الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

يأتي معصية قبل أن يتنبأ؟ فجوابنا وبالله تعالى التوفيق : أن كل نبي فإنه قبل أن ينبأ لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون متعبدا بشريعة نبي أتى قبله كما كان عيسى عليه‌السلام وأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه الصلاة والسلام. وإما أن يكون قد نشأ في قوم قد درست شريعتهم ، ودثرت ونسيت كما في بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوم قد نسوا شريعة إسماعيل ، وإبراهيم ، عليهما‌السلام.

قال تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [سورة الضحى آية رقم ٧].

وقال تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) [سورة يس آية رقم ٦] فإن كان النبي متعبدا بشريعة ما ، فقد أبطلنا آنفا أن يكون نبي يعصي ربه أصلا.

وإن كان نشأ في قوم دثرت شريعتهم فهو غير متعبد ، ولا مأمور بما لم يأته أمر الله تعالى به بعد فليس عاصيا لله تعالى في شيء يفعله أو يتركه ، إلا أننا ندري أن الله عزوجل قد طهر أنبياءه وصانعهم من كل ما يعابون به ، لأن العيب أذى ، وقد حرم الله عزوجل أن يؤذى رسوله.

قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) [سورة الأحزاب آية رقم ٥٧].

قال أبو محمد : فبيقين ندري أن الله تعالى صان أنبياءه عن أن يكونوا لبغية أو من ولادة بغي ، أو من بغايا ، بل بعثهم تعالى في حسب قومهم ، فإذ لا شك في هذا فبيقين ندري أن الله تعالى عصمهم قبل النبوة من كل ما يؤذون به بعد النبوة ، فدخل في ذلك السرقة ، والعدوان ، والقسوة ، والزنا ، واللياطة ، والبغي ، وأذى الناس في حريمهم وأموالهم وأنفسهم ، وكل ما يعاب به المرء ويتشكى منه ويؤذى بذكره.

وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي ، أنا ابن فرج ، أنا إبراهيم بن محمد بن فراس ، أنبأنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري ، أنا إسحاق بن راهويه ، أنا وهب بن جرير بن حازم ، أنا أبي ، أنبأنا محمد بن إسحاق ، حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ، عن أبيه هو ابن الحنفية ، عن أبيه هو علي بن أبي طالب ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر كلتاهما يعصمني الله منهما. قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام لأهلها ترعى أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر

٣٢١

الفتيان ، قال : نعم ، فلما خرجت فجئت أدنى دار من دور مكة ، سمعت غناء وصوت دفوف وزمير ، فقلت ما هذا؟ قالوا : فلان تزوج فلانة لرجل من قريش فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال لي ما فعلت ، فأخبرته. ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ففعل فخرجت فسمعت مثل ذلك فقيل لي مثل ما قيل لي فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال لي ما فعلت قلت ما فعلت شيئا فو الله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته» (١).

قال أبو محمد : فصح أنه عليه‌السلام لم يعص قط بكبيرة ولا بصغيرة قبل النبوة ، ولا بعدها ، ولا هم قط بمعصية صغرت أو كبرت لا قبل النبوة ، ولا بعدها ، إلا مرتين بالسمر. حيث ربما كان بعض ما لم يكن نهي عنه بعد ، والهم حينئذ بالسمر ليس همّا بزنا ، ولكنه بما يحذو إليه طبع البشرية من استحسان منظر حسن فقط ، وبالله تعالى التوفيق. تم الكلام في الأنبياء عليهم‌السلام.

__________________

(١) الحديث رواه البيهقي في دلائل النبوة (١ / ٥٨) وابن حجر في المطالب العالية (٤٢٥٩) والحاكم في المستدرك (٤ / ٢٤٥) والهيثمي في مجمع الزوائد (٨ / ٢٢٦) والقاضي عياض في الشفا (١ / ٢٧٣) والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٢١٣٥ و ٣٥٤٣٨) والطبري في تاريخه (٢ / ٢٧٩).

٣٢٢

الكلام في الملائكة عليهم‌السلام

قال أبو محمد : قد ذكرنا قبل أمر هاروت وماروت ونزيدها هاهنا بيانا في ذلك ، وبالله تعالى التوفيق ، أنّ قوما نسبوا إلى الله تعالى ما لم يأت به قط أثر يجب أن يشتغل به ، وإنما هو كذب مفترى من أنه تعالى أنزل إلى الأرض ملكين وهما هاروت وماروت ، وأنهما عصيا الله تعالى وشربا الخمر ، وحكما بالزور وقتلا النفس المحرمة ، وزنيا وعلما زانية اسم الله الأعظم فطارت به إلى السماء فمسخت كوكبا وهي الزهرة ، وأنهما عذبا في غار ببابل ، وأنهما يعلمان الناس السحر .. وحجتهم على ما في هذا الباب خبر رويناه من طريق عمير بن سعيد وهو مجهول مرة يقال له النخعي ومرة يقال له الحنفي ، ما نعلم له رواية إلا هذه الكذبة ، وليست أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنه أوقفها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وكذبة أخرى في أن حد الخمر لم يسنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما هو شيء فعلوه ، وحاشا لهم رضي الله عنهم من هذا.

قال أبو محمد : ومن البرهان على بطلان هذا كله قول الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [سورة الحجر : ٨] فقطع الله عزوجل أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق ، وليس شرب الخمر ولا الزنا ولا قتل النفس المحرمة ، ولا تعليم العواهر أسماءه عزوجل ، التي يرتفع بها إلى السماء ، ولا السحر من الحق ، بل كل ذلك من الباطل ، ونحن نشهد أن الملائكة ما نزلت قط بشيء من هذه الفواحش والباطل ، وإذ لم تنزل به فقد بطل أن تفعله ، لأنها لو فعلته في الأرض لنزلت به ، وهذا باطل ، وشهد عزوجل أنه لو أنزل علينا الملائكة لما أنظرنا ، فصح أنه لم ينزل قط ملك ظاهر إلا لنبي بالوحي فقط ، وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : وكذلك قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [سورة الأنعام : ٩].

فأبطل عزوجل أنه يمكن ظهور ملك إلى الناس. وقال تعالى : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) [سورة الأنعام : ٨].

٣٢٣

فكذّب الله عزوجل كل من قال : إن ملكا نزل قط من السماء ظاهرا إلا إلى الأنبياء بالحق ، من عند الله عزوجل فقط. وقال عزوجل : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) الآية [سورة الفرقان : ٢١ ، ٢٢].

فرفع الله تعالى الإشكال بهذا النص في هذه المسألة ، وقرن عزوجل نزول الملائكة في الدنيا برؤيته عزوجل فيهما ، فصح ضرورة أن نزولهم في الدنيا إلى غير الأنبياء ممتنع البتة لا يجوز ، وأن من قال ذلك فقد قال حجرا محجورا أي ممتنعا وظهر بها كذب من ادعى أن ملكين نزلا إلى الناس فعلماهم السحر ، وقد استعظم الله عزوجل ذلك من رغبة من رغب نزول الملائكة إلى الناس ، وسمى هذا الفعل استكبارا وعتوّا ، وأخبر عزوجل أننا لا نرى الملائكة أبدا إلّا يوم القيامة فقط ، وأنه لا بشرى يومئذ للمجرمين.

فإذ لا شك في هذا كله فقد علمنا ضرورة أنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما كما قدمنا قل : إما أن هاروت وماروت لم يكونا ملكين وأن «ما» في قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) [سورة البقرة : ١٠٢] نفي لأن ينزل عليهما ، ويكون هاروت وماروت حينئذ بدلا من الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا ، ويكون هاروت وماروت قبيلتان من قبائل الجن كانتا تعلمان الناس السحر.

وقد روينا هذا القول عن خالد بن أبي عمران وغيره ، وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ على الملكين بكسر اللام. وكان يقول : إن هاروت وماروت علجان (١) من أهل بابل. إلا أن الذي لا شك فيه على هذا القول أنهما لم يكونا ملكين. وقد اعترض هاهنا بعض الجهال فقال لي : أبلغ من رفق الشياطين أن يقولوا للذي يتعلم السحر لا تكفر؟ فقلت له : هذا الاعتراض يبطل من ثلاث جهات : أحدها أن نقول لك : وما المانع من أن يقول الشياطين ذلك ، إما سخريا وإما لما شاء الله تعالى؟ فلا سبيل لك إلى دليل مانع من هذا.

والثاني : أنه قد نص الله عزوجل على أن الشيطان قال : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) فقال تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) إلى قوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) [سورة الأنفال :]

__________________

(١) العلج : كل جاف شديد من الرجال (المعجم الوسيط : ص ٦٢١).

٣٢٤

[٤٨]. وقال تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) [سورة الحشر : ١٦]. فقد أمر الشيطان الإنسان بالكفر ثم تبرأ منه وأخبره أنه يخاف الله وغر الكفار ثم تبرأ منهم وقال : إني أخاف الله.

فأي فرق بين أن يقول الشيطان للإنسان اكفر ويغرّه ثم يتبرأ منه ، ويقول إني أخاف الله ، وبين أن يعلمه السحر ويقول له لا تكفر؟

والثالث : أن معلم السحر بنص الآية قد قال للذي يتعلم منه لا تكفر فسواء كان ملكا أو شيطانا قد علمه على قولك ما لا يحل وقال له : لا تكفر ، فلم تنكر هذا من الشيطان ولا تنكره بزعمك من الملك؟ وأنت تنسب إليه أنه يعلم السحر الذي هو عندك ضلال وكفر.

وإمّا أن يكون هاروت وماروت ملكين نزلا بشريعة حق وبعلم ما ، على أنبياء ، فعلماهم الدين ، وقالا لهم لا تكفروا نهيا عن الكفر بحق وأخبراهم أنهم فتنة يضل الله تعالى بهما وبما أتيا به ، من كفر به ، ويهدي بما من آمن بما أتيا به قال تعالى عن موسى أنه قال : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [سورة الأعراف : ١٥٥].

وكما قال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [سورة العنكبوت : ١].

ثم نسخ ذلك الذي أنزل على الملكين فصار كفرا بعد أن كان إيمانا ، كما نسخ تعالى شرائع التوراة والإنجيل فتمادت الجن على تعليم ذلك المنسوخ. وبالجملة فما في الآية نص ولا دليل على أن الملكين علما السحر ، وإنما هو إقحام أقحم في الآية بالكذب والإفك ، بل فيها بيان أنه لم يكن سحرا بقوله تعالى : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ) [سورة البقرة : ١٠٢] فصح أن السحر شيء غير الذي أنزل على الملكين.

ولا يجوز أن يجعل المعطوف والمعطوف عليه شيئا واحدا إلا ببرهان من نص أو إجماع أو ضرورة ، وإلا فلا أصلا.

وأيضا فإن بابل هي الكوفة وهي بلد معروف بقربها ، محدودة معلومة ليس فيها غار فيه ملك فصح أنه خرافة موضوعة إذ لو كان ذلك ما خفي مكانها على أهل الكوفة ، فبطل التعلق بهاروت وماروت ، والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : وقد ادعى قوم أن إبليس كان ملكا فعصى وحاشا لله من هذا ،

٣٢٥

لأن الله تعالى قد أكذب هذا القول بقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [سورة الكهف : ٥٠]. وبقوله : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) [سورة الكهف : ٥٠] ولا ذرية للملائكة ، وبقوله تعالى : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [سورة الأعراف : ٢٧]. وبإخباره أنه خلق إبليس من نار السموم ، وصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خلقت الملائكة من نور» (١). والنور غير النار بلا شك ، فصح أن الجن غير الملائكة ، والملائكة كلهم خيار مكرمون بنص القرآن ، والجن كالإنس فيهما مذموم ومحمود. فإن قال قائل إن الله عزوجل ذكر أنهم قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [سورة البقرة : ٣٠]. هذه تزكية لأنفسهم ، وقد قال تعالى .. (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة النجم : ٣٢].

قلنا وبالله تعالى التوفيق :

مدح المرء لنفسه ينقسم قسمين أحدهما : ما قصد به المرء الافتخار بغيا وانتقاصا لغيره فهذه هي التزكية وهو مذموم جدا ، والآخر : ما خرج مخرج الإخبار بالحق كقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (٢) و «فضلت على الأنبياء بست» (٣) وكقول يوسف عليه‌السلام : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [سورة يوسف : ٥٥].

ولا يسمّى هذا تزكية.

ومن هذا الباب قول الملائكة هاهنا ، برهان هذا أنه لو كان قولهم مذموما لأنكره الله عزوجل عليهم ، فإذ لهم ينكره الله تعالى فهو صدق.

ومن هذا الباب قولنا : نحن المسلمون ونحن خير أمة أخرجت للناس وكقول الحواريين : نحن أنصار الله.

فكل هذا إذا قصد به الحض على الخير لا الفخر ، فهو خير.

فإن قال قائل : إن الله تعالى قال لهم : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة : ٣٠].

قلنا : نعم وما شك الملائكة قط أن الله تعالى يعلم ما لا يعلمون ، وليس هذا إنكارا.

__________________

(١) رواه مسلم في الزهد (حديث ٦٠) وأحمد في المسند (٦ / ١٥٣ ، ١٦٨).

(٢) رواه الترمذي في تفسير سورة ١٧ باب ١٨ ، والمناقب باب ١. وابن ماجة في الزهد باب ٣٧. وأحمد في المسند (١ / ٥ ، ٢٨١ ، ٢٩٥ ، ٣ / ٢ ، ١٤٤ ، ٥ / ١٣٧ ، ١٣٨ ، ٣٩٣).

(٣) رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (حديث ٥) والترمذي في السير باب ٥ ، وأحمد في المسند (٢ / ٤١٢).

٣٢٦

وأما الجن فقد قلنا : إنهم متعبدون بملة الإسلام.

وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ الروث والعظام طعام إخواننا من الجن». (١)

وهذا بخلاف حكمنا ، فقد يخصهم الله عزوجل بأوامر خلاف أوامرنا ، كما للنساء شرائع ليست للرجال من الحيض وقطع الصلاة وغير ذلك ، وكما لقريش الإمامة وليست لغيرهم ، وكل ذلك دين الإسلام وبالله تعالى التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل.

هل يكون مؤمنا من اعتقد الإسلام دون استدلال

أم لا يكون مؤمنا مسلما إلّا من استدل ..؟

قال أبو محمد : ذهب محمد بن جرير الطبري والأشعرية كلها حاشا السمناني إلى أنه لا يكون مسلما إلا من استدل ، وإلا فليس مسلما.

وقال الطبري : من بلغ الاحتلام أو الإشعار من الرجال والنساء ، أو بلغ المحيض من النساء ، ولم يعرف الله عزوجل بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر ، حلال الدم والمال ، وقال : إنه إذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمهما وتدريبهما على الاستدلال على كل ذلك. وقالت الأشعرية : لا يلزمهما الاستدلال على ذلك إلا بعد البلوغ.

قال أبو محمد : وقال سائر أهل الإسلام : كل من اعتقد بقلبه اعتقادا لا يشك فيه ، وقال بلسانه لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق ، وبرئ من كل دين سوى دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك.

قال أبو محمد : فاحتجت الطائفة الأولى بأن قالت : قد اتفق الجميع على أن التقليد مذموم وما لم يكن يعرف باستدلال فإنما هو تقليد لا واسطة بينهما ، وذكروا قول الله عزوجل : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [سورة الزخرف : ٢٣].

وقال تعالى : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) [سورة الزخرف : ٢٤].

__________________

(١) رواه البخاري في الوضوء باب ٢١ ، ومسلم في الطهارة حديث ٥٨ ، وأبو داود في الطهارة باب ٤ ، والترمذي في الطهارة باب ١٤ ، والنسائي في الطهارة باب ٣٤ و ٣٥ ، وابن ماجة في الطهارة باب ١٦ ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٤٧).

٣٢٧

وقال تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [سورة البقرة : ١٧٠].

وقال تعالى : (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [سورة الأحزاب : ٦٧].

وقالوا : فذم الله تعالى اتباع الآباء والرؤساء. قالوا : وبيقين ندري أنه لا يعلم أحد أي الأمرين أهدى ولا هل يعلم الآباء شيئا أو لا يعلمون إلا بالدليل. وقالوا : كل ما لم يكن يصح بدليل فهو دعوى ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما ، لكن بالدليل قال الله عزوجل : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة : ١١١].

قالوا : فمن لا برهان له فليس صادقا في قوله ، وقالوا : ما لم يكن علما فهو شك وظن.

قالوا : والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة واستدلال.

قالوا : والديانات لا يعرف صحة الصحيح منها من بطلان الباطل منها بالحواس أصلا ، فصح أنه لا يعلم ذلك إلا من طريق الاستدلال ، فإذا لم يكن الاستدلال فليس المرء عالما بما لم يستدل عليه ، وإذا لم يكن عالما فهو شاك ظان. وذكروا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مساءلة الملك في القبر ما تقول في هذا الرّجل ..؟ فأمّا المؤمن أو الموقن فإنه يقول هو محمّد رسول الله قال : وأمّا المنافق أو المرتاب فإنه يقول : لا أدري سمعت النّاس يقولون شيئا فقلته (١). قالوا : وقد ذكر الله عزوجل الاستدلال على الربوبية والنبوة في غير موضع من كتابه وأمر به ، وأوجب العلم به ، والعلم لا يكون إلا عن دليل كما قلنا.

قال أبو محمد : هذا كل ما موهوا به قد تقصيناه لهم غاية التقصي ، وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه على ما نبين بحول الله وقوته إن شاء الله تعالى لا إله إلا هو ، بعد أن نقول قولا تصححه المشاهدة ، أن جمهور هذه الفرقة أبعد من كل من ينتمي إلى البحث والاستدلال عن المعرفة بصحة الدلائل ، فاعجبوا لهذا! وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.

قال أبو محمد : أما قولهم قد أجمع الجميع على أن التقليد مذموم وأن ما لا

__________________

(١) رواه البخاري في العلم باب ٢٤ ، والوضوء باب ٣٧ ، والجمعة باب ٢٩ ، والكسوف باب ١٠ ، والاعتصام بالكتاب والسنّة باب ٢. ومسلم في الكسوف (حديث ١١). ومالك في الكسوف (حديث ٤). وأحمد في المسند (٦ / ٣٤٥).

٣٢٨

يعرف باستدلال فإنما هو أخذ تقليدا إذ لا وساطة بينهما ، فإنهم شغبوا في هذا المكان ووثبوا فتركوا التقسيم الصحيح ، ونعم : إن التقليد لا يحل البتة وإنما التقليد أخذ المرء قول من دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن لم يأمرنا الله عزوجل باتباعه قط ، ولا بأخذ قوله ، بل حرم علينا ذلك ونهانا عنه.

وأما أخذ المرء قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي افترض علينا طاعته وألزمنا اتباعه وتصديقه وحذرنا عن مخالفة أمره وتوعدنا على ذلك أشد الوعيد ، فليس تقليدا ، وما سماه أحد قط من أهل الحق تقليدا بل هو إيمان وتصديق واتباع للحق وطاعة لله عزوجل وأداء للمفترض ، فموه هؤلاء القوم بأن أطلقوا على الحق الذي هو اتباع الحق اسم التقليد الذي هو باطل ، وبرهان ما ذكرنا أن امرأ لو اتبع أحدا دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول قاله لأن فلانا قاله فقط ، واعتقد أنه لو لم يقل ذلك الفلان ذلك القول لم يقل به هو أيضا ، فإن فاعل هذا القول مقلد مخطئ عاص لله تعالى ولرسوله ، ظالم آثم. سواء كان قد وافق قوله ذلك الحق الذي قاله الله ورسوله أو خالفه ، وإنما فسق لأنه اتبع من لم يؤمر باتباعه ، وفعل غير ما أمره الله عزوجل أن يفعله ، ولو أن امرأ اتبع قول الله عزوجل وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكان مطيعا محسنا مأجورا غير مقلد ، وسواء وافق الحق أو وهم فأخطأ ، وإنما ذكرنا هذا لنبيين أن الذي أمرنا به وافترض علينا هو اتباع ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط ، وأن الذي حرم علينا هو اتباع من دونه أو اختراع قول لم يأذن به الله تعالى قطّ ، وقد صح أن التقليد باطل لا يحل ، فمن الباطل الممتنع أن يكون الحق باطلا معا ، والمحسن مسيئا من وجه واحد معا ، فإذ ذلك كذلك فممتنع من أمر الله تعالى باتباعه ، ليس مقلدا ولا فعله تقليدا ، وإنما المقلد من اتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه ، فسقط تمويههم بذم التقليد ، وصح أنهم وضعوه في غير موضعه ، وأوقعوا اسم التقليد على ما ليس تقليدا ، وبالله تعالى التوفيق.

وأما احتجاجهم بذم الله تعالى اتباع الآباء والكبراء ، فهو مما قلنا آنفا سواء بسواء ، لأن اتباع الآباء والكبراء وكل من دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو من التقليد المحرم ، المذموم فاعله ، فقد قال الله عزوجل : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) [سورة الأعراف : ٣] فهذا نص ما قلنا ولله الحمد.

قال أبو محمد : وأما احتجاجهم أنه لا يعرف أي الأمرين أهدى ولا هل يعلم الآباء شيئا أم لا إلّا بالدليل ، وأن كل ما لم يصح بدليل فهو دعوى ، ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما ، وذكرهم قول الله تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة : ١١١] فإن هذا ينقسم قسمين :

٣٢٩

فمن كان من الناس تنازعه نفسه إلى البرهان ولا تستقر نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يسمع الدلائل فهذا فرض عليه طلب الدلائل ، إلا أنه إن مات شاكا أو جاحدا قبل أن يسمع من البرهان ما يثلج صدره فقد مات كافرا ، وهو مخلد في النار بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رأى المعجزات ، فهذا أيضا لو مات قبل أن يرى المعجزة لمات كافرا بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام ، وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب البرهان لأن فرضا عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر.

قال الله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [سورة التحريم : ٦]. فقد افترض الله عزوجل على كل أحد أن يقي نفسه النار.

فهؤلاء قسم وهم الأقل من الناس ، والقسم الثاني من استقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسكن قلبه إلى الإيمان ، ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقا من الله عزوجل له وتيسيرا لما خلق له من الخير والحسنى ، فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان ولا إلى تكلّف استدلال ، وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة ، والنساء ، والتجار ، والصناع ، والأكرة (١) والعباد ، وأصحاب الأئمة الذين يذمون الكلام والجدل والمراء في الدين.

قال أبو محمد : هم الذين قال الله فيهم : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة الحجرات : ٧ ، ٨].

وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [سورة الأنعام : ١٢٥].

قال أبو محمد : وقد سمى الله عزوجل راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم ، وكره إليهم الكفر والمعاصي فضلا منه ونعمة ، وهذا هو خلق الله تعالى للإيمان في قلوبهم ابتداء ، وعلى ألسنتهم ، ولم يذكر الله تعالى في ذلك استدلالا أصلا ، وبالله تعالى التوفيق.

وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لكبرائهم ، لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم محققون في قلوبهم أن آباءهم ورؤساءهم لو كفروا لم يكفروا هم بل كانوا يستحلون قتل آبائهم ،

__________________

(١) الأكرة : جمع أكّار ، وهو الحرّاث (المعجم الوسيط : ص ٢٢).

٣٣٠

ورؤسائهم والبراءة منهم ، ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة ، ويرون أن حرقهم بالنار أخفّ عليهم من مخالفة الإسلام.

وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حسا وشاهدناه في ذواتنا يقينا ، فلقد بقينا سنين كثيرة لا نعرف الاستدلال ولا وجوهه ، ونحن ولله الحمد في غاية اليقين بدين الإسلام ، وكل ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجد أنفسنا في غاية السكون إليه ، وفي غاية النفار عن كل ما يتعرض فيه بشك ، ولقد كانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان ، فنكاد لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعا لها ، كما خبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ سئل عن ذلك فقالوا له : «إنّ أحدنا ليحدث نفسه بالشيء ما أنه يقدم فتضرب عنقه أحبّ إليه من أن يتكلّم به» (١) فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ذلك محض الإيمان وأخبر أنه من وسوسة الشيطان ، وأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك بما أمر به من التعوذ ، والقراءة ، والتفل عن اليسار. ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها ، ولله تعالى الحمد ، فما زادنا يقينا على ما كنا بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق ، وصرنا كمن عرف وقد أيقن بكون الفيل موجودا سماعا ولم يره ثم رآه ، فلم يزدد يقينا بصحة إنّيّته (٢) أصلا ، لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة ، التي نشأنا عليها فقط كالقول في الدين بالقياس ، وعلمنا أنّا كنا مقتدين بالخطإ في ذلك ولله تعالى الحمد.

وإن المخالفين لنا ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل استدلالهم ولا بد ، فصح بما قلنا أن كل من أمحض اعتقاد الحق بقلبه وقاله بلسانه فهم مؤمنون محققون ، وليسوا مقلدين أصلا ، وإنما كانوا يكونوا مقلدين لو أنهم قالوا واعتقدوا أننا نتبع في الدين آباءنا وكبراءنا فقط ، ولو أن آباءنا وكبراءنا تركوا دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتركناه ، فلو قالوا هذا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفارا غير مؤمنين ، لأنهم إنما اتبعوا آباءهم وكبراءهم الذين نهوا عن اتباعهم ، ولم يتبعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أمروا باتباعه وبالله تعالى التوفيق.

وإنما كلف الله تعالى الإتيان بالبرهان إن كانوا صادقين ـ يعني الكفار ـ المخالفين لما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا نص الآية ولم يكلف قط المسلمين الإتيان بالبراهين ، وإلا سقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان.

__________________

(١) رواه مسلم في الإيمان (حديث ٢٠٩) وأبو داود في الأدب (باب ١٠٩) وأحمد في المسند (٢ / ٣٩٦).

(٢) الإنيّة : الوجود.

٣٣١

والفرق بين الأمرين واضح ، وهو أن كل من خالف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا برهان له أصلا ، فكلف المجيء بالبرهان تبكيتا وتعجيزا إن كانوا صادقين وليسوا صادقين فلا برهان لهم ، وأما من اتبع ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد اتبع الحق الذي قامت البراهين بصحته هنا ودان بالصدق الذي قامت الحجة البالغة بوجوبه ، فسواء علم هو بذلك البرهان أو لم يعلم حسبه أنه على الحق الذي صح بالبرهان ، ولا برهان على ما سواه فهو محق مصيب والحمد لله رب العالمين ..

وأما قولهم : ما لم يكن علما فهو شك وظن ، والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال.

قالوا : والديانات لا تعرف صحتها بالحواس ولا بضرورة العقل ، فصح أنه لا تعرف صحتها إلا بالاستدلال فإن لم يستدل المرء فليس عالما ، وإذا لم يكن عالما فهو جاهل شاك ، أو ظان ، وإذا كان لا يعلم الدين فهو كافر.

قال أبو محمد : فهذا ليس كما قالوا لأنهم قضوا قضية باطلة فاسدة بنوا عليها هذا الاستدلال ، وهو إقحامهم في حد العلم قولهم عن ضرورة واستدلال ، فهذه زيادة فاسدة لا نوافقهم عليها ، ولا جاء بصحتها قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا لغة ، ولا طبيعة ، ولا قول صاحب.

وحد العلم على الحقيقة : أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط ، فكل من اعتقد شيئا ما على ما هو به ولم يخالجه شك فيه فهو عالم به ، وسواء كان عن ضرورة حس ، أو عن بديهة عقل ، أو عن برهان استدلال ، أو عن تيسير الله عزوجل له وخلقه لذلك المعتقد في قلبه ، ولا مزيد.

ولا يجوز البتة أن يكون محققا في اعتقاد شيء كما هو ذلك الشيء وهو غير عالم به ، وهذا تناقض وفساد وتعارض وبالله تعالى التوفيق.

وأما قولهم في حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مساءلة الملك فلا حجة لهم فيه ، بل هو حجة عليهم كما هو ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما قال فيه : «فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو رسول الله».

ولم يقل عليه الصلاة والسلام فأما المستدل ، فحسبنا فوز المؤمن الموقن كيف كان إيمانه ويقينه.

وقال عليه الصلاة والسلام : «أما المنافق أو المرتاب» ولم يقل غير المستدل «فيقول : سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» فنعم هذا قولنا لأن المنافق والمرتاب ليسا

٣٣٢

موقنين ، ولا مؤمنين ، وهذه صفة مقلد للناس لا محقق ، فظهر أن هذا الخبر حجة عليهم كافية وبالله تعالى التوفيق.

وأما قولهم : إن الله عزوجل قد ذكر الاستدلال في غير موضع من كتابه وأمر به ، وأوجب العلم به ، والعلم لا يكون إلا عن استدلال ، فهذه أيضا زيادة أقحموها وهي قولهم : «وأمر به» فهذا لا يجدونه أبدا ، ولكن الله تعالى ذكر الاستدلال وحضّ عليه ، ونحن لا ننكر الاستدلال بل هو فعل حسن مندوب إليه ، محضوض عليه كل من أطاقه ، لأنه تزود من الخير وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق نعوذ بالله عزوجل من البلاء وإنما ننكر كونه فرضا على كل أحد لا يصح إسلام أحد دونه هذا هو الباطل المحض.

وأما قولهم : إن الله تعالى أوجب العلم به فنعم.

وأما قولهم : والعلم لا يكون إلا عن استدلال ، فهذه هي الدعوة الكاذبة التي أبطلناها آنفا وأول بطلانها أنها دعوى بلا برهان وبالله تعالى العزيز الحكيم نتأيد.

قال أبو محمد : هذا كل ما شغبوا به قد نقضناه ، والحمد لله رب العالمين.

فسقط قولهم إذ تعرى من البرهان ، وكان دعوى منهم مفتراة لم يأتي بها نص قط ، ولا إجماع ، وبالله التوفيق.

قال أبو محمد : ونحن الآن ذاكرون بعون الله وتوفيقه وتأييده البراهين على بطلان قولهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظم.

قال أبو محمد : يقال لمن قال لا يكون مسلما إلا من استدل أخبرنا متى يجب عليه فرض الاستدلال أقبل البلوغ أم بعده؟. ولا بدّ من أحد الأمرين ، فأما الطبري فإنه أجاب بأن ذلك واجب قبل البلوغ.

قال أبو محمد : وهذا خطأ لأن من لم يبلغ ليس مكلفا ولا مخاطبا ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع القلم عن ثلاثة» فذكر «الصغير حتّى يحتلم» (١) فبطل جواب الطبري رحمه‌الله.

وأما الأشعرية : فإنهم أتوا بما يملأ الفم ، وتقشعر منها جلود أهل الإسلام ،

__________________

(١) رواه البخاري في الطلاق باب ١١ ، والحدود باب ٢٢. وأبو داود في الحدود باب ١٧. والترمذي في الحدود باب ١. والنسائي في الطلاق باب ٢١. وابن ماجة في الطلاق باب ١٥. والدارمي في الحدود باب ١. وأحمد في المسند (١ / ١١٦ ، ١١٨ ، ١٤٠ ، ١٥٥ ، ٦ / ١٠٠ ، ١٠١ ، ١٤٤).

٣٣٣

وتصطك منها المسامع ، ويقطع ما بين قائلها وما بين الله عزوجل ، وهي أنهم قالوا : لا يلزم طلب الأدلة إلا بعد البلوغ ، ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المئونة ، وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم فقالوا غير مساترين : لا يصح إسلام أحد حتى يكون بعد بلوغه شاكا غير مصدق ..

قال أبو محمد : ما سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء القوم ، أنه لا يكون أحدا مسلما حتى يشك في الله عزوجل ، وفي صحة النبوة ، وفي هل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق أم كاذب؟ ولا سمع قط سامع في الهوس والمناقضة ، والاستخفاف بالحقائق ، بأقبح من قول هؤلاء أنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر ، ولا يصح التصديق إلا بالجحد ، ولا يوصل إلى رضاء الله عزوجل إلا بالشك فيه ، وأن من اعتقد موقنا بقلبه وبلسانه أن الله تعالى ربه لا إله إلا هو وأن محمدا رسول الله وأن دين الإسلام دين الله الذي لا دين غيره فإنه كافر مشرك. اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان. فو الله لو لا خذلان الله تعالى الذي هو غالب على أمره ما انطلق لسان ذي مسكة بهذه العظيمة ، وهذا يكفي من تكلف النقض لهذه المقالة الملعونة ، ومن بلغ هذا المبلغ حسن السكوت عنه ونعوذ بالله من الضلال.

ثم نقول لهم : أخبرونا عن هذا الذي أوجبتم عليه الشك في الله فرضا والشك في صحة النبوة والرسالة ، كم تكون هذه المدة التي أوجبتم عليه في البقاء شاكا مستدلّا طالبا للدلائل؟ وكيف إن لم يجد في قريته أو مدينته ولا في إقليمه محسنا للدلائل ، فرحل طالبا للدلائل فاعترضته أهوال ومخاوف ، وتعذر بحر أو برد أو مرض ، فاتصل له ذلك ساعات وأياما وجمعا وشهورا وسنين ، ما قولكم في ذلك؟

فإن حدّوا في المدة يوما أو يومين أو ثلاثة ، أو أكثر من ذلك ، كانوا متحكمين بلا دليل ، وقائلين بلا هدى من الله تعالى. ولم يعجز أحد عن أن يقول في تحديد تلك المدة بزيادة ، أو نقصان ، ومن بلغ هاهنا فقد ظهر فساد قوله.

وإن قالوا : لا نجد في ذلك حدا قلنا لهم : فإن امتد كذلك حتى يموت ، أو مات في مدة استدلاله التي حددتم له ، وهو شاك في الله تعالى ، وفي النبوة ، أيموت مؤمنا وتجب له الجنة أم يموت كافرا وتجب له النار ..؟

فإن قالوا : بل يموت مؤمنا تجب له الجنة ، أتوا بأعظم الطوام ، (١) وجعلوا الشكاك

__________________

(١) الطوامّ : جمع طامّة ، وهي الداهية تفوق ما سواها (المعجم الوسيط : ص ٥٦٦).

٣٣٤

في الله الذين هم عندهم شكاك مؤمنين من أهل الجنة ، وهذا كفر محض ، وتناقض لا خفاء به ، وكانوا مع ذلك قد سمحوا في أن يبقى المرء دهره كله شاكا في الله عزوجل ، وفي النبوة والرسالة.

وإن قالوا : بل يموت كافرا تجب له النار.

قلنا لهم : لقد أمرتموه بما فيه هلالكه ، وأوجبتم عليه ما فيه دماره ، وما يفعل الشيطان إلا هذا في أمره بما يؤدي إلى الخلود في النار.

وإن قالوا : بل هو في حكم أهل الفترة.

قلنا لهم : هذا باطل ، لأن أهل الفترة لم تأتهم النذارة ولا بلغ إليهم خبر النبوة ، والنص إنما جاء في أهل الفترة ، ومن زاد في الخبر ما ليس فيه فقد كذب على الله عزوجل. ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق :

ما حد الاستدلال الموجب لاسم الإيمان عندكم؟ وقد يسمع دليلا عليه اعتراض أيجزيه ذلك الدليل أم لا؟

فإن قالوا يجزيه. قلنا لهم : ومن أين وجب أن يجزيه وهو دليل معترض فيه؟ وليس هذه الصفة من الدلائل مخرجة عن الجهل إلى العلم بل هي مؤدية إلى الشك الذي كان عليه قبل الاستدلال.

وإن قالوا : بل لا يجزيه إلا حتى يوقن أنه قد وقع على دليل لا يمكن الاعتراض فيه ، كلفوا الناس ما ليس في وسع أكثرهم ، وما لا يبلغه إلا قليل من الناس في طويل من الدهر وكثير من البحث.

ولقد درى الله تعالى أنهم أصفار من العلم بذلك ، يعني أهل هذه المقالة الملعونة الخبيثة.

قال أبو محمد : ومن البرهان الموضح لبطلان هذه المقالة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئا من السير من المسلمين واليهود ، والنصارى والمجوس ، والمنانية والدهرية ، في أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذ بعث لم يزل يدعو الناس الجماء الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبما أتى به ويقاتل من أهل الأرض من قاتله ممن عنده ويستحل سفك دمائهم ، وسبي نسائهم وأولادهم ، وأخذ أموالهم ، متقربا إلى الله تعالى بذلك وأخذ الجزية وإصغاره ويقبل ممن آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده ، ويحكم له بحكم الإسلام ، وفيهم المرأة البدوية ، والراعي ، والراعية ، والغلام الصحراوي الوحشي ،

٣٣٥

والزنجي المسبي ، والزنجية المجلوبة ، والرومي ، والرومية ، والأغثر (١) الجاهل ، والضعيف في فهمه ، فما منهم أحد ، ولا من غيرهم قال له عليه‌السلام : إني لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين إلا حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه.

قال أبو محمد : لسنا نقول : إنه لم يبلغنا أنه عليه‌السلام قال ذلك لأحد بل نقطع نحن وجميع أهل الأرض ، قطعا كقطعنا على ما شاهدناه أنه عليه‌السلام لم يقل قط هذا لأحد ، ولا رد إسلام أحد حتى يستدل ، ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة رضي الله عنهم ، أولهم عن آخرهم ، ولا يختلف أحد في هذا الأمر ، ثم جميع أهل الأرض إلى يومنا هذا ، ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه‌السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به ، ثم تتفق على إغفال ذلك أو تعمد عدم ذكره جميع أهل الإسلام وتنبه له هؤلاء الأشقياء.

ومن ظن أنه وقع من الدين على ما لم يقع عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كافر بلا خلاف.

فصح أن هذه المقالة خرق للإجماع ، وخلاف لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع أهل الإسلام قاطبة.

فإن قالوا : فما كانت حاجة الناس إلى الآيات المعجزات ، وإلى احتجاج الله عزوجل عليهم بالقرآن ، وإعجازه به ، وبدعاء اليهود إلى تمني الموت ، ودعاء النصارى إلى المباهلة ، وشق القمر؟

قلنا وبالله تعالى التوفيق : قد قلنا إن الناس قسمان : قسم لم تسكن نفوسهم إلى الإسلام ، ولا دخلها التصديق ، فطلبوا منه عليه‌السلام البراهين فأراهم المعجزات فانقسموا قسمين طائفة آمنت ، وطائفة عندت وجاهرت فكفرت ، وأهل هذه الصفة اليوم هم الذين يلزمهم طلب الأدلة فرضا ولا بد كما قدمنا.

وقسم آخر : وفقهم الله تعالى لتصديقه عليه‌السلام وخلق عزوجل في نفوسهم الإيمان كما قال تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة الحجرات : ١٧] فهؤلاء آمنوا له عليه‌السلام بلا تكليف آية ، وأهل هذه الصفة هم اليوم المعتقدون للإسلام حقا بلا معرفة باستدلال.

قال أبو محمد : ويلزم أهل هذه المقالة أن جميع أهل الأرض كفار إلا الأقل ، وقد قال بعضهم إنهم مستدلون.

__________________

(١) الأغثر : الأحمق. يقال : غثر الرجل : حمق. انظر المعجم الوسيط (ص ٦٤٤).

٣٣٦

قال أبو محمد : وهذه مجاهرة هو يدري أنها فيها كاذب ، وكل من سمعه يدري أنه فيها كاذب لأن أكثر العامة من حاضرة وبادية لا يدري معنى الاستدلال فكيف أن يستعمله ...؟

قال أبو محمد : ويلزم من قال بهذه المقالة أن لا يأكل من اللحم إلا ما ذبحه هو أو من يدري أنه مستدل ، وأن لا يطأ إلا زوجة يدري أنها مستدلة. ويلزمه أن يشهد على نفسه بالكفر ضرورة قبل استدلاله ومدة استدلاله ، وأن يفارق امرأته التي تزوج في تلك المدة ، وأن لا يرث أخاه ولا أباه ولا أمه ، إلا أن يكونوا مستدلين ، وأن يعمل عمل الخوارج الذين يقتلون غيلة ، وعمل المغيرية والمنصورية في خنق كل من أمكنهم وقتله ، وأن يستحلوا أموال أهل الأرض ، بل لا يحل لهم الكف عن شيء من هذا كله لأن جهاد الكفار فرض وهذا كله إن التزموه طردوا أصولهم ، وكفونا أنفسهم ، وإن لم يقولوا بذلك تناقضوا.

فصح أن كل من اعتقد الإسلام بقلبه ، ونطق به بلسانه ، فهو مؤمن عند الله عزوجل ، ومن أهل الجنة ، سواء كان ذلك عن قبول ، أو نشأة ، أو عن استدلال ، وبالله تعالى التوفيق.

وأيضا فنقول لهم : هل استدل من مخالفيكم في أقوالكم التي تدينون بها أحد أم لم يستدل قط أحد غيركم؟ فلا بد من إقرارهم بأن مخالفيهم أيضا قد استدلوا وهم عندكم مخطئون كمن لم يستدل ولا فرق وأنتم عندهم أيضا مخطئون.

فإن قالوا : إن الأدلة أمنتنا من أن نكون مخطئين.

قلنا لهم : وهذا نفسه هو قول خصومكم فإنهم يدعون أن أدلتهم دلتهم على صواب قولهم ، وخطأ قولكم ، ولا فرق. ما زالوا على هذه الدعوى مذ كانوا إلى يومنا هذا ، فما نراكم حصلتم من استدلالكم إلا على ما حصل عليه من لم يستدل سواء بسواء ولا فرق.

فإن قالوا لنا : فعلى قولكم هذا يبطل الاستدلال جملة وتبطل الدلائل كافة.

قلنا : معاذ الله من هذا.

لكن أريناك أنه قد يستدل من يخطئ ، وقد يستدل من يصيب ، بتوفيق الله تعالى فقط.

وقد لا يستدل من يخطئ ، وقد لا يستدل من يصيب ، بتوفيق الله تعالى ، وكل ميسر لما خلق له.

٣٣٧

والبرهان والدلائل الصحاح غير المموهة ، فمن وفق للحق الذي قامت عند غيره البراهين الصحاح بصحته فهو مصيب ، محق ، مؤمن ، استدل أو لم يستدل.

ومن يسر للباطل ، الذي قام البرهان عند غيره ببطلانه ، فهو مبطل مخطئ أو كافر ، سواء استدل أو لم يستدل ، وهذا هو الذي قامت البراهين بصحته.

والحمد لله رب العالمين. وبالله تعالى التوفيق.

٣٣٨

الكلام في الوعد والوعيد

قال أبو محمد : اختلف الناس في الوعد والوعيد ، فذهبت كل طائفة لقول ، منهم من قال : إن صاحب الكبيرة ليس مؤمنا ولكنه كافر أو فاسق أو كافر نعمة أي أن كل من مات مصرّا على كبيرة من الكبائر فلم يمت مسلما ، وإذا لم يمت مسلما فهو مخلد في النار أبدا.

وأن من مات ولا كبيرة له ، أو تاب عن كبائره قبل موته فإنه مؤمن من أهل الجنة لا يدخل النار أصلا.

ومنهم من قال بأن كل ذنب صغير أو كبير فهو مخرج عن الإيمان والإسلام فإن مات عليه فهو غير مسلم ، وغير المسلم فهو مخلد في النار. وهذه مقالات الخوارج والمعتزلة.

إلا أن بكر ابن أخت عبد الواحد بن زيد قال في طلحة والزبير رضي الله عنهما إنهما كافران من أهل الجنة لأنهما من أهل بدر ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله تعالى قال لأهل بدر : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». (١)

قال : فأهل بدر إن كفروا فمغفور لهم ، لأنهم بخلاف غيرهم. وقال بعض المرجئة : لا تضر مع الإسلام سيئة ، كما لا ينفع مع الكفر حسنة قالوا : فكل مسلم ولو بلغ كل معصية فهو من أهل الجنة ، لا يرى نارا ، وإنما النار للكفار. وكلا هاتين الطائفتين لا تقر بأن أحدا يدخل النار ثم يخرج عنها ، بل من دخل النار فهو مخلد فيها أبدا ، ومن كان من أهل الجنة فهو لا يدخل النار.

وقال أهل السنة والحسين النجار وأصحابه وبشر بن غياث المريسي ، وأبو بكر بن

__________________

(١) رواه البخاري في المغازي باب ٩ و ٤٦ ، وتفسير سورة ٦٠ باب ١ ، والأدب باب ٧٤. ومسلم في فضائل الصحابة حديث ١٦١. وأبو داود في الجهاد باب ٩٨ ، والسنّة باب ٨. والترمذي في تفسير سورة ٦٠ باب ١. والدارمي في الرقاق باب ٤٨. وأحمد في المسند (١ / ٨٠ ، ٢ / ٢٩٦).

٣٣٩

عبد الرحمن بن كيسان الأصم البصري ، وغيلان بن مروان الدمشقي القدري ، ومحمد ابن شبيب ، ويونس بن عمران ، وأبو العباس الناشئ ، والأشعري ، وأصحابه ، ومحمد بن كرام وأصحابه ، أن الكفار مخلدون في النار ، وأن المؤمنين كلهم في الجنة ، وإن كانوا أصحاب كبائر ماتوا مصرين عليها.

وأنهم طائفتان ، طائفة يدخلون النار ثم يخرجون منها أي من النار إلى الجنة ، وطائفة لا تدخل النار ، إلا أن كل من ذكرنا قالوا لله عزوجل أن يعذب من شاء من المؤمنين أصحاب الكبائر بالنار ثم يدخلون الجنة ، وله أن يغفر لهم ويدخلهم الجنة بدون أن يعذبهم ، ثم افترقوا فقالت طائفة منهم وهو محمد بن شبيب ، ويونس ، والناشئ : إن عذب الله تعالى واحدا من أصحاب الكبائر عذب جميعهم ولا بد ، ثم أدخلهم الجنة ، وإن غفر لواحد منهم غفر لجميعهم ولا بد.

وقالت طائفة : بل يعذب من يشاء ، ويغفر لمن يشاء ، وإن كانت ذنوبهم كثيرة مستوية. وقد يغفر لمن هو أعظم جرما ، ويعذب من هو أقل جرما.

وقال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم : يغفر لمن يشاء من أصحاب الكبائر ، ويعذب من يشاء منهم ، إلا القاتل عمدا فإنه مخلد في النار أبدا.

وقالت طائفة منهم : من لقي الله عزوجل مسلما تائبا من كل كبيرة أو لم يكن عمل كبيرة قط فسيئاته كلها مغفورة ، وهو من أهل الجنة ، لا يدخل النار ، ولو بلغت سيئاته ما شاء الله أن تبلغ ، ومن لقي الله عزوجل وله كبيرة لم يتب منها فأكثر ، فالحكم في ذلك الموازنة ، فمن رجحت حسناته على كبائره وسيئاته ، فإن كبائره وسيئاته كلها تسقط وهو من أهل الجنة لا يدخل النار ، ومن استوت حسناته مع كبائره وسيئاته فهؤلاء أهل الأعراف ، ولهم وقفة ولا يدخلون النار ، ثم يدخلون الجنة. ومن رجحت كبائره وسيئاته بحسناته ، فهؤلاء مجازون بقدر ما رجح لهم من الذنوب ، فمن لفحة واحدة إلى بقاء خمسين ألف سنة في النار ، ثم يخرجون منها إلى الجنة بشفاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبرحمة الله تعالى.

وكل من ذكرنا يجازون في الجنة بقدر ما فضل لهم من الحسنات ، وأما من لم يفضل له حسنة من أهل الأعراف فمن دونهم ، وكل من خرج من النار بالشفاعة وبرحمة الله تعالى فهم كلهم سواء في الجنة ، ولكل امرئ منهم مثل الدنيا عشر مرات وهم أقل حظا في الجنة ممن رجحت له حسنة فصاعدا.

قال أبو محمد : فأما من قال بأن صاحب الكبيرة يخلد وصاحب الذنب

٣٤٠