الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

لم يؤمن في الدنيا والآخرة وفي الولاية. ثم رجع تعالى إلى الخبر عن الشياطين فقال عزوجل : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [سورة البقرة : ١٠٢] وهذا حق ، لأن الشياطين في تعليمهم ما قد نسخه الله عزوجل وأبطله ضارون من أذن الله تعالى باستضراره به ، وهكذا إلى آخر الآية. وما قال عزوجل قطّ إنّ هاروت وماروت علما سحرا ولا كفرا ولا أنهما عصيا ، وإنما ذكر ذلك في خرافة موضوعة ، لا تصح عن طريق الإسناد أصلا ، ولا هي أيضا مع ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما هي موقوفة على من دونه عليه‌السلام فسقط التعلق بها وصح ما قلناه والحمد لله رب العالمين.

وهذا التفسير الأخير هو نص الآية دون تكلف تأويل ، ولا تقديم ولا تأخير ، ولا زيادة في الآية ولا نقص منها ، بل هو ظاهرها والحق المقطوع به عند الله تعالى يقينا وبالله تعالى التوفيق.

فإن قيل : كيف تصح هذه الترجمة أو الأخرى وأنتم تقولون : إن الملائكة لا يمكن أن يراهم إلا نبي ، وكذلك الشياطين ولا فرق ، فكيف تعلم الملائكة الناس ..؟ أو كيف تعلم الجن الناس ..؟.

قلنا وبالله تعالى التوفيق : أما الملائكة فيعلمون من أرسلوا إليه من الأنبياء خاصة وينهونهم عن الكفر ، كما نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الكفر في نص القرآن.

وأما الشياطين : فتعلم الناس بالوسوسة في الصدور وتزيين الباطل أو يتمثل في صورة إنسان كما تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم (١) قال تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ) [سورة الأنفال : ٤٨].

وأما الحور العين فنسوان مكرمات مخلوقات في الجنة لأولياء الله عزوجل ، عاقلات مميزات مطيعات لله تعالى في النعيم خلقن فيه ويخلدن بلا نهاية لا يعصين البتة.

__________________

(١) سراقة بن مالك بن جعشم بن مالك بن عمرو بن مالك بن تيم بن مدلج أبو سفيان المدلجي الكناني. صحابي توفي سنة ٢٤ ه‍. من مسلمة الفتح. أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. انظر ترجمته في تقريب التهذيب (١ / ٢٨٤) والكاشف (١ / ٣٤٩) وتاريخ البخاري الكبير (٤ / ٢٠٨) والجرح والتعديل (٤ / ١٣٤٢) وأسد الغابة (٢ / ٣٣١) وتجريد أسماء الصحابة (١ / ٢١٠) وشذرات الذهب (١ / ٣٥) والإصابة (٣ / ٤١) وطبقات ابن سعد (٩ / ٧٨) والوافي بالوفيات (١٥ / ١٨٥) والثقات (٣ / ١٨٠) وأسماء الصحابة الرواة (ترجمة ١٢٧).

٢٨١

والجنة إذا دخلها أهلها المخلدون فليست دار معصية ، وكذلك أهل الجنة لا يعصون فيها أصلا ، بل هم في نعيم وحمد لله تعالى ، وذكر له والتذاذ بأكل وشرب ولباس ووطء لا يختلف في ذلك من أهل الإسلام اثنان وبذلك جاء القرآن والحمد لله رب العالمين.

وأما الولدان المخلدون فهم أولاد الناس الذين ماتوا قبل البلوغ كما جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله تعالى يخلق خلقا يملأ الجنة بهم فنحن نقر بهذا ولا ندري أمتعبدون مطيعون أم مبتدئون في الجنة ، والله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة. وأما الجن فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إليهم بدين الإسلام هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من الأمة فكافرهم في النار مع كافرنا ، وأما مؤمنهم فقد اختلف الناس فيهم فقال أبو حنيفة لا ثواب لهم ، وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف وجمهور الناس إنهم في الجنة وبهذا نقول لقول الله عزوجل : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة آل عمران : ١٣٣]. ولقوله تعالى حاكيا عنهم ومصدقا لمن قال ذلك منهم : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) [سورة الجن : ١٣]. وقوله تعالى حاكيا عنهم : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) [سورة الجن : ١]. وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [سورة البينة : ٧ ، ٨]. إلى آخر السورة ، وهذه صفة تعم الجن والإنس عموما لا يجوز البتة أن يخص منها أحد النوعين فيكون فاعل ذلك قائلا على الله ما لا يعلم ، وهذا حرام ، ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يخبرنا بخبر عام ، وهو لا يريد إلا بعض ما أخبرنا به ثم لا يبين ذلك لنا ، هذا هو ضد البيان الذي ضمنه الله عزوجل لنا فكيف وقد نص عزوجل على أنهم آمنوا فوجب أنهم من جملة المؤمنين الذين يدخلون الجنة ولا بد.

قال أبو محمد رضي الله عنه : وإذا الجن متعبدون فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضلت على الأنبياء بست» (١). فذكر فيها أنه عليه‌السلام بعث إلى الأحمر والأسود وكان من قبله من الأنبياء إنما يبعث إلى قومه خاصة ، وقد نص عليه‌السلام على أنه بعث إلى الجن ، وقال عزوجل : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا

__________________

(١) رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة حديث ٣ ، والدارمي في السير باب ٢٨. وأحمد في المسند (١ / ٢٥٠ ، ٣٠١ ، ٤ / ٤١٦ ، ٥ / ١٤٥ ، ١٤٨ ، ١٦٢).

٢٨٢

سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) إلى قوله تعالى : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [سورة الجن : ١٤ ، ١٥]. وإذ الأمر كما ذكرنا فلم يبعث إلى الجن نبي من الإنس البتة قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه ليس الجن من قوم إنس وباليقين ندري أنهم قد أنذروا فصح أنهم جاءهم أنبياء منهم قال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [سورة الأنعام : ١٣٠].

وبالله تعالى التوفيق.

٢٨٣

هل تعصي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

قال أبو محمد : اختلف الناس في هل تعصي الأنبياء عليهم‌السلام أم لا ..؟ فذهبت طائفة إلى أن رسل الله صلّى الله عليهم وسلم يعصون الله عزوجل في جميع الكبائر والصغائر عمدا حاشا الكذب في التبليغ فقط ، وهذا قول الكرامية من المرجئة ، وقول ابن الطيب الباقلاني من الأشعرية ومن اتبعه ، وهو قول اليهود والنصارى ، وسمعت من يحكي عن بعض الكرامية أنهم يجوزون على الرسل عليهم‌السلام الكذب في التبليغ أيضا. وأما هذا الباقلاني فإنا رأينا في كتاب صاحبه أبي جعفر السمناني (١) قاضي الموصل أنه كان يقول : إن كل ذنب دق أو جل ، فإنه جائز على الرسل حاشا الكذب في التبليغ فقط ، قال : وجائز عليهم أن يكفروا ، قال : وإذا نهى النبي عليه‌السلام عن شيء ثم فعله فليس ذلك دليلا على أن ذلك النهي قد نسخ ، لأنه قد يفعله عاصيا لله عزوجل ، قال : وليس لأصحابه أن ينكروا ذلك عليه. وجوز أن يكون في أمة محمد عليه‌السلام من هو أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام مذ بعثه الله إلى أن مات.

قال أبو محمد : وهذا كله كفر مجرد ، وشرك محض ، وردة عن الإسلام ، قاطعة للولاية ، مبيحة دم من دان بها وماله ، موجبة للبراءة منه في الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد.

وذهبت طائفة إلى أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم كبيرة من الكبائر أصلا ، وجوزوا عليهم الصغائر بالعمد وهو قول ابن فورك الأشعري (٢) وذهب

__________________

(١) هو قاضي الموصل أبو جعفر محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد السمناني الحنفي. لازم ابن الباقلاني حتى برع في علم الكلام. قال الخطيب : كتبت عنه ، وكان صدوقا فاضلا حنفيّا يعتقد مذهب الأشعري ، وله تصانيف. وقد ذكره ابن حزم فقال : هو أبو جعفر السمناني المكفوف ، هو أكبر أصحاب أبي بكر الباقلاني ومقدّم الأشعرية في وقتنا ، ومن مقالته قال : من سمى الله جسما من أجل أنه حامل لصفاته في ذاته ، فقد أصاب المعنى وأخطأ في التسمية فقط. ثم أخذ ابن حزم يشنع على السمناني ، وذكر عنه تجويز الردّة على الرسول بعد أداء الرسالة. توفي أبو جعفر بالموصل سنة ٤٤٤ ه‍. انظر ترجمته في تاريخ بغداد (١ / ٣٥٥) والوافي بالوفيات (٢ / ٦٥) وسير أعلام النبلاء (١٧ / ٦٥١) والكامل في التاريخ (٩ / ٥٩٢) وغيرها.

(٢) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني. كان أشعريا رأسا في فنّ الكلام. قال ابن

٢٨٤

جميع أهل الإسلام من أهل السنة والمعتزلة والنجارية (١) والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي أصلا معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة ، وهو قول ابن مجاهد الأشعري (٢) شيخ ابن فورك والباقلاني المذكورين.

قال أبو محمد : وهذا قولنا الذي ندين الله تعالى به ، ولا يحل لأحد أن يدين بسواه ، ونقول : إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد ويقع منهم أيضا قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى ، والتقرب به منه ، فيوافق خلاف مراد الله تعالى إلا أنه تعالى لا يقر على شيء من هذين الوجهين أصلا ، بل ينبّههم على ذلك ولا بدّ إثر وقوعه منهم ، ويظهر عزوجل ذلك لعباده ، ويبين لهم كما فعل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سلامه من اثنتين (٣) وقيامه من اثنتين وربما عاتبهم على ذلك بالكلام كما فعل نبيه عليه‌السلام في أمر زينب أم المؤمنين وطلاق زيد لها رضي الله عنهما (٤) ، وفي قصة ابن أم مكتوم رضي الله عنه (٥) ، وربما يبغض المكروه في الدنيا كالذي أصاب آدم ويونس عليهما

__________________

حزم : كان يقول إن روح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بطلت وتلاشت وما هي في الجنّة. انظر ترجمته في إنباه الرواة على أنبأه النحاة (٣ / ١١٠) ووفيات الأعيان (٤ / ٢٧٢) وسير أعلام النبلاء (١٧ / ٢١٤) والعبر للذهبي (١ / ٩٥) والوافي بالوفيات (٢ / ٣٤٤) ومرآة الجنان (٣ / ١٧) وطبقات الشافعية للسبكي (٤ / ١٢٧) وطبقات الشافعية للإسنوي (٢ / ٢٦٦) والنجوم الزاهرة (٤ / ٢٤٠) وشذرات الذهب (٣ / ١٨١) وغيرها.

(١) النجارية : هم أتباع أبي عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله النجار. قال النديم في الفهرست (ص ٢٢٩) : «كان حائكا في طراز العباس بن محمد الهاشمي من جلّة المجبرة ومتكلميهم ، وقد قيل إنه كان يعمل الموازين» ثم ذكر السبب في موته وبعض مصنفاته.

(٢) هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي البصري ، صاحب أبي الحسن الأشعري. قدم بغداد وصنّف التصانيف ودرّس علم الكلام. قال الخطيب : ذكر لنا غير واحد أنه كان ثخين الستر حسن التديّن جميل الطريقة رحمه‌الله. وكان أبو بكر البرقاني يثني عليه ثناء حسنا ، وقد أدركه ببغداد فيما أحسب. انظر تاريخ بغداد (١ / ٣٤٣) وسير أعلام النبلاء (١٦ / ٣٠٥) وشذرات الذهب (٣ / ٧٤) وطبقات الأصوليين (١ / ٢١٣) وهدية العارفين (٢ / ٤٩) والعبر للذهبي (٢ / ٣٥٨).

(٣) هو حديث ذي اليدين المشهور عن أبي هريرة ، وفيه قال ذو اليدين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال : «لم أنس ولم تقصر» .. الخ. رواه البخاري في الصلاة باب ٨٨ (حديث ٤٨٢) ورواه أيضا برقم ٧١٤ و ٧١٥ و ١٢٢٧ و ١٢٢٨ و ١٢٢٩ و ٦٠٥١ و ٧٢٥٠. ورواه أصحاب السنن.

(٤) فقال تعالى في سورة الأحزاب الآية ٣٧ : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ).

(٥) كما جاء في سورة «عبس». وذلك أن ابن أم مكتوم ـ وأم مكتوم أم أبيه ، واسمه عبد الله بن

٢٨٥

الصلاة والسلام ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، بخلافنا في هذا فإننا غير مؤاخذين بما سهونا فيه ، ولا بما قصدنا به وجه الله عزوجل فلم يصادف مراده تعالى ، بل نحن مأجورون على هذا الوجه أجرا واحدا.

وقد أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله تعالى قرن بكل أحد شيطانا ، وأن الله تعالى أعانه على شيطانه فأسلم ، فلا يأمره إلا بخير ، وأما الملائكة فبراء من كل هذا ، لأنهم خلقوا من نور محض لا شوب فيه ، والنور خير كله لا كدر فيه.

حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجّاج ، عن عبد بن حميد ، عن عبد الرّزّاق ، عن معمر ، عن الزّهريّ ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلقت الملائكة من نور وخلق الجانّ من مارج من نار ، وخلق آدم ممّا وصف لكم». (١).

قال أبو محمد : واحتجت الطائفة الأولى بآيات من القرآن ، وأخبار وردت ، ونحن إن شاء الله عزوجل نذكرها ، ونبين غلطهم فيها ، بالبراهين الواضحة الضرورية ، وبالله تعالى التوفيق.

الكلام في آدم عليه‌السلام

قال أبو محمد : فمما احتجوا به قول الله عزوجل : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [سورة طه آية رقم ١٢١].

وقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) [سورة البقرة آية رقم ٣٥]. قالوا : فقربها آدم فكان من الظالمين. وقد عصى وغوى.

وقال تعالى : (فَتابَ عَلَيْهِ).

والمتاب لا يكون إلا من ذنب.

__________________

شريح بن مالك بن ربيعة الفهري ـ أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده صناديد قريش : عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة ، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم ، فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقرئني وعلمني مما علّمك الله ، وكرر ذلك ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه ، فنزلت هذه الآية. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرمه ويقول إذا رآه : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول : «هل لك من حاجة؟» واستخلفه على المدينة مرتين. انظر تفسير الفخر الرازي (تفسير سورة عبس).

(١) رواه مسلم في الزهد (حديث ٦٠) وأحمد في المسند (٦ / ١٥٣).

٢٨٦

وقال تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) [سورة البقرة آية رقم ٣٥]. واستزلال الشيطان معصية ، وذكروا قول الله تعالى : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) [سورة الأعراف آية رقم ١٩٠].

هذا كل ما ذكروا في آدم عليه‌السلام.

قال أبو محمد : وهذا كله بخلاف ما ظنوا.

أما قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [سورة طه : ١٢١]. فقد علمنا أن كل خلاف لأمر آمر فصورته صورة المعصية ، فيسمى معصية لذلك وغواية ، إلا أنه منه ما يكون عن عمد وذكر ، فهذه معصية على الحقيقة ، لأن فاعلها قاصد إلى المعصية ، وهو يدري أنها معصية ، وهذا هو الذي نزهنا عنه الأنبياء عليهم‌السلام ، ومنه ما يكون عن قصد إلى خلاف ما أمر به وهو يتأول في ذلك الخير ، ولا يدري أنه عاص بذلك بل يظن أنه مطيع لله تعالى أو أن ذلك مباح له لأنه يتأول أن الأمر الوارد عنه ليس على معنى الإيجاب ولا على التحريم لكن إما على الندب إن كان بلفظ الأمر ، أو الكراهية إن كان بلفظ النهي ، وهذا شيء يقع فيه العلماء ، والفقهاء ، والأفاضل كثيرا ، وهذا هو الذي قد يقع من الأنبياء عليهم‌السلام ويؤاخذون به إذا وقع منهم ، وعلى هذه السبيل أكل آدم من الشجرة ، ومعنى قوله تعالى : (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) [سورة البقرة آية رقم ٣٥] أي ظالمين لأنفسكما ، والظلم في اللغة : وضع الشيء في غير موضعه فمن وضع الأمر ، أو النهي ، في موضع الندب ، أو الكراهة ، فقد وضع الشيء في غير موضعه ، وهذا الظلم من هذا النوع من الظلم الذي يقع بغير قصد ، وليس معصية ، لا الظلم الذي هو القصد إلى المعصية ، وهو يدري أنها معصية ، وبرهان هذا ما قد نصه الله تعالى من أن آدم عليه‌السلام لم يأكل من الشجرة إلا بعد أن أقسم له إبليس أن نهي الله عزوجل لهما عن أكل الشجرة ليس على التحريم ، وأنهما لا يستحقان بذلك عقوبة أصلا ، بل يستحقان بذلك الجزاء الحسن ، وفوز الأبد ، قال تعالى حاكيا عن إبليس أنه قال لهما : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) [سورة الأعراف آية رقم ٢١].

وقال عزوجل : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [سورة طه آية رقم ١١٥].

قال أبو محمد : فلما نسي آدم عليه‌السلام عهد الله إليه في أن إبليس عدو له أحسن الظن بيمينه.

٢٨٧

قال أبو محمد : ولا سلامة ولا براءة من القصد إلى المعصية ولا أبعد من الجراءة على الذنوب أعظم من حال من ظن أن أحدا لا يحلف حانثا ، وهكذا فعل آدم عليه‌السلام فإنه إنما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسيا ، بنص القرآن ، ومتأولا وقاصدا إلى الخير ، لأنه قدّر أنه يزداد حظوة عند الله تعالى فيكون ملكا مقربا ، أو خالدا فيما هو فيه أبدا ، فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله عزوجل به ، وكان الواجب أن يحمل أمر ربّه عزوجل على ظاهره لكن تأول وأراد الخير فلم يصبه ، ولو فعل هذا عالم من علماء المسلمين لكان مأجورا ، ولكن آدم عليه‌السلام لما فعله وأوخذ به بإخراجه عن الجنة على نكد الدنيا ، كان بذلك ظالما لنفسه.

وقد سمى الله قاتل الخطأ قاتلا ، كما سمى العامد ، والمخطئ لم يتعمد معصية ، وجعل في الخطأ في ذلك كفارة عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، لمن عجز عن الرقبة ، وهو لم يتعمد ذنبا ، وأما قوله عزوجل : (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) [سورة الأعراف آية رقم ٨٩ ، ٩٠].

فهذا تكفير لآدم عليه‌السلام ومن نسب لآدم عليه‌السلام الشرك والكفر ـ كفر مجرد بلا خلاف من أحد من الأمة ونحن ننكر على من كفّر المسلمين العصاة العشارين (١) القتالين ، والشّرط الفاسقين ، فكيف من كفّر الأنبياء عليهم‌السلام ..؟ وهذا الذي نسبوه إلى آدم عليه‌السلام من أنه سمى ابنه عبد الحارث خرافة موضوعة ، مكذوبة ، من توليد من لا دين له ، ولا حياء ، لم يصح سندها قط ، وإنما نزلت في المشركين على ظاهرها ، وحتى لو صح أن الآية نزلت في آدم ، وهذا لا يصح أصلا ، لما كانت فيه للمخالف حجة ، لأنه كان يكون الشرك أو الشركاء المذكورون في الآية حينئذ على غير الشكر الذي هو الكفر ، لكن بمعنى أنهما جعلا مع توكلهما شركة من حفظه ومعناه كما قال يعقوب عليه‌السلام : (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سورة يوسف آية رقم ٦٧ ، ٦٨].

فأخبرنا عزوجل أن يعقوب عليه‌السلام أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة

__________________

(١) العشّار : من يأخذ على السلع مكسا (المعجم الوسيط : ص ٦٠٢).

٢٨٨

إشفاقا عليهم إما من إصابة العين ، وإما من تعرض عدو مستريب بإجماعهم ، أو ببعض ما يخوفه عليهم ، وهو عليه‌السلام معترف أن فعله ذلك وأمره إياهم بما أمرهم به من ذلك لا يغني عنهم من الله شيئا يريده عزوجل بهم ولكن لما كانت طبيعة البشر جارية في يعقوب عليه‌السلام ، وفي سائر الأنبياء عليهم‌السلام ، كما قال تعالى حاكيا عن الرسل أنهم قالوا : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [سورة إبراهيم آية رقم ١١] حملهم ذلك على بعض النظر المخفف لجارحه النفس ، ونزاعها ، وتوقفها إلى سلامة من تحب ، وإن كان ذلك لا يغني شيئا كما كان عليه‌السلام يحب الفأل الحسن ، فكان يكون على هذا معنى الشرك والشركاء أن يكون عوذة ، أو تميمة ، أو نحو هذا فكيف ولم تنزل الآية قط إلا في الكفار ، لا في آدم عليه‌السلام؟؟؟.

الكلام في نوح عليه‌السلام

قال أبو محمد : ذكروا قول الله عزوجل لنوح عليه‌السلام ... (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [سورة هود آية ٤٦].

قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لأن نوحا عليه‌السلام تأول وعد الله تعالى أن يخلصه وأهله فظن أن ابنه من أهله على ظاهر القرابة ، وهذا لو فعله أحد لكان مأجورا ولم يسأل نوح عليه‌السلام تخليص من أيقن أنه ليس من أهله فتفرع على ذلك ونهي عن أن يكون من الجاهلين ، فتندم عليه‌السلام من ذلك ونزع ، وليس هاهنا عمد للمعصية البتة.

وبالله تعالى التوفيق.

الكلام في إبراهيم عليه‌السلام

قال أبو محمد : ذكروا ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن إبراهيم عليه‌السلام كذب ثلاث كذبات ، وأنه قال إذ نظر في النجوم (إِنِّي سَقِيمٌ) [سورة الصافّات آية رقم ٨٩].

وبقوله في الكواكب والشمس والقمر (هذا رَبِّي) [سورة الأنعام آية رقم ٧٦ ، ٧٧ ، ٧٨].

وبقوله في سارة : هذه أختي.

وبقوله في الأصنام إذ كسرها (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [سورة الأنبياء آية رقم]

٢٨٩

٦٣] وبطلبه إذ طلب رؤية إحياء الموتى (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [سورة البقرة آية رقم ٢٦٠].

قال أبو محمد : وهذا كله ليس على ما ظنوه بل هو حجة لنا والحمد لله رب العالمين.

أما الحديث : أنه عليه‌السلام كذب ثلاث كذبات (١) ، فليس كل كذب يكون معصية ، بل منه ما يكون طاعة لله عزوجل وفرضا واجبا يعصي من تركه ، صح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا» (٢).

فقد أباح عليه‌السلام كذب الرجل لامرأته فيما يستجلب به مودتها ، وكذلك الكذب في الحرب ، فقد أجمع أهل الإسلام على أن إنسانا لو سمع مظلوما قد ظلمه سلطان وطلبه ليقتله بغير حق ويأخذ ماله غصبا فاستتر عنده وسمعه يدعو على من ظلمه قاصدا بذلك السلطان فسأل السلطان ذلك السامع عما سمعه منه وعن موضعه فإنه إن كتم ما سمع وأنكر أن يكون سمعه ، أو أنه يعرف موضعه أو موضع ماله ، فإنه محسن مأجور مطيع لله عزوجل ، وأنه إن صدقه فأخبره بما سمعه منه وبموضعه وموضع ماله كان فاسقا عاصيا لله عزوجل ، فاعل كبيرة مذموما تماما.

وقد أبيح الكذب في إظهار الكفر في التقية ، وكل ما روي عن إبراهيم عليه‌السلام في تلك الكذبات فهو داخل في الصفة المحمودة ، لا في الكذب الذي نهي عنه ، وأما قوله عن سارة هي أختي فصدق هي أخته من وجهين :

قال الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [سورة الحجرات آية رقم ١٠].

وقال عليه‌السلام : «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه». (٣)

__________________

(١) جزء من حديث طويل رواه الإمام أحمد في المسند (٣ / ٢٤٤) عن أنس بن مالك ، وفيه : «... فيأتون إبراهيم فيقول : لست هناكم ، ويذكر خطيئته التي أصاب ثلاث كذبات كذبهن : قوله إني سقيم ، وقوله بل فعله كبيرهم هذا ، وأتى على جبار مترف ومعه امرأته فقال : أخبريه أني أخوك فإني مخبره أنك أختي».

(٢) رواه البخاري في الصلح باب ٢ ، ومسلم في البرّ حديث ١٠٠ ، وأبو داود في الأدب باب ٥٠ ، والترمذي في البرّ باب ٢٦ ، وأحمد في المسند (٦ / ٤٠٣ ، ٤٠٤).

(٣) روي في الصحاح من طرق متعددة ، فرواه البخاري في النكاح باب ٤٥ ، والبيوع باب ٥٨ ، والشروط باب ٨. ومسلم في البيوع حديث ٨ ، والنكاح حديث ٣٨ ، ٤٩ ـ ٥٢ ، ٥٤ ـ ٥٦. وأبو داود في النكاح باب ١٧. والترمذي في النكاح باب ٣٨. والنسائي في البيوع باب ١٩.

٢٩٠

والوجه الثاني : القرابة وأنها من قومه ومن مستجيبيه قال عزوجل : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) [سورة الأعراف آية رقم ٨٥].

فمن عد هذا كذبا مذموما من إبراهيم عليه‌السلام فليعده كذلك من ربه عزوجل وهذا كفر مجرد فصح أنه عليه‌السلام صادق في قوله في سارة إنها أختي. وأما قوله (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) [سورة الصافّات آية ٨٩] فليس هذا كذبا ولسنا ننكر أن تكون النجوم دلائل على الصحة والمرض وبعض ما يحدث في العالم كدلالة البرق على تغول البحر ، وكدلالة الرعد على تولد الكمأة ، وكتولد المد والجزر على طلوع القمر وغروبه ، وانحداره وارتفاعه ، وامتلائه ونقصه ، وإنما المنكر قول من قال : إن الكواكب هي الفاعلة المدبرة لذلك ، دون الله تعالى ، أو مشتركة معه ، فهذا كفر من قائله ، وأما قوله عليه‌السلام : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [سورة الأنبياء آية رقم ٦٣] فإنما هو تقريع لهم ، وتوبيخ ، كما قال تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [سورة الدخان آية ٤٩] وهو في الحقيقة مهان ذليل ، مهين معذب في النار ، فكلا القولين توبيخ لمن قيلا له على ظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر ، وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا أنه عزيز كريم.

ولم يقل إبراهيم عليه‌السلام هذا على أنه محقق لأن كبيرهم فعله ، إذ الكذب إنما هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه قصدا إلى تحقيق ذلك.

وأما قوله عليه‌السلام إذ رأى الكوكب والشمس والقمر : هذا ربي. فقال قوم إن إبراهيم عليه‌السلام قال ذلك محققا أول خروجه من الغار وهذا خرافة موضوعة مكذوبة ظاهرة الافتعال ، ومن المحال الممتنع أن يبلغ أحد حد التمييز والكلام بمثل هذا ، وهو لم ير قط شمسا ولا قمرا ولا كوكبا ، وقد أكذب الله عزوجل هذا الظن الكاذب بقوله الصادق (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) [سورة الأنبياء آية رقم ٥١].

فمحال أن يكون من آتاه الله رشده من قبل يدخل في عقله أن الكوكب ربه ، أو أن الشمس ربه ، من أجل أنها أكبر قرصا من القمر ، هذا ما لا يظنه إلا مخبول العقل.

__________________

وابن ماجة في النكاح باب ١٠. والدارمي في النكاح باب ٧. ومالك في النكاح حديث ١ و ٢ و ١٢. وأحمد في المسند (٢ / ١٢٢ ، ١٢٤ ، ١٢٦ ، ١٣٠ ، ١٤٢ ، ١٥٣ ، ٢٣٨ ، ٢٧٤ ، ٣١١ ، ٣١٨ ، ٣٩٤ ، ٤١١ ، ٤٢٧ ، ٤٥٧ ، ٤٦٢ ، ٤٦٣ ، ٤٨٧ ، ٤٨٩ ، ٥٥٨ ، ٤ / ١٤٧ ، ٥ / ١١).

٢٩١

والصحيح من ذلك أنه عليه‌السلام إنما قال ذلك موبخا لقومه كما قال لهم نحو ذلك في الكبير من الأصنام ولا فرق ، لأنهم كانوا على دين الصابئين ، يعبدون الكواكب ، ويصورون الأصنام على صورها ، وأسمائها ، في هياكلهم ، ويعدون لها الأعياد ، ويذبحون لها الذبائح ، ويقربون لها القرب والقرابين والدخن (١) ، ويقولون : إنها تعقل وتدبر ، وتضر وتنفع ، ويقيمون لكل كوكب منها شريعة محدودة ، فوبخهم الخليل عليه‌السلام على ذلك ، وسخر منهم وجعل يريهم تعظيم الشمس لكبر جرمها ، كما قال تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [سورة المطففين آية رقم ٣٤] فأراهم ضعف عقولهم في تعظيمهم لهذه الأجرام المسخرة الجمادية وبين لهم أنهم مخطئون ، وأنها مدبرة تنتقل في الأماكن ، ومعاذ الله أن يكون الخليل عليه‌السلام أشرك قط بربه ، أو شك في أن الفلك بكل ما فيه مخلوق ، وبرهان قولنا هذا أن الله تعالى لم يعاتبه على شيء مما ذكر ولا عنفه على ذلك ، بل صدقه تعالى بقوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) [سورة الأنعام آية رقم ٨٣].

فصح أن هذا بخلاف ما وقع لآدم وغيره بل وافق مراد الله عزوجل بما قال من ذلك وبما فعل.

وأما قوله عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [سورة البقرة آية رقم ٢٦٠].

فلم يقرره ربنا عزوجل وهو يشك في إيمان إبراهيم عبده وخليله ورسوله عليه‌السلام تعالى الله عن ذلك ، ولكن تقريرا للإيمان في قلبه ، وإن لم ير كيفية إحياء الموتى ، فأخبر عليه‌السلام عن نفسه أنه مؤمن مصدق وإنما أراد أن يرى الكيفية فقط ويعتبر بذلك ، وما شك إبراهيم عليه‌السلام في أن الله تعالى يحيي الموتى ، وإنما أراد أن يرى الهيئة ، كما أننا لا نشك في صحة وجود الفيل ، والتمساح ، والكسوف ، وزيادة النهر ، والخليفة ، ثم يرغب من لم ير ذلك منا في أن يرى كل ذلك ، ولا يشك في أنه حق لكن ليرى العجب الذي يتمثله في نفسه ولم تقع عليه حاسة بصره قطّ ، وأما ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : «نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم». (٢)

__________________

(١) الدّخن : جمع دخنة ، وهو ما يتبخّر به من الطيب (المعجم الوسيط : ص ٢٧٦).

(٢) لفظ الحديث كما رواه البخاري في أحاديث الأنبياء ، باب ١١ (حديث رقم ٣٣٧٢) عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم إذ قال : ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي. ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن

٢٩٢

فمن ظن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شك قط في قدرة ربه عزوجل على إحياء الموتى فقد كفر ، وهذا الحديث حجة لنا ، ونفي للشك عن إبراهيم ـ أي لو كان هذا الكلام من إبراهيم عليه‌السلام شكا لكان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم عليه‌السلام أحق بالشك ، فإذا كان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم غير شاك ، فإبراهيم عليه‌السلام أبعد من الشك.

قال أبو محمد : ومن نسب هاهنا إلى الخليل عليه‌السلام الشك فقد نسب إليه الكفر ، ومن كفّر نبيا فقد كفر ، وأيضا فإن كان ذلك شكا من إبراهيم عليه‌السلام وكنا نحن أحق بالشك منه فنحن إذا شكاك جاحدون كفار ، وهذا كلام نعلم والحمد لله بطلانه من أنفسنا ، بل نحن ولله الحمد مؤمنون مصدقون بالله تعالى ، وقدرته على كل شيء يسأل عنه السائل.

وذكروا قول إبراهيم عليه‌السلام لأبيه واستغفاره له ، وهذا لا حجة لهم فيه لأنه لم يكن نهي عن ذلك ، قال تعالى : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [سورة التوبة آية رقم ١١٤]. فأثنى الله تعالى عليه بذلك ، فصح أن استغفار إبراهيم لأبيه إنما كان مدة حياته راجيا إيمانه فلما مات كافرا تبرأ منه ولم يستغفر له بعدها.

تم الكلام في إبراهيم عليه‌السلام.

الكلام في لوط عليه‌السلام

قال أبو محمد : وذكروا قول الله تعالى في لوط عليه‌السلام أنه قال : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [سورة هود : ٨٠] فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد». (١)

فظنوا أن هذا القول منه عليه‌السلام إنكار على لوط عليه‌السلام وذكروا قول لوط أيضا : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) [سورة هود : ٧٨].

قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ، أما قوله عليه‌السلام : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) فليس مخالفا لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرحم الله لوطا

__________________

شديد. ولو لثبت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي». ورواه أيضا برقم ٣٣٧٥ و ٣٣٨٧ و ٤٥٣٧ و ٤٦٩٤ و ٦٩٩٢. ورواه مسلم في الإيمان حديث ٢٣٨ ، والفضائل حديث ١٥٢ ، وابن ماجة في الفتن باب ٢٣ ، وأحمد في المسند (٢ / ٣٢٦).

(١) تقدم تخريجه. انظر الفهارس العامة.

٢٩٣

لقد كان يأوي إلى ركن شديد». بل كلا القولين منهما عليهما‌السلام حق متفق عليه لأن لوطا عليه‌السلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش من قرابة ، أو عشيرة ، أو أتباع مؤمنين.

وما جهل قط لوط عليه‌السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة ، وأشد ركن ، فلا جناح على لوط عليه‌السلام في طلب قوة من الناس فقد قال تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [سورة البقرة : ٢٥١] فهذا هو الذي طلب لوط عليه‌السلام.

وقد طلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنصار والمهاجرين منعه حتى يبلغ كلام ربه تعالى ، فكيف ينكر على لوط أمرا هو فعله عليه‌السلام؟ تالله ما أنكر ذلك رسول الله.

وإنما أخبر عليه‌السلام أن لوطا كان يأوي إلى ركن شديد ، يعني من نصر الله له بالملائكة ، ولم يكن لوط عليه‌السلام علم بذلك.

ومن ظن أن لوطا عليه‌السلام اعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد فقد كفر ، إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر ، وهذا أيضا ظن سخيف ، إذ من الممتنع أن يظن برب أراه المعجزات وهو دائبا يدعو إليه هذا الظن.

وأما قوله عليه‌السلام : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَ) [سورة هود : ٧٨].

فإنما أراد التزويج والوطء في المكان المباح ، فصح ما قلنا إذ من المحال أن يدعوهم إلى منكر وهو ينهاهم عن المنكر. انقضى الكلام في لوط عليه‌السلام.

الكلام في إخوة يوسف عليه‌السلام

قال أبو محمد : واحتجوا بفعل إخوة يوسف وبيعهم أخاهم ، وكذبهم لأبيهم ، وهذا لا حجة لهم فيه ، لأن إخوة يوسف عليه‌السلام لم يكونوا أنبياء ، ولا جاء قط في أنهم أنبياء نص لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا من إجماع ولا من قول أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم.

وأما يوسف عليه‌السلام فرسول الله بنص القرآن ، قال عزوجل : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) إلى قوله : (مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) [سورة غافر : ٣٤].

وأما إخوته فأفعالهم تشهد أنهم لم يكونوا متورعين عن العظائم ، فكيف أن يكونوا أنبياء؟ ولكن الرسولين أباهم ، وأخاهم ، قد استغفرا لهم وأسقطا التثريب عنهم ، وبرهان

٢٩٤

ما ذكرنا من كذب من يزعم أنهم كانوا أنبياء ، قول الله تعالى حاكيا عن الرسول أخيهم عليه‌السلام أنه قال لهم : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) [سورة يوسف : ٧٧].

ولا يجوز البتة أن يقوله لنبي من الأنبياء : نعم ، ولا لقوم صالحين ، إذ توقير الأنبياء فرض على جميع الناس ، ولأن الصالحين ليسوا شرا مكانا ، وقد عقّ ابن نوح أباه بأكثر مما عق به إخوة يوسف أباهم ، إلا أن إخوة يوسف لم يكفروا ، ولا يحل لمسلم أن يدخل في الأنبياء من لم يأت نص ، ولا إجماع ، أو نقل كافة بصحة نبوته ، ولا فرق بين التصديق بنبوة من ليس نبيا ، وبين التكذيب بنبوة من صحت نبوته منهم. فإن ذكروا في ذلك ما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو زيد بن أرقم : «إنما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لا نبي بعد رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأولاد الأنبياء أنبياء» فهذه غفلة شديدة ، وزلة عالم من وجوه.

أولها : أنه دعوى لا دليل على صحتها ، وثانيها : أنه لو كان ما ذكر لأمكن أن ينبأ إبراهيم في المهد ، كما نبىء عيسى عليه‌السلام ، وكما أوتي يحيى الحكم صبيا ، فعلى هذا القول لعل إبراهيم كان نبيا وقد عاش عامين غير شهرين وحاشا لله من هذا.

وثالثها : أن ولد نوح عليه‌السلام كان كافرا بنص القرآن ، عمل عملا غير صالح ، فلو كان أولاد الأنبياء أنبياء لكان هذا الكافر المسخوط عليه نبيا وحاشا لله من هذا.

ورابعها : أنه لو كان ذلك لوجب ولا بد أن يكون اليهود كلهم أنبياء إلى اليوم بل جميع أهل الأرض أنبياء لأن الكل من ولد آدم ، وآدم نبي ، فإذا وجب أن يكون أولاد آدم لصلبه أنبياء لأن أباهم نبي فأولاد أولاده أنبياء أيضا ، لأن آباءهم أنبياء ، وهم أولاد أنبياء ، وهكذا أبدا حتى يبلغ الأمر إلينا.

وفي هذا من الكفر لمن قامت عليه الحجة وثبت عليه ما لا خفاء به ، وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : ولعل من جهل مرتين يقول عنا : هذا ينكر نبوة إخوة يوسف ، ويثبت نبوة بني المجوس ، ونبوة أم موسى ، وأم عيسى وأم إسحاق ، عليهم‌السلام ، فنحن نقول وبالله تعالى التوفيق وبه نعتصم : لسنا نقر بنبوة من لم يخبر الله عزوجل بنبوته ، ولم ينص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نبوته ، ولا نقلت الكواف عن أمثالها نقلا متصلا منه إلينا معجزات النبوة عنه ممن كان قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل ندفع نبوة من قام البرهان على بطلان نبوته ، لأن تصديق نبوة من هذه صفته افتراء على الله تعالى ، لا يقدم عليه مسلم ، ولا ندفع نبوة من جاء القرآن بأن الله تعالى نبأه.

٢٩٥

فأما أم موسى ، وأم عيسى ، وأم إسحاق ، فالقرآن قد جاء بمخاطبة الملائكة لبعضهن بالوحي ، وإلى منهنّ عن الله عزوجل بالإنباء بما يكون قبل أن يكون ، وهذه النبوة نفسها التي لا نبوة غيرها فصحت نبوتهن بنص القرآن.

وأما بنو المجوس فقد صح أنهم أهل كتاب بأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجزية منهم ، ولم يبح الله تعالى له أخذ الجزية إلا من أهل الكتاب فقط. فمن نسب إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أخذ الجزية من غير أهل الكتاب فقد نسب إليه أنه خالف ربه تعالى ، وأقدم على عظيمة تقشعر منها جلود المؤمنين. فإذ نحن على يقين من أنهم أهل كتاب ، فلا سبيل البتة إلى نزول كتاب من عند الله تعالى على غير نبي مرسل بتبليغ ذلك الكتاب ، فقد صح بالبرهان الضروري أنهم قد كان لهم نبي مرسل يقينا بلا شك. ومع هذا فقد نقلت عنه كواف عظيمة معجزات الأنبياء عليهم‌السلام وكل ما نقلته كافة على شرط عدم التواطؤ ، فواجب قبوله. ولا فرق بين ما نقلته كافة كافرة أو مؤمنة ، أو كواف المسلمين فيما شاهدته حواسهم. ومن قال لا أصدق إلا ما نقلته كواف المسلمين فإنا نسأله بأي شيء صح عنده موت ملوك الروم ولم يحضرهم مسلم أصلا ، وإنما نقلته إلينا يهود عن نصارى؟ ومثل هذا كثير. فإن كذّب هذا غالط نفسه وعقله وكابر حسه ، وأيضا فإن المسلمين إنما علمنا أنهم محقون لتحقيق نقل الكافة لصحة ما بأيديهم فبنقل الكافة علمنا هدى المسلمين ، ولا نعلم بالإسلام صحة نقل الكافة بل هو معلوم بالبينة وضرورة العقل ، وقد أخبر تعالى أن للأولين زبرا وقال تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [سورة النساء : ١٦٤].

وفي هذا كفاية وبالله تعالى التوفيق.

الكلام في يوسف عليه‌السلام

وذكروا أيضا أخذ يوسف عليه‌السلام أخاه وإيحاشه أباه عليه‌السلام منه وأنه أقام مدة يقدر فيها على أن يعرّف أباه خبره ، وهو يعلم ما يقاسي به من الوجد عليه ، فلم يفعل وليس بينه وبينه إلا عشر ليال ، وبإدخاله صواع الملك في وعاء أخيه ، ولم يعلم بذلك سائر إخوته ، ثم أمر من هتف (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [سورة يوسف : ٧٠] وهم لم يسرقوا شيئا.

وبقول الله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [سورة يوسف : ٢٤] وبخدمته لفرعون ، وبقوله للذي كان معه في السجن : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) [سورة يوسف : ٤٢].

٢٩٦

قال أبو محمد : وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته فنقول وبالله تعالى نتأيد :

أما أخذه أخاه وإيحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه ، وليعود إخوته إليه ، ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه ، وهم في مملكة أخرى ، وحيث لا طاعة ليوسف عليه‌السلام ، ولا لملك مصر هنالك ، وليكون ذلك سببا لاجتماعه وجمع شمل جميعهم ، ولا سبيل إلى أن يظن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أوتي العلم والمعرفة بالتأويل إلا أحسن الوجوه ، وليس مع من خالفنا نص بخلاف ما ذكرنا ، ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه ، فكيف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟؟؟ وأما ظنهم أنه أقام مدة يقدر فيها على تعريف أبيه خبره ، ولم يفعل ، فهذا جهل شديد ممن ظن هذا لأن يعقوب في أرض كنعان من عمل فلسطين في قوم رحالين خصاصين في لسان آخر وطاعة امرئ ودين آخر وأمة أخرى كالذي بيننا اليوم وبين من يصافينا من بلاد النصارى كغالث وغيرها أو كصحراء البربر فلم يكن عند يوسف عليه‌السلام علم بعد فراقه أباه بما فعل ، ولا حي هو أو ميت ، أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به ، ولا وجد أحدا يثق به فيرسل إليه للاختلاف الذي ذكرنا ، وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرض الشام ومصر لأمير واحد ، وملة واحدة ، ولسانا واحدا وأمة واحدة ، والطريق سابل ، والتجار ذاهبون وراجعون ، والرفاق سائرة ومقبلة ، والبرد (١) ناهضة وراجعة ، فظن كل بيضاء شحمة ولم يكن الأمر حينئذ كذلك ولكن كما قدمنا.

ودليل ذلك أنه حين أمكنه لم يؤخره ، واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه ، وانقيادهم له للجوع الذي كان عم الأرض وامتيارهم من عنده ، فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجب فأتوه صاغرين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل أن يأتوه ، ورب رئيس جليل شاهدنا من أبناء البشاكين والإفرنج لو قدر على أن يستجلب أبويه لكان أشد الناس بدارا إلى ذلك ولكن الأمر تعذر عليهم تعذرا أخرجه عن الإمكان إلى الامتناع فهذا كان أمر يوسف عليه‌السلام.

وأما قول يوسف لإخوته : (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [سورة يوسف : ٧٠] وهم لم يسرقوا الصواع ، بل هو الذي كان قد أدخله في وعاء أخيه دونهم ، فقد صدق عليه‌السلام

__________________

(١) البرد : جمع بريد ، وأصله الدابة التي تحمل الرسائل ، والبريد : الرسول ، والرسائل (المعجم الوسيط : ص ٤٨).

٢٩٧

لأنهم سرقوه من أبيه وباعوه ، ولم يقل عليه‌السلام إنكم سرقتم الصواع ، وإنما قال : (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) [سورة يوسف : ٧٢] وهو في ذلك صادق لأنه كان غير واجد له فكان فاقدا له بلا شك.

وأما خدمته عليه‌السلام لفرعون فإنما خدمة تقية وفي حق لاستنقاذ الله تعالى أهل الأرض بحسن تدبيره ، ولعل الملك أو بعض خواصه قد آمن به إلا أنّ خدمته له على كل حال حسنة وفعل خير ، وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل ، وإلى حياة النفوس ، إذ لم يقدر على المغالبة ولا أمكنه غير ذلك ، ولا مرية في أن ذلك كان مباحا في شريعة يوسف عليه‌السلام بخلاف شريعتنا ، قال الله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [سورة المائدة : ٤٨] وأما سجود أبويه فلم يكن ذلك محظورا في شريعتهما ، بل كان فعلا حسنا ، وتحقيق رؤياه الصادق من الله تعالى ولعل ذلك السجود كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه الصلاة والسلام. إلا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك.

وأما قوله عليه‌السلام للذي كان معه في السجن (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) [سورة يوسف : ٤٢] فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظورة على أحد ، وليس في قوله ذلك دليل على أنه أغفل الدعاء إلى الله عزوجل لكنه رغّب هذا الذي كان معه في السجن في فعل الخير وحضه عليه وهذا فرض من وجهين : أحدهما : وجوب السعي في كف الظلم عنه ، والثاني : دعاؤه إلى الخير والحسنات.

وأما قوله تعالى : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) [سورة يوسف : ٤٢]. فالضمير الذي في أنساه وهو (الهاء) راجع إلى الفتى الذي كان معه في السجن ، أي أن الشيطان أنساه أن يذكر ربه أمر يوسف عليه‌السلام.

ويحتمل أيضا أن يكون أنساه الشيطان ذكر الله تعالى ولو ذكر الله عزوجل لذكر حاجة يوسف عليه‌السلام.

وبرهان ذلك قول الله عزوجل : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [سورة يوسف : ٤٥] فصح يقينا أن المدكر بعد أمة (١) هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر ، وحتى لو صحّ أن الضمير من أنساه راجع إلى يوسف عليه‌السلام لما كان في ذلك نقص ، ولا ذنب ، إذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الأنبياء. وأما قوله : (هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ

__________________

(١) الأمة (بالتخفيف) : الفترة من الدهر.

٢٩٨

رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [سورة يوسف : ٢٤] فليس كما ظن من لم ينعم النظر حتى قال من المتأخرين من قال إنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة ، ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم ، فكيف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...؟؟؟

فإن قيل : إن هذا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد ، قلنا : نعم ، ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط ، والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شكّ عمن دون ابن عباس ، أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك إذ إنما أخذه عمن لا يدري من هو ، ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به ، لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين : إما أنه همّ بالإيقاع بها وضربها ، كما قال تعالى : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) [سورة غافر : ٥]. وكما يقول القائل : لقد همت بك.

لكنه عليه‌السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها ، وعلم أن الفرار أجدى عليه ، وأظهر لبراءته ، على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر قدّ القميص. والوجه الثاني : أن الكلام تم عند قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) ثم ابتدأ تعالى خبرا آخر فقال : (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي أنه كان يهم بها لو لا أن رأى برهان ربه وهذا هو ظاهر الآية بلا تكلف تأويل ، وبهذا نقول.

حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي حدثنا ابن عون الله ، أنبأنا إبراهيم بن أحمد بن فراس ، حدثنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري ، أنا إسحاق بن راهويه ، أنا المؤمل بن إسماعيل الحميري ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [سورة يوسف : ٥٢] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما قالها يوسف عليه‌السلام قال له جبريل : يا يوسف اذكر همّك ، فقال يوسف : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [سورة يوسف : ٥٣].

فليس في هذا الحديث على معنى من المعاني تحقيق الهم بالفاحشة ، ولكنه فيه أنه همّ بأمر ما ، وهذا حق كما قلنا فسقط هذا الاعتراض ، وصح الوجه الأول ، والثاني معا ، إلا أن الهم بالفاحشة باطل مقطوع على كل حال ، وصح أن ذلك الهم هو ضرب سيدته ، وهي خيانة لسيده إذ هم بضرب امرأته.

وبرهان ربه هاهنا هو النبوة ، فلو لا النبوة وعصمة الله عزوجل إياه ، ولو لا البرهان ،

٢٩٩

لكان بهم بالفاحشة ، وهذا لا شك فيه ، ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف ينزه نفسه الرذلة عن مثل ذلك المقام فيهلك ، وقد خشي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الهلاك على من ظن به ذلك الظن ، إذ قال للأنصاريين حين لقيهما : «هذه صفيّة». (١)

قال أبو محمد : ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه‌السلام همّ بالزنا ، وهو يسمع قول الله تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) [سورة يوسف : ٢٤].

فنسأل من خالفنا عن الهم بالزنا بسوء هو أم غير سوء ..؟ فلا بد أنه سوء ، ولو قال إنه ليس بسوء لعاند الإجماع فإذا هو سوء ، وقد صرف عنه السوء فقد صرف عنه الهمّ بيقين ، وأيضا فإنها قالت : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) [سورة يوسف : ٢٥] وأنكر هو ذلك فشهد الصادق المصدق : إن كان قميصه قدّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين فصح أنها كذبت وإذ كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سوءا فما هم بالزنا قط ، ولو أراد بها الزنا لكانت من الصادقين ، وهذا بين جدا.

وكذلك قوله تعالى عنه أنه قال : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) [سورة يوسف : ٣٣] (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) [سورة يوسف : ٣٤] فصح عنه أنه قطّ لم يصب إليها.

وبالله تعالى التوفيق.

تم الكلام في يوسف عليه‌السلام.

الكلام في موسى عليه‌السلام وأمه

قال أبو محمد : ذكروا قول الله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) [سورة القصص : ١٠] فمعناه فارغا من الهم

__________________

(١) لفظ الحديث كما رواه البخاري في الأحكام باب ٢١ (حديث رقم ٧١٧١) عن علي بن حسين : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتته صفية بنت حييّ ، فلما رجعت انطلق معها ، فمرّ به رجلان من الأنصار ، فدعاهما فقال : «إنما هي صفيّة» قالا : سبحان الله! قال : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». وروي أيضا بألفاظ وأسانيد أخرى ، رواه البخاري في بدء الخلق باب ١١ ، والاعتكاف باب ١١ و ١٢. ومسلم في السلام حديث ٣٥. وأبو داود في الصوم باب ٧٨ ، والسنّة باب ١٧ ، والأدب باب ٨١. وابن ماجة في الصيام باب ٦٥. والدارمي في الرقاق باب ٦٦. وأحمد في المسند (٣ / ١٥٦ ، ٢٨٥ ، ٣٠٩ ، ٦ / ٣٣٧).

٣٠٠