مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة الآداب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

ومع الشك فالأصل أنه لبيان الواقع وهذا الأصل عليه بناء العقلاء في محاوراتهم.

والثاني : أن يكون بعد الفحص عن عدم المعارض وعدم المخصص والمقيد له وعدم القرنية الحالية والمقالية.

وأما الفعل أو الترك الصادر من المعصوم فهو حجة يجب العمل به لمكان عصمة الفاعل عن الخطأ في فعله الذي طلبه الشارع في الواقع وعصمة التارك في تركه الذي أراده الشارع في الواقع ، وأما كون هذا الفعل أو الترك حجة على المكلف بدليل اشتراك المكلف مع المعصوم في التكليف ولا ريب أن الفعل من المعصوم يكون دليلا على الحكم إذا كان الفعل الصادر من المعصوم بيانا لمجمل ما أمر به ، وهكذا الترك الصادر منه إذا كان بيانا لما نهى عنه فإذا أمر المعصوم بشيء ثم اشتغل بفعل ذلك الشيء بحيث يعلم كونه بيانا منه له عباديا كالصلاة أم معامليا كالغسل (بالفتح) فالواجب على المكلف هو متابعة المعصوم فى فعله لذلك الشيء في جميع ما علم مدخليته في البيان وعدم وجوبه فيما علم بعدم مدخليته في البيان. واما المشكوك مدخليته في بيان الفعل فإن كان عملا كما لو قنت المعصوم في الصلاة ولم يعلم أن القنوت داخلا فيما فمقتضى وقوعه في العمل الذي هو البيان هو وجوبه لأن وقوعه في مقام البيان يقتضي أنه من البيان لما هو مطلوب في العمل من الاجزاء.

وأما إن كان هيئة للعمل وخصوصية له كالتوالي بين أجزاء الوضوء والغسل أو الابتداء من الاعلى في غسل الوجه فالظاهر عدم اعتباره لكون الهيئة والخصوصية من لوازم العمل فهو لا بد أن يقع على نحو من أنحائها فلا يراه العرف بيانا للعمل ولذا تراهم لا يعتنون بخصوصيات

٤١

الافعال بتمامها بل لا يمكن الاحاطة بها واحصائها للمكلفين فلو أرادها الشارع كان عليه البيان لها. كما أنه لا ريب في عدم حجية فعل المعصوم ما إذا علم اختصاصه به كما في خصائص النبي (ص) كزواجه زواجا دائميا بأكثر من أربعة وكذا إذا كان الفعل من العاديات ومن مقتضيات الطبيعة كالأكل والشرب والنوم ونحوها مما كان صدوره من الإنسان بحسب طبعه وعادته فإنه لم يكن دليلا على الحكم الشرعي نعم إنما يدل على إباحته كما يستدل على جواز القبلة من الصائم بما روي عن فعل النبي (ص) ذلك ، وهكذا التروك كتركه للنوم صباحا وقد يدل على استحباب نوع خاص منها أو كراهته فيما لو دل على محبوبية العمل الخاص بهذه الكيفية أو كراهته بكيفية خاصة.

إن قلت قد اشتهر ان المعصومين لا يصدر منهم المباح وإن أفعالهم كلها مستحبة ومندوبة.

قلنا ان مرادهم بما أشتهر هو أن المعصومين لا يأتون بالمباحات الذاتية إلا بعد قصد عنوان فيها يوجب رجحانها كإجابة المؤمن أو تعظيمه أو القوة على العبادة فالحكم برجحان الاتيان لا ينافي الاباحة الذاتية ومع احتمال الاباحة الذاتية لا دليل في الفعل على الرجحان. وهكذا لا يكون الفعل حجة إذا لم يكن بداعي بيان الحكم الواقعي كأن كان لأجل التقية ونحوها من مصالح إظهار غير الواقع بصورة الواقع ، نعم الذي هو حجة يستكشف به الحكم الشرعي لنظائر الواقعة هو الفعل الذي قصد به بيان العمل المطلوب مع العلم بجهة صدوره وإنه لبيان الحكم الواقعي لا أنه عمل صدر من جهة التقية ونحوها مما يوجب إبراز غير الواقع بصورة الواقع والعلم بوجهه من الوجوب أو الاستحباب أو الاباحة وعنوانه فإنه يكون حجة على ما دل عليه من متعلق الحكم

٤٢

الشرعي فإن الفعل إذا لم يعرف جهة صدوره ولا وجهه عن وجوب ونحوه لا يستفاد منه معرفة متعلق حكما شرعيا ، وهكذا إذا لم يعرف العنوان الذي قصد منه لا يستفاد منه ذلك لما هو على طبقه ونظائره ولا نأخذه دليلا على معرفة حكم ما شابهه ولو علمنا بأنه صدر منه على جهة التشريع ، فاذا صدر من المعصوم فعل شيئا كالتمشي في المسجد بعد الصلاة ولم نعلم أنه على جهة التشريع بأن احتمالنا أنه من جهة الالتذاذ أو لرؤية بعض الناس أو لتنشيط الاعضاء فلا نستفيد منه حكما شرعيا ، وهكذا لو علم بأنه على نحو التشريع ولكن علمنا بأنه لأجل التقية فلا يدل على الحكم الواقعي ، وهكذا لو علمنا بأنه صدر بنحو بيان التشريع ولبيان الواقع ولكن لا نعلم وجهه من كونه عبادة أو غيرها واجبا أو غيره فلا يدل على الحكم الواقعي فلا يحكم بعباديته ولا باستحبابه ولا بوجوبه ومع العلم بأنه صدر على نحو الوجوب ولكن لم نعرف عنوانه من أعمال هذا اليوم أو لهذه الصلاة أو بعنوان انه طواف أو انه منذور له فلا نحكم على نظائره وهذا هو المراد للفقهاء من قولهم في بعض الوقائع الصادرة من المعصومين «بأنها قضية في واقعة أو حكم في واقعة» فانه مرادهم أن هذا العمل الصادر من المعصوم لا يكون دليلا على الحكم في نظائره لعدم في العلم بارادة بيان التشريع منه أو لعدم العلم بحكمه أو لعدم معرفة عنوانه ، نعم لو كان للفعل ظهور في عنوانه وصدوره لبيان للتشريع ظهورا يعتني به عرفا فيمكن القول بحجية هذا الظهور كما هو حجة في باب الألفاظ باعتبار أن ظهور الالفاظ حجة من جهة اعتماد العرف عليه فهذا أيضا يكون حجة لاعتماد العرف فما هو الملاك في حجية الظهور في الالفاظ بنفسه موجود في ظواهر الأفعال وقد عرفت أن ما أشتهر من عدم صدور

٤٣

المباح من المعصومين المراد منه أنهم لا يأتون بالمباح الذاتي إلا بعنوان يوجب استحبابه فإتيانهم بها لا يدل على عدم إباحتها الذاتية. وعليه فلا وجه للاستدلال على وجوب الغسل عند التقاء الختانين وإن لم ينزل بما روته عائشة من غسل النبي (ص) لاحتمال أنه على جهة الاستحباب ، وهكذا أحكام المعصوم إذا لم يعلم جهة صدورها كقوله (ص) «من أحيا أرضا ميتة فهي له». إن كانت من باب الأذن والولاية فلا يجوز الاحياء بدون إحراز إذنه (ص) وإن كانت من باب الفتوى جاز ذلك. نعم لو شك في جهة التشريع في أنها لبيان الواقع أو للتقية فالأصل إنها لبيان الواقع لا للتقية ونحوها لبناء العقلاء على ذلك في محاوراتهم ، هذا كله في السنة قولا أو فعلا أو تركا.

وأما التقرير : ـ فهو عبارة عن سكوت المعصوم (ع) عن قول أو فعل أو ترك وقع باطلاعه ولم يردع عنه ، فان ترك المعصوم الردع والزجر عنه كاشف عن رضائه به وذلك يقتضي الجواز والصحة لوجوب إنكار الباطل والارشاد إلى الحق عليهم (ع) لكون وظيفتهم (عليهم‌السلام) بيان الأحكام ورفع الجهل بها عن الأنام ولكن حجيته سكوت المعصوم (ع) على الحكم الشرعي يشترط فيها شروط ثلاثة : ـ

أحدها : أن يكون المعصوم عالما بوقوع العمل علما عاديا وإلا فلا يجب عليه الردع فان المعصومين مأمورين بمعاملة الرعية بالعلوم الحاصلة من الاسباب العادية في باب الموضوعات ولذا كانوا يحكمون بينهم بالايمان والبينات بل المعصومين غير النبي (ص) يعاملون الرعية في الاحكام ايضا بالعلوم الحاصلة من الاسباب العادية أيضا ولذا

٤٤

كانوا يستندون في أحكامهم إلى الكتاب والسنة لا إلى إلهام فعلم المعصوم بالواقع والكائنات من طريق الالهام والغيب لا ينفع فيما نحن فيه ، وإنما الذي هو شرط هو العلم من الاسباب العادية ولو شك في علمه بالحادث من الاسباب العادية فبناء العقلاء والعرف على عدم العلم.

الثاني : أن لا يكون المعصوم (ع) خائفا من الردع والانكار وبيان الواقع والارشاد اليه ، إذ لو نعلم بذلك لم يكن سكوته كاشفا لنا عن رضائه بذلك من دون فرق بين الخوف على نفسه أو على غيره ولا بين الخوف على المال أو العرض أو النفس. ومع الشك في حصول الخوف للمعصوم (ع) فالأصل عدم الخوف وعدم حصول المانع من الردع والبيان للواقع.

الثالث : أن لا يكون الفاعل جاهلا بالموضوع كما إذا صلى بالثوب النجس جاهلا بنجاسته بمحضر المعصوم فقد ذكروا أن ليس على المعصوم إرشاده إذ لا إرشاد في الموضوعات كما يظهر ذلك من بعض الاخبار ولا نهي في حق الجاهل. وهكذا ان لا يكون مضطر اليه أو مجبورا عليه أو غير ذلك من مصححات المخالفة للواقع فانه لو كان واحدا من ذلك فلا يدل السكوت من المعصوم على الصحة والجواز ومع الشك في جهل الفاعل أو كونه مضطرا اليه أو عسرا عليه تركه فالأصل هو العدم لأن ظاهر كل فاعل عند العقلاء أنه عالم بالفعل غير ناسي ولا ساهي ولا مضطر اليه ولا عسر في تركه عليه فيكون سكوت المعصوم (ع) عنه دليلا على الصحة والجواز :

المقام الثاني : ـ ثبوت السنة بالحاكي لها

اثبات الحكم الشرعي بالحاكي للسنة وحجيته عليه يتكلم فيه من

٤٥

جهات أربعة :

احداها : إن الحاكي للسنة تثبت به السنة إذ مع عدم ثبوتها به لا يصح الاعتماد عليه وهذه الجهة هي محل البحث بين العلماء في حجية ما يحكى بها وعدمه ويسمى مبحث حجية الخبر ويبحث فيه وعن أي قسم منه يكون هو الحجة.

ثانيها : أن يكون صدور السنة المحكية به لبيان الحكم الواقعي لا لغرض آخر من تقية ونحوها مما يصحح إظهار خلاف الواقع بصورة الواقع ، وهذا يسمى بجهة الصدور فمع العلم به لا كلام لنا ومع الشك فالأصل فيه هو صدور السنة بجهة بيان الواقع لا لجهة أخرى من تقية أو استهزاء أو نحوها للقاعدة المجمع عليها بين العلماء والعقلاء على حمل ما يصدر من العاقل البالغ قولا أو فعلا أو تقريرا على ما هو المقصود منه ظاهرا بحسب المتعارف لبيان الواقع لا لغرض التقية ولا لغرض الاستهزاء أو الافتراء ونحوها ولذا لا يسمع دعواه ذلك إذا لم يأتي عليها بشواهد وحيث أن هذه الجهة معلومة الحال لم يتكلم فيها على سبيل الاستقلال.

ثالثها : إثبات دلالة الحاكي للسنة على الحكم الشرعي قولا كانت أو فعلا أو تقديرا وقد تكلف للبحث عن دلالة الحاكي للسنة إذا كانت قولا مباحث الالفاظ وأثبتوا فيها أن الظهور اللفظي هو الحجة كما أن البحث عن دلالة الحاكي للسنة إذا كانت فعلا أو تقريرا قد تقدم في المقام الأول.

رابعها : إثبات عدم المعارض للسنة وعلاج المعارض لها وقد تكفل لهذه الجهة مبحث التعارض. وعليه فالبحث عند الاصوليين في هذا المقام إنما هو في الجهة الأولى فقط مع الفراغ عن تمامية الجهات

٤٦

الأخرى. وعليه يتلخص البحث في المقام عن الخبر الحاكي للسنة المفروض انها لبيان الحكم الواقعي والمفروض تمامية دلالته عليها والمفروض عدم المعارض له في أنها هل تثبت بالخبر الحاكي لها أم لا تثبت إلا بما يفيد القطع بصدورها من تواتر أو قرائن أو نحوها.

ثم أن الخبر الحاكي للسنة إن كان رواته متصلين واحدا عن واحد بأسمائهم سماه الفقهاء ب (الحديث المسند) أو المتصل المسند وإن كانوا منقطعين بمعنى أن في السلسلة من لم يذكر أو عبر عنه بلفظ مبهم كأن يقول عن رجل أو عن بعض أصحابنا سماه الفقهاء ب (الحديث المرسل أو المنقطع) والمسند ثلاثة أنواع : ـ

الأول المتواتر : ـ وهو ما رواه جماعة كثيرة كثرة يمتنع بحسب العادة تواطؤهم على الكذب من زمن المعصوم (ع) حتى وصل الينا ويعتبر ذلك في جميع الطبقات لو تعددت وهو على قسمين :

متواتر لفظي وهو ما يفيد القطع بصدور هذا اللفظ من المعصوم (ص).

ومتواتر معنوي : ـ وهو ما يفيد القطع بصدور مضمونة كشجاعة علي (عليه‌السلام). والمتواتر حجة بقسميه لإفادته القطع واليقين بالسنة.

الثاني المشهور ويسمى بالمستفيض : ـ وهو ما رواه جماعة عن المعصوم ما يفوقون على الثلاثة مع عدم بلوغهم حد التواتر فلو وقعت الشهرة في الطبقة الاولى من الرواة له سماه الفقهاء مشهورا قديما وإن وقعت بين المتأخرين سمي مشهورا متأخرا ، وإن كانت الشهرة بين المتقدمين والمتأخرين سمي مشهورا على الاطلاق والاغلب على حجيته حتى أنهم يخصصون عموم القرآن به ويقيدون عموم القرآن به

٤٧

وذلك لحصول الوثوق بصدور السنة به والاطمئنان بذلك. ويكفي في معرفة كون الخبر مشهورا بمراجعة المصنفات الفقهية وكتب الروايات.

الثالث خبر الواحد أو الآحاد : ـ وهو من لم تبلغ رواته حد التواتر ولا الشهرة وبعبارة أخرى هو ما لم يتجاوز رواته الثلاثة ولو في طبقة من طبقاته والكثير من الفقهاء على جعل القسمين الأخيرين قسما واحدا ويجعل الخبر المشهور من الخبر للواحد فيكون عنده الخبر المسند على قسمين خبر متواتر وخبر واحد وقسموا الخبر الواحد غير المشهور إلى أربعة أقسام : ـ

الاول صحيح : ـ وهو ما كان مسندا تتصل رواته بالمعصوم وكلهم عدول.

الثاني الحسن : ـ وهو ما كان رواته ممدوحين بمدح لم يبلغ التصريح بالعدالة كلهم أو كانوا عدول ولكن فيهم واحد ممدوح لم يصرح بعدالته.

الثالث الموثوق : ـ وهو ما كان رواته مأمونين من الكذب بأجمعهم أو واحد منهم وكان الباقون عدولا.

الرابع الضعيف : ـ وهو ما لم يحرز كون رواته كذلك ويدخل فيه المرسل. والعلامة الحلي (ره) في كتابه المختلف كان يذكر الخبر بوصفه بالصحة وغيرها ويترك الخبر الضعيف بلا وصف وقد ذكره (ره) في خلاصته وصف أخبار كتاب الاستبصار والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه وميز الصحيح والحسن والموثوق والضعيف.

وكيف كان فمحل الكلام هو الخبر الغير المفيد للعلم بالصدور لا الخبر المتواتر ولا الخبر المفيد للقطع ولو بمعونة القرائن الخارجية

٤٨

حيث أن حجيتهما لا ريب فيها لحصول القطع بصدور السنة بهما وينحصر بحثنا هنا في الخبر الذي لا يفيد القطع سواء كان خبرا واحدا أو مشهورا ، والكلام تارة عن إمكان التعبد به وقد خالف فيه ابن قبة وبعض العامة وبطلانه واضح بعد ما سيظهر لك وقوع التعبد به فإن الوقوع أدل دليل على إمكان الوقوع وإلا لما وقع.

وتارة في وقوع التعبد به شرعا وإنه حجة شرعية وهو محط البحث هنا ، ثم أن البحث في حجيته ووقوع التعبد به شرعا تارة يكون من حيث وقوع التعبد به من باب حجية مطلق الظن في باب الاحكام الشرعية لدليل الانسداد أو غيره فلا يكون خبر الواحد على هذا حجة بنفسه بل من باب إفادته الظن ويكون حاله حال سائر ما يفيد الظن والبحث في ذلك سيجيء إنشاء الله في مبحث حجية مطلق الظن في باب الاحكام الشرعية.

وتارة يكون من حيث وقوع التعبد به بخصوصه مع الغض عن حجية مطلق الظن بحيث يتكلم في حجيته حتى لو كان مطلق الظن ليس بحجة وهذا هو محط النظر في هذا المقام وهو المخصوص بالكلام والفقهاء في ذلك على طوائف.

فمنهم من أنكر حجيته مطلقا وقال أن الخبر الغير الموجب لقطعية صدور السنة من المعصوم ليس بحجة وإنما الحجة ما أفاد القطع كالمتواتر والخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للقطع ، ونسب هذا القول لبعض الفقهاء الشيعة كالمرتضى وابن زهرة وابن البراج وابن إدريس والطبرسي وربما ينسب للشيخ المفيد وابن بابويه والمحقق ، وعن الوافية أنه لم يجد القول بالحجية صريحا ممن تقدم على العلامة وعن ابن الحاجب نسبة المنع عن العمل بخبر الواحد للرافضة وهو عجيب.

٤٩

ومنهم الاخباريون حيث عولوا على ما في الكتب المعتبرة وهي التي ألفها العلماء المعروفون بالعدالة وأخذ مؤلفوها على عاتقهم أن ينقلوا فيها ما ثبت عندهم صحته كالكافي ومن لا يحضره الفقيه والاستبصار وغيرها زعما منهم بأن ما فيها من الأخبار تفيد القطع واليقين بالصدور لوجود قرائن ادعوا إفادتها القطع بذلك وفي المحكي عن الوسائل أنهاها إلى خمس وعشرين قرينة وقد تفطن بعضهم لفساد هذه الدعوى فتنزل عن قطعية السند إلى قطعية الاعتبار وعليه فهو يقول بحجية الخبر الواحد وإن لم يفيد القطع بالصدور ولكن يقول بحجية خصوص ما كان في الكتب المعتبرة مطلقا حتى ما كان منه ضعيف السند أو مرسل سنده.

ومنهم من قال بهذه المقالة إلا أنه استثنى ما كان منها مخالف للمشهور فهو غير معتبر عنده كما هو المحكي عن النراقي (ره) : ومنهم من قال بأن الحجة من الاخبار التي لا تفيد القطع هو خصوص ما عمل به الأصحاب وينسب هذا القول للمحقق (ره).

ومنهم من قال بأن الحجة هو خصوص من كان رواته عدولا أو ثقات.

وأما أهل السنة فبعضهم أنكر حجيته ولكن جمهور فقهائهم على حجيته إلا أن الحنفي اشترط في غير ما هو مشهور الرواية ألا يخالف راوية العمل به وأن يكون موافقا للقياس والقواعد الشرعية وأن لا يكون في الوقائع التي تعم بها البلوى ولا فيما يتكرر وقوعه لأنه لو كان فيها لاشتهر أو تواتر.

والمالكي اشترط في حجيته أن يكون موافقا لما عليه أهل المدينة. واشترط الشافعي أن يكون رواته ثقات معروفين بالصدق عاقلين لما

٥٠

يحدثون به والخبر متصل السند.

إن قلت : ـ قد قام الاجماع من فقهاء الشيعة على العمل بالأخبار المدونة في كتبهم المعروفة المعتبرة كالكتب الاربعة في هذه الأعصار بل لا يبعد كونه ذلك من ضروري المذهب كما نص عليه الشيخ الأنصاري.

قلنا : ـ إن الإجماع إنما قام على العمل بما فيها بنحو الإجمال لا على العمل بكل واحد منها فلا يدري أي نوع منها كيف والعاملون بها اختلفوا فبعضهم عمل بها باعتبار إنها قطعية الصدور كما عن طائفة من الاخباريين وعليه فالذي لا يقطع بالصدور ليست حجة عنده.

أو من جهة القول بحجية الظن المطلق. وعليه فالذي لا يقول بحجية الظن المطلق ليست بحجة عنده من هذه الجهة.

أو من جهة كون الراوي لها في كل طبقه عدلا ضابطا زكاه عدلان ويسمى بالصحيح الأعلائي كما عن صاحب المدارك وغيره : وعليه فلا يكون الخبر الموجود فيها الذي ليس له هذه الصفة حجة عنده أو من جهة كون الراوي عدلا زكاه ولو عدل واحد ويسمى بالصحيح المشهور. وعليه فلا يكون الخبر الموجود فيها الذي ليس فيه هذه الصفة حجة عنده أو من جهة كون الراوي ثقة في مذهبه فيعتبر عنده من الأخبار الموجودة فيها خصوص ما كان رواته ثقات أو من جهة شهرة الخبر فلا يعمل بغير المشهور منها أو من جهة عمل الأصحاب به كما عن المحقق فلا يعمل بغيره أو من جهة حصول الوثوق بالصدور فلا يعمل بغير ما فيه هذه الصفة. وهذا نظير ما إذا اتفق جماعة من الفقهاء على رؤية امرأة لكونها أخت لاحدهم وزوجة لآخر وأم لآخر وربيبة لآخر ورضيعة لآخر فانه لا يحل

٥١

لغيرهم رؤيتها ولو علم إن أحدهم المعصوم إذا لم تكن هناك جهة محللة لرؤيتها له فعملهم هذا لا يعد إجماعا على صحة الرؤية لتلك المرأة لغيرهم ممن لا تكون له جهة مصححة ، فكذا ما نحن فيه فان عمل العلماء بالأخبار المدونة في الكتب الأربعة أو السبعة لا يكون إجماعا منهم على صحة عمل غيرهم بها إذا لم تكن أحد الجهات المحللة للعمل موجودة لديه إذا عرفت ذلك فالتحقيق إن الخبر الغير مقطوع الصدور سواء كان خبرا مشهورا أو خبرا واحدا هو حجة شرعية إذا حصل الوثوق بصدوره والدليل على ذلك هو عمل المسلمين به بل عمل جميع العقلاء به مع عدم الردع من المعصومين عنه ولو منعنا عن العمل بالخبر الواحد الموثوق الصدور لأصبح لنا فقه جديد مضافا إلى الآيات والأخبار والروايات المتظافرة التي تؤكد إمضاء الشارع لذلك وأما لو عارضت السنة القرآن الكريم فان أمكن الجمع العرفي بينهما فهو ، وإلّا فتطرح السنة والقرائن التي توجب الوثوق بصدوره : أحدها : موافقته لأدلة العقل.

ثانيها : موافقته للكتاب ولو كان خاصا والكتاب عاما.

ثالثها : موافقته للسنة المقطوع بها من جهة التواتر.

رابعها : موافقته للمشهور. وبعضهم ذكر أن هذه الأربعة لا توجب الوثوق بصدوره وإنما توجب الوثوق بمضمونه لجواز كونه موضوعا على طبقها والحق إنها إن أوجبت الوثوق بصدوره كان حجة وإلا فلا.

خامسها : أن يستند المشهور في الفتوى إليه بأن عملوا به فإن ذلك يوجب الوثوق بصدوره ولذا عمل الأصحاب بمراسيل ابن أبي عمير وغيرها :

٥٢

وأما رواية المشهور له مع عدم عملهم به فيدل على ضعفه إذا لم يكن هناك احتمال لشيء أوجب أعراضهم عن غير ضعف لصدوره لديهم ككونه مثلا خلاف الاحتياط.

سادسها : أن تكون الرواة في سلسلة سند الخبر جامعين لصفات خمس :

الأول ؛ العقل.

الثاني : البلوغ.

الثالث : الإسلام ،

الرابع : الضبط بأن لا يكون النسيان والسهو والغفلة تغلب عليه بحيث تكون أكثر من ذكره أو مساوية له.

الخامس : العدالة بمعنى الوثاقة بمعنى أن يكون الراوي متحرزا عن الكذب وإن كان فاسقا بجوارحه ، ونقل عن الشيخ إن الطائفة عملت بأخبار جماعة هذه صفاتهم. ونسب للمشهور اعتبار العدالة ونفي الخلاف عنه في العدة للشيخ ولعل مراده العدالة بمعنى الوثاقة بدليل ما تقدم منه (ره) وحيث أنه لا دليل عندنا صحيح على اعتبار العدالة بمعنى الملكة في الراوي وإنما نعتبرها في الراوي لحصول الوثوق بالصدور فلذا اعتبرنا فيه العدالة بمعنى التحرز عن الكذب. وهذان الاخيران أعني استناد المشهور إليه وجمع سلسلة السند للصفات الخمسة إنما يوجبان الوثوق بالصدور في حد ذاتهما بمعنى إذا لم تكن قرائن تقتضي عدم الصدور.

أما دلالة الكتاب على حجية الخبر الموثوق الصدور فآيات.

منها آية النبأ في سورة الحجرات (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فإنها ظاهرة في عدم وجوب التثبت في النبأ عند مجيء غير الفاسق به

٥٣

بحسب مفهوم الشرط. وقد أورد على الاستدلال بها بما يبلغ أكثر من اثنين وعشرين ردا إلا أن الانصاف كما ذكره بعضهم أن الآية لها دلالة على حجية الخبر الموثوق بصدوره لا من جهة مفهوم الوصف ولا الشرط بل لأن ظاهر مساق الآية هو ورودها في مقام إمضاء ما جرى عليه ديدن الناس من العمل بأخبار الآحاد فيما يتعلق بأمورهم دنيا أو دينا والانكار عليهم في إغماضهم عن معرفة حال المخبر من كونه فاسقا لا يبالي بالكذب أو ممن يتورع من الكذب فالآية دلت على إنكار الله عليهم ذلك في خصوص الفاسق وذلك يقتضي أن الباقي من الأخبار باقي على حاله من صحة العمل به. وهذا هو الذي يناسبه التعليل وإلا فلا خصوصية للإصابة بجهالة بالعمل بخبر الفاسق اذ العمل بخبر العادل توجد فيه الجهالة أيضا لعدم العلم بالواقع معه فلا بد أن يكون يكون المراد بالجهالة هو السفاهة وهي فعل ما لا ينبغي صدوره عن عاقل أو الجهالة التي يصح اللوم معها بل هذا هو الذي يقتضيه التعليل بالندم لأن الندم هو توبيخ العقل والعقلاء على العمل وهو بحكم العقل مختص بالعمل بخبر الفاسق الذي لا يبالي بالكذب والافتراء دون العمل بالخبر الموثوق فإن العقل والعقلاء لم يندموا على العمل به كالعمل بخبر أهل الخبرة والشهادة. والحاصل أن الآية لا تدل على النهي عن الاقدام على خلاف الواقع وإنما تدل على أن العمل بخبر الفاسق طريقة السفهاء فيجب التبين فيه لذلك.

وأما طريقة عملهم بالخبر الموثوق بصدوره فهي باقية على حالها فتكون ممضية من قبل الشارع وإلا لمنع منها شأن سائر طرائق العقلاء الغير الممنوع عنها وإن شئت قلت إن العمل بخبر العادل لم يصدق عند العقلاء أنه فيه إصابة بجهالة ولم يكن فيه ندم عندهم بالعمل به

٥٤

فيما لو خالف الواقع فهو كالعمل بقول أهل الخبرة وكالأخذ بالفتوى والشهادة فينتفي وجوب التبين فيه ويكون حجة بحسب المنطوق لانتفاء علة وجوب التبين عنه.

والخلاصة أن المراد بالجهالة السفاهة إذ لو كان المراد بها عدم العلم لزم تخصيص التعليل بالعمل بالشهادة بل بالفتوى والتعاليل غير قابلة للتخصيص وإلا لم تكن علة لعدم انفكاك المعلول بحسب المرتكز الذهني عن علته فلا بد أن يكون المراد بها السفاهة. وبدليل أن المراد بالندم هو التنديم من العقل والعقلاء. ولا ريب أن العمل بخبر الموثوق الصدور ليس به تسفيه من العقلاء للعامل به ولا تنديم من العقل له كالعمل بالشهادة وقول أهل الخبرة والفتوى وحينئذ فمنطوق الآية يدل على عدم وجوب التبين في الخبر الموثوق الصدور لانتفاء علة وجوب التبين فيه كما أن ظاهر التعليل يقتضي الحصر فيكون للحكم المعلل مفهوم مثل مفهوم القضية المحصورة ودعوى أن وجوب التبين ثابت لكل من خبر الفاسق والعادل لوجوب الفحص عن الدليل المعارض حتى لو أخبر العادل فاسدة فإن وجوب الفحص والتبين عن المعارض إنما يكون بعد ثبوت دليلية الدليل ومع عدم دليليته لا يجب العمل به حتى يفحص عن معارضة ويتبين عدمه. نعم لو أريد العمل بخبر الفاسق وجب التبين والفحص عن صحته فإن ظفر بما هو الدليل على صحته عمل على طبقه ومع عدم الظفر لا يعمل به بخلاف ما هو دليل فانه يجب العمل به ويجب الفحص عن معارضه ومع عدم الظفر بالمعارضة له يعمل به وإن لم يوجد دليل على صحته ومن الآيات آية النفر من سورة البقرة قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) حيث

٥٥

دلت على وجوب القبول بإنذار المنذرين ولو كانوا آحادا نظير ما استدل به صاحب المسالك على قبول أخبار النساء عما في أرحامهن بقوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) ودعوى أن المستفاد منها ليس إلا مطلوبية الحذر عقيب الانذار ومن الممكن أن يتوقف وجوبه على حصول العلم بالواقع ولذا أتى (بلعل) فهي نظير ما دل على وجوب إرشاد الناس وبيان المعارف الدينية لهم فإنه لا يقتضي وجوب القبول مطلقا حتى لو لم يحصل العلم بالواقع.

ولا نسلم ما ذكره صاحب المسالك من الدلالة فاسدة فإنها مضافا إلى ظهورها في كونها تقريرا لما عليه بناء العقلاء من العمل بانذار المنذر الموثوق به أنها ظاهرة في مطلوبية الحذر عقيب الأنذار مطلقا.

ومجرد إمكان توقف وجوب الحذر على حصول العلم لا يقدح في الظهور اللفظي فلو كان وجوب الحذر مقيدا بالعلم بالواقع لنصب قرينة على التقييد وأصالة الاطلاق تقتضي نفي التقييد وقد يستدل بالآية بتوجيه آخر أنه لا ينكر أن الآية ظاهرة في وجوب الحذر بمجرد الانذار من غير توقف على شيء آخر وقد كان الانذار مطلقا غير مقيد فكذا الحذر كذلك وإلّا لم يكن مرتبا على الانذار المطلق ومن الآيات آية الكتمان وهي قوله تعالى : (الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) بتقريب أن حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عند الاظهار وإلا فلا فائدة لإظهاره نظير ما ذكرناه في آية النفر.

ويرد عليه أنه لا ملازمة بينهما إذ وجوب الإظهار قد يكون للتنبيه على الحكم حتى يبحث عنه فيحصله من الدليل أو يحصل منه العلم فيقبل فهي نظير الأمر بإظهار الحق. ونظير الأمر بأداء الشهادة للحاكم من الواحد ولا يجب على الحاكم القبول إلا إذا أنظم إلى الآخر ولم يكن

٥٦

معارض بشهادة أخرى.

ومن الآيات آية السؤال وهي قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) حيث أن وجوب السؤال يستلزم وجوب القبول للجواب وإلا لكان وجوب السؤال لغوا فهي لبيان طريقة الاطلاع على المجهولات عند فقد العلم بها لا لبيان طريقة العلم والقطع بها فهي تقرير لما عليه طريقة العقلاء في معرفة ما يجهلونه بالرجوع للمطلعين بالشيء الذي يكون أخبارهم يوجب الوثوق بالشيء لبصيرتهم به.

ودعوى أنها مختصة بالأئمة (ع) كما هو مقتضى الأخبار المستفيضة المعقود لها باب في الكافي على حده من أن أهل الذكر هم الأئمة (عليهم‌السلام). فجوابها بأن ذلك التفسير يحتمل لبيان التنبيه على بعض أفراد العام حذرا من عدم التفات عامة الناس لذلك ، وأما دلالة السنة على حجية الخبر الواحد الموثوق بصدوره فطوائف كثيرة كما يظهر من مراجعة كتاب الوسائل وغيرها. ودعوى أن الاستدلال بها على حجية الخبر الواحد يكون من الاستدلال بخبر الواحد على حجيته وهو من الدور الواضح. فجوابها أنها : ـ

أولا : أخبار آحاد مقترنة بقرائن حالية ومقالية توجب القطع بصدورها.

وثانيا : بتواترها فإن التواتر على أقسام أربعة : ـ

الأول : التواتر لفظا وهو ما اتفقت الأخبار على لفظ واحد ومعنى واحد.

الثاني : التواتر معنى وهو ما اتفقت الأخبار على معنى واحد كان هو القدر المشترك بينها.

الثالث : التواتر إجمالا وهو ما كثرت الأخبار واختلفت لفظا

٥٧

ومعنى إلا أنه يقطع بصدور بعضها إجمالا وهذه الأقسام الثلاثة يكون الاستدلال بها استدلالا بالسنة.

الرابع : هو ما لو كثرت الأخبار المختلفة لفظا ومعنى إلا أنها بأجمعها تعطي إن هناك أمرا مفروغا عنه كما في سؤال السائلين عن بعض خصوصيات شيء ويكون جواب المعصوم عن تلك الخصوصيات تقريرا لهم على ما كان مغروسا في أذهانهم ومفروغا عنهم فيما بينهم على وجه يفيد القطع بذلك. وهذا القسم من التواتر يكون الاستدلال به استدلالا بالسنة التي هي تقرير المعصوم والقسمان الأولان لو سلم عدم وجودهما في المقام إلا أن القسم الثالث لا شك في وجوده لأنا نقطع بأن بعض هذه الأخبار في هذه الطوائف الكثيرة صادر عن المعصوم (عليه‌السلام) وإن لم نشخصه إلا أنا نقطع بأنه يدل على حجية الخبر الثقة إذ لو كان الصادر هو ما يدل على الأعم منه فإنه يدل أيضا على خصوصه. وأما القسم الرابع فلا إشكال في وجوده أيضا فإن من تتبع هذه الطوائف من الاخبار يرى ان حجية خبر الثقة كان مفروغا عنه فيما بين السائلين والمعصومين (ع).

وأما دلالة السيرة على حجية الخبر الموثوق بصدوره فهو ما نراه بالوجدان من استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على العمل بالخبر الموثوق به من قبل الاسلام الى زماننا هذا ولم يردع عن هذا العمل لا في الكتاب ولا في السنة وإلا نوصل إلينا الردع واشتهر وظهر لتوفر الدواعي إلى نقله لكثرة مورد الابتلاء وهذا يكشف كشفا قطعيا عن رضاء الشارع بالعمل بأخبار الآحاد الموثوقة.

إن قلت يكفي في الردع الآيات والروايات الناهية عن اتباع غير العلم.

٥٨

قلنا هذه الآيات والروايات عامة ومطلقة والسيرة المذكورة دليل خاص قطعي فيخصص بها تلك العمومات وتلك الاطلاقات ، ولذا نرى العلماء في كل أمر استدلوا به بالسيرة لا يعتنون بهذه العمومات والاطلاقات كيف والعمومات والمطلقات تكون حجية ظهورها في العموم أو الاطلاق من باب السيرة فلا يعقل ان يستند إليها في نفي حجية أي سيرة من السير.

أدلة المانعين من حجية الخبر الغير المفيد للعلم :

استدل المانعون لحجية الخبر الواحد من الكتاب بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم وجوابه أنه بعد تسليم دلالتها على المنع وانها ظاهرة في خصوص العقائد تكون من باب العمومات والمطلقات فهي تخصص بالأدلة التي أقيمت على حجية الخبر.

واستدلوا من السنة بروايات منها ما في المحكي عن بصائر الدرجات ومستطرفات السرائر عن محمد بن عيسى : «ما علمتم أنه قولنا فألزموه وما لم تعلموه فردوه إلينا».

وجوابه مضافا الى إنها خبر واحد فالاستدلال به على المنع من العمل بخبر الواحد يوجب المحال. وإلى أنها معارضة بالروايات والأدلة الدالة على حجية الخبر مضافا الى ذلك إن العمل بالخبر الذي قامت الحجة على حجيته يكون من العمل بما علمنا أنه قول المعصوم لأن الظاهر من العلم هو المعرفة ولو عن دليل معتبر لا خصوص اليقين وإلا لزم طرح أكثر أقوال المعصوم ولا أقل إن هذا هو مقتضى الجمع بين ما دل على حجية الخبر وهذه الرواية.

ومنها أخبار العرض على الكتاب والسنة فما وافقتهما يؤخذ به وما

٥٩

خالفهما لا يعمل به حيث إنها تدل على المنع عن العمل بالخبر الذي لم توجد قرينة من الكتاب والسنة عليه ، وإن ما خالفهما لا يؤخذ به والظاهر أن المراد بالمخالفة هي المخالفة بنحو المباينة بمعنى ان المراد منها طرح الخبر المباين للكتاب والسنة وإلا فالمخالفة بالعموم والخصوص والاطلاق والتقييد والاجمال والبيان ليست بمخالفة ولو أريد منها ذلك لزم طرح أكثر الأخبار المقطوعة الصدور حيث أنها مخالفة للكتاب والسنة بهذا النحو من المخالفة وهو لا يلتزم به أحد. ودعوى تخصيص أخبار العرض بغير الأخبار القطعية الصدور وإبقاء الأخبار المشكوكة. تحتها فاسدة لاباء أخبار العرض عن قبول التخصيص فإن مثل المروي عن النبي (ص) «ما خالف الكتاب فليس من حديثي» أو لم أقله والمروي عنهم (ع) أنه زخرف أو باطل يأبى عن قبول التخصيص. وإلا لزم أن يكون قد قالوا الزخرف والباطل المخالف للكتاب والسنة وهو ما كان مقطوع الصدور منهم.

والحاصل أن الظاهر بالقرائن العقلية والنقلية إن المراد بالمخالفة بنحو التباين ، ودعوى أن حملها على المخالفة بنحو التباين حمل لها على النادر إذ يكاد يكون في غاية الندرة بل معدوما ما يكون مخالفا بنحو التباين فلا يصح حملها عليها فاسدة فان في زمان صدور هذه الأخبار قد كثر الافتراء والوضع والجعل على المعصومين للحط من كرامتهم ولا ريب أن الذي يحط من كرامتهم هو الوضع والجعل لما يخالف الكتاب والسنة النبوية بنحو المباينة وإلا فالمخالفة بنحو العموم والخصوص والاطلاق والتقييد ونحوهما ليست مخالفة تحط من كرامتهم ولا تنقص من مقامهم فلا ينفع الكاذبين عليهم في عصرهم إلا الجعل عليهم (ع) بنحو المباينة.

٦٠