف وجهه ، يلزم الجواب عنه بنعم إن الله قادر على ذلك كله. إلا أن المحال في بنية العقل فيما بيننا ، لا يكون البتة في هذا العالم لا معجزة لنبي ولا غير ذلك البتة ، هذا واقع في النفس بالضرورة ، ولا يبعد أن يكون الله تعالى يفعل هذا في عالم له آخر.

وأما المحال المطلق : فهو كل سؤال أوجب على ذات الباري تغييرا فهذا هو المحال لعينه الذي ينقض بعضه بعضا ، ويفسد آخره أوّله ، وهذا النوع لم يزل محالا في علم الله تعالى ، ولا هو ممكن فهمه لأحد ، وما كان هكذا فليس سؤالا ، ولا سأل سائله عن معنى مفهوم أصلا ، وإذا لم يسأل فلا يقتضي جوابا على تحقيقه أو توهمه ، لكن يقتضي جوابا بنعم أو بلا ، لئلّا ينسب بذلك إلى وصفه تعالى بعدم القدرة الذي هو العجز بوجهه أصلا ، وإن كنا موقنين بضرورة العقل بأن الله تعالى لم يفعله قط ، ولا يفعله أبدا. وهذا مثل من سأل : أيقدر الله تعالى على نفسه ، أو على أن يجهل ، أو على أن يعجز ، أو على أن يحدث مثله ..؟ أو على إحداث ما لا أول له ..؟ فهذه سؤالات يفسد بعضها بعضا تشبه كلام الممرورين ، والمجانين ، وكلام من لا يفهم. وهذا النوع لم يزل الله تعالى يعلمه محالا ممتنعا باطلا قبل حدوث العقل وبعد حدوثه.

وأما المحال في العقل فهو القسم الثالث الذي ذكرنا قبل ، فإن العقل مخلوق ، محدث خلقه الله تعالى بعد أن لم يكن. وإنما هو قوة من قوى النفس ، عرض محمول فيها أحدثه الله تعالى ، وأحدث رتبة على ما هي عليه ، مختارا لذلك تعالى. وبضرورة العقل نعلم أن من اخترع شيئا لم يكن قط لا على مثال سلف ولا عن ضرورة أوجبت عليه اختراعه لكن اختار أن يفعله ، فإنه قادر على ترك اختراعه ، قادر على اختراع غيره مثله ، أو خلافه ، ولا فرق بين قدرته على بعض ذلك وبين قدرته على سائره ، فكل ما

٢١

خلقه تعالى محال في العقل فقط ، فإنما كان محالا مذ جعله الله تعالى محالا ، وحين أحدث صورة العقل لا قبل ذلك ، فلو شاء الله تعالى ألا يجعله محالا لما كان محالا.

وكذلك من سأل هل يقدر الله تعالى على أن يجعل شيئا موجودا معدوما معا في وقت واحد ..؟ أو جسما في مكانين ..؟ أو جسمين في مكان ..؟ وكل ما أشبه هذا ـ فهو سؤال صحيح ، والله تعالى قادر على كل ذلك ، لو شاء أن يكوّنه لكوّنه. ومن البرهان على ذلك ما نراه في منامنا مما لا شك أنه محال في حال اليقظة ممتنع يقينا ، ونراه في منامنا ممكنا محسوسا مرئيا ببصر النفس ، مسموعا بسمعنا ، فبالضرورة يدري كل ذي حسّ سليم أن الذي جعل المحال ممكنا في النوم قادر على أن يوجده ممكنا في اليقظة.

وكل من سأل : هل الله تعالى قادر على أن يتخذ ولدا ..؟

فالجواب : أنه تعالى قادر على ذلك ، وقد نصّ عزوجل على ذلك في القرآن قال الله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [سورة الزمر : ٤].

وقال تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [سورة الأنبياء : ١٧].

قال أبو محمد : ومن لم يطلق أن الله عزوجل يقدر على ذلك ، وحسّن قوله ، بأن قال لا يوصف الله بالقدرة على ذلك فقد قطع بأن الله عزوجل لا يقدر ، إذ لا واسطة فيمن يقدر ولا يقدر البتة ، فلا بدّ من أحدهما ضرورة ، فمن قدر على شيء ما ، ثم وصف في شيء آخر بأنه لا يقدر عليه فقد خرج من أنه لا يقدر عليه ، وإذا وصف في شيء بأنه لا يقدر عليه ، فقد خرج بأنه يقدر عليه ، وإذا وجب أنه لا يقدر عليه فقد ثبت أنه عاجز ضرورة عما لا يقدر عليه ، ولا بدّ. ومن وصف الله عزوجل بالعجز فقد كفر.

وأيضا فإن من قال : لا يوصف الله تعالى بالقدرة على المحال فقد جعل قدرته سبحانه وتعالى متناهية ، وجعل قوته عزوجل منقطعة محدودة وملزومة بذلك ضرورة أن قوته تعالى متناهية ، عرض ، وأنه تعالى فاعل بطبيعة فيه متناهية ، وهذا تحديد للباري عزوجل وكفر به مجرد وإدخال له في جملة المخلوقين.

ومعنى قولنا : إن الله تعالى يقدر على المعلوم والمحال إنما هو على ما نبينه إن شاء الله تعالى.

٢٢

وهو أن سؤال السائل عن المحال ، والمعدوم ـ هو بلا شك سؤال موجود مسموع ملفوظ به. فجوابنا له هو أننا حققنا : أن الله تعالى قادر على أن يخلق لذلك اللفظ معنى يوجده ، وهذا جواب صحيح معقول ، وهذا قولنا وليس إلّا هذا القول. وقول عليّ الأسواري الذي يقول : إن الله تعالى لا يقدر على غير ما علم أنه يفعله جملة.

وأمّا كل من خالفنا ، وخالف الأسواريّ فلا بد له من الرجوع إلى قولنا أو الوقوع في قول الأسواري ، وإن زعم أنه متى وصف الله تعالى بالقدرة على شيء لم يفعله من إبراء مريض أو خلق شيء ، أو تحريك شيء ساكن ، فإنه قد وصفه بالقدرة على إحالة علمه ، وتكذيب حكمه ، وهذا هو المحال ـ فقد قال بقولنا ولا بدّ ، أو بقول الأسواري ولا بدّ.

وأما كل سؤال أدّى إلى القول في ذاته عزوجل ـ فإننا نقول : إن كل ما سأل عنه سائل لا يحاشي شيئا فإن الله تعالى قادر عليه ، غير عاجز عنه ، إلّا أن من السؤالات سؤالات لا يستحل سماعها ، ولا يحلّ النطق بها ، ولا يحل الجلوس حيث يلفظ بها ، وهي كل ما فيها كفر بالباري عزوجل أو استخفاف به ، أو بنبي من أنبيائه ، أو بملك من ملائكته ، أو بآية من آياته.

وقد قال تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) [سورة النساء : ١٤٠].

وقال عزوجل : (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [سورة التوبة : ٦٥ ، ٦٦].

قال أبو محمد : ولو أن سائلا سألنا : هل الله قادر على أن يمسخ هذا الكافر قردا أو كلبا ..؟

لقلنا : نعم.

ولو أنه أراد أن يسألنا هذا السؤال فيمن يلزمنا تعظيمه من ملك أو نبي ، أو صاحب نبي ، أو مسلم فاضل ، لم يحل لنا الاستماع إليه. ولكنا قد أجبناه جوابا كافيا ، بأن الله قادر على كل ما يسأل عنه ، لا يحاشي شيئا ، فمن تمادى بعد هذا الجواب الكافي ـ فإنما غرضه التشنيع فقط والإيهام ، وهذا من دلائل العجز في المناظرة ، والانقطاع. والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : والناس في هذا الباب على أقسام :

٢٣

فمبدؤها من الطرف قول من قال : لا يوصف الله تعالى بالقدرة على غير ما يفعل ، وهو قول عليّ الأسواريّ أحد شيوخ المعتزلة. واعلموا أنه لا بد لكل من منع أن يقدر الله تعالى على محال ، أو على شيء مما يسأل عنه ، فلا بد له ضرورة من المصير إلى هذا القول أو ظهور تناقضه وتفاسد قوله ، وخروجه إلى المحال البحت الذي فرّ عنه بزعمه على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى.

قال أبو محمد : وقد قالت طائفة بمعنى هذا القول إلّا أنها استشنعت عبارة الأسواريّ فقالت : إن الله تعالى قادر على كل شيء. ولكن إن سألنا سائل فقال : أيقدر الله تعالى على أمر كذا مع تقدّم علمه بأنه لا يكون ..؟ قالوا : فالجواب أنه تعالى لا يوصف بالقدرة على ذلك.

قال أبو محمد : وهذا الإخفاء لأنهم أوجبوا قدرته وأعدموها على شيء واحد ، وهو الباطل بلا خفاء.

وقالت طائفة : إنّ الله تعالى قادر على غير ما فعل إلّا أنه لا يوصف بالقدرة على أصلح مما فعل بعباده ، وهو قول جمهور المعتزلة.

وقالت طائفة : إن الله تعالى قادر على غير ما فعل إلّا أنه لا يقدر على الظلم ، ولا على الجور ، ولا على اتخاذ الولد ، ولا على إظهار معجزة على يد كذّاب ، ولا على شيء من المحال ، ولا على نسخ التوحيد ـ وهذا قول النظامي وأصحابه ، والأشعرية ، وإن كانوا مختلفين في ماهية الظلم.

وقالت طائفة : إن الله تعالى قادر على غير ما فعل ، وعلى الجور ، والظلم ، والكذب ، إلا أنه لا يقدر على المحال مثل : أن يجعل الشيء معدوما موجودا ما ، وقائما قاعدا معا ، أو في مكانين معا ، وهذا هو قول البلخي ، وطوائف من المعتزلة.

قال أبو محمد : والذي عليه أهل الإسلام كلهم ومن سلف من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم قبل أن تحدث هذه الضلالات وهذا الإقدام الشنيع الذي لو لا ضلال من ضلّ به ، ما انطلقت ألسنتنا به ، ولا سمحت أيدينا بكتابته ، ولكنا نحكيه حكاية الله عن ضلال من ضل ، فقال : «المسيح ابن الله» ، و «العزيز ابن الله» ، و «يد الله مغلولة» ، و «الله فقير ونحن أغنياء» ، و «إذ قال للإنسان اكفر». وكما أنذر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بأن الناس لا يزالون يتساءلون فيما بينهم ، حتى يقولوا : هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ..؟» (١)

__________________

(١) روي بأسانيد وطرق مختلفة ، فرواه البخاري في الاعتصام باب ٣ ، وبدء الخلق باب ١١.

٢٤

فقول أهل الإسلام عامتهم وخاصتهم قبل ما ذكرنا ، هو أن الله تعالى : فعّال لما يشاء ، وعلى كل شيء قدير ، وبهذا جاء القرآن ، وبهذا نقول. وكل مسئول عنه ، وإن بلغ الغاية من المحال فهم أو لم يفهم» فالله تعالى قادر عليه.

قال أبو محمد : وقال لي بعضهم : إنّ القرآن إنما جاء بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ، ونحن لا ننكر هذا ، وإنما نمنع أن يوصف الله تعالى بالقدرة على ما لا يشاء ، وبالقدرة على ما ليس بشيء. فقلت له : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [سورة الرعد : ٢٦]. فعمّ عزوجل ، ولم يخص ، فلا يحل لأحد تخصيص قدرته تعالى أصلا.

وقال تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) [سورة الأنعام : ٣٧].

وقال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [سورة الحاقة : ٤٤].

وقال تعالى : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [سورة الواقعة : ٦١].

وقال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [سورة الزخرف : ٣٣].

وقال تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى) [سورة يس : ٨١].

وقال تعالى عن نوح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) [سورة نوح : ١٠ ، ١١ ، ١٢].

مع قوله تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [سورة هود : ٣٦].

وقال تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [سورة الأنعام : ٦٥].

__________________

ومسلم في الإيمان (حديث ٢١٢ و ٢١٤ و ٢١٥ و ٢١٦ و ٢١٧) وأبو داود في السنة باب ١٨. وأحمد في المسند (٢ / ٢٨٢ ، ٣١٧ ، ٣٣٠ ، ٣٣١ ، ٣٧٨ ، ٥٣٩ ، ٣ / ١٠٢ ، ٤ / ١٦٦ ، ٦ / ٢٥٧). ولفظه كما رواه البخاري في الاعتصام (حديث ٧٢٩٦) عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟».

٢٥

وقال تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) [سورة التحريم : ٥].

فهذا نص على أنه قادر أن يفعل خلاف ما قد سبق في علمه من هدى من علم. أنه لا يهديه ومن تعذيب من علم أنه لا يعذّب أبدا ، وتبديل أزواج قد علم أنه لا يبدّلهن أبدا ، وكل هذا نص على قدرته تعالى على إبطال علمه الذي لم يزل ، وعلى تكذيب قوله الذي لا يكذب أبدا. ومثل هذا في القرآن كثير. فمن أعجب قولا ، وأتم ضلالة ممن يوجب بقوله : أن الله تعالى كذب ، وأنه تعالى مع ذلك غير قادر على الكذب. مع قوله تعالى : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [سورة القمر : ٥٥].

وقال تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [سورة الروم : ٥٤].

وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) [سورة النساء : ١٤٩].

فأطلق تعالى لنفسه القدرة ، وعمّ ولم يخص ، فلا يجوز تخصيص قدرته بوجه من الوجوه.

قال أبو محمد : فإن قال قائل منهم : فما يؤمنكم إذ هو تعالى قادر على الظلم والكذب والمحال من أن يكون قد فعله ، أو لعله سيفعله فتبطل الحقائق كلها ، ولا تصح ، ويكون كل ما أخبرنا به كذبا؟

قال أبو محمد : وجوابنا في هذا هو أن الذي أمّننا من ذلك ضرورة المعرفة التي قد وضعها الله تعالى في نفوسنا ، كمعرفتنا أن ثلاثة أكثر من اثنين ، وأن المميّز مميّز ، وأن البغال لا تتكلم في النحو ، والشعر ، والفلسفة ، وسائر ما استقر في النفوس علمه ضرورة ، وإلّا فليخبرونا ما الذي أمّنهم ما ذكرنا ، ولعله قد كان أو سيكون ولا فرق ، فإذ قد صحّ إطباق كل من يقر بالله من جميع الملل أنّ هذا العالم ليس في بنيته كون المحال المذكور فيه مع موافقته أكثر المخالفين لنا ـ على أن هذا كله ـ فإنّ الله تعالى قادر عليه ولكن لا يفعله ، فالذي أمّنهم من أنه تعالى يفعله هو الذي أمننا من أن يفعل ما قالوا لنا فيه لعله قد فعله ، أو سيفعله ، ولا فرق ـ وأن هذا العالم ليس في بنيته كون المحال المذكور فيه ، وأنه تعالى لا يجور ولا يكذب.

والضرورة الموجبة علينا القول بحدوث العالم ، وبأن له صانعا لا يشبهه لم يزل ، وبأن ما ظهر من الأنبياء عليهم‌السلام فمن عنده تعالى ، وأن تلك المعجزات موجبة تصديقهم ، وهم أخبرونا أنّ الله تعالى لا يكذب ولا يظلم ، وأنه تعالى قد أخبرنا بأنه قد تمت كلماته صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وأنه تعالى قادر ، وليس كل ما يقدر عليه فعله ، وأيضا فإن كان السائل عن هذا متدينا بدين الإسلام أو النصارى ، أو اليهود أو

٢٦

المجوس ، أو الصابئين أو البراهمة ، أو كل من يدين بأن الله حق فإنهم مجمعون على أن الله تعالى لا يظلم ، ولا يكذب. وكل من نفى الخالق فليس فيهم أحد يقول إنه يظلم أو يكذب ، فقد صح إطباق جميع سكان الأرض قديما وحديثا لا نحاشي أحدا على أنّ الله تعالى لا يظلم ولا يكذب ، فلو لم يكونوا مضطرين إلى القول بهذا لوجد فيهم واحد يقول بخلاف ذلك ، ومن المحال أن تجتمع طبائعهم كلهم على هذا إلّا لضرورة وضعها الله عزوجل في نفوسهم كضرورتهم إلى معرفة ما أدركوه بحواسهم وبداية عقولهم.

وأيضا فنقول لمن سأل هذا السؤال : أيمكن أن يكون إنسان في الناس قد توسوس ، وأوهمته ظنونه الكاذبة ، وتخيله الفاسد ، وهوسه أن الأشياء على خلاف ما هي عليه ..؟ وأن الناس على خلاف ما هم عليه ..؟ ويتصوّر عنده هذا الظنّ الفاسد أنه حق لا شك فيه ، أم ليس يمكن أن يكون هذا في العالم ..؟

فإن قالوا : لا يمكن أن يكون هذا في العالم ـ أتوا بالمحال البحت ، وكابروا.

فإن قالوا : بل هو ممكن موجود في الناس كثير من هذه صفته.

قيل لهم : فما يؤمنكم من أن تكونوا بهذه الصفة ..؟

ونقول لمن يؤمن بالله العظيم منهم : أيقدر الله تعالى على أن يحيل حواسّك كما فعل بصاحب الصفراء الذي يجد العسل مرّا كالعلقم ، وبصاحب ابتداء الماء النازل في عينيه فيرى خيالات لا حقيقة لها ، وكمن في سمعه آفة فهو يسمع ظنينا لا حقيقة له أم لا يقدر ..؟

فإن قالوا : يقدر.

قيل له : فما يؤمنك من أنك بهذه الصفة ..؟

فإن قالوا : كل من يحضر يخبرني أنّي لست من أهل هذه الصفة.

قيل له : وهكذا يظن ذلك الموسوس ، ولا فرق ، فإنه لا بدّ أن يقول : إنّي أرى أنّي بخلاف هذه الصفة ضرورة ، وعلما يقينا.

قلنا له بمثل هذا سواء بسواء ، آمنا أن يكون الله تعالى يظلم أو يكذب أو يحيل طبيعة لغير نبيّ ، أو يحيل ما لا يستحيل ولا فرق.

قال أبو محمد : ويقال لجميع هذه الفرق ، حاشا من قال بقول عليّ الأسواري : هل شنعتم على عليّ الأسواري إلا أنه وصف الله تعالى : بأنه لا يقدر على غير ما فعل ..؟ فقد وصفه بالعجز ولا بدّ.

٢٧

فلا بدّ من : نعم.

فيقال لهم : فإنّ هذا نفسه يلزمكم في قوله : بأنه لا يقدر على الظلم ، والكذب ولا على المحال ، ولا على نفسه ، ولا على أصلح ممّا فعل بعباده ضرورة. ولا ينفكون من ذلك.

فإن قلتم : إنّ هذا لا يلزمنا.

قيل لكم : ولا يعجز عليّ الأسواريّ عن أن يقول أيضا : إنّ هذا لا يلزمني وهذا ما لا انفكاك منه.

ويقال لهم : إذا أخبر الله عزوجل أنه سيقيم السّاعة ، وسيميت زيدا يوم كذا ، أيقدر على أن لا يميته في ذلك اليوم ، وعلى أن يميته قبل ذلك اليوم أم لا ..؟

فإن قالوا : لا. لحقوا بقول الأسواريّ.

وإن قالوا : نعم. أقرّوا بأنه يقدر على تكذيب قوله ، وهذا هو القدرة على الكذب الذي أبطلوا.

ونسألهم أيضا : إذا أمرنا الله تعالى بالدعاء ومنه ما قدم علم أنه لا يجيب الدّاعي به هل أمرنا بالدّعاء من ذلك فيما لا يستطيع ولا يقدر عليه ..؟ أم فيما يقدر عليه ..؟

فإن قالوا : فيما لا يقدر عليه ، لحقوا بالأسواري ، وأوجبوا على الله تعالى القول بالمحال ، إذ زعموا أنه أمرنا بأن نرغب إليه في أن يفعل ما لا يقدر عليه ـ تعالى الله عن ذلك.

وإن قالوا : بل فيما يقدر عليه ، أقرّوا أنه يقدر على إبطال علمه. والذي يدخل على قولهم هذا الذي هو الكفر المجرد من إبطال دلائل التوحيد وإبطال حدوث العالم وخلاف لإجماع غير قليل.

فإن قال عليّ الأسواري : لا يلزمني إثبات العجز بنفي القدرة بل أنفي عنه الأمرين جميعا كما قلتم أنتم : إنّ نفيكم عنه تعالى الحركة لا يلزمه السكون ، ونفي السكون لا يلزمه الحركة ، كما تنفون عنه الضدين جميعا من الشجاعة والجبن وسائر الصفات التي نفيتموها ، وأضدادها.

قال أبو محمد : فنقول وبالله التوفيق : إن هذا تمويه ضعيف لأننا نحن في نفي هذه الصفات عنه تعالى جارون على سنن واحد في نفي جميع صفات المخلوقين عنه كلّها ، وأنتم قد أثبتم له قدرة على أشياء ، ونفيتم عنه قدرة على غيرها ، فثبت ضرورة إثبات العجز عنه في الأشياء التي وصفتموها بعدم القدرة عليها ، وأما نحن فلو وصفناه

٢٨

بالشجاعة في شيء أو بالحركة في وجه ما ، أو وصفناه بالعقل في شيء ما ثم نفينا عنه هذه الصفات في وجه آخر للزمنا حيث وصفناه بشيء منها نفي ضدّها وللزمنا حيث نفينا عنه ضدّها أن نثبتها له ولا بدّ ، كما فعلنا في الرّحمة والسخط فإننا إذ وصفناه بالرحمة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فقد نفينا عنه عزوجل السخط عليه. وإذ نفينا عنه الرحمة لأبي جهل فقد أثبتنا له بذلك السخط عليه ، وهذا برهان ضروري. فإن موّه مموّه فقال : ألستم تقولون إنّ الله تعالى لا يعلم الحيّ ميتا ، فهل تثبتون له بنفي العلم هاهنا الجهل؟

قلنا له : وهذا أيضا تمويه آخر ، بل أوجبنا له بذلك العلم حقّا ، لأننا إذا نفينا عنه العلم بخلاف ما الأشياء ، أثبتنا له العلم بحقيقة ما الأشياء. وهل هاهنا شيء يجهل أصلا ..؟ وإنما الجهل بشيء حق لا يعلمه الجاهل فقط.

قال أبو محمد : وقد قلنا لمن ناظرنا منهم : إنكم تثبتون لله تعالى علما لم يزل ، فأخبرونا هل يقدر الله تعالى على أن يميت اليوم من علمه أنه لا يميته إلّا غدا ..؟ وهل يقدر ربكم على أن يزيل الآن بنية عن مكان قد علم أنها لا تزال إلّا غدا ..؟ وعلى رحمة من مات مشركا ، مع قوله تعالى : إنه لا يرحمه أصلا ، أم لا يقدر على ذلك ..؟

فقال لنا منهم قائل : إنه يقدر على ذلك.

فقلنا له : قد أقررتم أنه يقدر على إحالة علمه الذي لم يزل ، وعلى تكذيب كلامه وهذا إبطال قولكم صراحا.

وقال منهم قائلون : إنه تعالى قادر على ذلك ، ولو فعله لكان قد سبق في علمه أنه سيكون كما فعله.

قلنا لهم : لم نسألكم إلّا هل يقدر على ذلك مع تقدّم علمه أنه لا يكون ..؟ فضجروا هاهنا ، وانقطعوا ، ولجأ بعضهم إلى القطع بقول الأسواري في أنه لا يقدر على ذلك.

فقلنا لهم : إذا كان تعالى لا يقدر على شيء غير ما فعل ، ولا على نقل بنية عن موضعها ، فهو إذا مضطر مجبر ، أو ذو طبيعة جارية على سنن واحد!! نعم. ويلزم الأسواري ومن قال بقوله أن استطاعة الله ليست قبل فعله البتة ، وإنما هي مع فعله ولا بد ، لأنه لو كان مستطيعا قبل الفعل لكان قادرا على أن يفعل في الوقت الذي علم أنه لا يفعل فيه ، وهذا خلاف قوله نصا. وهو يقول : إن الإنسان مستطيع قبل الفعل ، فهو أتم طاقة وقدرة من الله تعالى ويلزمه أيضا القول بحدوث قدرة الله تعالى ، ولا بدّ ، إذ لو

٢٩

كانت قدرته لم تزل لكان قادرا على الفعل قبل أن يفعل ولا بدّ. وهذا خلاف قوله ، وهذا كفر مجرد إذ يقول : إن الإنسان قادر على غير ما علم الله تعالى أنه يفعله ، والله تعالى لا يقدر على ذلك ، فإن هؤلاء جمعوا إلى تعجيز ربهم تعالى القول بأنهم أقوى منه تعالى. وهذا أشد ما يكون من الكفر والشرك ، والحماقة.

قال أبو محمد : وكلهم يقول بهذا المعنى ، لأن جميعهم يقول : إن كل مخلوق فهو قادر على كل ما يفعله ، من اتخاذ ولد ، وحركة وسكون ، وغير ذلك ، وإن الباري لا يقدر على شيء من ذلك. وهذا كفر وحشيّ جدّا.

قال أبو محمد : وسألناهم أيضا فقلنا لهم : أتقرون أن الله تعالى لم يزل قادرا على أن يخلق ..؟ أم تقولون : إنه لم يزل غير قادر على أن يخلق ثم قدر ..؟

فقول كل من لقينا منهم ، وقول جميع أهل الإسلام : إن الله عزوجل لم يزل قادرا على أن يخلق.

قال أبو محمد : وهم وجميع أهل الإسلام منكرون على من قال من أهل الإلحاد إنّ الله تعالى لم يزل يخلق ، قاطعون بأن لم يزل يخلق محال فاسد.

قال أبو محمد : وصدقوا في ذلك إلا أنهم إذا أقروا أن قول من قال : إنه لم يزل يخلق محال ، وأقروا أنه لم يزل قادرا على ذلك ، فقد أقروا بصحة قولنا وأنه تعالى قادر على المحال ، ولا بدّ من هذا أو الكفر ، أو القول بأنه تعالى لم يزل غير قادر. والحمد لله على هداه لنا إلى الحق.

قال أبو محمد : وسألناهم أيضا فقلنا لهم : هل يجوز عندكم أن يدعى الله تعالى في أن يفعل ما لا يقدر على سواه ، أو في ألّا يفعل ما لا يقدر على فعله؟

فإن قالوا : نعم. أتوا بالمحال.

وإن قالوا : لا يجوز ذلك.

قيل لهم : فقد أمرنا الله تعالى أن ندعوه فنقول : «ربنا احكم بالحق» «ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به».

وهو عندكم لا يقدر على الحكم بغير الحق ، ولا على أن يحملنا ما لا طاقة لنا به.

قال أبو محمد : ومن عجائب الدنيا أنهم يسمعون الله تعالى يقول : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [سورة التوبة : ٣٠] و (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [سورة المائدة : ٧٣] و (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [سورة المائدة : ١٧] و (اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [سورة

٣٠

آل عمران : ١٨١] و (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [سورة المائدة : ٦٤] و (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) [سورة الحشر : ١٦].

ولا يشك مسلم في أن هذا كله كذب ، فأي حماقة أشنع من قول من قال : إن الله قادر على أن يقول كل ذلك حاكيا ، ولا يقدر أن يقوله من غير أن يقول ما قيل هذه الأقوال من إضافتها إلى غيره ، وهذا قول يغني ذكره وسخافته عن تكلف الرد عليه.

قال أبو محمد : ثم سألناهم فقلنا لهم : من أين علمتم أن الله تعالى لا يقدر على الكذب أو المحال ، أو الظلم ، أو غير ما فعل ..؟

فلم تكن لهم حجة أصلا إلّا أن قالوا : لو قدر على شيء من ذلك لما أمنا أن يكون فعله أو لعلّه سيفعله.

فقلنا لهم : ومن أين أمنتم أن يكون قد فعله أو لعله سيفعله ..؟ فلم تكن لهم حجة أصلا ، إلّا أن قالوا : إن الله لا يقدر على فعله.

قال أبو محمد : فحصل من قولهم هذا أن حجتهم أنه تعالى لا يقدر على الظلم والكذب والمحال ، وغير ما فعل ، أنه لا يقدر على شيء من ذلك ، فاستدلّوا على قولهم بذلك القول نفسه ، وهذه سفسطة تامة ، وحماقة ظاهرة ، وجهل قوي لا يرضى به لنفسه إلا سخيف العقل ، ضعيف الدين ، فلا بدّ لهم ضرورة من أن يرجعوا إلى قولنا في أنه بالضرورة علمنا أنه لا يفعل من ذلك ، كما علمنا أن زريعة العنب لا يخرج منها الجوز ، وأن ماء الفرس لا يتولد منه جمل.

قال أبو محمد : وأما نحن فإن برهاننا على صحة قولنا أن البرهان قد قام على أنه تعالى لا يشبهه من خلقه شيء من الأشياء ، والخلق عاجزون عن كثير من الأمور جملة والعجز من صفات المخلوقين ، فهو منتف عن الله عزوجل جملة. وليس في الخلق قادر بذاته على كل مسئول عنه ، فوجب أن الباري تعالى هو الذي يقدر على كل مسئول عنه ، وكذلك لما كان الكذب والظلم من صفات المخلوقين ، وجب يقينا أنهما منفيان عن الباري تعالى فهذا هو الذي آمننا من أن يكذب أو يظلم أو يفعل غير ما علم أنه يفعله وإن كان تعالى قادرا على كل ذلك.

وقلنا لهم أيضا : إذا كان عزوجل لا يوصف بالقدرة على إبطال علمه ، ولا يوصف بالقدرة على إمامته اليوم من علم أنه لا يميته إلّا غدا ، لأنه لا قدرة له على ذلك ، ولو كان له قدرة على ذلك لوصف بها ، فإذا جاء غد فأماته فله قدرة على إماتته حينئذ ، فقد حدثت له قدرة بعد أن لم تكن. وهذا يوجب أن قدرته تعالى حادثة ، وهذا خلاف قولهم.

٣١

قال أبو محمد : وفي هذا أيضا محال آخر ، وهو أنه إذا حدثت له قدرة بعد أن لم تكن فمن أحدثها له ..؟ أهو أحدثها لنفسه ..؟ أم غيره أحدثها له ..؟ أم حدثت بلا محدث ..؟

فإن قالوا : هو أحدثها لنفسه سئلوا : بلا قدرة أحدث لنفسه القدرة ..؟ أم بقدرة أخرى؟

فإن قالوا : أحدث لنفسه قدرة بلا قدرة أتوا بالمحال.

وإن قالوا : بل بقدرة. أثبتوا قدرة لم تزل ، بخلاف قولهم.

وإن قالوا : غيره أحدثها له ، أو حدثت بلا محدث ـ لحقوا بقول الدّهرية ، وكفروا. وفي قولهم هذا من خلاف المعقول ، وخلاف القرآن ، وخلاف البرهان ما تضيق به نفوس المؤمنين. والحمد لله على معافاته لنا مما ابتلاهم به.

وإن قالوا : لو فعل تعالى كل ذلك كيف كان يسمّى ..؟

قلنا : هذا سؤال سخيف عمّا لا يكون أبدا ، وهو كمن سأل : لو طار الإنسان كم ريشة كانت تكون له ..؟ وما أشبه هذا من الحماقة المأمون كونها. وتسمية الله تعالى نفسه المقدسة إليه لا إلينا. وبالله تعالى التوفيق.

وقال أبو هذيل العلّاف : إنّ لما يقدر الله تعالى عليه كلّا وآخرا ـ كما له أوّل ؛ فلو خرج آخره إلى الفعل ـ ولا يخرج ـ لم يكن الله تعالى قادرا على شيء أصلا ، ولا على فعل شيء بوجه من الوجوه.

وقال عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي : (١) ما نعلم أحدا يعتقد هذا اليوم إلا يحيى بن بشر الأرجائيّ. (٢) وادّعى أنّ أبا الهذيل تاب عن هذا القول.

__________________

(١) هو شيخ المعتزلة أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي المعروف بالكعبي ، من نظراء أبي علي الجبائي. له من التصانيف : كتاب المقالات ، وكتاب الغرر ، وكتاب الاستدلال بالشاهد على الغائب ، وكتاب الجدل ، وكتاب السنّة والجماعة ، وكتاب التفسير الكبير ، وكتاب في الردّ على متنبئ بخراسان ، وكتاب في النقض على الرازي في الفلسفة الإلهية ، وأشياء سوى ذلك. قال ابن النديم : توفي في أول شعبان سنة تسع وثلاثمائة. قال الذهبي : كذا قال ، وصوابه : سنة تسع وعشرين. انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (١٤ / ٣١٣) وتاريخ بغداد (٩ / ٣٨٤) ووفيات الأعيان (٣ / ٤٥) والعبر (٢ / ١٧٦) ومرآه الجنان (٢ / ٢٧٨) وطبقات المعتزلة لابن المرتضى (ص ٨٨ ٩٨) ولسان الميزان (٣ / ٢٥٥) وشذرات الذهب (٢ / ٢٨١) وطبقات الأصوليين (١ / ١٧٠).

(٢) من أصحاب أبي الهذيل العلّاف. وهو من طبقة ثمامة بن الأشرس وأبي عبد الله الدباغ. انظر ترجمته في طبقات المعتزلة (ص ٥٥ و ٥٧ و ٨٣).

٣٢

قال أبو محمد : وهذا كفر مجرّد لا خفاء به ، لأنه يجوّز على ربّه تعالى الكون في صفة الجماد ، أو المخدور ، أو المفلوج ، مع صحة الإجماع المتيقن على خلاف هذا القول الفاسد مع خلافه للقرآن ولموجب العقل ، وبديهته كذا عنده. وأظنه قد شبهه تعالى بالمخلوقين.

قال أبو محمد : وأمّا الأسواري فجعل ربّه تعالى مضطرا بمنزلة الجماد ولا فرق ، لا قدرة له على غير ما فعل. وهذه حال دون حال البق والبراغيث.

وأما أبو الهذيل : فجعل ربّه تعالى قدرته متناهية ، بمنزلة المختارين من خلقه ، وهذا هو التشبيه حقا.

وأمّا النظّام والأشعرية : فكذلك أيضا ، وجعلوا قدرة ربهم تعالى متناهية يقدر على شيء ، ولا يقدر على آخر. وهذه صفة أهل النقص.

وأمّا سائر المعتزلة : فوصفوه تعالى بأنه لا نهاية لما يقدر عليه من الشر ، وأن قدرته على الخير متناهية ، وهذه صفة شرّ ، وطبيعة خبيثة جدّا نعوذ بالله منها إلا بشر بن المعتمر ، (١) فقوله في هذا كقول أهل الحق ، وهو ألّا تتناهى قدرته أصلا والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) هو شيخ المعتزلة أبو سهل الكوفي ثم البغدادي. كان أخباريّا شاعرا متكلما ، وكانوا يفضلونه على أبان اللاحقي. له كتاب تأويل المتشابه ، وكتاب الردّ على الجهال ، وكتاب العدل ، وغير ذلك. مات سنة ٢١٠ ه‍. انظر ترجمته في الأغاني (٣ / ١٢٨) والانتصار (ص ١٩٤) والفهرست (ص ١٨٤ و ٢٠٥) وسير أعلام النبلاء (١٠ / ٢٠٣) والملل والنحل (١ / ٦٤) ولسان الميزان (٢ / ٣٣) والوافي بالوفيات (١٠ / ١٥٥).

٣٣

الكلام في الرؤية

قال أبو محمد : ذهبت المعتزلة ، وجهم بن صفوان ، أن الله تعالى لا يرى في الآخرة ، وقد روينا هذا القول عن مجاهد ، وعذره في ذلك أن الخبر لم يبلغ إليه ، وروينا هذا القول أيضا عن الحسن البصري ، وعكرمة ، وقد روي عن الحسن وعكرمة إيجاب الرؤية له تعالى ، وذهبت المجسمة إلى أن الله تعالى يرى في الدنيا والآخرة. وذهب جمهور أهل السنة ، والمرجئة ، وضرار بن عمرو من المعتزلة إلى أن الله تعالى يرى في الآخرة ، ولا يرى في الدنيا ، وقال الحسين بن محمد النجار (١) هو جائز ولم يقطع به.

قال أبو محمد : أما قول المجسمة ففاسد بما تقدم من كلامنا في هذا الكتاب والحمد لله رب العالمين ، وأيضا فإن الرؤية المعهودة عندنا لا تقع إلا على الألوان لا على ما عداها البتة وهذا مبعد عن الباري عزوجل. وقد احتج من أنكر الرؤية علينا بهذه الحجة بعينها وهذا سوء وضع منه لأننا لم نقل قط بتجويز هذه الرؤية على الباري عزوجل وإنّما قلنا إنه تعالى يرى في الآخرة بقوة غير هذه القوة الموضوعة في العين الآن لكن بقوة موهوبة من الله عزوجل وقد سماها بعض القائلين بهذا القول : الحاسة السادسة. وبيان ذلك أننا نعلم الله تعالى بقلوبنا علما صحيحا هذا لا شك فيه ، فيضع الله تعالى يوم القيامة في الأبصار قوة يشاهد الله تعالى بها ويرى كالتي وضعها في الدنيا في القلب ، وكالتي وضعها الله تعالى في أذن موسى عليه‌السلام حتى شاهد الله تعالى وسمعه مكلّما له. واحتجت المعتزلة بقول الله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [سورة الأنعام : ١٠٣].

__________________

(١) هو الحسين بن محمد بن عبد الله النجار ، أحد كبار المتكلمين. وقيل : كان يعمل الموازين. وله مناظرة مع النظّام ، فأغضب النظام فرفسه ، فيقال : مات منها بعد تعلّل. وذكر النديم أسماء تصانيف النجار ، منها : إثبات الرسل ، وكتاب القضاء والقدر ، وكتاب اللطف والتأييد ، وكتاب الإرادة الموجبة ، وأشياء كثيرة. انظر ترجمته في الفهرست (ص ٢٢٩) وسير أعلام النبلاء (١٠ / ٥٥٤).

٣٤

قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ، لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك ، والإدراك عندنا في اللغة معنى زائد على النظر والرؤية ، فالإدراك منتف عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة ، لأن في الإدراك معنى من الإحاطة ليس في الرؤية ، برهان ذلك قول الله عزوجل (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [سورة الشعراء : ٦١].

ففرق الله تعالى بين الإدراك والرؤية فرقا جليا لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) وأخبر تعالى أنه رأى بعضهم بعضا فصحت منهم الرؤية لبني إسرائيل ، ونفى الله الإدراك بقول موسى عليه‌السلام : (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ).

فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ، وشك أن ما نفاه الله عزوجل فهو غير الذي أثبته ، فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا هو قول الله عزوجل (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [سورة القيامة : ٢٢ ، ٢٣].

واعترض بعض المعتزلة وهو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي (١) فقال : إن «إلى» هاهنا ليست حرف جر لكنها اسم وهي واحدة الآلاء وهي النعم وهي في موضع مفعول ومعناه نعم ربها منتظرة. وهذا بعيد لوجهين أحدهما : أنّ الله تعالى أخبر أن تلك الوجوه قد حصلت لها النضرة وهي النعمة ، فإذا حصلت لها النعمة فبعيد أن تنتظر لما قد حصل لها ، وإنما تنتظر ما لم يقع بعد. والثاني تواتر الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أن المراد بالنظر : هو الرؤية ، لما تأوله المتأولون. وقال بعضهم إنّ معناها إلى ثواب ربّها أي منتظرة ناظرة.

قال أبو محمد : وهذا فاسد جدا لأنه لا يقال في اللغة نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته.

__________________

(١) هو شيخ المعتزلة. توفي بالبصرة سنة ٣٠٣ ه‍. كان أبو علي متوسعا في العلم سيّال الذهن ، وهو الذي ذلّل الكلام وسهّله ويسّر ما صعب منه. وكان يقف في أبي بكر وعليّ أيهما أفضل. له من المصنفات : كتاب الأحوال ، وكتاب النهي عن المنكر ، وكتاب التعديل والتجوير ، وكتاب الاجتهاد ، وكتاب الأسماء والصفات ، وكتاب التفسير الكبير ، وكتاب النقض على ابن الراوندي ، وكتاب الردّ على ابن كلّاب ، وكتاب الردّ على المنجمين ، وكتاب من يكفر ومن لا يكفر ، وكتاب شرح الحديث ، وأشياء كثيرة. انظر ترجمته في مقالات الإسلاميين (١ / ٢٣٦) وفهرست ابن النديم (ص ٦ من التكملة) والملل والنحل (١ / ٧٨. ٨٥) ووفيات الأعيان (٤ / ٢٦٧) والعبر (٢ / ١٢٥) وسير الأعلام (١٤ / ١٨٣) ودول الإسلام (١ / ١٨٤) وطبقات المعتزلة لابن المرتضى (ص ٨٠ ـ ٨٥) وغيرها.

٣٥

قال أبو محمد : وحمل الكلام على ظاهره الذي وضع له في اللغة فرض لا يجوز تعديه إلا بنصّ أو إجماع ، لأن من فعل ذلك فقد أفسد الحقائق كلها والشرائع كلها والمعقول كله. فإن قالوا إنّ حمل الكلام على المعهود أولى من حمله على غير المعهود. قيل لهم الأولى في ذلك حمل الأمور على معهودها في اللغة ، ما لم يمنع من ذلك نصّ أو إجماع أو ضرورة ، ولم يأت نصّ ولا إجماع ولا ضرورة تمنع مما ذكرنا في معنى النظر فقد وافقنا المعتزلة على أنه لا عالم عندنا إلا بضمير ولا فعّال إلا بمعاناة ، ولا رحيم إلا برقة. ثم أجمعوا معنا على أن الله تعالى عالم بكل ما يكون بلا ضمير ، وأنه عزوجل فعّال بلا معاناة ، ورحيم بلا رقة. فأيّ فرق بين تجويزهم ما ذكرنا وبين عدم تجويزهم رؤية ونظرا ، بقوة غير القوة المعهودة لو لا الخذلان ومخالفة القرآن والسنن نعوذ بالله من ذلك.

وقد قال بعض المعتزلة : أخبرونا إذا رؤي الباري تعالى أكلّه يرى أم بعضه؟

قال أبو محمد : وهذا سؤال تعلموه من الملحدين إذ سألونا نحن والمعتزلة فقالوا : إذا علمتم الله تعالى أكله تعلمونه أم بعضه ..؟

قال أبو محمد : هذا سؤال فاسد مغالط به لأنهم أثبتوا كلّا وبعضا حيث لا كلّ ولا بعض. والبعض والكل لا يقعان إلا في ذي نهاية ، والباري تعالى خالق النهاية والمتناهي فهو تعالى لا متناه ولا نهاية له فلا كلّ له ولا بعض.

قال أبو محمد : الآية المذكورة والأحاديث الصحاح المأثورة في رؤية الله تعالى يوم القيامة موجبة للقبول ، لتظاهرها وتباعد ديار الناقلين لها ، ورؤية الله عزوجل يوم القيامة كرامة للمؤمنين لا حرمنا ذلك الله من فضله ، ومحال أن تكون هذه الرؤية رؤية القلب لأن العارفين به تعالى يرونه في الدنيا بقلوبهم ، وكذلك الكفار في الآخرة بلا شك. فإن قال قائل إنما أخبر الله تعالى بالرؤية عن الوجه. قيل له وبالله تعالى التوفيق : معروف في اللغة التي خوطبنا بها أن تنسب الرؤية إلى الوجه والمراد بها العين. قال بعض الأعراب :

أنافس من ناجاك مقدار لفظة

وتعتاد نفسي إن نأت عنك عينها

وإنّ وجوها يصطبحن بنظرة

إليك لمحسود عليك عيونها

الكلام في القرآن وهو القول في كلام الله تعالى

قال أبو محمد : واختلفوا في كلام الله عزوجل بعد أن أجمع جميع أهل الإسلام كلهم على أن لله تعالى كلاما ، وعلى أن الله تعالى كلّم موسى عليه‌السلام ،

٣٦

وعلى أن القرآن كلام الله عزوجل وكذلك سائر الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف وكل هذا لا خلاف فيه بين أحد من أهل الإسلام.

فقالت المعتزلة : إن كلام الله عزوجل صفة فعل مخلوق. وقالوا إن الله تعالى كلّم موسى عليه‌السلام بكلام أحدثه في الشجرة.

وقال أهل السنة : إن كلام الله تعالى هو علمه لم يزل ، وهو غير مخلوق ، وهو قول الإمام أحمد بن حنبل وغيره. وقالت الأشعرية : كلام الله تعالى صفة ذات لم تزل غير مخلوقة وهو غير الله تعالى وخلاف الله تعالى وهو غير علم الله تعالى ، وإنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد. واحتج أهل السنة بحجج منها :

أن قالوا إن كلام الله عزوجل لو كان غير الله تعالى لكان لا يخلو من أن يكون جسما أو عرضا ، فلو كان جسما لكان في مكان واحد ، ولو كان ذلك لكان لم يبلغنا كلام الله عزوجل ولا كان يكون مجموعا عندنا في كل بلد كذلك. وهذا كفر. ولو كان عرضا لاقتضى حاملا ولكان كلام الله الذي هو عندنا هو غير كلامه الذي عند غيرنا وهذا محال. ولكان أيضا يفنى بفناء حامله ، وهذا لا يقولونه.

قالوا : ولو سمع موسى كلام الله عزوجل من غيره تعالى لما كان لموسى عليه‌السلام في ذلك فضل علينا لأننا نسمع كلام الله عزوجل من غيره ، فصحّ أن لموسى عليه‌السلام مزية على من سواه وهو أنه عليه‌السلام سمع الله تعالى مكلّما له بلا خلاف من سواه.

وأيضا فقد قامت الدلائل على أن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه ولا بمعنى من المعاني ، فلما كان كلامنا غيرنا وكان مخلوقا وجب ضرورة أن يكون كلام الله عزوجل ليس مخلوقا ، وليس غير الله تعالى كما قلنا في العلم سواء بسواء.

قال أبو محمد : وأمّا الأشعرية فيلزمهم في قولهم إن كلام الله تعالى غير الله ما ألزمناهم في العلم والقدرة سواء ، مما قد تقصيناه قبل هذا والحمد لله رب العالمين.

وأما قولهم إنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد فخلاف مجرد لله تعالى ولجميع أهل الإسلام ، لأن الله عزوجل يقول : (لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) [سورة الكهف : ١٠٩].

وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [سورة لقمان : ٢٧].

٣٧

قال أبو محمد : ولا ضلال أضلّ ، ولا حياء أعدم ، ولا مجاهرة أطمّ ، ولا تكذيب لله تعالى أعظم ممن سمع هذا الكلام الذي لا يشك مسلم أنه خبر الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ بأن لله تعالى كلمات لا تنفد ، ثم يقول هو من رأيه الخسيس إنه ليس لله تعالى إلا كلاما واحدا. فإن ادّعوا بأنهم فروا بأن يكثروا مع الله تعالى أكذبهم قولهم إن هاهنا خمسة عشر شيئا كلها متغايرة ، وكلها غير الله تعالى وخلاف الله ، وكلها لم تزل مع الله ـ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

قال أبو محمد : وقالت أيضا هذه الطائفة المنتمية إلى الأشعري إن كلام الله لم ينزل به جبريل عليه‌السلام على قلب محمد عليه‌السلام وإنما نزل عليه بشيء آخر هو عبارة عن كلام الله تعالى ، وأن الذي نقرأ في المصاحف ونكتب فيها ليس شيء منه كلام الله عزوجل ، وأن كلام الله تعالى الذي لم يكن ثم كان ، ولا يحلّ لأحد أن يقول : إنّ ما قلنا لله تعالى لا يزايل الباري تعالى ، ولا يقوم بغيره ، ولا يحل في الأماكن ، ولا ينتقل ولا هو حروف موصولة ، ولا بعضه خيرا من بعض ، ولا أفضل ولا أعظم من بعض. وقالوا لم يزل الله تعالى قائلا لجهنم هل امتلأت وقائلا للكفار (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [سورة المؤمنون : ١٠٨]. وقائلا للكفار (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) [سورة الملك : ١١].

قال أبو محمد : وهذا كفر مجرد بلا تأويل. وذلك أننا نسألهم عن القرآن أهو كلام الله عزوجل أم لا؟ فإن قالوا ليس هو كلام الله تعالى كفروا بإجماع الأمة. وإن قالوا هو كلام الله عزوجل تركوا قولهم الفاسد.

ونسألهم أيضا عن القرآن الذي يتلى في المساجد ويكتب في المصاحف ، ويحفظ في الصدور أهو كلام الله تعالى أم لا؟ .. فإن قالوا لا. كفروا أيضا بإجماع الأمة. وإن قالوا هو كلام الله تعالى تركوا قولهم. وأقروا أنّ كلام الله مكتوب في المصاحف ومسموع من القراء ، ومحفوظ في الصدور كما يقول جميع أهل الإسلام.

قال أبو محمد : وقد قال قوم في اللفظ بالقرآن ونسبوا إلى أهل السنة أنهم يقولون إن الصوت غير مخلوق ، وأن الخط غير مخلوق.

قال أبو محمد : وهذا باطل ، وما قال قط مسلم إن الصوت الذي هو الهواء غير مخلوق ، وإن الخط غير مخلوق.

قال أبو محمد : والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق : فهو ما قاله الله عزوجل

٣٨

ونبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نزيد على ذلك شيئا وهو أن قول القائل القرآن ، وقوله كلام الله تعالى كلاهما معنى واحد واللفظان مختلفان ، والقرآن هو كلام الله تعالى على الحقيقة لا على المجاز ، ويكفر من لم يقل بذلك. ونقول إن جبريل عليه‌السلام نزل بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى على الحقيقة على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [سورة الشعراء : ١٩٤].

ثم نقول : إن قولنا القرآن وقولنا كلام الله تعالى لفظ مشترك يعبر به عن خمسة أشياء فنسمي الصوت المسموع الملفوظ به قرآنا ، ونقول إنّه كلام الله تعالى على الحقيقة ، وبرهان ذلك قول الله عزوجل (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [سورة التوبة : ٦] (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة : ٧٥].

وقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [سورة المزمل : ٢٠]. وأنكر على الكفار ، وصدّق مؤمني الجن في قولهم : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) [سورة الجن : ١]. فصحّ أن المسموع وهو الصوت الملفوظ به : هو القرآن حقيقة ، وهو كلام الله تعالى حقيقة ، ومن خالف هذا فقد عاند القرآن ، ويسمّى المفهوم من ذلك الصوت قرآنا ، وكلام الله تعالى على الحقيقة. فإذا فسرنا الزكاة المذكورة في القرآن والصلاة والحج وغير ذلك قلنا في كل هذا : هذا كلام الله وهو القرآن ويسمى القرآن المصحف كله قرآنا وكلام الله ، وبرهاننا على ذلك قول الله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [سورة الواقعة : ٧٨ ، ٧٩].

وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو لئلا يناله العدو (١) وقوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [سورة البينة : ١ ـ ٣].

وكتاب الله تعالى هو القرآن بإجماع الأمة ، وقد سمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المصحف قرآنا والقرآن كلام الله تعالى بإجماع الأمة ، فالمصحف كلام الله تعالى حقيقة لا مجازا ويسمى المستقر في الصدور قرآنا ونقول إنه كلام الله تعالى ، برهاننا على ذلك قول

__________________

(١) رواه البخاري في الجهاد ، باب ١٢٩. ومسلم في الأمارة حديث ٩٢ و ٩٣ و ٩٤. وأبو داود في الجهاد باب ٨١. وابن ماجة في الجهاد باب ٤٥. ومالك في الجهاد حديث ٧. وأحمد في المسند (٢ / ٦ ، ٧ ، ١٠ ، ٥٥ ، ٦٣ ، ٧٦ ، ١٢٨).

٣٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أمر بتعاهد القرآن وقال عليه‌السلام إنه أشدّ تفصّيا من صدور الرجال من النعم من عقلها (١). وقال تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [سورة العنكبوت : ٤٩] فالذي في صدور الرجال هو القرآن وهو كلام الله عزوجل حقيقة لا مجازا ، ونقول كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن آية الكرسي أعظم آية في القرآن» (٢) و «إنّ أم القرآن فاتحة الكتاب المنزل في القرآن وليس في التوراة ولا في الإنجيل مثلها» (٣) و «إنّ قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن» (٤). وقال الله عزوجل (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [سورة البقرة : ١٠٦].

فإن قالوا إنما يتفاضل الأجر على قراءة كل ذلك. قلنا لهم نعم ولا شك في ذلك ولا يكون التفاضل في شيء مما فيه التفاضل إلا في الصفات التي هي أعراض

__________________

(١) رواه من حديث ابن مسعود البخاري في فضائل القرآن باب ٢٣. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث ٢٢٨ و ٢٢٩. والترمذي في القرآن باب ٨. والنسائي في الافتتاح باب ٣٧. والدارمي في الرقاق باب ٣٢ ، وفضائل القرآن باب ٤. وأحمد في المسند (١ / ٣٨٢ ، ٤١٧ ، ٤٢٣ ، ٤٣٩ ، ٤٦٣). وقوله : «أشدّ تفصيا من صدور الرجال من النعم بعقلها» قال أهل اللغة : التفصّي الانفصال. والنعم : أصلها الإبل والبقر والغنم ، والمراد هنا الإبل خاصة لأنها التي تعقل. والعقل (بضم العين والقاف ، ويجوز إسكان القاف) : جمع عقال ، ككتاب وكتب.

(٢) رواه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (حديث ٢٥٨) وأبو داود في الوتر باب ١٧ ، وأحمد في المسند (٥ / ١٤٢) عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا المنذر أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال : قلت : الله لا إله إلا هو الحيّ القيّوم. قال : فضرب في صدري وقال : «والله ، ليهنك العلم أبا المنذر!».

(٣) رواه الترمذي في ثواب القرآن (باب ١) : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج علي أبيّ بن كعب وهو يصلّي ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبيّ!» فالتفت أبيّ فلم يجبه ، وصلّى وخفف ثم انصرف فقال : السلام عليك يا رسول الله. قال : «وعليك السلام! ما منعك يا أبيّ أن تجيبني إذ دعوتك؟» قال : كنت في صلاة. قال : «أفلم تجد فيما أوحي إليّ أن استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم؟» قال : لا أعود إن شاء الله. قال : «تحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟» قال : نعم. قال : «كيف تقرأ في الصلاة؟» فقرأ أم القرآن ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ، وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته».

(٤) رواه البخاري فضائل القرآن باب ١٣. وأبو داود في الوتر باب ١٨. والترمذي في ثواب القرآن باب ١٠ و ١١. والنسائي في الافتتاح باب ٦٩. وابن ماجة في الأدب باب ٥٢. ومالك في القرآن (حديث ١٧) : عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رجلا يقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يردّدها. فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له. وكأن الرجل يتقالّها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن».

٤٠