الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

بموسى جملة ، لأن الله عزوجل قد وعدها برده إليها ، إذ قال لها تعالى : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [سورة القصص : ٧].

فمن الباطل المحض أن يكون الله تعالى ضمن لها رده إليها ثم يصبح قلبها مشغولا بالهم بأمره. هذا ما لا يظن بذي عقل أصلا. وإنما معنى قوله تعالى إن كادت لتبدي به ، أي سرورا بما آتاه الله عزوجل من الفضل وقولها لأخته «قصيه» إنما هو لترى أخته كيفية قدرة الله تعالى في تخليصه من يدي فرعون عدوه بعد وقوعه فيهما وليتم بها ما وعدها الله تعالى من رده إليها فبعثت أخته لترده بالوحي.

وذكروا قول الله تعالى عن موسى عليه‌السلام : (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) [سورة الأعراف : ١٥٠] (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) [سورة طه : ٩٤].

قالوا : وهذه معصية أن يأخذ بلحية أخيه وشعره ، وهو نبي مثله ، وأسن منه ولا ذنب له.

قال أبو محمد : وهذا ليس كما ظنوا وهو خارج على وجهين.

أحدهما : أنه أخذ برأس أخيه ليقبل بوجهه عليه ويسمع عتابه له إذ تأخر عن اتباعه إذ رآهم ضلوا ، ولم يأخذ بشعر أخيه قط إذ ليس ذلك في الآية أصلا ، ومن زاد ذلك فيها فقد كذب على الله تعالى ، لكن هارون عليه‌السلام خشي بادرة من موسى عليه‌السلام وسطوة ، أو رآه قد اشتد غضبه فأراد توقيفه بهذا الكلام عما تخوفه منه.

وليس في هذه الآية ما يوجب غير ما قلناه ، ولا أنه مد يده إلى أخيه أصلا ، وبالله تعالى التوفيق.

والثاني : أن هارون عليه‌السلام قد يكون استحق في نظر موسى عليه‌السلام النكير لتأخره عن لحاقه إذ رآهم ضلوا ، فأخذه برأسه منكرا عليه ، ولو كان هذا لكان إنما فعله موسى عليه‌السلام غضبا لربه عزوجل ، وقاصدا بذلك رضاء الله تعالى ، ولسنا نبعد ذلك من الأنبياء عليهم‌السلام ، وإنما نبعد القصد إلى المعصية وهم يعلمون أنها معصية ، وهذا هو معنى ما ذكره الله تعالى عن إبراهيم خليله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [سورة الشعراء : ٨٢] وقول الله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [سورة الفتح : ٢]. إنما الخطيئة المذكورة والذنوب المغفورة ما وقع بنسيان أو بقصد إلى الله تعالى إرادة الخير فلم يوافق رضي الله عزوجل بذلك فقط. وذكروا قول موسى عليه‌السلام للخضر عليه‌السلام : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) [سورة الكهف : ٧٤]. فأنكر موسى عليه

٣٠١

السلام الشيء وهو لا يعلمه ، وقد كان أخذ عليه العهد أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرا فهذا أيضا لا حجة لهم فيه ، لأن ذلك كان على سبيل النسيان وقد بين موسى عليه‌السلام ذلك بقوله : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) [سورة الكهف : ٧٣] فرغب إليه ألّا يؤاخذه بنسيانه ، ومؤاخذة الخضر له بالنسيان دليل على صحة ما قلنا من أنهم عليهم‌السلام مؤاخذون بالنسيان وبما قصدوا به الله عزوجل فلم يصادفوا بذلك مراد الله عزوجل. وتكلم موسى عليه‌السلام على ظاهر الأمر ، وقدر أن الغلام زكي إذ لم يعلم له ذنبا ، وكان عند الخضر العلم الجلي بكفر ذلك الغلام واستحقاقه القتل ، فقصد موسى عليه‌السلام بكلامه في ذلك وجه الله تعالى والرحمة ، وإنكار ما لم يعلم وجهه.

وذكروا قول موسى عليه‌السلام : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [سورة الشعراء : ٢٠] فقول صحيح وهو حاله قبل النّبوة ، فإنه كان ضالّا عما اهتدى له بعد النبوة ، ضلال الغيب عن العلم ، كما تقول : أضللت بعيري ، لا ضلال القصد إلى الإثم.

وهكذا قول الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [سورة الضحى : ١٧].

أي ضالّا عن المعرفة وبالله تعالى التوفيق.

وذكروا قول الله عزوجل عن بني إسرائيل : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) [سورة النساء : ١٥٣].

قالوا : وموسى قد سأل ربه مثل ذلك فقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) [سورة الأعراف : ١٤٣].

قالوا : فقد سأل موسى عليه‌السلام أمرا عوقب سائلوه قبله.

قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ، لأنه خارج على وجهين :

أحدهما أن موسى عليه‌السلام سأل ذلك قبل سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى ، وقبل أن يعلم أنّ سؤال ذلك لا يجوز فهذا لا مكروه فيه ، لأنه سأل فضيلة عظيمة أراد بها علو المنزلة عند ربه تعالى.

والثاني : أن بني إسرائيل سألوا ذلك متعنتين وشكاكا في الله عزوجل ، وموسى سأل ذلك على الوجه الحسن الذي ذكرنا آنفا.

الكلام في يونس عليه‌السلام

قال أبو محمد : وذكروا أمر يونس عليه‌السلام وقول الله تعالى عنه : (وَذَا النُّونِ

٣٠٢

إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [سورة الأنبياء : ٨٧].

وقوله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة الصافات : ١٤٣ ، ١٤٤].

وقوله لنبيه عليه‌السلام : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) [سورة القلم : ٤٨ ، ٤٩].

وقوله تعالى : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) [سورة الصافات : ١٤٢].

قالوا : ولا ذنب أعظم من المغاضبة لله عزوجل ومن أكبر ذنبا ممن ظن أن الله لا يقدر عليه؟

وقد أخبر الله تعالى أنه استحق الذم لو لا أن تداركه نعمة الله عزوجل ، وأنه استحق الملامة وأنه أقر على نفسه أنه كان من الظالمين ، ونهى الله تعالى نبيه أن يكون مثله.

قال أبو محمد : وهذا كله لا حجة لهم فيه بل هو حجة لنا على صحة قولنا والحمد لله رب العالمين.

أما إخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضبا فلم يغضب ربه قط ، ولا قال الله تعالى أنه غاضب ربه فمن زاد هذه الزيادة كان قائلا على الله الكذب وزائدا في القرآن ما ليس فيه ، هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل أنه يغاضب ربه تعالى فكيف أن يفعل ذلك نبي من الأنبياء؟ فعلمنا يقينا أنه إنما غاضب قومه ولم يوافق ذلك مراد الله عزوجل فعوقب بذلك ، وإن كان يونس عليه‌السلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عزوجل.

وأما قوله تعالى : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [سورة الأنبياء : ٨٧].

فليس على ما ظنوه من الظن السخيف ، الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء ، أو بضعيف من الرجال ، إلا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل ، فكيف بنبي مفضل على الناس في العلم ..؟ ومن المحال المتيقن أن يكون نبي يظن أن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه ، وهو يرى أن آدميا مثله يقدر عليه ، ولا شك في أن من نسب هذا إلى النبي الفاضل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه ، أو إلى ابنه ، فكيف إلى يونس عليه‌السلام الذي يقول فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا

٣٠٣

تفضّلوني على يونس بن متّى» (١)؟؟؟

فقد بطل ظنهم بلا شك وصح أن معنى قوله : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [سورة الأنبياء : ٨٧] أي ألا نضيق عليه ، كما قال تعالى : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [سورة الفجر : ١٦].

أي ضيق عليه ، فظن يونس عليه‌السلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه إذ ظنّ أنه محسن في فعله ذلك ، وأما نهي الله عزوجل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يكون كصاحب الحوت. فنعم نهاه الله عزوجل من مغاضبته قومه ، وأمره بالصبر على أذاهم ، وبالمطاولة لهم.

وأما قول الله تعالى إنه استحق الذم ، والملامة ، وأنه لو لا النعمة التي تداركه بها للبث معاقبا في بطن الحوت.

فهذا نفس ما قلناه من أن الأنبياء عليهم‌السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه مما يظنونه خيرا وقربة إلى الله عزوجل ، إذا لم يوافق مراد ربهم ، وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين ، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه. فلما وضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المغاضبة في غير موضعها ، اعترف في ذلك بالظلم ، لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم.

انقضى الكلام في يونس عليه‌السلام وبالله تعالى التوفيق.

الكلام في داود عليه‌السلام

وذكروا أيضا قول الله تعالى حاكيا عن داود عليه‌السلام (هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ) إلى قوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) [سورة ص : ٢١ ـ ٢٥].

__________________

(١) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (حديث رقم ٣٤١٢) من طريق عبد الله بن مسعود بلفظ : «لا يقولنّ أحدكم إني خير من يونس بن متّى». ورواه برقم (٣٤١٣) من طريق ابن عباس بلفظ : «ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متّى». ورواه برقم (٣٤١٥) من طريق أبي هريرة بلفظ : «ولا أقول إن أحدا أفضل من يونس بن متّى». ثم رواه أيضا في التفسير حديث رقم (٤٦٠٣) عن ابن مسعود بلفظ : «ما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متّى» وبرقم (٤٦٠٤) عن أبي هريرة بلفظ : «من قال أنا خير من يونس بن متّى فقد كذب». والحديث رواه أيضا مسلم في الفضائل (حديث رقم ١٦٦ و ١٦٧) والترمذي في الصلاة باب ٢٠ ، وتفسير سورة ٣٩ باب ٩.

٣٠٤

قال أبو محمد : وهذا قول صادق صحيح لا يدل على شيء مما قاله المستهزءون ، الكاذبون ، المتعلقون بخرافات ولّدها اليهود ، وإنما كان ذلك الخصم قوما من بني آدم ولا شك ، مختصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم ، بغى أحدهما على الآخر بنص الآية.

ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء فقد كذب على الله عزوجل ، وقوّله ما لم يقل ، وزاد في القرآن ما ليس فيه ، وكذب الله عزوجل ، وأقر على نفسه الخبيثة أنه كذب الملائكة ، لأن الله تعالى يقول : (هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) [سورة ص : ٢١].

فقال هو : لم يكونوا قط خصما ، وهذا تكذيب مجرد لله تعالى ، وهذا كفر محض. وأقر على نفسه أنهم كانوا ملائكة وأنهم قالوا : خصمان فقال هو لم يكونوا قط خصمين ولا بغى بعضهم على بعض ، ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة ، ولا كان للآخر نعجة واحدة ، ولا قال له أكفلنيها ، فاعجبوا لما يقحم فيه أهل الباطل أنفسهم؟ ونعوذ بالله من الخذلان.

ثم كل ذلك بلا دليل ، بل الدعوى المجردة ، وتالله إن كل امرئ منا ليصون نفسه وجاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره ، ثم يعرض زوجها للقتل عمدا ليتزوجها ، وعن أن يترك صلاته لطائر يراه ، هذه أفعال السفهاء ، المهتوكين ، الفساق ، المتمردين ، لا فعل أهل البر والتقوى فكيف برسول الله داود صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أوحى إليه كتابه ، وأجرى على لسانه كلامه؟ لقد نزهه الله عزوجل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله ، فكيف أن يستضيف إلى أفعاله؟ وأما استغفاره عليه‌السلام وخروره ساجدا ومغفرة الله تعالى له ، فالأنبياء عليهم‌السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة ، والاستغفار : فعل خير لا ينكر من ملك ولا من نبي ولا من مذنب ، ولا من غير مذنب ، فالنبي يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض والملائكة كما قال الله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [سورة غافر : ٧].

وأما قوله تعالى عن داود عليه‌السلام (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) [سورة ص : ٢٤].

وقوله تعالى : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) [سورة ص : ٢٥].

فقد ظن داود عليه‌السلام أن يكون ما آتاه الله عزوجل من سعة الملك العظيم فتنة.

فقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه ، فاستغفر الله تعالى من هذا الظن ، فغفر الله له هذا الظن ، إذ لم يكن ما آتاه الله تعالى من ذلك فتنة.

٣٠٥

الكلام في سليمان عليه‌السلام

وذكروا قول الله عزوجل عن سليمان عليه‌السلام (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) [سورة ص آية رقم ٣٤].

قال أبو محمد : ولا حجة لهم في هذا إذ معنى قوله تعالى : (فَتَنَّا سُلَيْمانَ) أي آتيناه من الملك ما اختبرنا به طاعته كما قال تعالى مصدقا لموسى عليه‌السلام (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [سورة الأعراف آية رقم ١٥٥]. فصح أن من الفتنة ما هدى الله تعالى بها من يشاء. وقال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [سورة العنكبوت آية رقم ١ ، ٢ ، ٣].

فهذه الفتنة هي الاختبار ، حتى يظهر المهتدي من الضال ، فهذه فتنة الله تعالى لسليمان إنما هي اختباره حتى ظهر فضله فقط ، وما عدا هذا فخرافات ولدها زنادقة اليهود ، وأشباههم.

وأما الجسد الملقى على كرسيه ، فقد أصاب الله تعالى به ما أراد ، ونقول صدق الله عزوجل كلّ من عند الله ربنا ، ولو جاء نص صحيح في القرآن وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتفسير هذا الجسد ما هو لقلنا به ، فإذ لم يأت بتفسيره ما هو نص ، ولا خبر صحيح ، فلا يحل لأحد القول بالظن الذي هو أكذب الحديث في ذلك ، فيكون كاذبا على الله عزوجل. إلا أننا لا نشك البتة في بطلان قول من قال إنه كان جنيا تصور بصورته ، بل نقطع على أنه كذب ، والله تعالى لا يهتك ستر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الهتك ، وكذلك نبعد قول من قال إنه كان ولدا له أرسله إلى السحاب لتربيه ، فسليمان عليه‌السلام كان أعلم من أن يربي ابنه لغير ما طبع الله عزوجل بنية البشر عليه من اللبن والطعام ، وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة لم يصح إسنادها قط. وذكروا أيضا قول الله عزوجل عن سليمان عليه‌السلام (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) [سورة ص آية رقم ٢٢ ، ٢٣]. وتأولوا ذلك على ما قد نزه الله عنه من له أدنى مسكة من عقل من أهل زماننا وغيره ، فكيف بنبي معصوم مفضل من أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة.

قال أبو محمد : وهذه خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة قد جمعت أفانين من

٣٠٦

النّوك (١) والظاهر أنها من اختراع زنديق بلا شك ، لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها والتمثيل بها ، وإتلاف مال منتفع به بلا معنى ، ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها ، وهذا أمر لا يستجيزه صبي ابن سبع سنين فكيف نبي مرسل ...؟؟؟

ومعنى هذه الآية ظاهر بيّن ، وهو أنه عليه‌السلام أخبر أنه أحب حب الخير من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس بالحجاب ، أو حتى توارت تلك الصافنات الجياد بحجابها ، ثم أمر بردها فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده ، برا بها وإكراما لها ، هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره ، وليس فيها إشارة أصلا إلى ما ولدوه من قتل الخيل ، وتعطيل الصلاة ، وكل هذا قد قاله ثقات المسلمين فكيف ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وذكروا أيضا الحديث الثابت من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن سليمان عليه‌السلام قال : «لأطوفنّ اللّيلة على كذا وكذا امرأة كلّ امرأة منهن تلد فارسا يقاتل في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله». (٢)

قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ، لأن من قصد تكثير المؤمنين المجاهدين في سبيل الله عزوجل فقد أحسن ، ولا يجوز أن يظن به أنه يجهل أن ذلك لا يكون إلا أن يشاء الله عزوجل ، وقد جاء في نص الحديث المذكور أنه إنما ترك إن شاء الله نسيانا فأوخذ بالنسيان في ذلك ، وقد قصد الخير وهذا نص قولنا ، والحمد لله رب العالمين.

تم الكلام في سليمان عليه الصلاة والسلام.

فصل

وذكروا قول الله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) [سورة الأعراف آية رقم ١٧٥].

__________________

(١) النوك : الحمق (المعجم الوسيط : ص ٩٦٤).

(٢) رواه بلفظ : «لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة» البخاري في أحاديث الأنبياء باب ٤٠ ، ومسلم في الأيمان حديث ٢٣ ، والترمذي في النذور باب ٧. وبلفظ : «على تسعين امرأة» البخاري في الأيمان باب ٣ ، والكفارات باب ٩ ، ومسلم في الأيمان حديث ٢٥ ، والنسائي في الأيمان باب ٤٠ و ٤٣. وبلفظ : «على مائة» أو «بمائة امرأة» البخاري في الجهاد باب ٢٣ ، والنكاح باب ١١٩ ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٢٩ ، ٢٧٥ ، ٥٠٦). وبلفظ : «على نسائي» أو «على نسائه» البخاري في التوحيد باب ٣١ ، والنكاح باب ١١٩.

٣٠٧

قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لأنه ليس في نص الآية ولا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هذا المذكور كان نبيا ، وقد يكون إنباء الله تعالى لهذا المذكور آياته أنه أرسل إليه رسولا بآياته كما فعل بفرعون وغيره فانسلخ منها بالتكذيب ، فكان من الغاوين. وإذا صح أن نبيا لا يعصي الله عزوجل تعمدا فمن المحال أن يعاقبه الله تعالى على ما لا يفعل ، ولا عقوبة أعظم من الحط عن النبوة ، ولا يجوز أن يعاقب بذلك نبي البتة ، لأنه لا يكون منه ما يستحق به هذا العقاب. وبالله تعالى التوفيق. فصح يقينا أن هذا المنسلخ لم يكن قط نبيا.

وذكروا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ما من أحد إلا من ألمّ بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا ، كلاما هذا معناه. (١)

قال أبو محمد : وهذا صحيح وليس خلافا لقولنا إذ قد بينا أن الأنبياء عليهم‌السلام يقع منهم النسيان ، وقصد الشيء يظنونه قربة إلى الله تعالى ، فأخبر عليه‌السلام أنه لم ينج من هذا أحد إلا يحيى بن زكريا عليهما‌السلام ، فيقوم من هذا أن يحيى لم ينس شيئا واجبا عليه قط ، ولا فعل إلا ما وافق فيه مراد ربه عزوجل.

الكلام في محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله سلم

قال أبو محمد : وذكروا قول الله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة الأنفال آية رقم ٦٨].

وقوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) [سورة عبس الآيات ١ إلى ١٠].

وبالحديث الكاذب الذي لم يصح قطّ في قراءته عليه‌السلام في (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) [سورة النجم آية رقم ١].

وذكروا تلك الزيادة المفتراة التي تشبه من وضعها من قولهم : وإنها لهي الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى وذكروا قول الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ

__________________

(١) رواه الإمام أحمد في المسند (١ / ٢٥٤) عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من أحد من ولد أمّ إلا قد أخطأ أو همّ بخطيئة ليس يحيى بن زكريا» ورواه أيضا في مواضع أخرى من مسنده (١ / ٢٩٢ ، ٢٩٥ ، ٣٠١ ، ٣٢٠).

٣٠٨

وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) [سورة الحج آية رقم ٥٢].

وبقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [سورة الكهف آية رقم ٢٣ ، ٢٤].

وأن الوحي امتسك عنه عليه‌السلام لتركه الاستثناء إذ سأله اليهود عن الروح ، وعن ذي القرنين ، وأصحاب الكهف ، وبقوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) [سورة الأحزاب آية رقم ٣٧].

وبما روي من قوله عليه‌السلام : «لقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة» (١) إذ قبل الفداء وترك قتل الأسرى ببدر. وبما روي من قوله عليه‌السلام : «لو نزل عذاب ما نجا منه إلا عمر». (٢)

لأن عمر أشار بقتلهم.

وذكروا أنه عليه‌السلام مال إلى رأي بكر في الفداء والاستبقاء.

وبقوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [سورة الفتح : ٢].

قالوا : فإن لم يكن له ذنب فما ذا غفر له؟ وبأي شيء امتن الله عليه في ذلك ..؟

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت». (٣)

فإنما هذا إذ دعي إلى الخروج من السجن فلم يجب إلى الخروج حتى قال للرسول : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهم إن ربي بكيدهن عليم.

فأمسك عن الخروج من السجن وقد دعي إلى الخروج عنه حتى اعترف النسوة بذنبهم وبراءته وتيقن بذلك من كان شك فيه فأخبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لو دعي إلى الخروج من السجن لأجاب ، وهذا التفسير منصوص في الحديث نفسه ، كما ذكرنا من كلامه عليه‌السلام :

__________________

(١) جزء من حديث طويل عن عمر بن الخطّاب رواه مسلم في الجهاد والسير (حديث رقم ٥٨) وأحمد في المسند (١ / ٣١ ، ٣٣).

(٢) أورده الطبري في تفسيره (١٠ / ٣٤) والقرطبي في تفسيره (٨ / ٤٧) والسيوطي في الدر المنثور (٣ / ٢٠٣).

(٣) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء باب ١١ و ١٩ ، وتفسير سورة ١٢ باب ٥. ومسلم في الإيمان حديث ٢٣٨. والترمذي في تفسير سورة ١٢ باب ١.

٣٠٩

«ولو لبثت في السّجن ما لبث يوسف عليه‌السلام ثمّ دعيت لأجبت الدّاعي». (١)

أو كلاما هذا معناه.

وأما قول الله عزوجل : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [سورة الأنفال آية رقم ٦٨].

فقد بينا أن ذنوب الأنبياء عليهم‌السلام ليست إلّا ما وقع بنسيان ، أو بقصد إلى ما يظنونه خيرا مما لا يوافقون مراد الله تعالى منهم ، فهذان الوجهان هما اللذان غفر الله عزوجل له.

وأما قوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة الأنفال آية رقم ٦٨].

فإنما الخطاب في ذلك للمسلمين ، لا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإنما كان ذلك إذ تنازعوا في غنائم بدر فكانوا هم المذنبين المنشقين عليه.

يبين ذلك قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) [سورة الأنفال آية رقم ١].

وقوله تعالى في هذه السورة نفسها النازلة في هذا المعنى (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) [سورة الأنفال آية رقم ٦].

وقوله تعالى قبل ذكره الوعيد الذي احتج به من خالفنا : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [سورة الأنفال : ٦٧].

فهذا نص القرآن. وقد رد الله عزوجل الأمر في الأنفال المأخوذة يومئذ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما الخبر المذكور الذي فيه «لقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة» و «لو نزل عذاب ما نجا منه إلا عمر».

فهذا خبر لا يصح ، لأن المنفرد بروايته عكرمة بن عمار اليمامي (٢) وهو ممن

__________________

(١) راجع تخريجه في الحاشية (٣) من الصفحة السابقة.

(٢) هو أبو عمار عكرمة بن عمار العجلي اليمامي البصري اليماني السحيمي المتوفى سنة ١٥٩ أو ١٦٠ ه‍. أخرج له البخاري تعليقا ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. قال ابن حجر في التقريب : صدوق يغلط ، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطرب ، ولم يكن له

٣١٠

قد صحّ عليه وضع الحديث أو سوء الحفظ أو الخطأ الذي لا يجوز معهما الرواية عنه ، ثم لو صح لكان القول فيه كما قلنا من أنه قصد الخير بذلك.

وأما قوله (عَبَسَ وَتَوَلَّى) الآيات فإنه كان عليه‌السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش ورجا إسلامه ، وعلم عليه‌السلام أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير ، ولظهر الدين ، وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته وهو حاضر معه فاشتغل عنه عليه‌السلام بما خاف فوته من عظيم الخير عما لا يخاف فوته وهذا غاية النظر للدين ، والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر ، ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر فعاتبه الله عزوجل على ذلك إذ كان الأولى عند الله تعالى أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل ، البر التقى ، وهذا هو نفس ما قلناه ، وكما سها عليه‌السلام من اثنتين ومن ثلاث ، وقام من اثنتين ، ولا سبيل إلى أن يفعل من ذلك شيئا بعمد أصلا ، نعم ولا يفعل ذلك بعمد إنسان منا فيه خير.

وأما الحديث الذي فيه : «وإنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى» فكذب بحت موضوع لأنه لم يصح قط من طريق النقل ، فلا معنى للاشتغال به ، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد.

وأما قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) [سورة الحج آية رقم ٥٢] الآية.

فلا حجة لهم فيها لأن الأماني الواقعة في النفس لا معنى لها ، وقد تمنى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إسلام عمه أبي طالب ، ولم يرد الله عزوجل أن يسلم ، وتمنى غلبة العدو يوم أحد ولم يرد الله عزوجل كون ذلك ، فهذه هي الأماني التي ذكرها الله عزوجل لا سواها ، وحاشا لله من أن يتمنى نبي معصية الله تعالى وهذا الذي قلنا هو ظاهر الآية دون تزيد ولا تكلف ولا يحل خلاف الظاهر إلا بظاهر آخر ، وبالله تعالى التوفيق.

وأما قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) [سورة الكهف آية رقم ٢٣ ، ٢٤].

__________________

كتاب. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (٧ / ٢٦١) وتقريب التهذيب (٢ / ٣٠) وخلاصة تهذيب الكمال (٢ / ٢٣٩) والكاشف (٢ / ٢٧٦) وتاريخ البخاري الكبير (٧ / ٥٠) وتاريخ البخاري الصغير (٢ / ١٣٩) والجرح والتعديل (٧ / ٤١) وميزان الاعتدال (٣ / ٩٠) ولسان الميزان (٧ / ٣٠٨) وسير أعلام النبلاء (٧ / ١٣٤) وتاريخ بغداد (١٢ / ٢٥٧).

٣١١

فقد كفى الله عزوجل الكلام في ذلك ببيانه في آخر الآية أن ذلك كان نسيانا فعوقب عليه‌السلام في ذلك.

وأما قوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) [سورة الأحزاب آية رقم ٣٧].

فقد أنفنا (١) أن ذلك لم يكن معصية أصلا ولا خلاف فيما أمره الله تعالى به إنما كان إرادة زواج مباح له فعله ومباح له تركه ومباح له طيه ، ومباح له إظهاره ، وإنما خشي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس في ذلك ، خوف أن يقولوا قولا ويظنوا ظنا ، فيهلكوا كما قال عليه‌السلام للأنصاريين «إنها صفية» فاستعظما ذلك فأخبرهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه إنما خشي أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئا. وهذا الذي خشيه عليه‌السلام على الناس من هلاك أديانهم لظن يظنونه به عليه‌السلام هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب من نسبتهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعمد المعاصي ، فهلكت أديانهم ، وضلوا ، ونعوذ بالله من الخذلان. وكان مراد الله عزوجل أن يبدي ما في نفسه لما كان سلف في علمه من السعادة لأمنا زينب رضي الله عنها.

قال أبو محمد : فإن قال قائل : إنكم تحتجون كثيرا بقول الله عزوجل (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [سورة النجم آية رقم ٣ ، ٤].

وبقوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [سورة النساء آية رقم ٦٥].

وبقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) [سورة الأحزاب آية رقم ٢١] وبقوله عليه‌السلام «إني لأتقاكم لله وأعلمكم بما آتي وأذر» (٢) وتقولون من أجل هذه النصوص إن كل قول

__________________

(١) أي : ذكرنا آنفا.

(٢) رواه البخاري في الإيمان باب ١٣ (حديث ٢٠) عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أمرهم من الأعمال بما يطيقون ، قالوا : إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله ، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر. فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول : «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا». ورواه مسلم في الصيام (حديث ٧٤) عن عمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيقبّل الصائم؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سل هذه» ـ لأم سلمة ـ فأخبرته أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنع ذلك ، فقال : يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما والله إنّي لأتقاكم لله وأخشاكم له».

٣١٢

قاله عليه‌السلام فبوحي من الله قاله ، وكل عمل عمله فبإذن من الله تعالى ورضى منه عمله ، فأخبرونا عن سلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ركعتين ، ومن ثلاث ، وقيامه من اثنتين ، وصلاته الظهر خمسا ، وإخباره بأنه يحكم بالحق في الظاهر لمن لا يحل له أخذه ممن يعلم أنه في باطن الأمر بخلاف ما حكم له به من ذلك؟ أبوحي من الله تعالى وبرضاء فعل كل ذلك؟ أم كيف تقولون؟ وهل يلزم المحكوم عليه والمحكوم له الرضا بحكمه ذلك وهما يعلمان أن الأمر بخلاف ذلك ، أم لا ..؟

قال أبو محمد : فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن كل ما ذكرنا هاهنا فبوحي من الله تعالى فعله.

وكل من قدر ولم يشك في أنه أتم صلاته فالله تعالى أمره بأن يسلم ، فإذا علم بعد ذلك أنه يسهو فقد لزمه الإتمام وسجود السهو. برهان ذلك أنه لو تمادى ولم يسلم قاصدا إلى الزيادة في صلاته على تقديره أنه قد أتمها لبطلت صلاته كلها بلا شك باطنا وظاهرا ، ولاستحق اسم الفسق والمعصية ، وكذلك من قدر أنه لم يصلّ إلا ركعة واحدة أو أنه لم يتم صلاته ، فالله تعالى أمره بالزيادة في صلاته يقينا حتى لا يشك في الإتمام وبأن يقوم إلى ثانية عنده ، فمتى علم بأن الأمر كان بخلاف ذلك فصلاته تامة ولزمته حينئذ شريعة سجود السهو. وبرهان ذلك أنه لو قعد من واحدة عنده متعمدا مستهزئا أو سلم من ثلاث عنده متعمدا ، لبطلت صلاته جملة ولاستحق اسم الفسق والمعصية ، لأنه فعل خلاف ما أمره الله تعالى به.

وكذلك أمره الله ، وأمرنا ، بالحكم بالبينة العدالة عندنا وباليمين من المنكر وبإقرار المقر ، وإن كانت البينة عامدة لكذب في غير علمنا وكانت اليمين والإقرار كاذبين في الباطن ، وافترض الله علينا بذلك سفك الدماء التي لو علمنا الباطن لحرمت علينا ، وهكذا في الفروج والأموال.

برهان ذلك : أن حاكما لو شهدت بينة عدلة عنده فلم يقض بها وقضى باليمين على المنكر الذي لا بينة عليه فحلف ثم قضى عليه لكان القاضي فاسقا بلا خلاف عاصيا لله عزوجل لخلافه ما أمره الله سبحانه وتعالى به ، وإن وافق حقا لم يكن علم به وفرض على المحكوم عليه والمحكوم له أن يرضيا بالحكم بالبينة واليمين ، وأن يصيرا في أنفسهما إلى حقيقة علمهما في أخذ الحق وإعطائه ، وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : وذكروا قول الله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) [سورة يوسف آية رقم ١١٠] بتخفيف

٣١٣

الذال (١) وليس هذا على ما ظنه الجهال وإنما معناه أن الرسل عليهم‌السلام ظنوا بمن وعدهم النصر من قومهم أنهم كذبوهم فيما وعدوهم من نصرهم ، ومن المحال البين أن يدخل في عقل من له أدنى رمق أن الله تعالى يكذب فكيف بصفوة الله تعالى من خلقه وأتمهم علما وأعرفهم بالله عزوجل؟ ومن نسب هذا إلى نبي فقد نسب إليه الكفر ، ومن أجاز على نبي الكفر فهو الكافر المرتد بلا شك.

والذي قلنا هو ظاهر الآية ، وليس فيها أنهم ظنوا أن الله تعالى كذبهم حاشا لله من هذا.

وذكروا أيضا قول الله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) [سورة يونس آية رقم ٩٤].

قال أبو محمد : إنما عهدنا هذا الاعتراض من الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ، وأما من يدعي أنه مسلم فلا ، ولا يمكن البتة أن يكون مسلم يظن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانا شاكا في صحة الوحي إليه.

ولنا في هذه الآية رسالة مشهورة. وجملة حل هذا الشك أنّ : (إن) في هذه الآية المذكورة بمعنى (ما) التي للجحد بمعنى «وما كنت في شك مما أنزلنا إليك» ثم أمره أن يسأل أهل الكتاب تقريرا لهم على أنهم يعلمون أنه نبي مرسل مذكور عندهم في التوراة ، والإنجيل ، وبالله التوفيق.

قال أبو محمد : هذا كل ما موهوا به قد تقصيناه وبيناه وأرينا أنه موافق لقولنا ولا يشهد شيء منه لقول مخالفنا ، وبالله التوفيق. ونحن الآن نأخذ بحول الله وبقوته في الإتيان بالبراهين الضرورية الواضحة على صحة قولنا وبطلان قول مخالفنا.

قال الله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة آل عمران آية رقم ١٦١]. وقال تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة آل عمران آية رقم ٧٩].

فوجدنا الله تعالى وهو أصدق القائلين قد نفى عن الأنبياء عليهم‌السلام الغلول والكفر والتجبر ، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن حكم الغلول كحكم سائر الذنوب ، وقد صح الإجماع بذلك ، وأن من جوز على الأنبياء عليهم‌السلام شيئا من تعمد الذنوب جوز عليهم الغلول ، ومن نفى الغلول نفى عنهم سائر الذنوب ، وقد صح

__________________

(١) القراءة في مصاحفنا : «كذبوا».

٣١٤

نفي الغلول عنهم بكلام الله تعالى فوجب انتفاء تعمد الذنوب عنهم بصحة الإجماع على أنها سواء والغلول. وقال عزوجل : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [سورة الجاثية آية رقم ٢١].

قال أبو محمد : فلا يخلو مخالفنا الذي يجيز أن يكون الأنبياء عليهم‌السلام قد اجترحوا السيئات من أحد وجهين لا ثالث لهما :

إما أن يقول : إن في سائر الناس من لم يعص قط ولا اجترح سيئة. قيل له : فمن هؤلاء الذين نفى الله عزوجل عنهم أن يكون الذين اجترحوا السيئات مثلهم؟ إذ كانوا غير موجودين في العالم ، فلا بد من أن يجعل كلام الله عزوجل هذا فارغا لا معنى له ، وهذا كذب من قائله. أو يقول هم الملائكة فإن قال ذلك رد قوله هذا قول الله تعالى في الآية نفسها (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ).

ولا نص ولا إجماع على أن الملائكة تموت ولو جاء بذلك نص لقلنا به ، بل البرهان موجب أن لا يموتوا لأن الجنة دار لا موت فيها ، والملائكة سكان الجنات فيها خلقوا وفيها يخلدون أبدا ، وكذلك الحور العين. وأيضا فإن الموت إنما هو فراق النفس للجسد المركب ، وقد نص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن الملائكة خلقوا من نور فليس فيها شيء يفارق شيئا فيسمى موتا ، فإن اعترض معترض بقوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [سورة آل عمران آية رقم ١٨٥] لزمه إن حمل هذه الآية على عمومها أن الحور العين يمتن فيجعل الجنة دار الموت ، وقد أبعد الله تعالى ذلك قال الله تعالى : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة العنكبوت آية رقم ٦٤].

فعلمنا بهذا النص أن قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) إنما عنى به من كان في غير الجنة من الجن والإنس وسائر الحيوان المركب الذي يفارق روحه جسده. وبالله تعالى التوفيق.

ويرد أيضا قوله إن قال بهذا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من أحد إلا وقد ألمّ أو كاد إلا يحيى بن زكريا» (١) أو يقول إن في الناس من لم يجترح سيئة قط وإن من اجترح السيئات لا يساويهم كما قال عزوجل ، فإن قال ذلك فإن الأنبياء عليهم‌السلام عنده يجترحون السيئات وفي سائر الناس من لا يجترحها ، فوجب أن يكون في الناس

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٣١٥

من هو أفضل من الأنبياء عليهم‌السلام وهذا كفر مجرد وما قدرنا أن أحدا ممن ينتمي إلى الإسلام ولا إلى أهل الكتاب ينطق لسانه بهذا حتى رأينا للمعروف بابن الباقلاني فيما ذكر عنه صاحبه أبو جعفر السمناني قاضي الموصل أنه قد يكون في الناس بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هو أفضل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حين يبعث إلى حين يموت ، فاستعظمنا ذلك ، وهذا شرك مجرد ، وقدح في النبوة لا خفاء به ، وقد كنا نسمع عن قوم من الصوفية أنهم يقولون : إن الولي أفضل من النبي ، وكنا لا نحقق هذا على أحد يدين بدين الإسلام إلى أن وجدنا هذا الكلام كما أوردنا فنعوذ بالله من الارتداد بعد الإيمان.

قال أبو محمد : ولو أن هذا الضال المضل يدري ما معنى لفظة أفضل ، ويدري فضيلة النبوة ، لما انطلق لسانه بهذا الكفر وهذا تكذيب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ يقول : «إني لأتقاكم لله» (١) و «إني لست كهيئتكم وإني لست مثلكم». (٢)

فإذا قد صح بالنص أن في الناس من لم يجترح سيئة ، وأن من اجترح السيئات لا يساويهم عند الله عزوجل ، فالأنبياء عليهم‌السلام أحق بهذه الدرجة وبكل فضيلة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام.

يقول الله عزوجل : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [سورة الحج آية رقم ٧٥] فأخبر تعالى أن الرسل صفوته من خلقه.

وقد اعترض علينا بعض المخالفين بأن قال : فما تقول فيمن بلغ فآمن ، وذكر الله مرات ومات إثر ذلك ، أو في كافر أسلم وقاتل مجاهدا فقتل ..؟ فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن نقول : أما من كان كافرا ثم أسلم فقد اجترح من السيئات بكفره ما هو أعظم من السموات والأرض ، وإن كان قد غفر له بإيمانه ، ولكن قد حصل بلا شك

__________________

(١) راجع الحاشية ٢ ص ٣١.

(٢) رواه البخاري في الصوم باب ٢٠ (حديث رقم ١٩٢٢) عن عبد الله بن عمر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واصل ، فواصل الناس ، فشقّ عليهم ، فنهاهم ، قالوا : إنك تواصل؟ قال : «لست كهيئتكم ، إني أظلّ أطعم وأسقى». ورواه أيضا برقم (١٩٦٢). ورواه أيضا برقم (١٩٦١) عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تواصلوا» قالوا : إنك تواصل؟ قال : «لست كأحد منكم ، إني أطعم وأسقى» أو «إني أبيت أطعم وأسقى» ورواه أيضا برقم (١٩٦٧) عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السّحر». قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال : «لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني». ورواه أيضا مسلم في الصيام (حديث ٥٥ ، ٦١) ومالك في الصيام (حديث ٣٨) وأحمد في المسند (٢ / ١٢٨ ، ١٥٣ ، ١٧٢ ، ٣ / ٨).

٣١٦

من جملة من قد اجترح السيئات ، وأما من بلغ فآمن ، وذكر الله تعالى ثم مات ، فقد كان هذا ممكنا في طبيعة العالم وفي بنيته لو لا قول الله عزوجل : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [سورة الجاثية رقم ٢١].

فإن الله تعالى قطع قطعا لا يرده إلا كافر بأنه لا يجعل من اجترح السيئات كمن لم يجترحها ونحن نوقن أن الصحابة رضي الله عنهم وهم أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم‌السلام ، ليس منهم أحد إلا وقد اجترح سيئة فكان يلزم على هذا أن يكون من أسلم إثر بلوغه ومات أفضل من الصحابة رضي الله عنهم وهذا خلاف قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لو كان لأحدنا مثل أحد ذهبا فأنفقه لم يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه. (١)

فإذ هذا كما قلنا فقول الله عزوجل وقول رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحق بالتصديق لا سيما مع قوله عليه‌السلام : «ما من أحد إلا ألمّ بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا» (٢) فنحن نقطع قطعا بما ذكرنا أنه لا سبيل إلى أن يبلغ أحد حد التكليف إلا ولا بد له من أن يجترح سيئات الله أعلم بها وبالله التوفيق.

قال أبو محمد : ومن البرهان على أنه لا يمكن البتة أن يعصي نبي بعمد قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين» (٣) لما قال له الأنصاري هلا أومأت إليّ في قصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح فنفى عليه‌السلام عن جميع الأنبياء عليهم‌السلام أن تكون لهم خائنة الأعين ، وهو أخف ما يكون من الذنوب ، ومن خلاف الباطن للظاهر ، فدخل في هذا جميع المعاصي صغيرها وكبيرها سرها وجهرها.

قال أبو محمد : وأيضا فإننا مندوبون إلى الاقتداء بالأنبياء عليهم‌السلام وإلى الائتساء بهم في أفعالهم كلها قال الله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [سورة الأحزاب : آية رقم ٢١].

وقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [سورة الأنعام آية رقم ٩٠].

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باب ٥. ومسلم في فضائل الصحابة (حديث ٢٢١ و ٢٢٢) وأبو داود في السنّة باب ١٠. والترمذي في المناقب باب ٥٨. وابن ماجة في المقدمة باب ١١. وأحمد في المسند (٣ / ١١ ، ٥٤).

(٢) تقدم تخريجه. انظر الفهارس العامة.

(٣) رواه أبو داود في الحدود باب ١ ، والجهاد باب ١١٧. والنسائي في تحريم الدم باب ١٤. ولفظة : «لا ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين».

٣١٧

فصح يقينا أنه لو جاز أن يقع من أحد من الأنبياء عليهم‌السلام ذنب بعمد صغير أو كبير ، لكان الله عزوجل قد حضنا على المعاصي وندبنا إلى الذنوب ، وهذا كفر مجرد ممن أجازه ، وقد صح يقينا أن جميع أفعال الأنبياء التي يقصدونها خير وحق.

قال أبو محمد : وأيضا فقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عظيم إنكاره على ذي الخويصرة لعنه الله ولعن أمثاله ، إذ قال الكافر : اعدل يا محمد ، إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويحك من يعدل إذا أنا لم أعدل أيأمنني الله ولا تأمنوني» ..؟ (١)

وقوله عليه‌السلام لأم سلمة أم المؤمنين إذ سألته عن الذي قبل امرأته في رمضان : «ألا أخبرتها أني فعلت ذلك» ..؟ (٢) وغضب عليه‌السلام إذ قال له : لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر (٣).

فأنكر عليه‌السلام إذ جعل له ذنبا بعمد وإن صغر. وقال له عليه‌السلام : إني والله لأعلمكم بالله وأتقاكم لله أو كلاما هذا معناه.

فإن قال قائل : فهلا نفيتم عنهم عليهم‌السلام السهو بدليل الندب إلى الائتساء بهم عليهم‌السلام. قلنا وبالله تعالى التوفيق :

إنكار ما ثبت كإجازة ما لم يثبت ، سواء بسواء ولا فرق ، والسهو منهم قد ثبت بيقين. وأيضا فإن ندب الله تعالى لنا إلى الائتساء بهم عليهم‌السلام لا يمنع من وقوع السهو منهم ، لأن الائتساء بالسهو لا يمكن إلا بسهو منا ، ومن المحال أن نندب إلى السهو أو نكلف السهو ، لأننا لو قصدنا إليه لم يكن حينئذ سهوا ، ولا يجوز أيضا أن

__________________

(١) جزء من حديث رواه البخاري في المناقب باب ٢٥ (حديث رقم ٣٦١٠) عن أبي سعيد الخدري قال : بينما نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة ـ وهو رجل من بني تميم ـ فقال : يا رسول الله اعدل! فقال : «ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل». فقال عمر : يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه. فقال : «دعه ، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ...» الحديث. ورواه أيضا في الأدب ٩٥ ، واستتابة المرتدين باب ٧. ورواه مسلم في الزكاة (حديث ١٤٢ و ١٤٨) وابن ماجة في المقدمة باب ١٢ ، وأحمد في المسند (٣ / ٥٦ ، ٦٥ ، ٣٥٣ ، ٣٥٤ ، ٣٥٥).

(٢) رواه مالك في الموطأ (كتاب الصيام ، باب ٥ ، حديث ١٣) والشافعي في الرسالة (رقم ١١٠٩).

(٣) تقدم تخريجه. انظر الفهارس العامة.

٣١٨

ننهى عن السهو لأن الانتهاء عن السهو ليس في بنيتنا ولا في وسعنا ، وقد قال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [سورة البقرة آية رقم ٢٨٦].

ونقول أيضا : إننا مأمورون إذا سهونا أن نفعل كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ سها.

وأيضا فإن الله تعالى لا يقر الأنبياء عليهم‌السلام على السهو بل ينبّههم في الوقت ، ولو لم يفعل ذلك تعالى لكان لم يبين لنا مراده منا في الدين. وهذا تكذيب لله عزوجل إذ يقول تعالى (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [سورة النحل آية رقم ٨٩].

وإذ يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [سورة المائدة آية رقم ٣]

وقوله تعالى : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) [سورة الأنعام آية رقم ١١٩].

قال أبو محمد : فسقط قول من نسب إلى الأنبياء عليهم‌السلام شيئا من الذنوب بالعمد ، صغيرها وكبيرها ، إذ لم يبق لهم شبهة يموهون بها أصلا ، وإذ قد قامت البراهين على بطلانها ولحقوا بذي الخويصرة.

قال أبو محمد : ولو جاز من الأنبياء عليهم‌السلام شيء من المعاصي فقد ندبنا إلى الائتساء بهم وبأفعالهم ، لكنا قد أبيحت لنا المعاصي وكنا لا ندري لعل جميع ديننا ضلال وكفر ، ولعل كل ما عمله عليه‌السلام معاص ، ولقد قلت يوما لبعضهم ممن كان يجيز عليهم الصغائر بالعمد : أليس من الصغائر تقبيل المرأة الأجنبية وقرصها؟ فقال : نعم. فقلت له : تجوز أنه يظن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقبل امرأة غيره متعمدا؟ فقال : معاذ الله من هذا ورجع إلى الحق من حينه والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : قال الله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [سورة الفتح آية رقم ١ ، ٢].

قال أبو محمد : ومن الباطل المحال أن تتم نعمة الله على عبد ويعصي الله بما كبر أو ما صغر ، إذ لو كان ذلك لما كانت نعمة الله تعالى عليه تامة ، بل ناقصة إذ خذله فيما عصى فيه.

وقال تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [سورة الفتح آية رقم ٨ ، ٩].

وقال الله تعالى : (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [سورة التوبة آية رقم ٦٦].

٣١٩

قال أبو محمد : وما أقر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولقد بلغ الغاية القصوى في الاستهزاء برسل الله صلّى الله عليهم وسلم من جوز أن يكونوا سراقا أو زناة ، ولاطة ، وبغائين ، وو الله ما نعلم كفرا أعظم من هذا ولا استهزاء بالله تعالى وبرسله وبالدين أعظم من كفر أهل هذه المقالة.

وليت شعري ما الذي أمنهم من كذبهم في التبليغ لأنا لا ندري لعلهم بلّغوا إلينا الكذب عن الله تعالى.

قال أبو محمد : فنقول لهم : ولعل أفعاله التي نأتسي بها تبديل للدين ومعاصي لله عزوجل ولا فرق.

قال أبو محمد : وما نعلم أهل قرية أشد سعيا في إفساد الإسلام وكيده من الرافضة وأهل هذه المقالة ، فإن كلتا الطائفتين الملعونتين أجازتا تبديل الدين وتحريفه ، وصرحت هذه الفئة مع ما أطلقت على الأنبياء من المعاصي بأن الله تعالى إنما تعبدنا في دينه بغالب ظنوننا ، وأنه لا حكم لله إلا ما غلب عليه ظن المرء منا ، وإن كان مختلفا متناقضا ، وما نمتري في أنهم ساعون في إفساد أغمار (١) المسلمين المحسنين بهم الظن ونعوذ بالله من الضلال.

قال أبو محمد : فإن قال قائل إنكم تقولون إن الأنبياء عليهم‌السلام مؤاخذون بما أتوا على سبيل السهو والقصد إلى الخير ، إذا لم يوافق مراد الله عزوجل فيها وأوخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسهوه في الصلاة؟

قلنا له وبالله تعالى التوفيق : قد غفر الله له لما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذه فضيلة مما فضل به على جميع النبيين عليهم‌السلام ، وهكذا نص عليه‌السلام في حديث الشفاعة يوم القيامة ومصير الناس من نبي إلى نبي ، (٢) فكلّ ذكر خطيئة أو سكت ، فلما ذكروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال قائلهم : عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فبطل أن يؤاخذ بما غفره الله ، وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : فإن قال قائل : أيجوز أن يكون نبي من الأنبياء عليهم‌السلام

__________________

(١) الأغمار : جمع غمر ، وهو الذي لم يجرّب الأمور (المعجم الوسيط : ص ٦٦١).

(٢) حديث الشفاعة الطويل رواه من حديث أنس البخاري في كتاب التوحيد باب ١٩ (حديث ٧٤١٠) وأوله : «يجمع الله المؤمنين يوم القيامة ..» ورواه أيضا في التوحيد باب ٢٤ و ٣٦ ، والرقاق باب ٥١ ، وأحاديث الأنبياء باب ٣ ، وتفسير سورة ٢ باب ١ ، وسورة ١٧ باب ٥. ورواه مسلم في الإيمان (حديث ٣٢٢ ، ٣٢٧). ورواه أيضا الترمذي وابن ماجة والدارمي وأحمد.

٣٢٠