الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ٢

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الكلام في الوجه ، واليد ، والعين ، والقدم ، والتنزل ،

والعزّة ، والرحمة ، والأمر ، والنفس ،

والذات ، والقوة ، والقدرة ، والأصابع

بسم الله الرّحمن الرّحيم قال أبو محمد : قال الله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [سورة الرحمن : ٢٧] فذهبت المجسمة إلى الاحتجاج بهذا في مذهبهم.

وقال الآخرون : وجه الله تعالى إنما يراد به : الله عزوجل.

قال أبو محمد : وهذا هو الحق الذي قام البرهان بصحته ، لما أبطلنا من القول بالتجسيم.

وقال أبو الهذيل : وجه الله هو الله.

قال أبو محمد : وهذا لا ينبغي أن يطلق ، لأنه تسمية ، وتسمية الله تعالى لا تجوز إلّا بنص ، ولكنا نقول : وجه الله ليس هو غير الله تعالى ، ولا نرجع منه إلى شيء سوى الله تعالى. برهان ذلك قول الله حاكيا عن من رضي قوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [سورة الإنسان : ٩].

فصح يقينا : أنهم لم يقصدوا غير الله تعالى به.

وقوله عزوجل : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [سورة البقرة : ١١٥].

إنما معناه : فثمّ الله تعالى بعلمه ، وقبوله لمن توجّه إليه.

وقال تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [سورة الفتح : ١٠].

وقال تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [سورة ص : ٧٥].

وقال تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [سورة يس : ٧١].

وقال : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [سورة المائدة : ٦٤].

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المقسطون عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين» (١).

__________________

(١) انظر تخريجه في الحاشية (١) الصفحة التالية.

٣

فذهبت المجسمة إلى ما ذكرنا مما قد سلف من بطلان قولهم فيه.

وذهبت المعتزلة : إلى أن «اليد» : النعمة. وهذا أيضا لا معنى له ، لأنها دعوى بلا برهان.

وقال الأشعري : إنّ المراد بقول الله تعالى : «أيدينا» إنما معناه «اليدان» وأن ذكر «الأعين» ، إنما معناه «عينان». وهذا باطل مدخل في قول المجسمة. بل نقول :

إنّ هذا إخبار عن الله عزوجل ، لا يرجع من ذكر اليد إلى شيء سواه تعالى. ونقرّ أن لله تعالى ـ كما قال ـ يدا ، ويدين ، وأيد ، وعينا ، وأعينا كما قال عزوجل : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [سورة طه : ٣٩].

وقال تعالى : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [سورة الطور : ٤٨].

ولا يجوز لأحد أن يصف الله تعالى بأنّ له عينين لأن النصّ لم يأت بذلك ونقول : إنّ المراد بما ذكرنا الله عزوجل لا شيء غيره.

وقال تعالى حاكيا عن قول قائل : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [سورة الزمر : ٥٦].

وهذا معناه فيما يقصد به الله عزوجل وفي جانب عبادته. وصحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكلتا يديه يمين» (١) و «عن يمين الرحمن» (٢).

فهو مثل قوله : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [سورة النساء : ٣٩]. يريد «وما ملكتم».

ولما كانت اليمين في لغة العرب : يراد بها الحظ للأفضل كما قال الشّماخ :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين (٣)

يريد أنه يتلقاها بالسعي الأعلى ، كان قوله : «وكلتا يديه يمين» أي كل ما يكون منه تعالى من الفضل فهو الأعلى.

وكذلك صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ جهنم لا تمتلئ حتى يضع فيها قدمه» (٤)

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإمارة (حديث ١٨) عن عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفظ : «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عزوجل ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا».

(٢) تقدم تخريجه في الحاشية السابقة.

(٣) البيت في ديوان الشماخ (ص ٣٣٦) ولسان العرب (١ / ٥٩٣ ـ مادة عرب) و (١٣ / ٤٦١ ـ مادة يمن) وتهذيب اللغة (٨ / ٦٢١ ، ١٥ / ٥٢٣) وجمهرة اللغة (ص ٣١٩ و ٩٩٤) وتاج العروس (٣ / ٣٥٢ ـ مادة عرب) ومقاييس اللغة (٦ / ١٥٨).

(٤) جزء من حديث روي مطولا ومختصرا. رواه البخاري في تفسير سورة ٥٠ باب ١ ، والأيمان

٤

وصح أيضا في الحديث : «حتى يضع فيها رجله».

ومعنى هذا ما قد بينه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث آخر صحيح أخبر فيه أن الله تعالى بعد يوم القيامة يخلق خلقا يدخلهم الجنة ، وأنه تعالى يقول للجنّة والنار : لكل واحدة منكما ملؤها (١).

فمعنى القدم في الحديث المذكور : إنما هو كما قال تعالى : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [سورة يونس : ٢].

يريد سالف صدق ، فمعناه الأمة التي تقدم في علمه تعالى أنه يملأ بها جهنم ، ومعنى «رجله» مثل ذلك ، لأن «الرجل» : الجماعة في اللغة أي يضع فيها الجماعة التي سبق في علمه أنه يملأ جهنم بها.

وكذلك الحديث الصحيح أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله تعالى» (٢).

أي بين تدبيرين ونعمتين من تدبير الله عزوجل ونعمه ، إمّا كفاية تسرّه ، وإمّا بلاء يأجره عليه. والإصبع في اللغة : النعمة. وقلب كل أحد بين توفيق الله وجلاله ، وكلاهما حكمة. وأخبر عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى يبدو للمؤمنين يوم القيامة في غير الصورة التي عرفوه عليها» (٣).

__________________

باب ١٢ ، والتوحيد باب ٧ ، ٢٥. ومسلم في صفة الجنة حديث ٣٥ و ٣٧ و ٣٨. والترمذي في صفة الجنة باب ٢٠ ، وتفسير سورة ٥٠. وأحمد في المسند (٢ / ٣٦٩ ، ٥٠٧ ، ٣ / ١٣). ولفظه مختصرا كما في صحيح البخاري (كتاب تفسير القرآن ، سورة ق ، باب ١ ، حديث ٤٨٤٨) عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يلقى في النار وتقول : هل من مزيد؟ حتى يضع قدمه فتقول : قط قط». وعن أبي هريرة (حديث رقم ٤٨٤٩) : «يقال لجهنم : هل امتلأت؟ وتقول : هل من مزيد؟ فيضع الربّ تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط».

(١) رواه البخاري في تفسير سورة ق (حديث رقم ٤٨٥٠) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحاجّت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين. وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار : إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي. ولكل واحد منهما ملؤها ، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول : قط قط! فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله عزوجل من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله عزوجل ينشئ لها خلقا».

(٢) تقدم تخريجه في الجزء الأول. راجع الفهارس العامة.

(٣) جزء من حديث طويل رواه البخاري في صحيحه (كتاب الرقاق ، باب ٥٢ ، حديث رقم ٦٥٧٣) عن أبي هريرة.

٥

وهذا ظاهر بيّن ، وهو أنّهم يرون صورة الحال من الهول والمخافة غير الذي كانوا يظنون في الدنيا.

وبرهان صحة هذا القول : قوله عليه‌السلام في الحديث المذكور : «غير الذي عرفتموه بها». وبالضرورة نعلم أننا لا نعلم لله عزوجل في الدنيا صورة أصلا فصحّ ما ذكرنا يقينا. وكذلك القول في الحديث الثابت : «خلق الله آدم على صورته» (١) فهذه إضافة ملك ، يريد الصورة التي تخيرها الله عزوجل ليكون آدم مصورا عليها. وكلّ فاضل في طبقته ، فإنه ينسب إلى الله عزوجل ، ويضاف إليه ، كما نقول بيت الله عزوجل عن الكعبة ، والبيوت كلها بيوت الله ولكن لا يطلق على شيء منها هذا الاسم ، كما يطلق على المسجد الحرام ، وكما نقول في جبريل وعيسى عليهما‌السلام «روح الله» والأرواح كلها لله تعالى ، ملك له ، وكما نقول في ناقة صالح عليه‌السلام : «ناقة الله». والنوق كلّها لله تعالى. فعلى هذا المعنى قيل : على صوة الرحمن. والصور كلها لله ، وهي ملك له ، وخلق له. وقد رأيت لابن فورك ، وغيره من الأشعرية في الكلام في هذا الحديث أنهم قالوا في معنى قوله عليه‌السلام : «إنّ الله خلق آدم على صورته» إنما هو على صفة الرحمن من الحياة والعلم والاقتدار واجتماع صفات الكمال فيه ، وأسجد له ملائكته كما أسجدهم لنفسه ، وجعل له الأمر والنهي على ذرّيته كما كان لله ذلك.

قال أبو محمد : هذا نص كلام أبي جعفر السمناني قاضي الموصل الضرير عن شيوخه حرفا حرفا ، وهذا كفر مجرد لا مرية فيه ، لأنّه سوّى بين الله عزوجل وبين آدم في الحياة ، والعلم ، والاقتدار ، واجتماع صفات الكمال فيهما والله يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١]. ثم لم يقنعوا بهذا حتى جعلوا سجود الملائكة لآدم كسجودهم لله تعالى. ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام ، في أنّ سجودهم لله تعالى سجود عبادة ، ولآدم سجود تحية وإكرام.

ومن قال : إن الملائكة عبدت آدم كما عبدت الله عزوجل فقد أشرك ، ثم زاد في الأمر والنهي لآدم على ذريته كما هو لله عزوجل ، وهذا شرك لا خفاء به. ولو أردنا أن نعرف ما هي صفات الكمال التي ذكر هذا الإنسان أنها اجتمعت في آدم

__________________

(١) رواه من حديث أبي هريرة : البخاري في الاستئذان باب ١ ، ومسلم في البر والصلة والآداب (حديث ١١٥) والجنة وصفة نعيمها وأهلها (حديث ٢٨) ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٤٤ ، ٢٥١ ، ٣١٥ ، ٣٢٣ ، ٤٣٤ ، ٤٦٣ ، ٥١٩).

٦

كما اجتمعت في الله عزوجل؟ إن هذا الإلحاد والاستخفاف بالله تعالى ، لا ندري كيف تكلم ، وأنطق لسانه من يعرف أن الله تعالى لم يكن له كفوا أحد ..؟ وو الله إن صفات الكمال في الملائكة لأكثر منها في آدم ، وإنّ صفات الاثنين التي شاركوا فيها آدم عليه‌السلام كصفات الجن ، ولا فرق بين الحياة والعلم والقوّة والتناسل ، وغير ذلك ، فالكل على هذا على صورة الله تعالى.

هذا القول الملعون قائله. ونعوذ بالله من الضلال ، وكذلك ما صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يوم القيامة : «إنّ الله عزوجل يكشف عن ساق ، فيخرون سجّدا» (١).

فهو كما قال عزوجل : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) [سورة القلم : ٤٢].

وإنما هذا إخبار عن شدة الأمر ، وهول الموقف ، كما يقال : «قد شمّرت الحرب عن ساقها».

قال جرير :

ألا ربّ سامي الطّرف من آل مازن

إذا شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا

والعجب ممن ينكر هذه الأخبار الصحاح ، وإنما جاءت بما جاء به القرآن نصّا ، ولكن من ضاق علمه أنكر ما لا علم له به ، وقد عاب الله هذا فقال :

(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) [سورة يونس : ٣٩].

واختلف الناس في الأمر ، والرّحمة ، والعزّة.

فقال قوم : هي صفات ذات لم تزل.

وقال آخرون : لم يزل الله تعالى : هو الله العزيز ، الحكيم ، بذاته. وأمّا الرّحمة ، والأمر : فمخلوقان.

قال أبو محمد : والرجوع عند الاختلاف إنما هو إلى القرآن ، وكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [سورة النساء : ٥٩].

ففعلنا فوجدنا الله تعالى يقول : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [سورة النساء : ٤٧].

__________________

(١) جزء من حديث طويل رواه البخاري في التوحيد باب ٢٤ ، وتفسير سورة ٦٨ باب ٢. ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢ ، والدارمي في الرقاق باب ٨٣. وأحمد في المسند (٣ / ١٧).

٧

والمفعول مخلوق بلا شك.

وقال الله عزوجل : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) [سورة يوسف : ٢١].

وبلا شك في أن المغلوب عليه مخلوق ، وأنه غير الغالب عليه.

وقال تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [سورة الطلاق : ١].

وهذا بيان جلي ، لا إشكال فيه على أنّ الأمر محدث.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله يحدث من أمره ما يشاء» (١).

فصح بيقين أن أمر الله تعالى محدث مخلوق.

فقالت الأشعرية : لم يزل الله تعالى آمرا لكل من أمره بما يأمره به إذا وجد.

قال أبو محمد : وهذا باطل متيقن ، لأنه لو كان ذلك كذلك لكان الله عزوجل لم يزل آمرا لنا بالصلاة إلى بيت المقدس ، لم يزل آمرا لنا لألّا نصلي إلى بيت المقدس لكن إلى الكعبة ، فيكون آمرا بالفعل للشيء والترك له معا. وهذا تخليط جلّ عنه الله.

وأيضا : فإنه يلزمهم في نهي الله تعالى عما نهى عنه : أنّه لم يزل ، لأنه لا فرق بين أمره تعالى وبين نهيه.

فإن قالوا : بل نهيه محدث ، وأمره قديم.

قلنا لهم : ما قولكم فيما انعكس عليكم فقال : بل نهيه لم يزل ، وأما أمره فمحدث.

وكلا القولين تخليط.

وأيضا : فإنهم مقرّون بأن القديم لا يتغير ولا يبطل ، وقد صحّ أمره لنا بالصلاة إلى بيت المقدس ، ثم قد بطل الأمر بذلك ، وعدم وانقطع ، فلو كان أمره تعالى لم يزل لوجب ألا يبطل ولا يعدم ، وهذا كفر مجرد ممن أجازه.

وإن قالوا : إنّ أمره تعالى لنا بالصلاة إلى بيت المقدس باق أبدا لم يسقط ولا نسخ ، ولا بطل ، ولا أحاله بأمر آخر ـ كفروا بلا خلاف.

والذي يدخل على هذا القول الفاسد أكثر من هذا ، قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [سورة الإسراء : ٨٥].

__________________

(١) رواه من حديث ابن مسعود : البخاري في التوحيد باب ٤٢. وأبو داود في الصلاة باب ١٦٦. والنسائي في السهو باب ٢٠ ، والكسوف باب ١٦. وأحمد في المسند (١ / ٣٧٧ ، ٤٠٩ ، ٤١٥ ، ٤٣٥ ، ٤٦٣).

٨

فلو كان الأمر غير مخلوق ولم يزل لكان الروح كذلك لأنه منه ، ومعاذ الله من هذا ، ولا خلاف بين المسلمين في أنّ أرواحهم مخلوقة ، وكيف لا يكون كذلك وهي معذّبة في النار ، أو منعمة في الجنة؟ وقال تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [سورة النبأ : ٣٨].

وصحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبّوح ، قدّوس ، ربّ الملائكة والرّوح» (١).

قال أبو محمد : والمربوب مخلوق بلا شك ، فإن اعترض معترض بقول الله عزوجل : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤].

ورام بهذا إثبات أن الخلق غير الأمر ، فلا حجة له في هذا لأن الله عزوجل قال : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [سورة الانفطار : ٦ ـ ٨].

فقد فرّق الله تعالى في هذه الآية بين الخلق والتسوية والتعديل والتصوير ولا خلاف في أنّ كلّ ذلك خلق الله عزوجل ، مخلوق.

وقال تعالى : (خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [سورة الروم : ٤٠].

فعطف تعالى الرزق ، والإماتة ، والإحياء على الخلق بلفظة «ثم». فلو كان عطف الأمر على الخلق دليلا على أنّ الأمر غير الخلق لوجب ولا بدّ أن يكون الرزق ، والإماتة ، والإحياء ، والتصوير ، كلها غير الخلق ، وغير مخلوقات ، وهذا لا يقوله مسلم ، فبطل استدلالهم على أنّ الأمر غير مخلوق لعطفه على الخلق. وقد عطف تعالى جبريل على الملائكة ، فليس العطف على الشيء مخرجا له عنه إذا قام برهان على أنه داخل فيه. وقد قام برهان النصّ بأنّ أمر الله تعالى مخلوق ، وأنه قدر مقدور ، مفعول.

وأما إذ لم يأت برهان يدخل المعطوف في المعطوف عليه فهو غيره بلا شك هذا حكم اللغة وبالله تعالى التوفيق.

وأمّا العزّة فقد قال الله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [سورة الصافات : ١٨٠].

قال أبو محمد : والمربوب مخلوق بلا شك ، وليس قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ

__________________

(١) رواه من حديث عائشة : مسلم في الصلاة (حديث ٢٢٣). وأبو داود في الصلاة باب ١٤٧. والنسائي في التطبيق باب ١١ و ٧٥. وأحمد في المسند (٦ / ٣٥ ، ٩٤ ، ١١٥ ، ١٤٨ ، ١٤٩ ، ١٧٦ ، ١٩٣ ، ٢٠٠ ، ٢٤٤ ، ٢٦٦).

٩

جَمِيعاً) [سورة فاطر : ١٠] بموجب أنّ العزّة لم تزل ، لأنه تعالى قال : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) [سورة الرعد : ٤٢].

وقال تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) [سورة الزمر : ٤٤].

وليس هذان النصّان بلا خلاف موجبين أنّ الشفاعة غير مخلوقة ، إلّا أن هاهنا عزّة ليس غير الله تعالى ، فهي غير مخلوقة ، وهي التي صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّ جبريل عليه‌السلام حلف بها فقال : «وعزتك» في حديث خلق الجنة والنّار. (١)

قال أبو محمد : ومن الباطل أن يحلف جبريل بغير الله عزوجل.

وأمّا الرحمة : فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله خلق مائة رحمة ، فقسم في عباده رحمة واحدة فبها يتراحمون ، ورفع التسع والتسعين ليوم القيامة يرحم بها عباده» (٢) أو كما قال عليه‌السلام.

وهذا رفع للإشكال جملة في أنّ الرحمة مخلوقة ، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن إدخال الله تعالى الجنة من أدخله فيها برحمته ، وأن بعثه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة لمن آمن به ، وكل ذلك مخلوق بلا شك.

وأما القدرة ، والقوة. فقد قال عزوجل : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [سورة فصلت : ١٥].

وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمذاني ، حدثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ، حدثنا الفربري ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا معن بن عيسى ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموال : سمعت محمد بن المنكدر ، يحدث عبد الله بن الحسن ، قال : أخبرني جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أصحابه الاستخارة ، فذكر الحديث وفيه : «اللهم إنّي أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك» (٣).

__________________

(١) رواه من حديث أبي هريرة : أبو داود في السنّة باب ٢٢. والترمذي في صفة الجنة باب ٢١. والنسائي في الإيمان باب ٣. وأحمد في المسند (٢ / ٣٣٣ ، ٣٥٤ ، ٣٧٣).

(٢) روي عن عدة طرق. فرواه البخاري في الأدب باب ١٩. ومسلم في التوبة حديث ١٧ و ٢٠. والترمذي في الدعوات باب ٩٩. وابن ماجة في الزهد باب ٣٥. والدارمي في الرقاق باب ٦٩. وأحمد في المسند (٢ / ٣٣٤ ، ٤٣٤ ، ٤٨٤ ، ٥٣٦ ، ٣ / ٥٥ ، ٥٦ ، ٥ / ٤٣٩).

(٣) رواه البخاري في التهجد باب ٢٥ ، والدعوات باب ٤٩ ، والتوحيد باب ١٠. والترمذي في الوتر باب ١٨. وابن ماجة في الإقامة باب ١٨٨. وأحمد في المسند (٣ / ٣٤٤).

١٠

قال أبو محمد : والقول في القدرة ، والقوّة ، كالقول في العلم سواء بسواء في اختلاف الناس على تلك الأقوال وتلك الحجج ولا فرق ، وقولنا في هذا هو ما قلناه هنالك من أنّ القدرة والقوّة حق لله تعالى ، وليستا غير الله تعالى ، ولا يقال هما الله تعالى. وقال تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [سورة الأنعام : ١٢] وقال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [سورة آل عمران : ٢٨].

فنفس الله تعالى إخباره عنه لا عن شيء غيره أصلا ، فإن ذكر ذاكر قول الله عزوجل ، حكاية عن عيسى عليه‌السلام أنه يقول لربه تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [سورة المائدة : ١١٦]. إنما معناه بلا شك : ولا أعلم ما عندك ، وما في علمك. وصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه أخبر «إن الله تعالى يتنزل في كل ليلة إذا بقي ثلث الليل إلى السماء الدنيا» (١).

قال أبو محمد : وهذا إنما هو فعل يفعله الله عزوجل في سماء الدنيا من الفتح لقبول الدعاء ، وأنّ تلك الساعة من مظانّ القبول والإجابة ، والمغفرة للمستغفرين ، والتائبين ، وهذا معهود في اللغة ، تقول : نزل فلان عن حقه بمعنى وهبه لي وتطول به علي. ومن البرهان على أنه صفة فعل لا صفة ذات أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علّق التنزل المذكور بوقت محدود فصحّ أنه فعل محدث في ذلك الوقت ، مفعول حينئذ. وقد علمنا أنّ ما لم ينزل فليس متعلقا بزمان البتة. وقد بيّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض ألفاظ الحديث المذكور ـ ما ذلك الفعل المذكور ـ وهو أنّه ذكر عليه‌السلام : أن الله عزوجل يأمر ملكا ينادي في ذلك الوقت بذلك. وأيضا فإن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب ، يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه ، فصح ضرورة أنه فعل يفعله ربنا تعالى في ذلك لأهل كل أفق.

وأمّا من جعل ذلك نقلة فقد قدمنا بطلان قوله في إبطال القول بالجسم بعون الله وتأييده. ولو انتقل تعالى لكان محدودا ، مخلوقا ، مؤلفا ، شاغلا لمكان ، وهذه صفة المخلوقين ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

__________________

(١) روي هذا الحديث عن أبي هريرة وغيره. فرواه البخاري في التهجد باب ١٤. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث ١٦٨ و ١٦٩ و ١٧٠. وأبو داود في السنّة باب ١٩. والترمذي في الصلاة باب ٢١١ ، والدعوات باب ٧٨. وابن ماجة في الإقامة باب ١٨٢. والدارمي في الصلاة باب ١٦٨. ومالك في القرآن حديث ٣٠. وأحمد في المسند (٢ / ٢٦٤ ، ٢٦٧ ، ٢٨٢ ، ٤١٩ ، ٤٨٧ ، ٥٠٤).

١١

وقد حمد الله عزوجل لإبراهيم خليله ، ورسوله ، وعبده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ بيّن لقومه بنقلة القمر أنه ليس ربّا. قال تعالى : (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [سورة الأنعام : ٧٦].

وكل منتقل عن مكان فهو آفل عنه. تعالى الله عن هذا. وكذلك القول في قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [سورة الفجر : ٢٢].

وقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) [سورة البقرة : ٢١٠].

فهذا كله على ما بينا من أن المجيء والإتيان يوم القيامة فعل يفعله الله عزوجل في ذلك اليوم ، يسمّى ذلك الفعل مجيئا وإتيانا ، وقد روينا عن أحمد بن حنبل رحمه‌الله أنه قال : «وجاء ربّك» إنما معناه : وجاء أمر ربك.

قال أبو محمد : لا تعقل الصفة والصفات في اللغة التي بها نزل القرآن وفي سائر اللغات ، وفي وجود العقل ، وضرورة الحسّ ، إلّا أعراضا محمولة في الموصوف بها ، فإذا جوّزوها غير أعراض بخلاف المعهود فقد تحكّموا بلا دليل إذ إنما صاروا إلى مثل هذا فيما ورد به النص ، ولم يرد قط نصّ بلفظ الصفات ، ولا بلفظ الصفة ، فمن المحال أن يؤتى بلفظ لا نصّ فيه يعبّر به عن خلاف المعهود. وقال تعالى : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة النحل : ٦٠].

ثم قال تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [سورة النحل : ٧٤]. فلو ذكروا الأمثال مكان الصفات لذكر الله تعالى لفظة المثل لكان أولى. ثم قد بيّن الله تعالى غاية البيان بأن قال : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ).

وقد أخبر تعالى : بأن له المثل الأعلى ، فصحّ ضرورة أنه لا يضرب له مثل إلا ما أخبر به تعالى فقط ، ولا يحل أن يزاد على ذلك شيء أصلا. وبالله تعالى التوفيق.

١٢

الكلام في الماهيّة

قال أبو محمد : ذهبت طوائف من المعتزلة إلى أنّ الله تعالى لا ماهية له ، وذهب أهل السنة وضرار بن عمرو (١) إلى أنّ لله تعالى ماهية ، قال ضرار : لا يعلمها غيره.

قال أبو محمد : والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق : أن له تعالى ماهية ، وهي إنّيّته نفسها ، وأنه لا جواب لمن سأل : ما هو الباري ..؟ إلا ما أجاب به موسى عليه‌السلام إذ سأله فرعون : وما ربّ العالمين (٢)؟

نقول : إنه لا جواب هاهنا إلّا في علم الله تعالى ، ولا عندنا إلّا ما أجاب به موسى عليه‌السلام لأنّ الله تعالى حمد ذلك منه ، وصدّقه فيه. ولو لم يكن جوابا صحيحا تاما لا نقص فيه لما حمده الله.

واحتجّ من أنكر الماهية بأن قال : لا تخلو الماهية من أن تكون هي الله عزوجل ، أو تكون غيره ، فإن كانت غيره ، والماهية لم تزل ، فلم يزل مع الله تعالى غيره ، وهذا كفر.

وإن كانت هي هو ، وكنا لا نعلمها ، فقد صرنا لا نعلم الله عزوجل ، وهذا إقرار بأننا نجهله ، والجهل بالله تعالى كفر به.

وقالوا : لو أمكن أن تكون له ماهية لكانت له كيفية.

قال أبو محمد : وهذا من جهلهم بحدود الكلام ، ومواقع الأسماء على المسمّيات. وماهية الشيء إنما هي الجواب في سؤال السائل بما هو. وهذا سؤال عن حقيقة الشيء وذاته ، فمن أبطل الماهية فقد أبطل حقيقة الشيء المسئول عنه بما هو؟ لكن أول مراتب الإثبات فيما بيّنا هي الإنية ، وهي إثبات وجود الشيء فقط ، وهذا أمر قد علمناه وأحطنا به ، ولا يتبعض العلم بذلك فيعلم بعضه ويجهل بعضه ، بل يتلو

__________________

(١) هو من رءوس المعتزلة وشيخ الضرارية. انظر ترجمته في الفهرست (ص ٢١٤) وميزان الاعتدال (٢ / ٢٣٨) ولسان الميزان (٣ / ٢٠٣) وسير أعلام النبلاء (١٠ / ٥٤٤).

(٢) (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) [الشعراء : ٢٤].

١٣

الإنية ، التي هي جواب السائل بهل فيما بيّنا السؤال بما هو ..؟

وأمّا الباري عزوجل فالسؤال عنه بما هو ..؟ هو السؤال بهل ، وهو والجواب في كليهما واحد. فنقول : هو حق واحد ، أحد ، أوّل ، لا يشبهه شيء من خلقه. وإنما اختلفت الإنية والماهية في غير الله تعالى لاختلاف الأعراض في المسئول عنه ، وليس الله تعالى كذلك ، ولا هو حامل أعراضا أصلا. هاهنا نقف ، ولا نعلم أكثر ، ولا هاهنا أيضا شيء غير هذا إلّا ما علّمنا ربنا تعالى من سائر أسمائه ، كالعليم والقدير ، والمؤمن ، والمهيمن ، وسائر أسمائه. وقد أخبر تعالى على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن له تسعة وتسعين اسما ، مائة غير واحد» (١).

وقال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [سورة طه : ١١٠].

قال أبو محمد : وهذا كلام صحيح على ظاهره ، إذ كل ما أحاط به العلم فهو متناه محدود وهذا منفي عن الله عزوجل ، وواجب في غيره لوقوع العدد المحاط به في أعراض كل ما دونه تعالى ، ولا يحاط بما لا حدود له ، ولا عدد له ، فصحّ يقينا أننا نعلم الله عزوجل حقا ، ولا نحيط به علما ، كما قال تعالى.

قال أبو محمد : فالإنيّة في الله تعالى هي الماهية التي أنكرها أهل الجهل بحقائق القرآن والسنن. نحمد الله عزوجل على ما منّ به علينا من تيسيرنا لاتباع كلامه وتدبّره وطلب سنن نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوقوف عندهما ، ومعرفتنا بأنّ العقل لا يحكم به على خالقه ، لكن نفهم به أوامره تعالى ، ونميز به حقائق ما خلق فقط ، وما توفيقنا إلّا بالله.

وأما قولهم : لو كانت له ماهية لكانت له كيفية ، فكلام قوم جهال بالحقائق ، وقد بيّنا وبان لكل ذي عقل أنّ السؤال بما هو الشيء؟ غير السؤال بكيف هو الشيء؟ وأن المسئول عنه بإحدى اللفظتين المذكورتين ، غير المسئول عنه بالأخرى. وأن الجواب عن إحداهما غير الجواب عن الأخرى.

وبيان ذلك : أن السؤال بما هو الشيء ...؟ إنما هو سؤال عن ذاته واسمه. وأن السؤال بكيف ...؟ إنما هو سؤال عن حاله وأعراضه. وهذا لا يجوز أن يوصف به الباري تعالى ، فلاح الفرق ظاهرا. وبالله تعالى التوفيق.

__________________

(١) تقدم تخريجه قبل صفحات.

١٤

الكلام في السّخط ، والرضا ، والعدل ، والصدق ، والملك ،

والخلق ، والجود ، والإرادة ، والسّخاء ، والكرم ، وما يخبر عنه

تعالى بالقدرة عليه ، وكيف يصحّ السؤال في ذلك كله ..؟

قال أبو محمد : نقول : لم يزل الله تعالى عالما بأنه سيسخط على الكفار ، وسيرضى على المؤمنين ، وسيعذّب بالنّار من عصاه ، وسينعّم بالجنة من أطاعه ، وسيعدل إذا حكم ، وسيصدق إذا أخبر ، ولم يزل عالما بأنه سيخلق ما يخلق ، وأنه رب ما يخلق من العالمين ، ومالك كل شيء ، ويوم الدّين ، وأن له ملك كل ما يخلق ، لأن كل ما ذكرنا يقتضي وجود كلّ ما علق به ، وكلّ ما علق به محدث لم يكن ثم كان. ولم يزل تعالى عليما بكل ذلك ، وأنه سيكون كل ما يكون على ما هو كائن عليه إذا كوّنه. وأمّا الإرادة فقد أثبتها قوم من صفات الذّات وقالوا : لم تزل الإرادة ، ولم يزل الله تعالى.

قال أبو محمد : وهذا خطأ لبرهانين ضروريين.

أحدهما : أن الله تعالى لم ينص على أنه مريد ، ولا على أن له إرادة ، وقد قدّمنا البرهان فيما سلف من كتابنا هذا ، على أنه لا يجوز أن يشتق الله تعالى أسماء ولا صفات ، وأوردنا من ذلك أنه لا يقال : إنه تعالى متبارك ، ويقال : تبارك الله ، ولا يقال إنه مستهزئ ، ويقال : «الله يستهزىء بهم» ولا أنه عاقل. وكذلك لا يجوز أن يقال : إنه تعالى باق ، ولا دائم ، ولا ثابت ، ولا سخي ، ولا جواد لأنه تعالى لم يسمّ به نفسه ، لكن يقال : المتعالي ، كما قال تعالى ويقال : هو الكريم الغنيّ ، ولا يقال : الموسر ، ويقال : هو القوي ، ولا يقال : الجلد ، ويقال : لم يزل ولا يزال ، هو الأول ، والآخر ، والظاهر ، والباطن ، ولا يقال هو : الخفي ، ولا الغائب ، ولا البارز ، ولا المشتهر. ويقال : هو الغالب على أمره ، ولا يقال هو الظافر. والمعنى ، في كل ما ذكرنا من اللغة واحد ، فمن أطلق عليه تعالى بعض هذه الصفات والأسماء ، ومنع من بعضها فقد ألحد في أسمائه عزوجل ، وأقدم إقداما عظيما. نعوذ بالله من ذلك.

وأيضا : فإن الإرادة من الله تعالى لو كانت لم تزل ، لكان المراد : لم يزل بنص

١٥

القرآن ، لأن الله عزوجل قال : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس : ٨٢].

فأخبر تعالى : أنه إذا أراد الشيء كان ، وأجمع المسلمون على تصويب قول من قال : ما شاء الله كان. والمشيئة هي الإرادة ، فصح بما ذكرنا صحة لا شك فيها ، أنّ الواجب أن يقال : أراد الله تعالى كما قال تعالى : (إِذا أَرادَ شَيْئاً).

ونقول : إنه تعالى يريد ما أراد ، ولا يريد ما لم يرد ، كما قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [سورة البقرة : ١٨٥].

وقال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [سورة المائدة : ٤١].

(وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) [سورة الرعد : ١١].

وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [سورة الأنعام : ١٢٥].

فنحن نقول كما قال الله تعالى : أراد ، ويريد ، ولم يرد ، ولا يريد. ولا نقول : إن له تعالى إرادة ، ولا أنه مريد ، لأنه لم يأت نصّ من الله تعالى بذلك ، ولا من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولا جاء ذلك قط من أحد من السلف الصالح رضي الله عنهم. وإنما أطلق هذا الإطلاق الفاحش قوم من الخوالف المسمّين بالمتكلمين ، الخوف عليهم أشدّ من رجاء السلامة لهم ، لا قدم صدق لهم في الإسلام ، ولا في الورع ، ولا في الاجتهاد ، في الخير ، ولا في العلم بالقرآن ، ولا بسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا بما أجمع المسلمون عليه ، ولا بما اختلفوا فيه ، ولا بأقوال الصّحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين ، ولا بحدود الكلام ، ولا بحقائق ماهيات المخلوقات ، وكيفيّاتها ، فهم يتبعون ما تراءى لهم ، ويقتحمون المهالك بلا هدى من الله عزوجل. ونعوذ بالله من ذلك ، وقد قال تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [سورة النساء : ٨٣].

فنص تعالى على أن من لم يردّ ما اختلف فيه إلى كتابه ، وإلى كلام رسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى إجماع العلماء من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين ، ولا من سلك سبيلهم بعدهم ، فلم يعلم ما استنبطه بظنه ورأيه ، وليس ننكر المحاجة على القصد إلى تبيين الحق وتبينه ، بل هذا هو العلم الفاضل الحسن وإنما ننكر الإقدام في الدّين بغير برهان من قرآن أو سنة ، أو إجماع ، بعد أن أوجبه برهان الحس ، وأوّل بديهة العقل ، والنتائج الثابتة من مقدماته الصحيحة ، من صحة التوحيد ، والنبوة. فإذا ثبت ما

١٦

ذكرنا ، فضرورة العقل توجب الوقوف عند جميع ما قاله لنا الرسول الذي بعثه الله تعالى إلينا ، وأمرنا بطاعته ، وألّا يعترض عليه بالظنون الكاذبة ، والآراء الفاسدة ، والقياسات السخيفة ، والتقليد المهلك.

فإن قال قائل : وما الذي يمنع من أن نقول : لم يزل الله مريدا لما أراد كونه إذا كونه؟

قلنا وبالله تعالى التوفيق : يمنع من ذلك أن الله عزوجل أخبر نصّا : بأنه إذا أراد شيئا كوّنه فكان ، فلو كان تعالى لم يزل مريدا ، لكان لم يزل ما يريد وهذا إلحاد.

ويقال لهم أيضا : ما الفرق بينكم وبين من عكس قولكم ، فقال : لم يزل الله تعالى غير مريد لأن يخلق حتى خلق ، وهذا لا انفكاك منه.

قال أبو محمد : ولو أن قائلا يقول إن الخلق هو المراد كونه من الله تعالى فهو مراد الله تعالى ، وهو الإرادة نفسها ، وأنه لا إرادة له إلّا ما خلق لما أنكرنا ذلك وإنما ننكر قول من يجعل الإرادة صفة ذات لم تزل ، لأنه يصف الله تعالى بما لم يصف الله تعالى به نفسه ، وقول من يجعلها صفة فعل ، وأنها غير الخلق لأنه يلزمه أن تلك الإرادة إمّا مرادة مخلوقة ، وإما غير مرادة ، ولا مخلوقة.

فإن قال : هي مرادة مخلوقة.

قيل له : أهي مرادة بإرادة هي غيرها ، ومخلوقة بخلق هو غيرها ..؟ أم لا بإرادة ولا بخلق ..؟

فإن قال قائل : هي مراده لا بإرادة ، أتى بالمحال الذي يبطله العقل ولم يأت به نصّ ، فيلزمه الوقوف عنده ، وكذلك قوله : مخلوقة بغير خلق.

وإن قال : هي مرادة بإرادة هي غيرها ، ومخلوقة بخلق هو غيرها ، لزمه في إرادة الإرادة ، وخلق خلقها ما ألزمناه في الإرادة وفي خلقها وهكذا أبدا. وهذا يوجب وجود محدثات لا نهاية لعددها أبدا ، وهذا هو قول الدّهرية الذي أبطله الله تعالى بضرورة العقل والنص على ما بينا في صدر كتابنا هذا ، وبالله تعالى التوفيق.

وإن قال قائل : إن الإرادة ليست مرادة ولا مخلوقة أتى بقول يبطله ضرورة العقل لأن القول بإرادة غير مرادة محال ، غير موجود ، ولا يعقل ولا يحسّ فيما بيننا ، ولا بدليل فيما غاب عنهم. فهو قول مجرد الدعوى ، فهو باطل ضرورة. وكذلك يلزمه إن قال : إنها محدثة غير مخلوقة ما يلزم من قال : إن العالم محدث لا محدث له ، وقد تقدّم بطلان هذا القول بالبراهين الضرورية. وبالله تعالى التوفيق.

١٧

وأمّا تسمية الله عزوجل جوادا ، أو سخيا أو وصفه تعالى : بأن له جودا ، وسخاء ، فلا يحل ذلك البتة. ولو أن المعتزلة المقدمين على تسمية ربهم : جوادا ، وأن له جودا ـ يكون لهم علم بلغة العرب ، أو بحقيقة الأسماء ، ووقوعها على المسمّيات ، أو بمعاني الأسماء والصفات ـ ما أقدموا على هذه العظيمة ، ولا وقعوا في الاقتداء بالكفار القائلين : إن علة خلق الله تعالى لما خلق إنما هي جوده حتى أوقعهم ذلك في القول بأنّ العالم لم يزل ، ولكن المعتزلة قوم معذورون بالجهالة عذرا يبعدهم عن الكفر ولا يخرجهم عن الإيمان لا عذرا يسقط عنهم الملامة لأن التعليم لهم معروض ممكن ، ولكن لا هادي لمن أضلّ الله عزوجل. ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد : والمانع لهم من ذلك وجهان :

أحدهما : أنه تعالى لم يسمّ بذلك نفسه ولا وصف به نفسه ، ولا يحلّ لأحد أن يتعدّى حدود الله تعالى ، لا سيما فيما لا دليل فيه إلّا النص فقط.

والوجه الثاني : أنّ الجود ، والسخاء ، في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى ، وبها نتفاهم مرادنا إنما هما لفظان واقعان على بذل الفضل عن الحاجة ، لا يعبّر بلفظ الجود والسخاء إلّا عن هذا المعنى ، وهذا المعنى مبعد عن الله عزوجل ، لأنه تعالى لا يحتاج إلى شيء فيكون له فضل يبذله ، فيسمّى ببذله له سخيّا ، وجوادا ، ويوصف من أجل ذلك بجود وسخاء. أو يكون بمنعه بخيلا ، أو شحيحا ، أو موصوفا ببخل أو بشحّ.

قال أبو محمد : ولا يختلف اثنان من كل من في العالم في أن امرأ له ماء عذب حاضر كثير ، لا يحتاج إليه ، وطعام عظيم فاضل به إليه ، ورأى رجلا من عرض الناس ، أو عبدا من عبيده يموت جوعا أو عطشا فلم يسقه ، ولا أطعمه فإنه في غاية البخل والشح ، والقسوة ، والظلم ، والله تعالى يرى كثيرا من عباده ، وأطفالا من أطفالهم لا ذنب لهم ، وهم يموتون جوعا أو عطشا ، وعنده مخارج السماوات وخزائن الأرض ، ولا يرحمهم بنقطة ماء ، ولا لقمة طعام حتى يموتوا جوعا وعطشا ولا يوصف لذلك ببخل ، ولا بظلم ، ولا بقسوة بل هو أرحم الراحمين والرحمن ، والكريم ، الذي لا يظلم ، ولا يجور ، كما سمّى نفسه ـ فبطل قياسهم الفاسد في الصفات الغائب على الشّاهد ، وبطل أن يوصف الله عزوجل بشيء من كل ذلك ، وليس لأحد أن يحيل الأسماء اللغوية عن موضعها في اللغة إلا أن يأتي نصّ بإحالة شيء من ذلك عن موضوعه فيوقف عنده ، ومن تعدّى هذا الحكم فإنه مبطل للتفاهم كله ، نعم ، وللحقائق بأسرها ،

١٨

لأنه لا يعجز أحد أن يسمّي الحقّ باطلا ، والباطل حقا ، وأن يحيل الأسماء كلّها عن موضوعها ، وهذا خروج عن الشرائع والمعقول. ولكنّا نقول : إنه كريم ، كما قال تعالى. ولا يبعد عنّا أن تسمى نعم الله تعالى على عباده كرما ، وأن الله تعالى كريم ـ نستحسن إطلاق ذلك ، ونسميها أيضا فضلا ـ قال الله عزوجل : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) [سورة الحديد : ٢١]. وقد ثبت النص بأن له تعالى كرما.

وحدّثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا إبراهيم بن أحمد ، أنبأنا الفربري ، حدثنا البخاري : قال لي خليفة بن خياط : (١) حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، وعن معتمر بن سليمان قال : سمعت أبي يحدث عن قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يزال يلقى فيها ، وتقول هل من مزيد ، حتى يضع فيها رب العالمين قدمه ، فيزوى بعضها إلى بعض وتقول قد قد ، وعزتك ، وكرمك» (٢).

قال أبو محمد : وقد اضطرب الناس في السؤال عن أشياء ذكروها وسألوا : هل يقدر الله عليها أم لا؟

واضطربوا أيضا في الجواب عن ذلك.

قال أبو محمد : ونحن إن شاء الله تعالى مبينون بحوله وقوته وجه تحقيق السؤال عن ذلك ، وتحقيق الجواب فيه دون خلط ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

فنقول وبالله تعالى التوفيق : إنّ السؤال إذا حقق بلفظ يفهم السائل منه مراد نفسه ، ويفهم المسئول مراد السائل عنه فهو سؤال صحيح والجواب عنه لازم ، ومن أجاب عنه بأن هذا سؤال فاسد ، وأنه محال فإنما هو جاهل بالجواب ، منقطع متسلل عنه.

__________________

(١) هو الإمام الحافظ المؤرخ خليفة بن خياط بن خليفة بن خياط أبو عمرو العصفري البصري ويلقّب بشباب ، صاحب التاريخ والطبقات. حدث عنه البخاري بسبعة أحاديث أو أزيد في صحيحه. توفي خليفة سنة ٢٤٠ ه‍. انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (١١ / ٤٧٢) والتاريخ الكبير للبخاري (٣ / ١٩١) والجرح والتعديل (٣ / ٣٧٨) ووفيات الأعيان (٢ / ٢٤٣) وتذكرة الحفاظ (٢ / ٤٣٦) والعبر (١ / ٤٣٢) وميزان الاعتدال (١ / ٦٦٥) وغاية النهاية في طبقات القراء (١ / ٢٧٥) وطبقات الحفاظ (ص ١٩٠) وشذرات الذهب (٢ / ٩٤).

(٢) رواه البخاري في التفسير ، تفسير سورة ق ، باب ١ ، حديث ٤٨٤٨. ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (حديث ٣٧ ، ٣٨) وقوله «قد قد» يروى أيضا : «قط قط» بالطاء ، ومعناها : حسبي. وفيها ثلاث لغات : قد ، وقد ، وقد. أو : قط ، وقط ، وقط.

١٩

وأما السؤال الذي يفسد بعضه بعضا ، وينقض آخره أوله فهو سؤال فاسد لم يحقق بعد ، وما لم يحقق السؤال عنه فلا (١) يسأل عنه ، وما لا (٢) يسأل عنه فلا يلزم فيه جواب على تمثله ، فهاتان قضيتان جامعتان ، وكافيتان في هذا المعنى ، لا يشذ عنهما شيء منه إلّا أنه لا بدّ من جواب ببيان حوالته لا على تحقيقه ، ولا على تشكله ولا على توهمه. وبالله تعالى التوفيق.

ثم نحدّ المسئول عنه في هذا الباب بحدّ جامع بحول الله وقدرته ، فيرتفع الإشكال في هذه المسألة إن شاء الله. فنقول وبالله تعالى نتأيّد :

إنّ الشيء المسئول عنه في هذا الباب إن كان إنما سأل السائل عن القدرة على إحداث فعل مبتدأ ، أو على إعدام فعل مبتدأ فالمسئول عنه مقدور عليه ، ولا نحاشي شيئا ، والسؤال صحيح ، والجواب عنه بنعم لازم.

وإن كان المسئول عنه ما لا ابتداء له : فالسؤال عن تغييره أو إحداثه أو إعدامه سؤال متفاسد ، لا يمكّن السائل عنه فهم معنى سؤاله ، ولا تحقيق سؤاله وما كان هكذا فلا يلزم الجواب عنه على تحقيقه ، ولا على تشكله ، لأن الجواب عن التشكل لا يكون إلّا عن جواب عن سؤال ، وليس هاهنا سؤال أصلا ، فلا جواب.

ثم نقول وبالله تعالى التوفيق : إنّ من الواجب أن نبيّن بحول الله تعالى وقوّته : ما المحال ..؟ وعلى أي شيء تقع هذه اللفظة؟ وعن ما ذا يعبّر عنها ..؟ فإن من قطع بشيء ولم يعرف تحقيق معناه فهو في غمرات من الجهل ، فنقول وبالله تعالى نتأيّد :

إنّ المحال ينقسم أربعة أقسام لا خامس لها :

أحدها : محال بالإضافة.

والثاني : محال بالوجود.

والثالث : محال فيما بيننا في بنية العقل عندنا.

والرابع : محال مطلق.

فالمحال بالإضافة مثل : نبات اللحية لابن ثلاث سنين ، وإحباله امرأة ، وكلام الأبله الغبي في دقائق المنطق ، وصوغه الشعر العجيب ، وما أشبه هذا. فهذه المعاني موجودة في العالم ممن هي ممكنة منه ، ممتنعة من غيرهم.

__________________

(١) كانت في الأصل : «فلم» ولعلّ الصواب ما أثبتناه.

(٢) كانت في الأصل : «فلم» ولعلّ الصواب ما أثبتناه.

٢٠