مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة الآداب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

المستقل الذي يدل على الحكم الظاهري أعني ما أخذ الشك في موضوعه كمثال إباحة التتن فقد بحثوا عنه في مباحث الاصول العملية.

أما القسم الثاني : أعني دليل العقل الغير المستقل فقد بحث عنه الاصوليون في صدر كتبهم في أبواب متعددة كباب مقدمة الواجب والنهي عن العبادة والنهي عن الضد والمفاهيم وذلك لأن الدليل العقلي الذي جعله الاصوليون في صراط الأدلة الفقهية هو ما كان على وزانها ونظرها من دلالته على نفس الحكم الواقعي مثل الكتاب والسنة لا الدليل العقلي المستقل على الحكم الظاهري ولذا الادلة الدالة على الحكم الواقعي تسمى بالأدلة الفقاهتية والدالة على الحكم الظاهري تسمى بالادلة الاجتهادية. وقد ذهب المعتزلة الى أن العقل إذا دل على شيء فهو حجة وباعتبار حصول القطع منه يقدم عند مخالفته للكتاب أو الاجماع أو غير ذلك أو يأول ما خالفه سواء في أصول الدين أو فروعه وسواء استقل بالحكم أو استلزمه. وخالفهم الاشاعرة فذهبوا إلى أن العقل لا دخل له في أصول الدين ولا في فروعه وانما عليه الانقياد والاذعان للنصوص الدينية والعمل على طبقها.

والحاصل أن محل كلام القوم في هذا المقام هو البحث عن حجية العقل باعتبار دلالته على الاحكام الشرعية الفرعية الواقعية وإنها متبعة وحجة عليها أم لا. كما أن محل كلامهم في الكتاب والسنة والاجماع في أبوابها باعتبار دلالتها على الاحكام الشرعية الفرعية الواقعية وانها متبعة وحجة عليها أم لا. وليس كلامهم في حجية الدليل العقلي باعتبار دلالته على الطريق للحكم الشرعي كأن يدل على حجية الكتاب أو الاجماع أو السنة فإنه بذلك لم يعد في مقابلها ويكون البحث عنه في أبوابها في علم الأصول فإن الدليل العقلي على حجية

٨١

الكتاب يبحث في علم الأصول في باب حجية الكتاب عنه وهكذا الكلام في الباقي كالدليل العقلي على حجية الظن بالحكم أو استصحاب الحكم أو الشهرة أو القياس أو الاستحسان أو غيرها من الطرق لمعرفة الحكم الشرعي فانه يبحث عن الحكم العقلي على حجيتها في أبوابها كما أنه ليس محل كلامهم في هذا المقام في حجية العقل باعتبار دلالته على وجوب الطاعة للتكاليف فإن ذلك من مباحث علم الكلام إذ فيه يبحث إن العقل يلزم بالطاعة بإتيان الواجبات وترك المحرمات سواء علم بها تفصيلا أو إجمالا أو احتملت احتمالا. نعم في علم الأصول تعرضوا لذلك في باب الاحتياط وللشبهة التحريمية والوجوبية عند العلم الاجمالي بالتكليف والشبه قبل الفحص باعتبار أن العقل يدل على وجوب الاحتياط ظاهرا في هذه الامور فيكون العلم الاجمالي أو الشبه المذكورة طريقا عند العقل للوجوب الشرعي بالاحتياط فيها.

والحاصل أن البحث في هذا المقام للاصوليين عن العقل من حيث حجية دلالته على الحكم الشرعي الفرعي الواقعي كالبحث عن حجية الكتاب من حيث دلالته على الحكم الشرعي الفرعي الواقعي فإن الكتاب تارة يبحث عن حجية دلالته على نفس الحكم الشرعي كآية (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) على وجوب الصلاة وبهذا الاعتبار يعد من أدلة الأحكام الأربعة وهو الذي يعد في صراطها وعدادها.

وتارة يبحث عن دلالة الكتاب على حجية الخبر الواحد كآية (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) وبهذا الاعتبار يبحث عنه في باب حجية الخبر في علم الأصول وتارة يبحث عن دلالة الكتاب على حجية الاصل كأصل البراءة وبهذا الاعتبار يبحث عنه في باب حجية ذلك الأصل ، وتارة يبحث عن دلالة الكتاب على الاطاعة والامتثال للتكاليف

٨٢

كقوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وبهذا الاعتبار يبحث عنه في علم الكلام.

ثم أن مقتضى القاعدة أن يبحثوا في هذا المقام عن الدليل العقلي على الحكم للشرعي سواء كان دليلا عقليا مستقلا أم غير مستقل ، لكن المتأخرين من الأصوليين في هذا المقام خصوا البحث عن الدليل العقلي بالمستقل وبحثوا عن غير المستقل في أوائل كتبهم لكون بعضهم ادعى دلالة اللفظ على الاستلزامات المذكورة دون العقل لذهابه إلى أن اللزوم بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها ووجوب الشيء وحرمة ضده وغيرها من الاستلزامات من اللزوم البين ينتقل له الذهن بمجرد سماعه للخطاب كدلالة الأربعة على الزوجية.

وعليه ، فيكون الدليل على وجوب المقدمة شرعا ونحوه دليلا نقليا محضا لا عقليا غير مستقل فباعتبار هذا القول افرد الاصوليون البحث عن ذلك في صدر كتبهم في مبحث الالفاظ فبحثوا عن وجوب المقدمة شرعا والنهي عن الضد والمفاهيم وغيرها مما كان حكم العقل فيها موقوفا على خطاب شرعي آخر وإن كان أغلبهم لم يذهب إليه فاختص البحث في هذا المقام أعني مقام التعرض للأدلة الشرعية على الحكم الواقعي بالدليل العقلي المستقل ولكن الشيخ الأنصاري (ره) لم يذكر الدليل العقلي في عداد الادلة على الأحكام الشرعية ، وإنما ذكر القطع بالحكم الشرعي فجعل الميزان هو القطع من الدليل العقلي ، فالدليل العقلي إن أفاد القطع بالحكم الشرعي كرد الوديعة يعمل به وإلا فلا. كما أن الظن بالحكم الشرعي الحاصل من الدليل إن ثبت حجيته من الشرع يعمل به وإلا فلا ، فاستراح هو ومن تبعه من مبحث الدليل العقلي ولم يتعب نفسه فيه وإن كانوا قد تعرضوا في أثناء

٨٣

بحثهم عن المقطع لأدلة المانعين من حجية العقل.

إلا أن التحقيق أن القطع لا ريب في وجوب متابعته ولزوم العمل به والجري على طبقه لانكشاف الواقع به لدى القاطع انكشافا تاما لا يتطرق له أدنى وهم أو احتمال وإلا لما كان قاطعا فثبوت الكشف له نظير ثبوت الزوجية للاربعة ولا يعقل أن يقع النزاع في حجيته وإنما كلام الأصوليين في تشخيص الأدلة العقلية التي توجب القطع بالأحكام الشرعية والعمدة عندهم الذي هو محل النزاع في حصول القطع به هو دليل الحسن والقبح العقليين وهو مبني على دعامتين : الأولى إن الأفعال عند العقل مختلفة في نفسها مع قطع النظر عن الشرع فبعضها ما يمدح فاعلها وبعضها ما يذم فاعلها لخصوصية في ذاتها أو صفة حقيقية متصفة بها أو جهة اعتبارية تقضي ذلك وإن الافعال كسائر الأشياء المختلفة في الآثار في حد ذاتها كالاحجار والأشجار والجمادات فالضرب المورث للحزن والغم والألم يذم فاعله ورد الوديعة الموجب للفرح والسرور يمدح فاعله.

وكما أن الأشياء بالنسبة إلى كل واحد من الحواس الظاهرة والباطنة والطبائع والغرائز قد تكون ملائمة وقد تكون منافرة وقد لا تكون كذلك وقد تكون على حد سواء لا ملائمة ولا منافرة كذلك القوة العاقلة تكون لها ما يلائمها وما ينافرها وما هو على حد سواء بالنسبة لها مع قطع النظر عن الشرع بحسب ما لها من الخصوصية. فالفعل الملائم للعقل يعجبه ويستحسنه من فاعله إذا صدر عنه بالاختيار والفعل المنافر للعقل يشمئز منه ويقبح فاعله إذا صدر منه بالاختيار والفعل الذي ليس بمنافر للعقل ولا بملائم له لا يقبح فاعله ولا يستحسنه منه ولا فرق في ذلك بين الافعال الصادرة من المولى أو من العبد

٨٤

وينسب القول بذلك للإمامية والمعتزلة والخوارج والبراهمة والثنوية والحنابلة والكرامية بل ولبعض الاشاعرة ، وقد خالف في ذلك جمهور الاشاعرة فقالوا بأن أفعال الله لا تتصف بالحسن أو القبح المذكورين فلو أثاب العاصي وعاقب المطيع لم يأت بقبيح لأنه تصرف منه تعالى في ملكه فما يفعله فهو في محله وأما أفعال العباد فلبنائهم على عدم صدورها منهم بالاختيار وإنما كان صدورها منهم بالجبر والاضطرار وإن العمل إنما يكون حسنا لو أمر به الشارع وقبيحا لو نهى عنه الشارع وانه قبل الشرع أفعال العباد ليست بحسنه ولا قبيحة وإن الشارع هو المثبت لها.

والبحث في هذا المقام يسمى بمبحث الحسن والقبح العقليين وتتفرع عليه مطالب كثيرة وثمرات عظيمة والحاصل أن الدعامة الأولى للدليل العقلي المستقل على الحكم الشرعي ترجع لقضية جزئية وهي أن العقل قد يحكم في بعض الافعال بمدح فاعلها ومنعه من تركها فتكون واجبة عقلا أو بمرجوحية تركها فتكون مستحبة عقلا وبعضها يحكم بذم فاعله ومنعه من الفعل فتكون محرمة عقلا أو بمرجوحية الفعل فتكون مكروهة عقلا ، وبعضها يحكم بعدم الذم وعدم المدح فتكون مباحة عقلا.

وبعضها يجهل الحال فيها وهي الافعال التي لم يطلع العقل على المصلحة أو المفسدة الموجودة فيها فلا يحكم فيها بشيء.

واستدل القائلون بالتحسين والتقبيح العقلين :

أولا بالضرورة فإن العقلاء لا يرتابون في حسن الاحسان بمعنى أن فاعله يستحق المدح أو الثواب من حيث كونه فاعلا له وقبح الظلم والعدوان بمعنى أن فاعله يستحق الذم والعقاب من حيث كونه

٨٥

فاعلا له وليس ذلك بالشرع فانه يقول به حتى ملاحدة.

وثانيا : أنه لو كان بالشرع يلزم إفحام الانبياء إذ ليس هناك ما يوجب على العقل النظر لمعجزاته الا حكم العقل بحسنه لخوف الضرر واستحقاق العقاب على الترك.

فلو قلنا بعدم حكم العقل بالحسن والقبح لم يكن هناك موجب وملزم للنظر عليهم وللزم تجويز العقل ظهور المعجزة على يد الكاذب لعدم ثبوت القبح عند العقل في ذلك.

وثالثا : لو لم يكونا بالعقل للزم ارتفاع الوثوق بالمعاد وبوعد الله ووعيده إذ لا مانع عند العقل سوء قبح ذلك على الله تعالى وإذا لم يكن قبيحا عند العقل جوّز العقل صدوره من الله تعالى.

ورابعا : جملة من الآيات القرآنية والاخبار النبوية كالآيات الدالة على إرجاعهم لعقولهم وأفكارهم وكالأخبار الآمرة بالرجوع إلى العقل وليس إثبات هذه الدعامة يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان.

ما فرعوا على هذه الدعامة الأولى :

ولقد رتبوا على القول بالتحسين والتقبيح العقليين أمور :

أحدها : مسألة التكليف بالمحال فمن قال بأنهما عقليان منع منها ومن لم يقل جوز ذلك وأما التكليف المحال فهو ممتنع عند الجميع لكون المحال ممتنع بالذات.

ثانيها : وجوب الأصلح على الله (تعالى) فان من قال بأن التحسين والتقبيح عقليان قال بوجوب الاصلح على الله تعالى وفرعوا عليه وجوب اللطف على الله تعالى وفرعوا على وجوب اللطف عليه (تعالى) حسن التكليف ووجوب صدوره من الله تعالى ووجوب بعث الرسل وإنزال الكتب

٨٦

ولصب الامام وغير ذلك من الالطاف الالهية مما يوجب القرب للطاعة والبعد عن المعصية.

ثالثها : وجوب شكر المنعم فاثبته العدلية لحسنه العقلي وأنكره الأشاعرة

رابعها : إن الأصل في الافعال الاختيارية التي لا ضرر فيها هو الحظر أو الاباحة. هذا كلام وقع في البين جرنا له ناموس تتابع الأفكار فإن المقصود لنا في المقام بيان الدعامة الأولى للدليل العقلي المستقل على الحكم الشرعي ، وقد عرفت أنه ترجع لقضية جزئية وهي أن العقل يحكم في بعض الأفعال بالتحسين والتقبيح العقليين.

الدعامة الثانية : التي يتركز عليها الدليل العقلي على الحكم الشرعي هو الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ترجع لقضية كلية وهي كلما حكم به العقل حكم به الشرع سواء قلنا بأنها بمعنى التطابق بين الشرع والعقل بأن يكون حكمان حكم الشرع وحكم العقل وحاكمان الشرع والعقل أو بمعنى الشرع يصدق العقل في حكمه لا أنه يحكم بحكم آخر بأن يكون حكما واحدا هو للعقل ولكن الحاكم اثنان الشرع والعقل فبأي التفسيرين فسرناها تكون هي الدعامة الثانية التي يتركز عليها الدليل العقلي المستقل ، حيث أن العقل بواسطة هذين الدعامتين يستنتج الحكم الشرعي للحادثة التي يتحققان فيها فمثلا رد الوديعة يحكم العقل بمدح فاعله والمنع من تركه ولذا قرر الالزام به الحكومات والدول حتى الملحدة منها فيجب بحكم العقل وجوبا عقليا فيتحقق فيه الدعامة الأولى ثم بواسطة الدعامة الثانية وهي كلما حكم به العقل حكم به الشرع يثبت وجوبه شرعا فقد استفاد العقل الحكم الشرعي بوجوب رد الوديعة من المقدمات التي هي ثابتة عنده من دون حاجة لخطاب شرعي بخلاف

٨٧

وجوب المقدمة شرعا فإنه يحتاج إلى نص شرعي خارج عن الدليل العقلي عليه يدل ذلك النص على وجوب ذيها وهكذا في مثل أكل مال اليتيم بلا عوض يحكم العقل بذم فاعله ومنعه عن فعله فيحرم بحكم العقل حرمة عقلية فيتحقق فيه الدعامة الأولى ثم بواسطة الدعامة الثانية وهي كلما حكم به العقل حكم به الشرع يثبت حرمته شرعا فاستفيد الحكم الشرعي من الدليل العقلي المستقل بدون الاحتياج إلى نص شرعي في أي مقدمة من مقدمات هذا الدليل العقلي أو في الخارج منها بخلاف حرمة الضد على القول بها فإنه يحتاج إلى نص شرعي خارج عن الدليل عليها يدل على وجوب الشيء لكنك قد عرفت إن هذا إنما يتم فيما لو اطلع العقل على المصلحة والمفسدة في الفعل وإما مع الجهل فلا مجال له ولذا لم يكن للعقل المستقل مسرح في أغلب العبادات. ولا في سائر كيفياتها والاكثرون ذهبوا إلى ثبوت هذه الدعامة الثانية.

وناقش في صحة هذه الدعامة الثانية بعض الاخباريين وجملة من فطاحل المتأخرين والدليل عليها إن الميزان في صيرورة الفعل محرما أو واجبا هو بغض المولى له ، وإراداته له ولو لم يكن في البين خطاب وليس الميزان الخطابات الصادرة من المولى بالحرمة أو الوجوب بدليل استقلال العقل بصحة معاقبة العبد على المخالفة لو علم بارادة المولى للعمل منه أو بغض المولى العمل منه ولو لم يكن خطاب للمولى بذلك العمل بل العقل يستقل بأن العبد لا يستحق العقاب على مخالفة الخطاب بوجوب العمل إذا علم بعدم إرادة المولى لذلك العمل وهكذا عدم استحقاق العقاب على فعل العمل إذا خالف الخطاب الحرمة إذا علم العبد بأن المولى لا يبغض العمل كما هو الشأن في إنقاذ ابن المولى وإنقاذ

٨٨

عدو المولى فليس الحكم الشرعي هو الخطاب الشرعي الفعلي بأن يصل اليهم قول النبي (ص) صلّ أو صم وإنما هو إرادة المولى وكراهته المكشوف عنهما بالخطاب الشرعي كما يشهد بذلك الوجدان فإن من علم إرادة المولى بشيء أو كراهته له وخالفه عدّ عاصيا من غير حاجة إلى كاشف لفظي عنهما كيف ولو قلنا بأن العقاب والثواب مقصوران على الخطاب اللفظي لزم أن لا عقاب ولا ثواب لو قام على إرادة المولى الالزامية الاجماع أو الضرورة أو التقرير أو السيرة على القول بحجيتها. وإذا حسن العقل شيئا نراه حسنا عند المولى فالمولى يريده وإذا قبح العقل شيئا يراه قبيحا عند المولى فالمولى يبغضه.

ودعوى احتمال إن علم العبد بالحسن جهلا مدفوعة بأن العالم لا يحتمل ذلك وإن احتمل غيره ، وقد أورد على هذا الدليل بعض الفطاحل بما حاصلة : ـ

ان مجرد حسن الفعل أو قبحه لا يوجب إرادة المولى له من العبد وزجره عنه بل لا بد في حصول الارادة الباعثة من المولى له أو الكراهة الزاجرة من المولى عنه وهما لا يحصلان إلا لدواعي أخرى ولا غراض أخر بشهادة الوجدان فإن العقلاء كثيرا ما يريدون عدم صدور هذا العمل الحسن من العبد حرصا على راحة العبد أو يريدون صدور هذا العمل القبيح من العبد لبغضهم وكراهتهم لذلك العمل كإنقاذ العبد لمن تكرهه نفوس مواليهم فالخطاب الطلبي متقوم بالبعث نحو العمل والخطاب الكراهي متقوم بالزجر وهما مرتبتان متأخرتان بعد الارادة والكراهة وليس علم المولى بالحسن علة تامة للبعث نحو العمل اذ قد يكون له دواعي واغراض توجب عدم بعثه نحو ما علم حسنه وهكذا علم المولى بقبح العمل لا يوجب زجره عنه اذ قد يكون له

٨٩

دواعي توجب عدم زجره.

والحاصل ان البعث والزجر يختلفان باختلاف الاحوال والاشخاص وغلبة الشهوات والتفاوت في الملكات وملاحظة نظام الكائنات. وذلك حتى بالنسبة لله تعالى كما في صورة مزاحمة ما فيه المصلحة الملزمة لما كان فيه مصلحة ملزمة أهم منه فإنه يقبح من الله تعالى ان يريد المهم دون الأهم مع ما في المهم من المصلحة الملزمة وكما في صورة عدم استعداد العبد وقابليته لتلبية بعث المولى وزجره فانه لا يصدران من المولى للعبد مع علمه بحسن العمل أو مفسدته ألا ترى.

كما هو الحال بالنسبة للمسلمين في مبدأ الاسلام فانهم لم يخاطبوا بتكاليف الاسلام بأجمعها مع ما فيها المصالح والمفاسد الملزمة حيث لم يكن لهم استعداد وقابلية لارادتها منهم لنفرتهم منها ولذا جاءت لهم الاحكام الشرعية الالزامية تدريجية وهكذا الصبي المراهق للبلوغ ، فانه لم يحكم عليه باحكام الاسلام مع أن الواجبات والمحرمات بالنسبة اليه فيها مصالح ومفاسد ملزمة لكن لم يكن له استعداد وقابلية لإرادتها منه أو من جهة المشقة والحرج كما في السواك فقد ورد عن النبي (ص) «لو لا أن أشقّ على أمتي لامرتهم بالسواك عقيب كل صلاة».

وكما في صورة عدم قابلية المحل للارادة والزجر نظير نفس الطاعة والمعصية فانه يحكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية مع عدم تعلق طلب الله تعالى بالطاعة له ولا نهيه بالمعصية له لعدم الفائدة فلو تعلقا كانا لغوا فظهر أنه لا ملازمة بين حسن العمل أو قبحه عقلا وبين إرادة الشارع وبعثه نحوه أو كراهته له وزجره عنه اللتين هما القوام والروح للخطاب بالايجاب أو التحريم.

هذا ملخص المناقشة في الدعامة الثانية ولكن الحق عدم صحتها فإن

٩٠

المراد بالحسن هو الحسن الفاعلي أعني الذي يقطع العبد بأن يستحق الثواب بفعله ممن هو ولي الأمر والعقاب على تركه منه ومن قطع بذلك لا يتطرقه الاحتمال بمزاحمة الاهم ولا غير ذلك وإذا قطع بذلك لا محالة يقطع بأن المولى يريده منه ولا يرضى بتركه وهكذا المراد بالقبح هو القبح الفاعلي أعني الذي يقطع العبد بأن يستحق العقاب بفعله ممن بيده الامر ومع قطعه بذلك لا يتطرقه كل احتمال ينافيه فلا محالة عند ذا يدرك عقله ان الشارع الذي هو بيده الامر ببغض صدور ذلك منه وقد حققنا ذلك وأوضحناه في كتابنا الاحكام وشئونها.

وأما الايراد على هذه الدعامة بالاوامر الامتحانية بأن يأمر المولى العبد بشيء لا يريده المولى ولكن اختبارا للعبد. فهو لا يرد على هذه الدعامة لأنه لم يحكم العقل بشيء لم يحكم به الشرع وإنما يرد على عكسها وهو كلما حكم به الشرع حكم به العقل وليس هو محل كلامنا فمن أراد تحقيق ذلك فليراجع كتابنا الأحكام وشئونها.

وأما الايراد عليها بالطاعة والمعصية وعدم تعلق الامر والنهي بهما. فجوابه ما أجبنا به عن الايراد بالحرج من طرو عنوان عليهما يبدل الحكم العقلي وهو حكم العقل باللغوية يدركه نفس العاقل للحسن والقبح.

وينبغي التنبيه على أمور :

أحدها أن خلاصة ما تقدم هو أن الكلام في الدليل العقلي يكون في تشخيص الدليل العقلي الذي يستفاد منه القطع بالحكم الشرعي ولذا تجدهم في هذا المقام يبحثون في إعادة قاعدة التحسين والتقبيح للقطع بالحكم الشرعي وهكذا يبحثون عن الاستحسان والمصالح المرسلة والاستقراء والقياس بناء على أنها أدلة عقلية غير مستقلة وغيرها من الادلة

٩١

العقلية المستقلة.

وأما البحث عن حجية القطع فليس محل كلامهم كما هو الحال في الظن فانهم يبحثون في حجية ما أفاده الظن كخبر الواحد وظهور الكتاب والشهرة ونحوها وأما مسألة حجية الظن المطلق فهي إنما كانت في الازمنة المتأخرة ولهذا لا نجد أحدا من المنكرين لحجية القياس ونحوه ويقولون بحجية الدليل العقلي يمنعون من حجية القياس أو الاستقراء أو نحو ذلك إذا افادت القطع بالحكم الشرعي.

ثانيها : إنا إذا قلنا إن العقل إنما تكون دلالته حجة إذا أفاد القطع كأنه مقدما على سائر الأدلة النقلية لأنه مع القطع بالواقع ينكشف الواقع فتسقط دلالة كل دليل بالنسبة للقاطع فمن المستغرب جدا ممن يعد العقل الذي يدل دلالة قطعية على الحكم الشرعي في عداد الادلة الدالة على الحكم الشرعي ويجعله دليلا رابعا عند فقد الادلة الثلاثة الكتاب والسنة والاجماع مع أنه من الواضح أن القطع يتجلى به الواقع فلا يؤثر أي دليل معه فان من قطع بأن هذه هي الشمس الواقعية لا يؤثر أي دليل عنده على أنها ليست بالشمس الواقعية ويعد القاطع البرهان على خلاف ما قطع به من السوفسطائيات ، ولعل منشأ الاشتباه هو اختلاط الامر عليه بين العقل بحسب دلالته على الحكم الشرعي الواقعي وبين العقل بحسب دلالته على الحكم الظاهري فان الثاني لا يدل إلّا بعد عدم الظفر بالكتاب والسنة والاجماع فإذا ظفر بواحد منها أخذ به لا بحكم العقل لزوال موضوع حكم العقل ومع عدم الظفر بدلالة واحد منها على الحكم الشرعي يحكم العقل حينئذ أما بالبراءة أو الاستصحاب أو التخير أو الاحتياط كما هو رأي بعض الأصوليين وبعضهم الآخر يرجع للنقل مع عدم الظفر حيث أن من النقل ما يدل

٩٢

على البراءة والاستصحاب والتخيير والاحتياط. وما درى بأن محل الكلام هو العقل باعتبار دلالته على الحكم الواقعي الشرعي الفرعي كاللام في القرآن والسنة.

كما يحتمل أن منشأ الاشتباه هو أن مثل الاستقراء والقياس ونحوها من الادلة العقلية يرجع إليها بعد فقد الكتاب والسنة والاجماع في المسألة وهي تدل على الحكم الواقعي وما درى أن مثل القياس ونحوه من أدلة العقل الظنية فهي لا تفيد القطع ، وأما لو أفادت القطع بالحكم تقدم على سائر الأدلة النقلية.

ثالثها : أن من قال بحكم العقل في الحكم الشرعي هو حكم العقل بواسطة المقدمات الموجودة عنده المؤدية إلى حكمه بأن الشرع قد حكم بهذا الحكم في هذه الواقعة وهذا لا ينافي ما هو ضروري الدين من أن الحاكم هو الله تعالى فالعقل وإن كان له أحكام انشائية وإلزامية واستحبابية وكراهية وإباحية كما هو الشأن حتى في عقول الملحدين فان عقولهم تنشأ أحكاما كذلك يعملون على طبقها ومنها القوانين والانظمة الدولية إلا أنه ليس المراد هي هذه الاحكام وانما المراد بها هو حكم العقل بأن الشرع هذا هو حكمه في المسألة نظير ما يحكم العقل بأن الملك قد حكم بأخذ الضريبة من ذوي الاملاك وأما ما ذكر من الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع فالمراد بحكم العقل باستحقاق العقاب على فعل الواقعة أو تركها ممن بيده الامر فإن هذا الحكم من العقل يلزمه عقلا أن يكون الشارع قد حكم على طبقه كما حققناه في عدة من مباحثنا.

رابعها : أن العقل باعتبار دلالته الاستقلالية القطعية على الحكم الشرعي لا توجد إلا في الموارد التي هي من ضروريات الدين وهي

٩٣

لا بد وأن يوجد على طبقها دليل نقلي من الكتاب أو السنة ولعله من الشاذ النادر وحتى الآن لم أجد موردا للعقل يدل على حكمه الشرعي دلالة قطعية ولم يكن في مورده دليل نقلي وربما يتوهم بأن الاستقراء والقياس وأمثالها هي أدلة عقلية وتوجد في موارد كثيرة لم يقم النص عليها فإنه فاسد لانها : ـ

أولا ليس من أدلة العقل القطعية وإنما هي من أدلة العقل الظنية. ولو سلمنا أنها دلت دلالة قطعية فهي لدى الحقيقة من الادلة العقلية الغير الاستقلالية التابعة للنص الشرعي المسماة بالادلة العقلية التبعية الاستلزامية لأن القياس هو الحاق الواقعة بواقعة أخرى في حكمها الشرعي لمشابهتها له في علة الحكم فيكون الحكم في المقيس تابعا للدليل النقلي الموجود في الواقعة المقيس عليها وهكذا الاستقراء فإن استقراء العقل للأحكام الشرعية للجزئيات ليحكم على كليها المجهول الحكم بحكم تلك الجزئيات فيكون حكم العقل على هذا المجهول بواسطة الأدلة النقلية على جزئياته ونحن كلامنا في دليل العقل المستقل. نعم لو قلنا أن دليل العقل المستقل أن يدل على الحكم الشرعي المستقل ولو كانت دلالته من جهة انضمام النقل اليه كان القياس ونحوه دليلا عقليا مستقلّا لأنه يدل على حكم الفرع مستقلا لا تبعا لحكم الأصل فهو ليس نظير وجوب المقدمة فانه دائر مدارها.

والحاصل أن المناط في الاستقلال وعدمه هو استقلال الحكم المدلول عليه في الوجود لا استقلال الدليل إلا أن الظاهر من كلمات الفقهاء بل الذي يقتضيه الاعتبار أن المناط في استقلال الدليل العقلي هو عدم توقفه في دلالته على النقل ، فالاستقلال باعتبار الدلالة لا باعتبار المدلول وهو الحكم الشرعي.

٩٤

وقد يتوهم فيقال : كيف تدعى استغناء الشريعة الاسلامية عن الأحكام العقلية مع أن المدنية الاسلامية في أمس الحاجة الى البحث الذي يزيل الغبار الذي تراكم عليها من أمد بعيد عن أهليتها لقيادة الانسانية نحو المثل العليا وتوجيهها نحو المرتبة الاسمى من الصلاح والاصلاح وهذا لا يتم لنا إلّا إذا ظفرنا بالمناهل التي نستمد منها الاحكام الشرعية على الوجه الصحيح ونستند في فهمها الى العقل السليم كيف لا والمدنية الاسلامية ليست كغيرها من المدنيات التي حددت لنفسها الحياة ضمن إطار خاص أو. نظرة للانسانية من زاوية خاصة وإنما اتجهت للشئون الحيوية من جميع نواحيها وتطلعت إلى رفع مستوى للحياة في سائر ميادينها ونظرت للانسانية بوجودها الفردي والنوعي وأرعت صالحها في سائر ظروفها وتقاديرها في أسلوب منقطع النظير وتشريع يساير تطور الحياة وتقدمها ويشايع شعاب آرائها وتفكيرها في سائر اتجاهاتها. وعليه فليس من المعقول والمنطق أن نجعل العقل بمعزل عن هذه المدنية بل لا بد أن نراعي مصادر هذه للشريعة على ضوء العقل السليم المجرد عن مخالطة الهوى والشهوات ولهذا كانت مهمة الفقيه شاقة جدا تتطلب الإحاطة الدقيقة بمصادر الحكم الشرعي وبالتبصر في مؤداها وبالظروف التي وردت فيها ومدى المصلحة التي اقتضتها وبطبيعة الحياة الحاضرة ومساعدة ظروفها للأخذ بها بأي نحو وعلى أي كيفية ودرس سنن الطبيعة العامة المسيرة للحياة على وجه الارض وما قد تفاجئ به من التقلبات والاحداث التي تجعل من الضرورة التوسع في الحكم والتضييق فيه مراعاة لرفع الحرج والضرر في هذه الشريعة ومسايرة للسماحة والسهولة فيها.

ومما يحكى في هذا الباب أن بعض الفقهاء كان جالسا في مكان جميل

٩٥

هيئت فيه وسائل الراحة فسئل عن الطواف في الحج فأجاب السائل أنه ينبغي الاحتياط بإعادة الطواف مرتين مرة بين المقام والكعبة ومرة خارج المقام فأجابه السائل قائلا سيدي أنت هنا في هذا الجو الجميل وما تدري ما يقاسي الطائف بالبيت من الصعوبة وهذا ما يجعل الانسان يترك الحج ويصبح من الأعمال التي لا تطيقها النفوس ولا ترضاها العقول فعليك بإتعاب النفس في الاجتهاد لمعرفة الحكم والفتوى دون الاحتياط.

نعم قد يتخيل المتخيلون ذلك ولكن لا يصح أن يعطى للعقل السلطة التامة في معرفة الاحكام والحرية الكاملة في تفهمها وتعقلها ونبذ الكتاب والسنة والاجماع وراء الظهر لأن ذلك ينتهي بنا إلى إيجاد شرع جديد كيف والاحكام الشرعية أمور توقيفية لا مسرح للعقل فيها لقصوره عن الاحاطة بجهاتها وخواصها وأسرارها مع ما نرى من بناء الشرع على جمع المختلفات وتفريق المجتمعات كما يشهد بذلك دية أصابع المرأة فأي عقل يدرك ذلك وكيف يطمئن العاقل فضلا عن الفقيه الخبير بالحكم بالتأمل فيما بدا له من الجهات ولهذا لا نرى فقيها من أول الطهارة إلى آخر الديات اعتمد على عقله في حكم من الاحكام بدون الاستناد إلى النصوص والقواعد الشرعية. نعم لو حصل له القطع بالحكم الشرعي كان القطع حجة له وعليه ، لكن الكلام في حصوله من الادلة العقلية التي ذكروها كالاقيسة والاستحسانات وغيرها بل وحتى قاعدة التحسين والتقبيح فانها ليست توجد إلا في موارد نادرة ثبت حكمها بالضرورة كرد الوديعة وقتل النفس المحترمة لأن موضوعها هو ما حكم العقل باستحقاق العقاب على تركه والثواب على فعله مما بيده الأمور وله السلطة والسطوة كيف ولا ريب في أنه ليس للعقل الاطلاع

٩٦

على أسرار الاشياء والاحاطة بجميع جهاتها من حاضرها ومستقبلها حتى يستطيع الجزم باستحقاق العقاب أو الثواب ويستكشف من ذاك حكم الشرع ولذا نجد أخبارنا مشحونة بما يدل على أن الدين لا يصاب بالعقول وأن الاحكام الشرعية لا تدرك بالأفكار وأن الاستقلال في استنباطها محق للشريعة.

نعم على العقل البحث في الأدلة الشرعية ومعرفة مقاصدها وكشف أسرارها وإظهار دفائنها وما تهدف إليه من حقائق ودقائق على أن تكون الادلة النقلية زيت سراج ولولب جهاز لا أن يكون العقل له الاستقلال والاستبداد بالحكم بالاستحسانات والظنون التي ما أنزل الله بها من سلطان وقد أشبعنا هذا الموضوع بحثا وتدقيقا في عدة من مقالاتنا المنشورة والمسطورة.

٩٧

المصدر الخامس

القياس

القياس : وهو إلحاق واقعة لا دليل معتبر على حكمها بواقعة أخرى قام الدليل المعتبر على حكمها بتسرية حكمها لها لاشتراكهما في العلة التي شرع لها الحكم قياسا للوقائع باشباهها والحاقا لها بنظائرها ومما مثلوا له به ما ذكروه في النبيذ من أنه محرم شربه قياسا على الخمر لاشتراكهما في علة تحريم الخمر وهو الاسكار.

وتسمى الواقعة المقيس عليها بالأصل والواقعة المقيسة بالفرع وهذا يرجع للدليل العقلي الغير المستقل المسمى بالاستلزام. ومنع داود الظاهرى من الأخذ به وقال انه لا يفيد إلا الظن بالحكم.

والحنفية يأخذون به ويقدمونه على خبر الواحد الغير المشهور. وأحمد بن حنبل لا يعمل به إلا عند الضرورة والحق انه ليس بحجة إلا إذا أحرز العلة التامة للحكم عند المشرع لاستحالة انفكاك المعلول عنها واحرازها قد يكون بالاجماع كقوله أغسل ثوبك من بول ما لا يؤكل لحمه فانه يقاس على الثوب كلما يشترط فيه الطهارة كالبدن وموضع السجود للاجماع على ان علة الغسل هو النجاسة به وقد يكون احراز العلة من الكتاب والسنة بان يقال لعلة كذا أو لأجل كذا أو باللام أو بالباء أو نحو ذلك ودعوى ان القياس مطلقا يفيد الظن لو سلمت فالظن ليس بحجة ما لم يقم دليل على اعتباره.

وتوضيح الحال أن القياس على أقسام ثلاثة : ـ

٩٨

الأول : ـ هو القياس المستنبط العلة بالحدس وهو الذي لم يصرح الشارع بعلة الحكم في الأصل اعني المقيس عليه بل الفقيه استنبط علة الحكم في الأصل حدسا ، وللعاملين بهذا القسم من القياس طرق في معرفة العلة واستنباطها.

منها : الدوران وهو استلزام الشيء ـ للحكم في الأصل وجودا وعدما بمعنى انه عند وجوده يوجد الحكم في الأصل وعند عدمه ينعدم الحكم في الأصل فيحدس من ذلك ان هذا الشيء هو العلة للحكم فاذا وجد في موضع آخر يثبت الحكم له وقد مثلوا له بما لو قال الشارع الخمر حرام فيستنبط الفقيه ان علة حرمة الخمر هو الاسكار لدوران الحرمة مداره لأن ماء العنب قبل بلوغه حد الاسكار ليس بحرام وبعد تجاوزه الاسكار وخلوه عنه وصيرورته خلا أيضا ليس بحرام فيفهم الفقيه أن علة الحكم هو الاسكار لأنه قبله ليس بحرام وبعده أيضا ليس بحرام فيحكم بحرمة النبيذ لوجود تلك العلة المستنبطة فيه.

ومنها. الترديد ويسمى بالسبر والتقسيم وهو عدّ أوصاف الأصل وسلب صلاحية علية كل واحد منها فما لا يصلح سلب عليّة للحكم يحدس بانه هو العلة والإلزام ثبوت الحكم بدون ثبوت العلة له فاذا ثبت هذا الوصف في الفرع ثبت الحكم للفرع.

ومنها : تنقيح المناط وهو الغاء الفارق بين الأصل والفرع فيقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وكذا وهي لا تصلح للتفرق بينهما في الحكم فيحدس ان القدر المشترك بينهما هو العلة للحكم.

ومنها : ـ تخريج المناط وهو تعيين العلة في الفرع بمجرد المناسبة بينها وبين الحكم من غير نص كالعدوان في القتل عمدا فإن العقل ينسب انه هو سبب أخذ القصاص فلو اعتدى على عضو اقتص منه.

٩٩

وهذا القسم من القياس أعني المستنبط العلة هو العمل بالرأي والتفسير بالرأي الذين نهي عنهما في أخبار متواترة عن الأئمة الشيعة وقام الاجماع المحقق والمنقول من الامامية على عدم حجيته وحرمة العمل به خلافا لشاذ منهم فقد حكي القول به عن ابن جنيد الاسكافي من قدماء الامامية في أوائل أمره.

والمحكي رجوعه بعد ذلك عنه وجعلوا تمسك بعض علمائهم به كالفاضل والشهيدين في بعض المسائل إنما كان لإلزام المخالف وما يتراءى من عمل أئمتنا (عليهم‌السلام) به فهو من باب التقية بل أدعي ان حرمته من الضروريات في مذهب الامامية ولذلك صارت كتب ابن جنيد الفقهية الاستدلالية مهجوره عند الشيعة مع أن له كتب كثيرة جيدة كما ذكره بعض الأصحاب وقد روي البيضاوي وغيره على ما حكي عنهم انه (ص) قال «تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فاذا فعلوا ذلك فقد ضاو» وحكي عن الرازي في محصوله انه (ص) قال «ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام».

الثاني : ـ هو القياس المنصوص العلة : ـ وهو ما نص الشارع بعلة الحكم في الاصل كما لو قال الشارع الخمر حرام لأنه مسكر وهذا وقع الخلاف في حجيته بين الخاصة على أقوال ثلاثة : ـ

قول عن السيد (ره) بعدم كونه حجة يعنى لا يمكن التعدي عن مورد النص إلى غيره لأن العلل الشرعية ليست بعلل تامة حقيقية حتى لا يمكن تخلف المعلول عنها حيث وجدت العلة.

وقول عن العلامة بحجيته مطلقا.

وقول بالتفصيل بين كون العلة بطريق الاضافة كما لو قال الشارع

١٠٠