مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة الآداب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

واستدلوا على المنع بالاجماع المحكي عن المرتضى (ره) على المنع من العمل بالخبر الغير المفيد للقطع والمحكي عن ظاهر كلام الطبرسي وجوابه أنه منقول وهو غير حجة على أنه معارض بما هو المحكي عن الشيخ (ره) وجماعة على حجية خبر الواحد وموهون بما هو المشهور عند المتأخرين من حجية خبر الواحد وبالشهرة المحكية عن القدماء في العمل بخبر الواحد.

وأما الخبر المرسل والمنقطع فالمحكى عن أصحابنا أنه يعمل به إذا عرف أنه لا يرسل إلا عن ثقة كابن أبي عمير لدخوله إذ ذاك في الخبر الموثوق به وهو حجة وأما إذا لم يعرف ذلك فليس بحجة لأن العدل كما يروي عن الثقة كذلك يروي عن غيره. والتحقيق أن مجرد ذلك لا يوجب كون الخبر موثوقا به إذ غاية الأمر أنه لا يروي إلا عن ثقة عنده ولعله كان مجروحا عند القوم فلا يكون ثقة عندهم نعم لو عرف أنه لا يرسل إلا عمن كان ثقة عند الجميع كان المرسل موثوقا به لكنه مجرد فرض فالحق أن المرسل إذا عمل به المشهور كان حجة لحصول الوثوق به كمراسيل ابن أبي عمير والمحكي عن فقهاء أهل السنة إنهم متفقون على العمل بمرسل الصحابي سواء منهم الاحناف أو المالكية أو الحنابلة أو الظاهرية أو الشافعية أما عدا مراسيل الصحابة فالشافعي لا يعمل بها إلا إذا انضم الى المرسل ما يعضده كروايته عن طريق آخر أو روي مسندا من طريق آخر أو عمل به بعض الصحابة وكان يأخذ بمراسيل سعيد بن المسيب لأنه عنده شديد التثبت من الاحاديث المرسلة والتأكد من صحتها واتصالها.

وأما الخبر الضعيف فالمعروف أنه ليس بحجة لعدم قيام الدليل على حجيته فيدخل في أصالة عدم الحجية ولكن اذا انجبر ضعفه باشتهار

٦١

روايته بشرط عدم إعراض الاصحاب عنه ولو كان عدم إعراضهم بتوجيههم دلالته أو تأويلهم لها أو بيان المعارض له من دون القدح في سنده فهو حجة لحصول الوثوق بصدوره وهكذا لو عمل المشهور به واستندوا في فتواهم اليه وربما ادعي الاجماع على اعتبار الخبر الضعيف الموثوق بصدوره ويؤيد ذلك آية النبأ فان الظاهر من الجهالة فيها هو السفاهة ومن الندم هو التنديم لو عمل به أحد من العقلاء. وخبر الضعيف الموثوق بصدوره لا سفاهة ولا تنديم من العقل والعقلاء على العمل به فيكون حجة بحكم المنطوق لانتفاء علة وجوب التبين بالنسبة اليه.

وأما ما اشتهر روايته وقد أعرضوا عنه فهو ليس بحجة لعدم حصول الوثوق به ، نعم محل الكلام هو ما اذا كانت الشهرة في الفتوى على طبقه فهل تكون جابرة له فقد يقال بعدم جبرها له لأنها لا توجب الوثوق به وإن أوجبت الظن بصدور حكم من الشارع مطابق للخبر ولذا لا توجب الأولوية والاستقراء وسائر الأمارات المفيدة للظن بالحكم الشرعي على طبق الخبر جبر ذلك الخبر الضعيف وقد يدعى دلالة ما دل على الأخذ بالمشتهر بين الأصحاب من المتعارضين في مقبولة ابن حنظلة ومرفوعة زرارة فان الترجيح للمشتهر عند التعارض يوجب حجيته في مقام عدم المعارض بالاجماع والاولوية.

وفيه ما تقدم إن ذلك هو شهرة الرواية لا في شهرة الفتوى. وقد يدعى دلالة منطوق آية النبأ على حجيته لحصول التبين فيه بذهاب المشهور لمضمونه وفتواهم على طبقه إلا أن يقال أن المراد هو التبين الاطمئناني فمع حصوله لا ريب من الحجية من أي إمارة حصل وإلا فهو لا يوجب الحجية.

٦٢

«التسامح في أدلة السنن» :

نعم ظاهر أكثر الفقهاء ان لم يكن كلهم على اعتبار الاخبار الضعاف في اثبات المندوبات والمكروهات فقد حكى غير واحد بأنها تثبت بالروايات الضعيفة الغير المنجبرة لا بالقرائن ولا بالشهرة بل حمل الاخبار الدالة على الوجوب والحرمة على الاستحباب والكراهة عند ضعف سندها وعدم الجابر لها وقد استظهر المنع من التمسك بأدلة التسامح من الصدوق (ره) وشيخه في باب صلاة يوم غدير خم والثواب المذكور لصومه وعن المنتهى المنع أيضا في موضعين وعن المدارك في باب الوضوء إن ما يقال من إن ادلته يتسامح فيها منظور فيه لأن الاستحباب حكم شرعي يتوقف على دليل شرعي وان حكي عن صاحب المدارك انه رجع عن ذلك في باب الصلاة بل عن ظاهر العلامة أيضا الرجوع عن ذلك ، واستدل القائلون باعتبار الخبر الضعيف في السنن بأمور ثلاثة : ـ

الأول : الإجماعات المنقولة فقد حكي عن الوسائل نسبة ذلك إلى الاصحاب مصرحا بشمول الادلة للمكروهات أيضا وعن الذكرى نسبته لأهل العلم وعن الشيخ الانصاري نسبته للمشهور عند أصحابنا والعامة بل قد اشتهر عنهم القول بالتسامح في أدلة السنن.

والثاني : العقل لحكمه بحسن اتيان ما يحتمل مطلوبيته للمولى ورجحان ترك ما يحتمل مكروهيته للمولى.

الثالث : الاخبار المستفيضة أو المتواترة معنى مع تلقيها بالقبول من الاصحاب وعملهم بها مع صحة بعضها كالصحيح المروي في المحاسن عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) أنه قال : «من

٦٣

بلغه عن النبى (ص) شيء فعمله كان أجر ذلك له وان كان رسول الله (ص) لم يقله» وروي ذلك أيضا عن ثواب الأعمال سندين أحدهما صحيح والآخر معتبر ، وعن البحار أن هذه الرواية مشهورة بين العامة والخاصة والظاهر من شىء بقرينة فعمله وإضافة الأجر اليه هو الفعل المشتمل على الثواب وكالحسن أو كالصحيح المروي في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) أنه قال : «من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له أجره وان لم يكن على ما بلغه» ويحكى أن صاحب الحدائق أنه ذكر في آخر الدرر النجفية اثني عشر حديثا في هذا الباب وعن مرآة العقول للمجلسي أنه قد روته العامة بأسانيد عن النبي (ص) وقد نقل شهرة الفتوى بذلك عن المتقدمين والمتأخرين وعن عدة الداعي بعد ذكره طائفة من الاخبار المذكورة قال فصار هذا المعنى مجمعا عليه بين الفريقين وعن الشيخ البهائي أن هذا صار سبب تساهل فقهائنا في البحث عن دلائل السنن وأما المانعون من التمسك فاستدلوا على ذلك بأصالة عدم ثبوت الاستحباب والكراهة الى أن يقوم الدليل المعتبر على ثبوتها أو بأصالة عدم الحجية للخبر الضعيف الى أن يثبت حجيته.

والتحقيق في المقام أن يقال أن القائلين بالتسامح ان أرادوا حجية الأخبار الضعاف في المسنونات والمكروهات نظير حجية الأخبار الموثوقة بأن تكون حجة في مداليلها في عرض الأدلة لمعتبرة من التمسك بعمومها وإطلاقها ويخصص ويقيد بها حتى الأخبار الصحيحة التي هي أعم منها ويؤخذ بجميع مداليلها إلى غير ذلك من أحكام الحجية كما هو الظاهر من كلام الفقهاء حيث يقولون : ـ «هذا العمل مستحب للرواية الكذائية ، فإن ظاهره أن الرواية حجة شرعية يثبت بها الاستحباب ،

٦٤

بل هو ظاهر جميع من حرر هذه المسألة حيث يظهر من كلامهم أن الخبر الضعيف حجة في السنن. بأن يثبت به جميع مدلوله فإن تعبيرهم (بالتسامح في أدلة السنن) معناه أن أدلة السنن يتسامح فيها فلا يعتبر فيها ما يعتبر من الشرائط في أدلة الواجبات والمحرمات فالحق مع المانعين لأن الأدلة المتقدمة لم تكن لسانها وسياقها لسان جعل الحجية للخبر الذي تحقق به البلوغ وإنما سياقها ولسانها هو جعل الاستحباب المولوي للعمل الذي دل عليه الخبر الضعيف فهي غير دالة على أن الخبر الضعيف يكون حجة ودليلا كسائر الأدلة على الأحكام الشرعية يثبت به مدلوله من الاستحباب الواقعي أو الكراهة الواقعية مع ما أشتمل عليه مدلوله من جزئية الشيء أو شرطيته أو مانعيته وإنما يقتضي قيامه استحباب العمل أو كراهيته ، فمثلا إذا قام الخبر الضعيف على استحباب الوضوء للنوم وانه مما يثاب عليه وانه يكفي في الطهارة لما يعتبر فيه الطهارة فالأدلة المذكورة إنما تقتضي استحبابه للنوم وحصول الثواب على فعله للنوم فقط ولا تدل على أن الخبر الضعيف الدال على ذلك يكون حجة شرعية بأن يكون حجة يثبت به مدلوله من استحباب الوضوء وكفايته في الطهارة لما يعتبر فيه الطهارة بحيث يكون ذلك الخبر بنفسه دليلا على ذلك ولا يحتاج إلى دليل معتبر معه يدل على الكفاية كما لو كان الخبر المعتبر قد قام على ذلك فإنه بالخبر المعتبر لو قام على الاستحباب وثبوت الآثار الشرعية يكون حجة يتمسك بها على استحباب الوضوء وثبوت تلك الآثار الشرعية التي دل عليها كجواز الدخول به للصلاة أو لمس كتابة القرآن أو الطواف به أو نحو ذلك ، والحاصل أن الأدلة المذكورة لا تدل على أزيد من كون قيام الخبر الضعيف على الثواب على العمل توجب استحباب ذلك العمل ممن بلغه ثوابه وترتب الثواب

٦٥

المذكور عليه نظير الأخبار الدالة على جواز الشيء عند الشك في حليته فإنها لا تقتضي حجية الشك ودليليته على الحلية الواقعية بل نظير الأخبار الدالة على الأحكام للأعمال بعناوين طارئة عليها الموجبة لحسنها أو قبحها كعنوان إجابة المؤمن أو الحرج أو الضرر أو ليست تلك الأخبار تدل إلا على مطلوبية العمل إذا طرأ عليه بلوغ ثوابه ممن بلغه ذلك الثواب وليست دالة على أكثر من ذلك بأن تدل على أن الخبر الضعيف يكون حجة فيما دل عليه كالخبر المعتبر.

إن قلت إنها نظير الأخبار الدالة على ملكية ما في يد المسلم فانها تدل على دليلية اليد على الملكية الواقعية إذا طرأت على الملك ولذا يرتب عليها آثار الملكية الواقعية.

قلنا أن أدلة اليد ظاهرة في ذلك بما اقترنت بها من القرائن وليست الأدلة فيما نحن فيه ظاهرة في ذلك بل ظاهرة في عدم الجعل لأن جعل الحجية يقتضي الكشف عن الواقع والغاء احتمال الخلاف لا فرض عدم الثبوت كما هو الشأن في هذه الأخبار.

والحاصل أن الاخبار المذكورة تدل على استحباب العمل البالغ ثوابه على ممن بلغه ثوابه لوجوه.

منها إنها وارادة في مقام الترغيب على العمل المذكورة والترغيب من المولى على شيء يوجب ظهور اللفظ في محبوبيته للمولى إلا أن تقوم قرينة تمنع من انعقاد ذلك الظهور للفظ.

ومنها الوعد بترتب الثواب عليه وحكم الشارع بترتب الثواب على شيء يدل بظاهره على استحبابه استحبابا شرعيا مولويا إذ لا ثواب على غير الواجب والمستحب ولذا تجد الفقهاء يحكمون باستحباب كثير من الافعال لمجرد ورود الثواب عليها كالحكم باستحباب تسريح

٦٦

اللحية مثلا لقوله. من سرح لحيته فله كذا وكذا ، إلا أن يكون هناك قرينة تمنع من ذلك الظهور وإلا فمقتضى الظاهر هو الحكم باستحبابه ولا ريب عدم وجود قرينة فيما نحن فيه تمنع منه ، ومنها اهتمام الشارع بفعل ذلك العمل بالأخبار المتكثرة في ذلك فإنه دليل على مطلوبيته وسيتضح لك أكثر من هذا.

إن قلت أنه لا دلالة ولا إشعار للاخبار المذكورة على أن طرو عنوان البلوغ عليها موجب لحدوث مصلحة في العمل بها يصير مستحبا.

قلنا هي ظاهرة في ذلك لدلالتها على أن العمل بذلك يوجب ترتب الثواب عليه إذا صدر ممن بلغه لا من غيره فإن البلوغ لو لم يحدث مصلحة وحسنا لم يستحق خصوص من بلغه ذلك الثواب كما هو الشأن في سائر الادلة التي ترتب الثواب على الأعمال بواسطة طرو عنوان عليها كإجابة المؤمن أو تعظيمه أو نحو ذلك بل يمكن أن تكون نظير ما ذكره القوم في حجية خبر العادل بناء على السببية والموضوعية في أن قيام خبر العادل موجب لحدوث مصلحة فيما قام عليه توجب انشاء الحكم على طبقه غاية الأمر أن أخبار خصوص العادل في وجوب شيء أو حرمته تكون وجها من وجوه ذلك الشيء يقتضي وجوبه وحرمته فعلا. وأما في المستحبات فيكفي مطلق الخبر من كل مخبر ويكون الأخبار بها وجها من الوجوه يقتضي الاستحباب.

إن قلت إن ظاهر الأمر بها للإرشاد الى حكم العقل بحسن الانقياد في مورد بلوغ الثواب واحتمال المطلوبية على العمل الذي بلغه عليه الثواب وان كان الأمر ليس كذلك في الواقع وتكون نظير الأخبار الأمر بالاحتياط. فان الأوامر فيها ظاهرة في الارشاد إلى حسن

٦٧

الانقياد باتيان ما هو محتمل الوجوب وترك ما هو محتمل الاستحباب فان الظاهر من الأوامر المتعلقة بعنوان يكون حسن عقلا كونها إرشاد الى ما يحكم به العقل بل لا يمكن أن تكون مولوية لأن الأوامر المتعلقة بالطاعات ارشادية وإلا لزم التسلسل.

قلنا لا نسلم ان الأوامر المتعلقة بالطاعات لا تكون مولوية فان من الممكن أن تكون مصلحة في اطاعة أمر غير الأمر الذي تعلق به فيكون الأمر باطاعته مولويا أو تكون مصلحة في الاحتياط والانقياد لأمر محتمل أو نهي محتمل فيكون الأمر بذلك الانقياد والاحتياط مولويا والتسلسل غير لازم لأنه تنتهي الأوامر المولوية بعدم الجعل الشرعي لها ، وانما الاطاعة التي لا يمكن أن يكون الأمر بها مولويا هو الأمر بالطاعة المنتزع انتزاعا محضا من امتثال الأمر بمتعلقه من غير أن يجعل عنوانا برأسه.

إن قلت نعم ولكن لا ريب إن ظاهر الأوامر المتعلقة بما هو حسن عقلا كونها ارشادية لحكم العقل وعليه فيكون الظاهر من أوامر (من بلغ) هي كونها ارشادية لا مولوية نظرا الى أن موضوعها هو الإتيان برجاء ادراك ما بلغه من الثواب وفي بعضها قيد بطلب قول النبي (ص) وفي بعضها بالتماس ذلك الثواب وبعد ضم الأخبار المقيد منها للمطلق منها يستفاد منها أن موضوعها هو الإتيان بالعمل برجاء ادراك ما بلغه من الثواب مضافا الى ما يستفاد من تفريع العمل على البلوغ بقرينة الفاء الدالة على السببية فانه ظاهر في كون العمل مستند لبلوغ الثواب المحتمل فيكون موضوعها ينطبق عليه الانقياد الذي يستقل العقل بحسنه فيكون الأمر به ارشاديا لا مولويا.

قلنا نعم لا ريب في ظهور الأوامر في الارشادية إذا تعلقت بموضوع

٦٨

حسن عقلا ولكن فيما نحن فيه لا نسلم انها تعلقت بالعمل البالغ ثوابه بقيد أنه يكون برجاء إدراك الثواب لما فيها من الأوامر المطلقة المتعلقة بنفس العمل البالغ ثوابه غير مقيد باتيانه برجاء المطلوبية كصحيحة هشام المتقدمة والفاء لا تدل على السببية بل تدل على الترتب فقط مثل قولنا من سمع الآذان فدخل المسجد فله كذا من الثواب وكقولنا جاء زيد فعمر فخالد. وعليه فلم يكن الأمر فيها ظاهرا في الارشاد حيث لم يتعلق بالعمل بعنوان الانقياد بل ظاهر في المولوية كما هو الأصل في سائر الأوامر المتعلقة بنفس العمل. ومجرد وجود ما في بعض الروايات من تعلق الطلب فيها بالعمل برجاء درك الثواب أو طلب لقول النبي (ص) لا يوجب تقييد المطلقات لما تقرر في الاصول من ان الأمر المطلق لا يقيد بالأمر المقيد خصوصا في المستحبات فيكون في المقام أمران أحدهما بالمطلق والآخر بالمقيد مضافا الى انها لا توجب التقييد وانما هي لبيان عبادية ذلك الأمر الاستحبابي والترغيب اليه فانه نظير أن يقال «صلي طلبا للثواب أو خوفا من العقاب» فان هذا لا يقيد العمل بكونه بهذا العنوان بحيث يقيد به الأوامر الوجوبية بالصلاة لما عرفت أن قصد القربة بانحائه لا يؤخذ في متعلق الأمر العبادي وانما يكون لبيان أن العبادية متحققة بهذا العمل لا تكون إلا بقصد القربة بنحو قصد الثواب أو خوف العقاب فلا رافع لظهور الأمر في المولوية في مطلقاتها وبعبارة أخرى إن المستفاد من الاخبار استحباب نفس العمل شرعا لا استحبابه عقلا بعنوان الاحتياط والانقياد والاتيان به لحصول الثواب ولا ريب أن العقل لا يرشد لمحبوبية نفس العمل. وتوهم أن كون العمل يثبت له الأمر بعد عروض صفة البلوغ يقتضي قصد البلوغ في اثباته مستحبا

٦٩

فاسد فان ذلك لا يوجب ثبوت الحكم له بقصد البلوغ ألا ترى إن الاحكام الثابتة للاعمال بعد عروض التقية أو الاضطرار لا توجد قصدها عند فعلها إلا اذا قام الدليل على لزوم قصدها وهو أول الكلام. على أن في المقام قرائن على كون الأوامر في أخبار (من بلغ) مولوية منها ظهورها في التأسيس لا التأكيد لحكم العقل ومع الشك يحمل اللفظ على التأسيس وقد أشتهر عنهم أن التأسيس أولى من التأكيد وذلك لكون مقام المولى يقتضي اعمال مولويته بالإنشاء للحكم الشرعي لا تأكيد حكم العقل.

ومنها إنها لو كانت إرشادا وتأكيد لحكم العقل على حسن الانقياد لم تكن حاجة لهذه الأهمية في المستحبات بحيث بحث عليها هذا الحث الشديد وتكثر الاخبار فيه هذه الكثرة ولهذا كان اللازم حمل أخبار الاحتياط على الطلب المولوي لو لا اقترانها بالقرائن الموجبة لحملها على الارشاد ومنها إنها لو كانت ارشادية لم يتوقف الثواب على البلوغ اذ يكفي مجرد احتمال المطلوبية فان الظاهر من هذه الروايات إن للبلوغ عن النبي (ص) دخل في ترتب الثواب ولا ريب أن ثواب الانقياد غير متوقف على ذلك بل يكفي فيه مجرد احتمال المطلوبية من أين ما حصل.

ومنها أن العقل لا يحكم باستحقاق مقدار للثواب المسموع كما هو مدلول هذه الأخبار وإنما يحكم العقل باستحقاق أصل الثواب فلا تكون هذه الاخبار مؤكدة لحكم العقل ولا مرشدة له.

ومنها أن فهم الاصحاب للاستحباب المولوي منها وفهم الاصحاب جابر للدلالة عند أكثر الفقهاء مضافا للإجماعات المنقولة على استحباب نفس العمل وفهم العلماء من الاخبار أن العمل مستحب شرعا استحبابا

٧٠

مولويا في نفسه من حيث هو فإن ذلك يقوي به الظهور المذكور هذا كله على القول بثبوت الثواب والعقاب على العمل الانقيادي والمتجري به ، وأما على القول بعدم ثبوتها عليه كما هو الظاهر من كلمات الشيخ الانصاري أو إن الثواب والعقاب على صرف العزم على الطاعة والمعصية كما يظهر من صاحب الكفاية فلا بد من جعل الأوامر مولوية ولا تصلح للارشاد لعدم حكم العقل بثبوت الثواب على الانقياد :

إن قلت إنا لو حملناها على الاستحباب المولوي يلزم أن يحمل فيها الثواب على الثواب الاقتضائي لا الفعلي لأنه لو كان الخبر الضعيف مطابقا للواقع لكان الثواب ثابتا للعمل في الواقع وثواب ثابت له بمقتضى أخبار (من بلغ) فيلزم اجتماع المثلين فلا بد من حملها على الثواب الاقتضائي بمعنى أن الثواب يثبت له اقتضاء لا بالفعل بمعنى أنه يثبت له مع عدم المانع كاجتماع المثلين.

قلنا لا مانع من اجتماع الثوابين باعتبارين سلمنا لكن الاخبار المذكورة إنما تدل على ثبوت الثواب لو كان الخبر غير مطابق للواقع لا أن الثواب يثبت حتى مع المطابقة للواقع فهي دالة على ثبوت الثواب الفعلي في هذه الصورة.

إن قلت هذه الأخبار مفادها مجرد الأخبار عن تفضل الله تعالى على عباده بترتب الثواب على العمل الصادر ممن بلغه ثوابه بمقدار ما بلغه من الثواب فتكون هذه الأخبار شارحة ومخبرة عن تفضل الله بإعطائه الثواب البالغ على العمل الصادر ممن بلغه ذلك الثواب نظير (من سن سنة حسنة فله أجر من عمل بها) وليست في مقام بيان الحكم الشرعي للعمل المذكور حتى يكون مستحبا ولا أقل من احتمال ذلك

٧١

والدليل متى تطرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.

قلنا قد عرفت أن الاخبار المذكورة في مقام الترغيب والحث على العمل المذكور فهي ظاهرة في بيان الحكم للعمل المذكور. على أنه قد عرفت أن مجرد ترتيب الثواب على العمل يوجب ظهور اللفظ في استحبابه للملازمة العرفية بينهما ، ولذا الفقهاء يستفيدون استحباب العمل من ترتب الثواب عليه كقوله (ص) «من سن سنة حسنة فله أجر من عمل بها». مضافا الى أن بعضها أشتمل على لفظ «كان أجر ذلك له» وهو يقتضي الاستحقاق لا التفضل بالثواب.

مضافا إلى أن التفضل بالثواب لا ينافي المطلوبية الشرعية للعمل فإن الله في كل ثواب يعطيه للعبد من باب التفضل بل ظاهر التفضل بالثواب هو المطلوبية المولوية والمحبوبية الشرعية حيث لا يعقل تفضله بالاحسان على عمل وهو غير مطلوب له.

إن قلت أن بلوغ الثواب عن النبي (ص) لا يصدق إلا اذا قام الدليل المعتبر عليه ، وأما قيام الخبر الضعيف على الثواب فليس ببلوغ واطلاق البلوغ عليه مجازا.

سلمنا ولكن الظاهر من هذه الأخبار بيان أن حصول الثواب بالعمل البالغ عليه الثواب غير مشروط بمصادفة بلوغه للواقع فهي بصدد بيان عدم اشتراط الثواب بالمصادفة للواقع لا بيان أن البلوغ بأي نحو كان يوجب حصول الثواب من العمل فلا يصح التمسك باطلاق البلوغ لأن الأخبار ليست بصدد بيانه وإنما هي بصدد بيان حكم آخر وهو إعطاء الثواب نظير قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) فإنه لا يصح التمسك بإطلاق الأمر بالأكل في جواز أكل ما امسكنه بدون تطهيره حيث لم يقيده بتطهير موضع إمساك الكلب لها ووجه عدم صحة

٧٢

التمسك بالاطلاق هو أن الآية الشريفة بصدد بيان حكم آخر وهو حلية ما يصطاده كلب الصيد وانه ليس بميتة ، وعليه فلا يستفاد من هذه الأخبار حصول الثواب في صورة قيام الخبر الضعيف على الثواب حيث ليس في الاخبار المذكورة ظهور في خصوصها كما هو واضح ولا فيها ما يشملها بإطلاقه لما عرفت من عدم اطلاق للبلوغ المذكور فيها.

قلنا أن البلوغ لا يختص بصورة قيام الدليل المعتبر بل يشمل مطلق البلوغ ولو كان بنحو غير معتبر كالخبر الضعيف.

وأما دعوى عدم صحة التمسك بإطلاق البلوغ لأن الاخبار ليست بصدد بيانه وانما هي بصدد بيان ترتب الثواب ففاسدة لأن الأخبار ظاهرة في بيان البلوغ وتعميمه بقرينة تزيلها بمثل قوله (ع) «وان لم يكن الحديث كما بلغه» وقوله (ع) «وإن لم يكن الأمر كما نقل اليه» ، وقوله (ع) «وإن كان رسول الله لم يقله» ونحو ذلك فان هذا التذيل بذلك وأمثاله يعقد ظهورا للكلام في أنه بصدد بيان أن مطلق البلوغ وصرف وجوده بأي نحو كان موجبا لترتب الأثر.

إن قلت انه على هذا تكون أخبار (من بلغ) مخصصة لما دل على اعتبار الشرائط في العمل بخبر الواحد مع أن بينهما عموم وخصوص من وجه حيث أن أخبار (من بلغ) تعم الخبر الواجد لشرائط الحجية والفاقد لها وأدلة اعتبار الشرائط في حجية الخبر تعم الخبر الدال على الاستحباب وغيره فيقع التعارض بينها في صورة قيام الخبر الضعيف الدال على الاستحباب فلا وجه لتقديم أخبار (من بلغ) على أخبار اعتبار الشرائط في هذه الصورة.

قلنا أن أخبار (من بلغ) حاكمة على الادلة المذكورة لأنها ناظرة

٧٣

إلى أن الشرائط المعتبرة في البلاغ للاحكام غير معتبرة في البلاغ عن المستحبات وان مجرد البلوغ كافي فيها والحاكم يقدم على المحكوم ولا يلاحظ النسبة بينهما سلمنا لكن لو قدمنا أدلة اعتبار الشرائط في البلوغ على أخبار (من بلغ) أما أن لا يبقى لاخبار (من بلغ) مورد أو نلتزم بأنها ليست لتأسيس حكم الاستحباب للاعمال التي قام عليها الاخبار الضعاف وقد تقدم أنها ظاهرة في التأسيس لحكم الاستحباب بخلاف ما لو قدمنا أخبار «من بلغ» فإنه يكون لكل منها مورد يختص به ، هذا مضافا إلى أن العمل بها في مورد الاجتماع معتضد بالشهرة والاجماع المنقول فيكون الترجيح معها مضافا إلى أن ذلك ليس عملا بالخبر الضعيف بل هو عمل بأخبار من بلغ غاية الأمر أن الخبر الضعيف محقق لوصف البلوغ الذي هو الواسطة في ثبوت الحكم الاستحبابي الشرعي.

حاصل المطلب :

والحاصل أن أخبار من بلغ تدل على ثبوت استحباب نفس العمل البالغ عليه الثواب على من بلغه نعم لما كان استحقاق الثواب من المولى لا يثبت إلا إذا وقع العمل بقصد التقرب اليه بأي نحو كان بقصد امتثال أمره أو رجاء امتثاله أو رجاء الثواب أو خوف العقاب أو قرب المنزلة فمن أنى بالعمل المذكور بنحو يوجب التقرب إلى الله استحق بمقتضى هذه الأخبار الثواب الموعود عليه فيكون وزان استحباب هذا العمل وزان وجوب الصلاة مثلا في أنه متعلق بنفس العمل ولكن لا يسقط إلا اذا أتى به بقصد القربة لكونه أمرا عباديا أما في عمل الصلاة فواضح

٧٤

وأما في العمل الذي قام عليه الخبر الضعيف فلأن الثواب لا يعقل أن يستحقه العبد إلا إذا قصد القربة بأي نحو من أنحائها بفعله وبعض أخبار (من بلغ) صرحت بذلك ومن هنا ظهر لك وجه حمل الفقهاء الرواية الضعيفة الصريحة في الوجوب فضلا عن الظاهرة فيه على الاستحباب وان وجه الحمل هو أخبار (من بلغ) باعتبار أن الرواية لما كانت غير مثبتة للوجوب ولكنها يتحقق بها بلوغ الثواب كانت مقتضية لاستحباب العمل وليس الوجه في ذلك كون ضعفها قرينة على الاستحباب حتّى يقال أن ضعف الرواية لا يكون قرينة على التجوز في دلالتها وهكذا حملهم للرواية الضعيفة الدالة على الحرمة على استحباب للترك إنما يكون من جهة ما ذكرناه.

كما ظهر أن مجرد فتوى الفقيه باستحباب الفعل لا يحرز بها البلوغ فلا يصح من الفقيه الاعتماد عليها لأحتمال أنه استند في فتواه الى رواية غير دالة على الثواب على العمل أو استند لحكم العقل بالتحسين أو التقبيح أو إلى أصل عقلي فانه في هذه الصور لا يتحقق عنوان البلوغ عن النبي (ص).

فتوى المجتهد بمقتضى أدلة التسامح :

من هنا ظهر لك صحة ما حكي عن المشهور من الفتوى باستحباب العمل المذكور من دون تقييد الفتوى بمن بلغه ثوابه كما عن بعض.

وكذا لا حاجة إلى أن يذكر في فتواه بالاستحباب بأن الخبر الضعيف قام على وجوبه واستحبابه ليتحقق بذلك عنوان البلوغ للمقلد كما عن بعض آخر لما عرفت من أن الاستحباب يثبت لنفس العمل عند المجتهد بواسطة قيام الخبر الضعيف بنحو الواسطة في الثبوت.

إن قلت ان هذا يتم لو كان بأخبار (من بلغ) يثبت حجية الخبر

٧٥

الضعيف إذ بقيامه حينئذ يكون الدليل الصحيح قد قام على استحباب العمل في الواقع على الجميع كما هو الحال في كل واقعة قامت الامارة المعتبرة على حكمها الشرعي وأما بناء على أن أخبار (من بلغ) الأمر فيها للارشاد لحكم العقل بحسن الانقياد أو أنها لبيان التفضل على العباد فلا يجوز الفتوى من المجتهد باستحباب العمل حيث لا يجوز للفقيه البناء على استحباب العمل المذكور وإنما على الفقيه حينئذ أن يأتي به برجاء المطلوبية لأنه لم يثبت عنده إلا استحسان الانقياد به الذي هو عبارة عن إتيانه برجاء المطلوبية فلو أراد أن يفتي فلا يصح له أن يفتى إلا بإتيانه برجاء المطلوبية لأن هذا المقدار هو الثابت عنده ، وأما بناء على ان أخبار (من بلغ) مفادها ثبوت الاستحباب للعمل من جهة البلوغ فكذا لا يجوز للفقيه الفتوى باستحباب العمل إلا بتقيد العمل المذكور بالبالغ ثوابه نظرا إلى موضوعية البلوغ في ترتب الاستحباب أو إذا أفتى باستحبابه فلا بد أن يخبر بان في العمل خبر ضعيف على مطلوبيته ليتحقق بذلك البلوغ لمقلده ولا يجوز للفقيه أن يفتي باستحباب العمل مطلقا من دون ذلك لعدم ثبوت هذا الحكم لمن لم يبلغه الثواب والفرض أن مقلده العامي لم يبلغه الثواب. قال المرحوم الشيخ محمد تقي في تقريراته لاستاذنا آغا ضياء (ره) ولا يجدي في صحة ذلك أدلة نيابة المجتهد عن المقلد في استنباط حكمه لأنها إنما تكون في فرض شمول أدلة الحكم الشرعي ثبوتا لغير البالغ اليه الثواب لا في فرض اختصاصه بخصوص البالغ اليه الثواب فلا بد من تقييد الفتوى بما ذكرنا.

قلت : أما بناء على أن أخبار (من بلغ) لبيان التفضل أو انها للارشاد فالحق مع المشكل وأن الفتوى لا تكون إلا مقيدة كما هو

٧٦

الحال في أخبار الاحتياط.

وأما بناء على أن أخبار (من بلغ) تثبت استحباب العمل من جهة عروض البلوغ له فالحق جواز الافتاء من المجتهد باستحباب العمل غير مقيد لأن بلوغ الثواب عنوان يكون واسطة في الثبوت وليس له دخل في موضوعية الحكم نظير الشك في الطهارة في ثبوت الطهارة في الشبهات الحكمية وليس داخلا في موضوع الحكم كالضرر والحرج وقد ذكرنا في الجزء الاول من كتابنا النور الساطع ص ١٥٧ في مقام الرد على صاحب الكفاية حيث منع من تقليد من عمل بالأصول ما فيه الشفاء للصدور بصحة ذلك.

وإن شئت قلت إن الاجماع قد قام والادلة على جواز التقليد أيضا قد دلت على أن كل حكم شرعي وكل وظيفة شرعية لا يستطيع العامي معرفته بنفسه لحكمها ولا لوظيفته فيها ولا حظّ له في ذلك أن يرجع للعالم بها. ولا ريب أن معرفة أن هذا العمل مما بلغ عليه الثواب تحتاج إلى فهم مدلول الخبر والبحث عن معارضه وعلاج التعارض ونحو ذلك مما هو وظيفة المجتهد لا وظيفة العامي ، فإن معرفة مدلول الخبر تحتاج إلى معرفة علوم اللغة التي يشخص بها مدلول اللفظ. والبحث عن المعارض يحتاج إلى البحث عن الادلة والحاكم منها والوارد والبحث عن الاصول وعن مجاريها فلعل في المورد أصل يقتضي التحريم أو الكراهة. وعليه فلا يصح بقيام الخبر الضعيف العمل على طبقه.

وهذا لا يتحقق إلا ممن عنده ملكة الاجتهاد وقوة الاستنباط. وعليه فلا يصح من العامي أن يقلد المجتهد في نفس قاعدة التسامح

٧٧

إذ ليس يتمكن من تعيين مجراها ، نعم يجوز من المجتهد أن يرخص للمقلد فيما يؤمن فيه من الخطأ كترخيصه للعامي العمل ببعض الأدعية وللزيارات التي لم يكن فيها من الفقرات ما تنافي العقيدة ولكن ذلك في الحقيقة إفتاء منه باستحباب تلك الزيارات أو الأدعية لا إفتاء منه بقاعدة التسامح.

٧٨

«المصدر الرابع»

(العقل)

المصدر الرابع : العقل والمراد بالعقل هي القوة المدبرة والمديرة للبدن والمسيرة له في تصرفاته الاختيارية في صالحه وليس مرادهم منها هو القوة الكاملة الموجودة في الانبياء والأوصياء ولا الناقصة الموجودة في الهمج الرعاع وإنما مرادهم بها الموجودة في أواسط الناس الخالية من الشوائب ، والأوهام. فإن للعقل المذكور دلالة على الحكم الشرعي كالكتاب والسنة والاجماع بواسطة المقدمات التي أسسها واستنتج منها الحكم الشرعي فتلك المقدمات تسمى بدليل العقل. وليس المراد بدليل العقل ، ما دل العقل على حجيته وإلا لكان الكتاب والسنة والإجماع من دليل العقل فتلخص إن العقل باعتبار دلالته على الحكم الشرعي عد من الادلة كالكتاب فانه إنما عد من الادلة باعتبار دلالته على الحكم الشرعي.

ثم أن كانت المقدمات التي استنتج منها العقل الحكم الشرعي عقلية محضة لا يتوقف استنتاجه للحكم الشرعي منها على خطاب شرعي كاستنتاجه لوجوب رد الوديعة شرعا من حكم العقل بحسن ردها بحيث لا يرض بعدم ردها مع مقدمة كلما حكم به العقل حكم به الشرع فإن العقل يستنتج من هاتين المقدمتين العقليتين وجوب رد الوديعة واقعا وكحكمه بعدم حرمة شرب التتن الذي استنتجه العقل من مقدمة وجدانية وهي أن شرب التتن لم يقم دليل على حرمته شرعا مع المقدمة التي حكم العقل بها وهي قبح العقاب بلا بيان فيسمى هذا

٧٩

الدليل بالدليل العقلي المستقل ومن هذا الباب سائر المحسنات والمقبحات العقلية. وربما يخص الدليل العقلي المستقل بالقسم الأول وهو ما دل على الحكم الواقعي باعتبار أن مقدماته كلها عقلية.

وأما القسم الثاني : وهو ما دل علي الحكم بواسطة مقدمة وجدانية فيجعل من الدليل العقلي الغير المستقل لكون أحد مقدماته وجدانية غير عقلية ، فالمقدمات التي استنبط العقل منها الحكم الشرعي إن كان بعضها عقلية وبعضها شرعية فيسمى بالدليل العقلي الغير المستقل كحكمه بوجوب هذه المقدمة شرعا فإن الدليل العقلى عليه متوقف على خطاب شرعي بذي المقدمة وعلى مقدمة عقلية وهي استلزام وجوب المقدمة شرعا لوجوب ذبها شرعا وكحكم العقل بحرمة هذا الضد شرعا فانه يتوقف على مقدمة شرعية وهو حكم الشارع بوجوب ضده وحكم العقل باستلزام وجوب الضد شرعا لحرمة ضده شرعا.

وهكذا حكم العقل بانتفاء هذا الحكم الشرعي عند انتفاء شرطه بواسطة قيام الخطاب الشرعي على الحكم الشرعي بذلك الشرط بصيغة مثل الجملة الشرطية أو الوصفية أو اللقب.

نعم لو قلنا بأن استلزام وجوب المقدمة لوجوب ذيها واستلزام وجوب الشيء لحرمة ضده واستلزام الانتفاء للحكم لانتفاء ما علق عليه بدلالة اللفظ لا بدلالة العقل لم يكن الحكم المذكور بوجوب هذه المقدمة أو حرمة هذا الضد أو الانتفاء عند الانتفاء من الاحكام العقلية.

أصلا لا المستقلة ولا غير المستقلة وإنما تكون من الاحكام النقلية المحضة والذي بعد في صراط الادلة الأربعة لموضوع الأصول على الاحكام الشرعية هو القسم الأول أعني الدليل العقلي المستقل الذي يدل على الحكم الواقعي كمثال وجوب رد الوديعة وأما الدليل العقلي

٨٠