الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

وأخرى أن الله تعالى حاشا له من أن يجيب هازلا بما يقتضيه معنى هزله فإنه تعالى أمره بالسجود ثم سأله عما منعه من السجود ثم أجابه إلى النظرة التي سأل ثم أخرجه من الجنة وأخبره أنه يعصم منه من شاء من ذرية آدم وهذه كلها معان من دافعها خرج عن الإسلام لتكذيبه القرآن ، وفارق المعقول لتجويزه هذه المحالات ، ولحق بالمجانين الوقحاء.

وأما قولهم إن إخبار الله تعالى بأن هؤلاء كلهم كفار دليل على أن في قلوبهم كفرا وأن شتم الله تعالى ليس كفرا ولكنه دليل على أن في القلب كفرا وإن كان كافرا لم يعرف الله تعالى قط.

فهذه منهم دعاوى كاذبة مفتراة لا دليل لهم عليها ولا برهان لا من نص ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من حجة عقل أصلا ولا من إجماع ولا من قياس ولا من قول أحد من السلف قبل اللعين جهم بن صفوان وما كان هكذا فهو باطل وإفك وزور فسقط قولهم هذا من قرب ولله الحمد رب العالمين.

فكيف والبرهان قائم بإبطال هذه الدعوى من القرآن والسنن والإجماع والمعقول والحس والمشاهدة الضرورية؟

فأمّا القرآن فإن الله عزوجل يقول : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [سورة العنكبوت : ٦١].

وقال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [سورة يوسف : ١٠٦].

وقال تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) [سورة البقرة : ٤٤].

قال أبو محمد : هذه شهادة من الله مكذبة لقول هؤلاء الضّلال لا يردها مسلم أصلا.

قال أبو محمد : وبلغنا عن بعضهم أنه قال في قوله تعالى : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) [سورة الأنعام : ٢٠].

أن هذا إنكار من الله تعالى لصحة معرفتهم بنبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال : وذلك لأن الرجال لا يعرفون صحة أبنائهم على الحقيقة وإنما هو ظنّ منهم.

قال أبو محمد : وهذا كفر وتحريف للكلم عن مواضعه ، ويرد ما يثبت منه.

قال أبو محمد : فأول ذلك أن هذا الخطاب من الله تعالى عموم للرجال والنساء

٢٢١

من الذين أوتوا الكتاب لا يجوز أن يخص به الرجال دون النساء فيكون من فعل مفتريا على الله تعالى وبيقين يدري كل مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى النساء كما بعث إلى الرجال.

والخطاب بلفظ الجمع المذكر يدخل فيه بلا خلاف من أهل اللغة النساء والرجال. وقد علمنا أن النساء يعرفن أبناءهن على الحقيقة بيقين.

والوجه الثاني : هو أن الله تعالى لم يقل كما يعرفون من خلقنا من نطفتهم فكان يسوغ لهذا الرجل حينئذ هذا التمويه البارد باستكراه أيضا وإنما قال تعالى : (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ).

فأضاف تعالى النبوة إليهم فمن لم يقل إنّهم أبناؤهم بعد أن جعلهم الله أبناءهم فقد كذّب الله تعالى وقد علمنا أنه ليس كل من خلق من نطفة الرجل يكون ابنه ، فولد الزنا مخلوق من نطفة إنسان ليس هو أباه في حكم الديانة أصلا ، وإنّما أبناؤنا من جعلهم الله أبناءنا فقط.

كما أن الله تعالى جعل أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمهات المؤمنين فهنّ أمهاتنا وإن لم يلدننا ونحن أبناؤهنّ وإن لم نخرج من بطونهم فمن أنكر هذا فنحن نصدّقه ، لأنه حينئذ ليس مؤمنا ، فلسن أمهاته ولا هو ابن لهن.

والوجه الثالث : هو أن الله تعالى إنما أورد الآية مبكّتا للذين أوتوا الكتاب لا معتذرا عنهم لكن مخبرا بأنهم يعرفون صحة نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآياته وبما وجدوا في التوراة والإنجيل معرفة قاطعة لا شكّ فيها كما يعرفون أبناءهم.

ثم أتبع ذلك تعالى بأنهم يكتمون الحق وهم عالمون به ، فبطل هذر هذا الجاهل المخذول والحمد لله رب العالمين.

وقال عزوجل : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) [سورة البقرة : ٢٥٦].

فنص تعالى على أن الرشد قد تبين من الغيّ عموما.

وقال تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) [سورة النساء : ١١٥].

وقال تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) [سورة محمد : ٣٢].

٢٢٢

وهذا نص جلي من خالفه كفر في أن الكفار قد تبين لهم الحق والهدى في التوحيد والنبوة وقد تبين له الحق فبيقين يدري كل ذي حس سليم أنه مصدق بلا شك بقلبه.

وقال تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [سورة النمل : ١٣ ، ١٤].

قال أبو محمد : وهذا أيضا نص جلي لا يحتمل تأويلا على أن الكفار جحدوا بألسنتهم الآيات التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واستيقنوا بقلوبهم أنها حق ولم يجحدوا قط أنها كانت وإنما جحدوا أنها من عند الله.

فصح أنّ الذي استيقنوا منها هو الذي جحدوا وهذا يبطل قول من قال من هذه الطائفة أنهم إنما استيقنوا كونها وهي عندهم حيل لا حقائق إذ لو كان ذلك لكان هذا القول من الله تعالى كذبا تعالى الله عن ذلك لأنهم لم يجحدوا كونها وإنما جحدوا أنها من عند الله ، وهذا الذي جحدوا هو الذي استيقنوا بنص الآية.

وقال تعالى حاكيا عن موسى عليه‌السلام أنه قال لفرعون : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [سورة الإسراء : ١٠٢].

فمن قال : إنّ فرعون لم يعلم أن الله تعالى حق ولا علم أن معجزات موسى حق من عند الله تعالى فقد كذّب ربه تعالى وهذا كفر مجرد.

وقد شغب بعضهم بأن هذه الآية قرئت «ولقد علمت» بضم التاء.

قال أبو محمد : وكلا القراءتين حق من عند الله تعالى لا يجوز أن يرد منهما شيء.

فنعم موسى عليه‌السلام علم ذلك ، وفرعون علم ذلك فهذه نصوص القرآن وأمّا من طريق المعقول والمشاهدة والنظر فإنّا نقول لهم :

هل قامت حجة الله تعالى على الكفار كما قامت على المؤمنين بتبين براهينه عزوجل لهم ، أم لم تقم حجة الله تعالى عليهم قط إذ لم يتبين الحق قط لكافر؟

فإن قالوا : إن حجة الله تعالى لم تقم قط على كافر إذ لم يتبين الحق للكفار ، كفروا بلا خلاف من أحد وعذروا الكفار وخالفوا الإجماع. وإن أقروا أن حجة الله تعالى قد قامت على الكفّار بأن الحق تبين لهم صدقوا ورجعوا إلى الحقّ وإلى قول أهل الإسلام.

وبرهان آخر : أن كلّ أحد منا مذ عقلنا لم نزل نشاهد اليهود والنصارى فما سمعهم أحد إلا مقرين بالله تعالى وبنبوّة موسى عليه‌السلام وأن الله تعالى حرّم على اليهود العمل في السبت والشحوم.

٢٢٣

فمن الباطل أن يتواطئوا كلهم في شرق الأرض وغربها على إعلان ما يعتقدون خلافه بلا سبب داع إلى ذلك.

وبرهان آخر : وهو أننا قد شاهدنا من النصارى واليهود طوائف لا يحصى عددهم أسلموا وحسن إسلامهم ، وكلهم أولهم عن آخرهم يخبر من استخبره متى بقوا أنهم في إسلامهم يعرفون أن الله تعالى حق ، وأن نبوة موسى وهارون حق ، كما كانوا يعرفون ذلك في أيام كفرهم ولا فرق.

ومن أنكر هذا فقد كابر عقله وحسّه ولحق بمن لا يستحق أن يكلّم.

وبرهان آخر : وهو أنهم لا يختلفون في أن نقل التواتر يوجب العلم الضروري فوجب من هذين الحكمين أن اليهود والنّصارى الذين نقل إليهم ما أتى به عليه‌السلام من المعجزات نقل التواتر قد وقع لهم به العلم الضروري بصحة نبوته من أجلها وهذا لا محيد لهم عنه ـ وبالله تعالى التوفيق ـ.

وأما قولهم : إن شتم الله تعالى ليس كفرا وكذلك شتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فهو دعوى لأن الله تعالى قال : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) [سورة التوبة : ٧٤].

فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر.

وقال تعالى : (إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) [سورة النساء : ١٤٠].

فنصّ تعالى أن من الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع.

وقال تعالى : (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً) [سورة التوبة : ٦٥ ، ٦٦].

فنص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان ولم يقل تعالى في ذلك إني علمت أن في قلوبكم كفرا ، بل جعلهم كفارا بنفس الاستهزاء.

ومن ادّعى غير هذا فقد قول الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى.

وقال عزوجل : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) [سورة التوبة : ٣٧].

قال أبو محمد : وبحكم اللغة التي نزل بها القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون البتة إلا منه لا من غيره.

٢٢٤

فصح أن النسيء كفر وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرم الله تعالى.

فمن أحلّ ما حرّم الله تعالى وهو عالم بأن الله تعالى حرّمه فهو كافر بذلك الفعل نفسه.

وكل من حرّم ما أحل الله تعالى فقد أحل ما حرم الله عزوجل لأن الله تعالى حرّم على الناس أن يحرّموا ما أحل الله.

وأما خلال الإجماع فإن جميع أهل الإسلام لا يختلفون فيمن أعلن جحد الله تعالى أو جحد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه محكوم له بحكم الكفر قطعا ، إما القتل ، وإما أخذ الجزية ، وسائر أحكام الكفر ؛ وما شك قط أحد في هل هم في باطن أمرهم مؤمنون أم لا؟ ولا فكّروا في هذا لا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أحد من أصحابه ولا أحد ممن بعدهم.

وأما قولهم : إن الكفار إذا كانوا مصدّقين بالله تعالى وبنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقلوبهم والتصديق في اللغة التي بها نزل القرآن هو الإيمان ففيهم بلا شك إيمان ، فالواجب أن يكونوا بإيمانهم ذلك مؤمنين ، أو أن يكون فيهم إيمان ليسوا بكونه فيهم مؤمنين ولا بدّ من أحد الأمرين.

قال أبو محمد : وهذا تمويه فاسد لأن التسمية كما قدمنا لله تعالى لا لأحد دونه وقد أوضحنا البراهين على أن الله تعالى نقل اسم الإيمان في الشريعة عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وحرّم في الديانة إيقاع اسم الإيمان على التصديق المطلق ولو لا نقل الله تعالى للفظة الإيمان كما ذكرنا لوجب أن يسمى كل كافر على وجه الأرض مؤمنا ، وأن يخبر عنهم بأن فيهم إيمانا لأنهم مؤمنون ولا بدّ بأشياء كثيرة مما في العالم يصدقون بها. هذا لا ينكره ذو مسكة من عقل.

فلمّا صحّ إجماعنا وإجماعهم وإجماع كل من ينتمي إلى الإسلام على أنهم وإن صدقوا بأشياء كثيرة فإنه لا يحلّ لأحد أن يسميهم مؤمنين على الإطلاق ولا أن يقول إن لهم إيمانا مطلقا أصلا لم يجز لأحد أن يقول في الكافر المصدق بقلبه ولسانه بأن الله تعالى حقّ والمصدق بقلبه أن محمدا رسول الله أنه مؤمن ، ولا أن فيه إيمانا أصلا إلا حتى يأتي بما نقل الله تعالى إليه اسم الإيمان من التصديق بقلبه ولسانه وبأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأن كل ما جاء به حق وأنه بريء من كل دين غير دينه ثم يتمادى بإقراره على ما لا يتم إيمان إلّا بالإقرار به حتى يموت لكنا نقول : إن في الكافر تصديقا بالله تعالى هو به مصدّق بالله تعالى وليس بذلك مؤمنا ولا فيه إيمان كما أمرنا الله تعالى لا كما أمر جهم والأشعري.

٢٢٥

قال أبو محمد : فبطل هذا القول المتفق على تكفير قائله.

وقد نصّ على تكفيرهم أبو عبيد القاسم (١) في كتابه المعروف برسالة الإيمان وغيره ، ولنا كتاب كبير نقضنا فيه شبه أهل هذه المقالة الفاسدة كتبناه على رجل منهم يسمى عطاف بن دوناس ، من أهل قيروان إفريقية ـ وبالله تعالى التوفيق ـ.

قال أبو محمد : وأما من قال إن الإيمان إنما هو الإقرار باللسان فإنهم احتجوا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع أصحابه رضي الله عنهم وكل من بعدهم قد صحّ إجماعهم على أن من أعلن بلسانه بشهادة الإسلام فإنه عندهم مسلم محكوم له بحكم الإسلام وبقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السوداء : «أعتقها فإنها مؤمنة». (٢)

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمه أبي طالب : «قل كلمة أحاجّ لك بها عند الله عزوجل». (٣)

قال أبو محمد : وكل هذا لا حجة لهم فيه.

__________________

(١) هو الإمام أبو عبيد القاسم بن سلّام بن عبد الله. كان أبوه سلّام مملوكا لرجل هروي. ولد أبو عبيد سنة ١٥٧ ه‍. وله من المصنفات : كتاب الأموال ، وكتاب الغريب ، وكتاب فضائل القرآن ، وكتاب الطهور ، وكتاب الناسخ والمنسوخ ، وكتاب المواعظ ، وكتاب الغريب المصنف في علم اللسان ، وغير ذلك. توفي أبو عبيد سنة ٢٢٤ ه‍ بمكة. انظر ترجمته في طبقات ابن سعد (٧ / ٣٥٥) والتاريخ الكبير للبخاري (٧ / ١٧٢) والتاريخ الصغير (٢ / ٣٥٠) والمعارف لابن قتيبة (ص ٥٤٩) والجرح والتعديل (٧ / ١١١) وسير أعلام النبلاء (١٠ / ٤٩٠) وطبقات الزبيدي (ص ٢١٧ ، ٢٢١) والفهرست للنديم (ص ٧٨) ومراتب النحويين (ص ٩٣ ، ٩٤) ومعجم الأدباء (١٦ / ٢٥٤) وتهذيب الأسماء واللغات (٢ / ٢٥٧) ووفيات الأعيان (٤ / ٦٠) ودول الإسلام (١ / ١٣٦) وتذكرة الحفاظ (١ / ٤١٧) والنجوم الزاهرة (١ / ٢٤١) وغير ذلك كثير.

(٢) جزء من حديث طويل رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (حديث ٣٣) وأبو داود في الصلاة باب ١٦٧ ، والإيمان باب ١٦. والنسائي في السهو باب ٢٠. والدارمي في النذور باب ١٠. ومالك في العتق (حديث ٨ و ٩) وأحمد في المسند (٢ / ٢٩١ ، ٣ / ٤٥٢ ، ٤ / ٢٢٢ ، ٣٨٨ ، ٣٨٩ ، ٥ / ٤٤٧ ، ٤٤٨ ، ٤٤٩).

(٣) جزء من حديث رواه البخاري في مناقب الأنصار باب ٤٠ (حديث ٣٨٨٤) عن ابن المسيب عن أبيه : أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده أبو جهل ، فقال : «أي عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به : على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنه». فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) ونزلت : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ). ورواه أيضا في تفسير سورة ٩ باب ١٦ ، وسورة ٢٨ باب ١ ، وفي الأيمان باب ١٩. ورواه الإمام أحمد في المسند (٥ / ٤٣٣).

٢٢٦

أما الإجماع المذكور فصحيح وإنما حكمنا لهم بحكم الإيمان في الظاهر ولم نقطع على أنه عند الله تعالى مؤمن ، وهكذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بما أرسلت به ، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (١).

وقال عليه‌السلام : «من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه» (٢). وأما قوله عليه‌السلام في السوداء «إنها مؤمنة». (٣)

فظاهر الأمر كما قال عليه‌السلام إذ قال له خالد بن الوليد : «ربّ مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه» فقال عليه‌السلام : «إنّي لم أبعث لأشقّ عن قلوب الناس».

وأما قوله لعمّه : «أحاجّ لك بها عند الله».

فنعم يحاجّ بها على ظاهر الأمر وحسابه على الله تعالى فبطل كل ما موهوا به.

ثم نبيّن بطلان قولهم إن شاء الله تعالى ، فنقول وبالله تعالى نتأيد : إنه يبين بطلان قول هؤلاء قول الله عزوجل : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [سورة البقرة : ١٠٨].

__________________

(١) روي بأسانيد وطرق متعددة. فرواه البخاري في الإيمان باب ١٧ ، والاعتصام بالكتاب والسنة باب ٢٨. ومسلم في الإيمان (حديث ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٦). والترمذي في الإيمان باب ٢١ وتفسير سورة ٨٨ والنسائي في الجهاد باب ١ ، والتحريم باب ١. وابن ماجة في الفتن باب ١. وأحمد في المسند (١ / ١١ ، ١٩ ، ٣٦ ، ٤٨ ، ٢ / ٣١٤ ، ٣٧٧ ، ٤٢٣ ، ٤٣٩ ، ٤٧٥ ، ٤٨٢ ، ٥٠٢ ، ٥٢٨ ، ٣ / ٢٩٥ ، ٣٠٠ ، ٣٣٢ ، ٣٩٤ ، ٥ / ٢٤٦).

(٢) رواه البخاري في العلم باب ٣٣ (حديث ٩٩) عن أبي هريرة أنه قال : قيل : يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث ؛ أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ، أو نفسه» ورواه أيضا برقم (٦٥٧٠). ورواه مسلم في الصلاة (حديث ١٢) عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر ، فقال أحدكم : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، ثم قال : أشهد أن محمدا رسول الله قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، ثم قال : حيّ على الصلاة ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : حيّ على الفلاح ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : الله أكبر الله أكبر ، قال : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : لا إله إلا الله ، قال : لا إله إلا الله ؛ من قلبه ـ دخل الجنّة».

(٣) تقدم تخريجه في الحاشية (٢) من الصفحة السابقة.

٢٢٧

وقوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) [سورة المائدة : ٤١].

وقوله : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [سورة الحجرات : ١٤].

وقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [سورة الأنفال : ٢ ـ ٤].

قال أبو محمد : فإن قالوا إنما هذه الآية بمعنى أن هذه الأفعال تدل على أن في القلب إيمانا.

قلنا لهم : لو كان ما قلتم لوجب ولا بد أن يكون ترك من ترك شيئا من هذه الأفعال دليلا على أنه ليس في قلبه إيمان وأنتم لا تقولون هذا أصلا مع أن هذا صرف للآية عن وجهها وهذا لا يجوز إلا ببرهان. وقولهم هذا دعوى بلا برهان.

وقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [سورة الحجرات : ١٥].

وقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) [سورة الأنفال : ٧٢].

فأثبت عزوجل لهم الإيمان الذي هو التصديق ثم أسقط عنا ولايتهم إذا لم يهاجروا فأبطل بذلك إيمانهم المطلق ، ثم قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [سورة الأنفال : ٧٤].

فصح يقينا أن هذه الأعمال إيمان حق وعدمها ليس إيمانا وهذا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق.

وقال تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [سورة المنافقون : ١].

فنصّ عزوجل في هذه الآية على أنّ من آمن بلسانه ولم يعتقد الإيمان بقلبه فإنه كافر.

ثم أخبرنا تعالى المؤمنون من هم؟ وأنهم الذين آمنوا وأيقنوا بألسنتهم وقلوبهم معا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.

٢٢٨

وأخبر تعالى أن هؤلاء هم الصّادقون.

قال أبو حمد : ويلزمهم أن المنافقين مؤمنين لإقرارهم بالإيمان بألسنتهم وهذا قول مخرج عن الإسلام وقد قال تعالى : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [سورة النساء : ١٤٠].

وقال تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [سورة المنافقون : ١ ـ ٣].

فقطع الله تعالى عليهم بالكفر كما ترى لأنهم أبطنوا الكفر.

قال أبو محمد : وبرهان آخر وهو أن الإقرار باللسان دون عقد القلب لا حكم له عند الله عزوجل لأن أحدنا يلفظ بالكفر حاكيا وقارئا له في القرآن فلا يكون بذلك كافرا حتّى يقرّ أنه عقده.

قال أبو محمد : فإن احتج بهذا أهل المقالة الأولى وقالوا هذا يشهد بأن الإعلان بالكفر ليس كفرا.

قلنا له وبالله تعالى التوفيق : قد قلنا إنّ التسمية ليست لنا وإنما هي لله تعالى فلما أمرنا تعالى بتلاوة القرآن وقد حكى لنا فيه قول أهل الكفر وأخبرنا تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر خرج القارئ للقرآن بذلك عن الكفر إلى رضى الله عزوجل.

والإيمان بحكايته ما نصّ الله تعالى بأداء الشهادة بالحق فقال تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة الزخرف : ٨٦].

خرج الشاهد المخبر عن الكافر بكفره عن أن يكون بذلك كافرا إلى رضى الله عزوجل والإيمان ولما قال تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) [سورة النحل : ١٠٦].

خرج من ثبت إكراهه عن أن يكون بإظهار الكفر كافرا إلى رخصة الله تعالى والثبات على الإيمان وبقي من أظهر الكفر لا قارئا ولا شاهدا ولا حاكيا ولا مكرها على وجوب الكفر له بإجماع الأمة على الحكم له بحكم الكفر وبحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، وبنص القرآن على من قال كلمة الكفر أنه كافر وليس قول الله عزوجل : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) على ما ظنوه من اعتقاد الكفر فقط ، بل كلّ من نطق بالكلام الذي يحكم لقائله عند أهل الإسلام بحكم الكفر لا قارئا ولا شاهدا

٢٢٩

ولا حاكيا ولا مكرها فقد شرح بالكفر صدرا بمعنى أنه شرح صدره لقبول الكفر المحرم على أهل الإسلام وعلى أهل الكفر أن يقولوه وسواء اعتقدوه أو لم يعتقدوه ، لأن هذا العمل من إعلان الكفر على غير الوجوه المباحة في إيراده وهو شرح الصدر به فبطل تمويههم بهذه الآية وبالله تعالى التوفيق.

وبرهان آخر وهو قول الله عزوجل : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [سورة الحجرات : ١٥].

فنصّ الله تعالى على الإيمان أنه شيء قبل نفي الارتياب ، ونفي الارتياب لا يكون ضرورة إلا بالقلب وحده.

فصح أن الإيمان إذ هو قبل نفي الارتياب شيء آخر غير نفي الارتياب ، والذي قبل نفي الارتياب هو القول باللّسان ثم التصديق بالقلب والجهاد مع ذلك بالبدن والنفس والمال فلا يتم الإيمان بنص كلام الله ـ عزوجل ـ إلا بهذه الأقسام كلها.

فبطل بهذا النص قول من زعم أن الإيمان هو التصديق بالقلب وحده أو القول باللّسان وحده ، أو كلاهما فقط دون العمل بالبدن.

وبرهان آخر : وهو أن نقول لهم أخبرونا عن أهل النار المخلدين فيها الذين ماتوا على الكفر.

أهم حين كونهم في النار عارفون بقلوبهم صحة التوحيد والنبوة الذي بجحدهم لكل ذلك أدخلوا النار؟

وهل هم حينئذ مقرّون بذلك بألسنتهم أم لا؟

ولا بدّ من أحدهما! فإن قالوا هم عارفون بكل ذلك مقرّون به بألسنتهم وقلوبهم.

قلنا : إنهم مؤمنون أو غير مؤمنين؟

فإن قالوا : هم غير مؤمنين.

قلنا : قد تركتم قولكم إن الإيمان هو المعرفة بالقلب أو بالإقرار باللسان فقط أو كلاهما فقط.

فإن قالوا : هذا حكم الآخرة.

قلنا لهم : فإذ جوّزتم نقل الأسماء عن موضوعها في اللغة في الآخرة فمن أين منعتم من ذلك في الدنيا ولم تجوزوه لله عزوجل فيها؟

وليس في الحماقة أكثر من هذا.

٢٣٠

وإن قالوا : بل هم مؤمنون.

قلنا لهم : فالنار إذن أعدّت للمؤمنين لا للكافرين ، وهي دار المؤمنين ؛ وهذا خلاف القرآن والسنن وإجماع أهل الإسلام المتيقن.

وإن قالوا : بل هم غير عارفين بالتوحيد ولا بصحة النبوة في حال كونهم في النار. أكذبهم نصوص القرآن وكذّبوا ربهم عزوجل في إخباره أنهم عارفون بكل ذلك هاتفون به بألسنتهم راغبون في الرجعة والإقالة ، نادمون على ما سلف منهم ، وكذّبوا نصوص المعقول وجاهروا بالمحال إذ جعلوا من شاهد القيامة والحساب والجزاء غير عارف بصحة ذلك فصحّ بهذا أنه لا إيمان ولا كفر ولا شرك إلا ما سمّاه الله تعالى إيمانا وكفرا وشركا فقط ، ولا مؤمن ولا كافر ولا مشرك إلا من سمّاه الله تعالى بشيء من ذلك إمّا في القرآن وإمّا على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو محمد : وأما من قال إن الإيمان هو العقد بالقلب والإقرار باللّسان دون العمل بالجوارح فلا نكفر من قال بهذه المقالة وإن كانت خطأ وبدعة.

واحتجوا بأن قالوا : أخبرونا عمن قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله وبرئ من كل دين حاشا الإسلام وصدّق بكل ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعتقد ذلك بقلبه ومات إثر ذلك أمؤمن هو أم لا؟

فإنّ جوابنا أنه مؤمن بلا شك عند الله عزوجل وعندنا.

قالوا : فأخبرونا أناقص الإيمان هو أم كامل الإيمان ...؟

قالوا : فإن قلتم إنه كامل الإيمان فهذا قولنا.

وإن قلتم : إنه ناقص الإيمان سألناكم ما ذا نقصه من الإيمان؟ وما ذا معه من الإيمان؟

قال أبو محمد : فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أنه مؤمن ناقص الإيمان بالإضافة إلى من له إيمان زائد بأعمال لم يعملها هذا وكل واحد فهو ناقص الإيمان بالإضافة إلى من هو أفضل أعمالا منه حتى يبلغ الأمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي لا أحد أتم إيمانا منه بمعنى أحسن أعمالا منه.

وأما قولهم : ما الذي نقصه من الإيمان؟ فإنه نقصه الأعمال التي عملها غيره ، والتي ربنا عزوجل أعلم بمقاديرها.

قال أبو محمد : ومما يبين أن اسم الإيمان في الشريعة منقول عن موضوعه في

٢٣١

اللغة وأن الكفر أيضا كذلك ؛ فإن الكفر في اللّغة : التغطية. وسمّي الزرّاع كافرا لتغطيته الحب وسمي الليل كافرا لتغطيته كل شيء.

قال الله عزوجل : (فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) [سورة الفتح : ٢٩].

وقال تعالى : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) [سورة الحديد : ٢٠].

يعني الزراع.

وقال لبيد بن ربيعة : (١)

ألقت ذكاء يمينها في كافر (٢)

يعني الليل.

ثم نقل الله تعالى اسم الكفر في الشريعة إلى جحد الربوبية وجحد نبوة نبي من الأنبياء صحّت نبوته في القرآن. أو جحد شيء مما أتى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما صحّ عند جاحده بنقل الكافة. أو عمل شيء قام البرهان بأن العمل به كفر ، مما قد بيناه في كتاب الإيصال والحمد لله رب العالمين.

فلو أن إنسان قال : إن محمدا عليه الصلاة والسلام كافر وكل من تبعه كافر وسكت وهو يريد كافرون بالطّاغوت كما قال تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) [سورة البقرة : ٢٥٦].

لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر.

__________________

(١) لم أجد الشاهد التالي في ديوان لبيد ، ولم أجد من نسبه له. بل نسب لثعلبة بن صعير المازني.

وانظر الحاشية التالية. وذكر ابن السكيت أن البيت المذكور لثعلبة بن صغير سرق لبيد معناه فقال :

حتى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثّغور ظلامها

انظر لسان العرب (٥ / ١٤٧ ـ مادة كفر).

(٢) تمام البيت :

فتذكر ثقلا رثيدا بعد ما

ألقت ذكاء يمينها في كافر

وهو من الكامل ، ونسب لثعلبة بن صغير المازني في لسان العرب (١٣ / ١٧٢ ـ رثد) (٥ / ١٤٧ ـ كفر) (١١ / ٨٨ ـ ثقل) (١٣ / ٤٦١ ـ يمن) (١٤ / ٢٨٧ ـ ذكا) (١٥ / ٤٢٣ ـ يدي) وتهذيب اللغة (٩ / ٧٨ ، ١٠ / ١٩٧ ، ٣٣٨ ، ١٤ / ٨٩) وجمهرة اللغة (ص ٤١٩ ، ٧٨٧ ، ١٠٦٤ ، ١٣٢٢) والمخصص (٦ / ٧٨ ، ٩ / ١٩ ، ١٧ / ٧) وتاج العروس (٨ / ٨٧ ـ رثد) (١٤ / ٥٥ ـ كفر) (ثقل ـ يمن ، ذكا) وأساس البلاغة (ثقل). وبلا نسبة في كتاب العين» (٥ / ٤٠٠) ومقاييس اللغة (٢ / ٤٨٧ ، ٥ / ٤٠٠) ومقاييس اللغة (٢ / ٤٨٧ ، ٥ / ١٩١). وذكاء : اسم للشمس. وقد جاءت في الأصل المطبوع محرفة «زكاة». وألقت يمينها في كافر : أي بدأت في المغيب. انظر لسان العرب (٥ / ١٤٧ ـ كفر).

٢٣٢

وكذلك لو قال إن إبليس وفرعون وأبا جهل مؤمنون لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر وهو يريد مؤمنون بدين الكفر فصحّ عند كل ذي مسكة من تمييز أن اسم الإيمان والكفر منقولان في الشريعة عن موضوعهما في اللغة بيقين لا شك فيه ، وأنه لا يجوز إيقاع اسم الإيمان المطلق على معنى التصديق بأي شيء صدق به المرء.

ولا يجوز إيقاع اسم الكفر على معنى التغطية لأي شيء غطاه المرء لكن على ما أوقع الله تعالى عليه اسم الإيمان واسم الكفر ولا مزيد.

وثبت يقينا أن ما عدا هذا ضلال مخالف للقرآن وللسنن ولإجماع أهل الإسلام أوّلهم عن آخرهم وبالله تعالى التوفيق.

وبقي حكم التصديق على حالة في اللّغة لا يختلف في ذلك إنسي ولا جني ولا كافر ولا مؤمن فكلّ من صدق بشيء فهو مصدّق به.

فمن صدّق بالله تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يصدق بما لا يتم الإيمان إلا به فهو مصدق بالله تعالى أو برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس مؤمنا ولا مسلما لكنه كافر مشرك لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق والحمد لله رب العالمين.

٢٣٣

اعتراضات للمرجئة والطبقات الثلاث المذكورة

قال أبو محمد : إن قال قائل : أليس الكفر ضدّ الإيمان؟

قلنا وبالله تعالى التوفيق : إطلاق هذا القول خطأ لأن الإيمان اسم مشترك يقع على معان شتى كما ذكرنا.

فمن تلك المعاني شيء يكون الكفر ضدا له.

ومنها ما يكون الفسق ضدا له لا الكفر.

ومنها ما يكون الترك ضدا له لا الكفر ولا الفسق.

فأما الإيمان الذي يكون الكفر ضدا له فهو العقد بالقلب والإقرار باللسان فإن الكفر ضدّ لهذا الإيمان.

وأما الإيمان الذي يكون الفسق ضدا له لا الكفر فهو ما كان من الأعمال فرضا فإن تركه ضدّ للعمل وهو فسق لا كفر.

وأما الإيمان الذي يكون الترك له ضدا فهو كل ما كان من الأعمال تطوعا فإن تركه ضدّ العمل به وليس فسقا ولا كفرا.

برهان ذلك ما ذكرناه من ورود النصوص بتسمية الله عزوجل أعمال البر كلها إيمانا وتسميته تعالى ما سمي كفرا وما سمي فسقا وما سمي معصية وما سمي إباحة لا معصية ولا كفرا ولا إيمانا.

وقد قلنا إن التسمية لله عزوجل لا لأحد غيره.

فإن قال قائل منهم : أليس جحد الله عزوجل بالقلب فقط لا باللسان كفرا؟ فلا بدّ من نعم.

قال : فيجب على هذا أن يكون التصديق وحده إيمانا.

فجوابنا وبالله تعالى التوفيق : أنّ هذا كان يصح لكم لو كان التصديق بالقلب وحده ، أو باللسان وحده إيمانا ، وقد أوضحنا آنفا أنه ليس شيء من ذلك على انفراده إيمانا ، وأنه ليس الإيمان إلا ما سمّاه الله عزوجل إيمانا وليس الكفر إلا ما سمّاه الله عزوجل كفرا فقط.

٢٣٤

فإن قال قائل من أهل الطائفة الثالثة : أليس جحد الله تعالى بالقلب وباللسان هو الكفر كله؟ فكذلك يجب أن يكون الإقرار بالله تعالى باللسان والقلب هو الإيمان كله.

قلنا وبالله تعالى نتأيد : ليس شيء مما قلتم بل الجحد لشيء مما صحّ البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفر والنطق بشيء من كل ما قام البرهان أن النطق به كفر كفر ، والعمل بشيء مما قام البرهان بأنه كفر كفر ، فالكفر يزيد وكلما زاد فيه فهو كفر ، والكفر ينقص وكله مع ذلك ما بقي منه وما نقص فكله كفر ، وبعض الكفر أعظم وأشد وأشنع من بعض ، وكله كفر.

وقد أخبر الله تعالى عن بعض الكفر أنه (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) [سورة مريم : ٩٠] وقال عزوجل : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة النمل : ٩٠]. ثم قال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [سورة النساء : ١٤٥].

وقال تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [سورة غافر : ٤٦].

فأخبر تعالى أن قوما يضاعف لهم العذاب فإذ كل هذا قول الله عزوجل وقوله الحق فالجزاء على قدر الكفر بالنّص وبعض الجزاء أشدّ من بعض بالنصوص ضرورة.

والإيمان أيضا يتفاضل بنصوص صحاح وردت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجزاء عليه في الجنة يتفاضل بلا خلاف.

فإن قال [قائل] (١) من الطبقتين الأوليين : أليس من قولكم من عرف الله عزوجل والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقرّ بهما بقلبه فقط إلا أنه منكر بلسانه لكل ذلك أو لبعضه فإنه كافر؟

وكذلك من قولكم أن من أقر بالله عزوجل وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلسانه فقط إلا أنه منكر بقلبه لكل ذلك أو لبعضه فإنه كافر؟

قال أبو محمد : فجوابنا نعم هكذا نقول.

قالوا : فقد وجب من قولكم إذا كان بما ذكرنا كافرا أن يكون فعله ذلك كفرا ولا بدّ إذ لا يكون كافرا إلا بكفره فيجب على قولكم أن الإقرار بالله تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقلب كفر ولا بدّ ويكون الإقرار بالله تعالى أيضا وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باللسان أيضا كفر ولا بدّ.

__________________

(١) ما بين حاصرتين ساقط من المطبوع. وهي زيادة لا يستقيم السياق إلا بها.

٢٣٥

وأنتم تقولون إنهما إيمان ، فقد وجب على قولكم أن يكونا كفرا إيمانا معا وفاعلهما كافرا مؤمنا معا وهذا كما ترون (١).

قال أبو محمد : فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن هذا شغب ضعيف وإلزام كاذب مموه ، لأننا لم نقل قط إن من اعتقد وصدق بقلبه فقط بالله تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنكر بلسانه أو بعضه فإن اعتقاده لتصديق ذلك كفر ولا أنه كان بذلك كافرا ، وإننا قلنا إنه كفر بترك إقراره بذلك بلسانه فهذا هو الكفر وبه صار كافرا وبه أباح الله تعالى دمه ، أو أخذ الجزية منه بإجماعكم معنا ، وإجماع جميع أهل الإسلام. وكان تصديقه بقلبه فقط بكل ذلك لغوا محبطا كأنه لم يكن ليس إيمانا ولا كفرا ، ولا طاعة ولا معصية ؛ قال تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [سورة الزمر آية ٦٥].

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [سورة الحجرات : ٢].

وبالضرورة يدري كل مسلم أن من حبط عمله وبطل فقد سقط حكمه وتأثيره ، ولم يبق له رسم ، وكذلك لم نقل قط إنّ من أقر بلسانه وحده بالله تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجحد بقلبه أن إقراره بذلك بلسانه كفر ، ولا أنه كان به كافرا لكنه كان كافرا بجحده بقلبه لما جحد من ذلك ، وجحده لذلك هو الكفر ، وكان إقراره بكل ذلك بلسانه لغوا محبطا كما ذكرنا ، لا إيمانا ولا طاعة ولا معصية وبالله تعالى التوفيق ، فقطّ (٢) هذا الإبهام الفاسد.

فإن قال قائل منهم : أليس بعض الإيمان إيمانا ، وبعض الكفر كفرا ، وأراد أن يلزمنا من هذا أن العقد بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح إذا كان ذلك إيمانا فأبعاضه إذا انفردت إيمان. أو أن نقول إنّ أبعاض الإيمان ليست إيمانا فيموّه بهذا.

قال أبو محمد : فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أننا نقول ونصرّح أنه ليس بعض الإيمان إيمانا أصلا ، بل الإيمان متركب من أشياء إذا اجتمعت صارت إيمانا كالبلق ليس السواد وحده بلقا ، ولا البياض وحده بلقا ، فإذا اجتمعا صارا بلقا. وكالباب ليس الخشب وحده بابا ، ولا المسامير وحدها بابا ، فإذا اجتمعا على شكل سمي حينئذ بابا

__________________

(١) أي متناقض لا يستقيم.

(٢) قطّ : قطع.

٢٣٦

وكالصلاة فإن القيام وحده ليس صلاة ، ولا الركوع وحده صلاة ، ولا الجلوس وحده صلاة ، ولا القراءة وحدها صلاة ، ولا الذكر وحده صلاة ، ولا استقبال القبلة وحده صلاة أصلا ، فإن اجتمع كل ذلك سمي المجتمع حينئذ صلاة ، وكذلك الصيام المفترض والمندوب إليه ، ليس صياما كلّ ساعة من النهار على انفرادها صياما ، فإذا اجتمع صيامها كلها تسمّى صياما ، وقد يقع في اليوم الأكل والجماع والشراب سهوا فلا يمنع ذلك من أن يكون صيامه صحيحا ، والتسمية لله عزوجل كما قدمنا ، لا لأحد دونه بل من الإيمان شيء إذا انفرد كان كفرا ، كمن قال مصدقا بقلبه : لا إله إلا الله محمد رسول الله فهذا إيمان فلو أفرد لا إله وسكت سكوت قطع كان كفرا بلا خلاف من أحد ، ثم نسألهم فنقول لهم : فإذا انفرد صيامه أو صلاته دون إيمان أهي طاعة؟

فمن قولهم لا ، فقد صاروا فيما أرادوا أن يموهوا به علينا من أنّ أبعاض الطاعات إذا انفردت لم تكن طاعة بل كانت معصية ، وإذا اجتمعت كانت طاعة.

قال أبو محمد : فإن قالوا : إذا كان النطق باللسان عندكم إيمانا فيجب إذا عدم المنطق بأن يسكت الإنسان بعد إقراره أن يكون سكوته كفرا ، فيكون بسكوته كافرا.

قلنا : إن هذا يلزمنا عندكم فما تقولون إن سألكم أصحاب محمد بن كرّام فقالوا لكم : إذا كان الاعتقاد بالقلب هو الإيمان عندكم فيجب إذا سها عن الاعتقاد وإحضاره ذكره إما في حالة حديثه مع من يتحدث أو في حال فكره أو نومه أن يكون كافرا ، وأن يكون ذلك السهو كفرا ، فجوابهم أنه محمول على ما صحّ منه من الإقرار باللسان.

قال أبو محمد : ونقول للجهمية والأشعرية في قولهم : إن جحد الله تعالى وشتمه وجحد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان كل ذلك باللسان فإنه ليس كفرا لكنه دليل على أنه في القلب كفرا. أخبرونا عن هذا الدليل الذي ذكرتم أتقطعون به وتثبتونه يقينا ولا تشكون في أن في قلبه جحدا للربوبية وللنبوة أم هو دليل مدخول ويدخله الشك ، ويمكن ألا يكون في قلبه كفر؟

ولا بدّ من أحدهما.

فإن قالوا : إنه دليل لا نقطع به قطعا ، ولا نثبته يقينا.

قلنا لهم : فما بالكم تحتجون بالظن ، الذي قال تعالى فيه : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [سورة النجم آية رقم ٢٨].

وأعجب من هذا أنكم تشنعون على خصومكم في هذا المكان بما ينعكس عليكم إذ تقولون : إنكم إنما قلتم إن إعلان الكفر دليل على أن في القلب كفرا ، لأن

٢٣٧

الله تعالى سماهم كفارا ، فلم يمكنا ردّ شهادة الله تعالى ، فعاد هذا البلاء عليكم لأنكم قطعتم أنها شهادة الله عزوجل ، ثم لم تصدقوا شهادته ولا قطعتم بها بل شككتم فيها. وهذا تكذيب لله لا خفاء فيه. وأما نحن فمعاذ الله من أن نقول أو نعتقد أن الله تعالى شهد بهذا قط بل من ادّعى أن الله شهد بأن من أعلن الكفر فإنه جاحد بقلبه ، فقد كذب على الله عزوجل ، وافترى عليه ، بل هذه شهادة الشيطان التي أضلّ بها أولياءه ، وما شهد الله تعالى إلّا بضد هذا ، وبأنهم يعرفون الحق ويكتمونه ، ويعرفون أن الله تعالى حق ، وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق ، ويظهرون بألسنتهم خلاف ذلك ، وما سماهم الله عزوجل قط كفارا إلّا بما ظهر منهم بألسنتهم وأفعالهم كما فعل إبليس وأهل الكتاب وغيرهم.

وإن قالوا : بل نثبت بهذا الدليل ونقطع به ، ونوقن أن كل من أعلن بما يوجب إطلاق اسم الكفر عليه في الشريعة فإنه جاحد بقلبه.

قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق : هذا باطل من وجوه.

أولها : أنه دعوى بلا برهان.

وثانيها : أنه علم غيب لا يعلمه إلا الله عزوجل والذي يضمره. وقد قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّي لم أبعث لأشق عن قلوب الناس».

فمدّعي هذا مدّع علم غيب ، ومدّعي علم الغيب كاذب.

وثالثها : أن القرآن والسنن كما ذكرنا ، قد جاءت النصوص فيهما بخلاف هذا كما تلونا قبل.

ورابعها : إن كان الأمر كما تقولون فمن أين اقتصرتم بالإيمان على عقد القلب فقط ، ولم تراعوا إقرار اللسان ..؟ وكلاهما عندكم مرتبط بالآخر لا يمكن انفرادهما وهذا يبطل قولكم أنه إذا اعتقد الإيمان بقلبه لم يكن كافرا بإعلانه الكفر فجوزتم أن يعلن الكفر من يبطن الإيمان فظهر تناقض مذهبهم وعظيم فساده.

وخامسها : أنه كان يلزمهم إذا كان إعلان الكفر باللسان دليلا على الجحد بالقلب ، والكفر به ولا بد ، فإن إعلان الإيمان باللسان يجب أيضا أن يكون دليلا قاطعا باتا ولا بد على أن في القلب إيمانا وتصديقا لا شك فيه لأن الله تعالى سمى هؤلاء مؤمنين كما سمى أولئك كفارا ، ولا فرق بين الشهادتين.

فإن قالوا : إن الله تعالى قد أخبر عن المنافقين المعلنين بالإيمان المبطنين للكفر

٢٣٨

والجحد. قيل لهم : وكذلك أعلمنا الله تعالى وأخبرنا أن إبليس وأهل الكتاب والكفار بالنبوة أنهم يعلنون الكفر ويبطنون التصديق ويؤمنون بأن الله تعالى حق وأن رسوله حق ، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ولا فرق ، وكل ما موهتم به من الباطل والكذب في هؤلاء أمكن الكرامية مثل سواء بسواء في المنافقين وقالوا لم يكفروا قط بإبطانهم الكفر لكن مما سماهم الله بأنهم آمنوا ثم كفروا علمنا بأنهم نطقوا بعد ذلك بالكفر ولا بد بشهادة الله تعالى بذلك كما ادعيتم أنتم شهادته تعالى على ما في نفوس الكفار ولا فرق.

قال أبو محمد رضي الله عنه : وكلتا الشهادتين من هاتين الطائفتين كذب على الله عزوجل ، وما شهد الله عزوجل قط على إبليس وأولي الكتاب بالكفر إلا بما أعلنوه من الاستخفاف بالنبوة ، وبآدم وبالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط ، ولا شهد تعالى قط على المنافقين بالكفر إلا بما أبطنوه من الكفر فقط ، وأما هنا فتحريف للكلم عن مواضعه ، وإفك مفترى ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد رضي الله عنه : ونظروا قولهم : قالوا : مثل هذا أن يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يدخل هذه الدار اليوم إلا كافر ، أو يقول : كل من دخل هذه الدار اليوم فهو كافر ، قالوا : فدخول تلك الدار دليل على أنه يعتقد الكفر ، لا أن دخول الدار كفر.

قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا كذب وتمويه ضعيف بأن دخول تلك الدار في ذلك اليوم كفر محض مجرد وقد يمكن أن يكون الداخل فيها مصدقا بالله تعالى وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن تصديقه ذلك قد حبط بدخوله الدار ، برهان ذلك أنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن دخول تلك الدار في ذلك اليوم لا يحل البتة لعائشة ، ولا لأبي بكر ، ولا لعلي ، ولا لأحد من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا لأحد من أصحابه رضي الله عنهم كما أن الله تعالى قد نص على أنه علم ما في قلوبهم ، وأنزل السكينة عليهم ، وإذ ذلك كذلك فقد وجب ضرورة أن هؤلاء رضي الله عنهم لو دخلوا تلك الدار لكانوا كفارا بلا شك بنفس دخولهم فيها ، ولحبط إيمانهم ، فإن قالوا لو دخلها هؤلاء لم يكفروا وكانوا هم قد كفروا لأنهم بهذا القول قاطعون بأن كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذب في قوله : لا يدخلها إلا كافر ، واحتج بعضهم في هذا المكان بقول الأخطل النصراني لعنه الله إذ يقول :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

قال أبو محمد رضي الله عنه : فجوابنا على هذا الاحتجاج أن نقول : ملعون ملعون قائل هذا البيت ، وملعون ملعون من جعل قول هذا النصراني حجة في دين الله

٢٣٩

عزوجل ، وليس هذا من باب اللغة التي يحتج فيها بالعربي ، وإن كان كافرا ، وإنما هي قضية عقلية فالعقل والحس يكذبان هذا البيت ، وقضية شرعية فالله عزوجل أصدق من النصراني اللعين إذ يقول عزوجل : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [سورة آل عمران آية ١٦٧].

فقد أخبر عزوجل بأن من الناس من يقول بلسانه ما ليس في فؤاده بخلاف قول الأخطل لعنه الله إن الكلام لفي الفؤاد واللسان دليل على الفؤاد ، فأما نحن فنصدق الله عزوجل ونكذب الأخطل ، ولعن الله من يجعل الأخطل حجة في دينه ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فإن قالوا : إن الله عزوجل قال : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [سورة محمد آية ٣٠]. قلنا : لو لا أن الله عزوجل عرفه بهم ودله عليهم بلحن القول ما كان لحن قولهم دليلا عليهم ولم يطلق الله تعالى هذا على كل أحد بل على أولئك خاصة ، بل قد نص تعالى على آخرين بخلاف ذلك إذ يقول : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [سورة التوبة آية ١٠١].

فهؤلاء من أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق لم يعلمهم قط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلحن قولهم ، ولو أن الناس لم يضربوا قط كلام ربهم تعالى بعضه ببعض وأخذوه كله على مقتضاه لاهتدوا لكن من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.

وقد قال عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) [سورة محمد آية رقم ٢٥ إلى ٢٨].

فجعلهم تعالى مرتدّين كفارا بعد علمهم الحق ، وبعد أن تبين لهم الهدى بقوله للكفار ما قالوا فقط ، وأخبرنا تعالى أنه يعرف إسرارهم ، ولم يقل تعالى إنها جحد أو تصديق ، بل قد صح أن في سرهم التصديق ، لأن الهدى قد تبين لهم ، ومن تبين له شيء فلا يمكن البتة أن يجحده بقلبه أصلا ، وأخبرنا تعالى أنه قد أحبط أعمالهم باتباعهم ما أسخطه وكراهيتهم رضوانه ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [سورة الحجرات آية رقم ٢].

٢٤٠