مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة الآداب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

ولا ما كان موضوعا بحسب لسان الدليل الشرعي للحكم فمثلا إذا ورد من الشرع العنب اذا غلى يحرم استعماله وشك في ثبوت حرمته له عند ما يكون زبيبا فلو كان المناط في وحدة الموضوع في الاستصحاب هو وحدته بحسب العقل لم يصح استصحاب الحرمة لحال الزبيبية ولا مجال له لأن العقل يحتمل ان الموضوع للحكم هو عنوان العنب بما فيه من خصوصيات يقتضي حكم الشارع بحرمته عند الغليان ويحتمل أن هذه الخصوصيات غير موجودة فيه عند ما يكون زبيبا فلا يحرز بقاء الموضوع الحكم الشرعي عند العقل بل على هذا لا يجري الاستصحاب في الاحكام الشرعية في أغلبها ان لم نقل بأجمعها لأن الشك في بقائها لا يكون إلّا لزوال بعض الخصوصيات ومع زوالها يحتمل العقل أن الموضوع له قد زال لأحتمال ان لها دخل في الموضوع بحسب الواقع ، وأما ان كان المناط هو وحدة الموضوع بحسب ما أخذ في لسان الدليل على الحكم الشرعي كان الموضوع للحرمة في المثال المذكور هو نفس العنب بوصف انه عنب فأيضا لا يصح استصحاب الحرمة عند ما يكون زبيبا لعدم اتحاد الموضوع لأن القضية المتيقنة بحسب ما اخذ في لسانه الدليل هو هذه الثمرة بوصف أنها عنب فالموضوع هو الثمرة بوصف انها عنب والقضية المشكوكة هي ان هذه الثمرة بوصف انها زبيب مشكوك حرمتها. فالموضوع هو هذه الثمرة بوصف أنها زبيب فالموضوعان مختلفان وليسا بمتحدين.

وأما ان كان المناط هو وحدة الموضوع بحسب نظر العرف وما يرتكز في أذهانهم ويرونه في انظارهم بحسب الجهات والمناسبات بين الحكم وموضوعه ففي المثال المذكور يكون الموضوع للحرمة في المثال المذكور هو هذه الثمرة بذاتها لا بوصف انها عنب ولا بوصف انها زبيب لأنهم يرون ان وصف العنبية والزبيبية من الحالات والعوارض الطارئة على الموضوع والمتعاقبة عليه وان مركزها والمحل المتقومة به

٢٨١

هو ذات العنب لا بوصف انه عنب بحيث لو كان الزبيب محكوما شرعا بغير حكم العنب كان نقضا لحكم العنب ورفعا للحكم عن موضوعه في أحد حالاته ، ولو كان الزبيب محكوما بحكم العنب كان من بقاء الحكم في الموضوع. فالعرف وان كان بحسب فهمهم من الدليل يكون الموضوع هو خصوص العنب ولكن بحسب نظرهم يرون ان الموضوع ومعروض الحكم ومركزه هو نفس الذات لا بوصف العنبية وان وصف العنبية اخذه الشارع في موضوع دليل هذا الحكم لغاية من الغايات كالاهتمام به أو لكثرة الابتلاء به أو لكون حدوثه واسطة في الثبوت فالعرف مع جزمه بأخذ الوصف في موضوع الدليل الشرعي إلّا أنه لم ير أنه هو المركز للحكم المذكور ويرى ان المركز والمحل له هو الاعم بحيث لو حكم الشارع بعدم الحرمة لكان نقضا لحكمه بحرمة العنب ولو حكم بالحرمة لكان ابقاء لها وحينئذ يصح للفقيه الاستصحاب لاتحاد موضوع القضية المتيقنة مع المشكوكة في نظر العرف وان لم يتحقق الاتحاد بحسب لسان الدليل الشرعي ولم يحرز الاتحاد بحسب النظر العقلي.

وعليه يظهر لك فساد ما ربما يصدر من بعضهم من ان الموضوع الشرعي غير الموضوع العرفي. ووجه الفساد ان الموضوع الشرعي هو المتبع ولا وجه لأن يكون موضوع حكم الحاكم يتبع فيه غيره فالموضوع للحكم الشرعي هو الموضوع الذي جعله الشارع له غاية الأمر يختلف لسان الدليل الشرعي وظاهر الدليل عن العرف في تشخيصه وتعيينه فلسان الدليل يقتضي ان الموضوع الذي جعله الشارع هو هذه الثمرة بوصف أنها عنب وأما بوصف آخر كالزبيبية فهو مسكوت عنه وقاصر الدليل عن اثبات الحكم له.

وأما العرف فيرى ان الموضوع الذي جعله الشارع هو نفس الثمرة كما انه قد يختلف مع الموضوع العقلي فمثلا نجاسة الدم موضوعها عند

٢٨٢

العرف هو هذه المادة ولا تصدق على اللون مع ان العقل يرى ان لون الدم يستند إلى اجزائه الثابتة في محل إصابته فالعرف لا يرى الموضوع باقيا فلا يستصحب بخلاف العقل فانه يراه عند بقاء لونه الموضوع باقيا لأن موضوع النجاسة هي نفس ذات الأجزاء. فالصحيح ـ أن يقال ان الموضوع الشرعي في لسان الدليل غير الموضوع الشرعي عند العرف وقد يتحدان نظر العرف ولسان الدليل الشرعي في الموضوع إذا كان ما يراه العرف موضوعا شرعيا للحكم هو بنفسه يقتضيه لسان الدليل كما لو قال صم يوم الخميس فان العرف ولسان الدليل يتفقان في أن الموضوع للوجوب عند الشرع هو الصوم المقيد بيوم الخميس فلا يصح استصحاب الوجوب لصوم يوم الجمعة لعدم بقاء الموضوع وهو صوم يوم الخميس بذهاب القيد وهو يوم الخميس كما ان الدليل لو كان له ظهور في نفي الحكم عن غير العنوان الذي أخذ فيه بحيث كان مثبتا لعدم الحكم في غير ذلك العنوان كان العرف يرى ان الحكم مختص بهذا العنوان ولا يجري الاستصحاب ويكون ذلك في نظر العرف من باب اختصاص الحكم ببعض حالات موضوعه وان الشارع لم يبقيه وقد نقضه في هذه الحالة وانما اعتبرنا الاتحاد في الموضوع بحسب نظر العرف لأن أصح أدلة الاستصحاب هي الأخبار بل قد عرفت ان ما عداها من الادلة لو ثبتت وعمدتها السيرة فالأخبار ممضية لها فتكون تابعة الأخبار إذ الامضاء من الشارع انما يكون بمقدار إفادة الأخبار سعة وضيقا وحيث ان الاخبار إنما تساق بنظر العرف كما هو طريقة العقلاء في تفهيم مطالبهم والشارع سلك مسلكهم وإلا لأظهر المخالفة لهم في تفهيم مطالبه ، وحيث ان الأخبار قد أخذ فيها الشارع (النهي عن النقض) وصار كأنه الأصل فيها ولا ريب ان النقض وتركه انما يكون بالابقاء وعدم الابقاء كان المطلوب للشارع من عدم النقض هو الابقاء والنهي عن عدمه. وقد عرفت أن الشارع

٢٨٣

يسلك مسلك العرف في نظرهم في تشخيص المفاهيم وبيانها فلا بد أن يكون مراده هو الابقاء عندهم في ما يرونه ابقاء لا ما هو ابقاء في نظر العقل أو بحسب الدليل.

وإن شئت قلت ان أدلة الاستصحاب عدا الاخبار عمدتها السيرة التي كان عليها بناء العقلاء وحكم العقل وهما من باب افادة الاستصحاب الظني بالبقاء ومع بقاء الموضوع عند العرف يحصل الظن بالبقاء.

وأما الإجماع فان المتمسكين به يعملون بالاستصحاب عند بقاء الموضوع عرفا وأما الأخبار فقد عرفت دلالتها على ذلك.

ومن هنا يظهر لك لسان الدليل الشرعي لو كان يحدد الموضوع. بأن كان ينفيه عما عداه كما لو قال الشارع في المثال المذكور يحرم العنب اذا غلى بخصوصه أو قال دون ما اذا صار زبيبا أو ما يؤدي هذا المعنى فانه لا يجرى الاستصحاب لأن الدليل دل على اختصاص الحكم بهذه الثمرة بهذا العنوان ونفيه عما عداه نظير ما إذا قام دليل آخر على حلية الزبيب فانه يقدم على الاستصحاب.

والحاصل ان الاستصحاب انما يجري اذا لم يكن الدليل دالا على ان الحكم يدور مدار الموضوع المأخوذ فيه وجودا وعدما بأن كان قاصرا وساكتا عن ثبوت الحكم عن غير ذلك العنوان ولم يكن دليلا آخرا يدل على انتفاء الحكم عند ارتفاع عنوانه وكان العرف يرى ان مركز الحكم ومقومه يكون موجودا عند ارتفاع عنوانه وتبدله بالعنوان الذي شك الفقيه في ثبوت ذلك الحكم له كما انه يظهر لك ان ذلك ليس من باب المسامحات العرفية بل العرف هو يرى بنظره ذلك وإن اطلع بأن الشارع قد جعل في دليله الموضوع هو هذا العنوان لكنه يرى انه من باب التعبير بالخاص لارادة العام لأنه اكثر ابتلاء أو أهم في نظره أو أنه واسطة في حدوثه كما لو قال الطبيب لا تأكل الرمان فإن العرف يرى ان مركز الحكم هو ذات جسمه بحيث لو صار الرمان

٢٨٤

مربى يكون الحكم ثابتا له أو كان من جهة الانصراف للأخص كما لو قال الخمر نجس فإنه بحسب ظاهر لسان الدليل هو الخمر المسكر لأن اللفظ ينصرف اليه ولكن العرف يرى إن مركز النجاسة وموضوعها هو نفس المائع أعم من كونه مسكرا أم لا فيستصحب النجاسة له.

وهذا الاختلاف بين لسان الدليل الشرعي وبين النظر العرفي هو الذي يوجب شك الفقيه في بقاء الحكم بعد ذهاب العنوان المأخوذ في الموضوع وهذا الاختلاف بين ظاهر اللفظ والمرتكز الذهني العرفي طالما يكون في خطابات العقلاء فيما بينهم أو بينهم وبين مواليهم.

والحاصل إن هذا الشرط أعني شرط بقاء الموضوع يرجع الى اشتراط أنه لا بد في الاستصحاب من ان يرى العرف ان عدم إبقاء المستصحب وترتيب آثاره في حالة الشك نقضا لليقين السابق بالشيء فهو الميزان لا غيره لأن أدلة الاستصحاب لا يستفاد منها إلا اعتبار ذلك فلو فرض أن الموضوع قد تغير ولكن العرف يرى ذلك جاء الاستصحاب ولزم إبقاء الحالة السابقة ثم ان الموضوع للمستصحب تارة يكون نفس الماهية كما في استصحاب الوجود المطلق أو العدم المطلق للماهية أو لجزأيها كما في استصحاب وجود زيد أو عدمه واحرازه واضح بأن يكون الموضوع واحد ،

وتارة يكون مركبا كما في مطهرية الماء الراكد للشيء الملقى فيه فإن موضوعها مركب من بلوغ الماء كرا ومن إطلاق الماء وفي هذه الصورة يكون الشك في الحكم كالمطهرية في المثال المذكور تارة من جهة الشك في بقاء أحد أجزاء الموضوع المركب مع احراز الآخر كما لو شك في المثال المذكور في بقاء إطلاق الماء مع إحراز كريته وتارة يشك في بقاء كليهما كما لو شك في المثال المذكور في بقاء الاطلاق للماء وفي بقاء كريته وعلى كلا التقديرين لا تستصحب المطهرية للشك في بقاء موضوعها.

٢٨٥

نعم يستصحب الجزء المشكوك أو يستصحب كلاهما معا ويرتب الحكم المذكور واستصحاب وجود المركب من أجزاء خارجية اكثر من أن يحصى كما يستصحب وجود السكنجبين أو البيت أو المسجد أو الحمام فإنه يصح استصحاب الوجود للمجموع.

وتارة يكون الموضوع موقوفا على موضوع آخر كالأعلمية التي هي موضوع لتعيين المقلد فانها موقوفة على حياته واجتهاده وفي هذه الصورة لا اشكال في عدم جريان الاستصحاب في نفس الحكم كالتعيين في المثال المتقدم عند الشك في موضوعه وهو الاعلمية وانما يجري الاستصحاب في الاعلمية اذا كان الشك فيها مع احراز بقاء الحياة والاجتهاد لإحراز الموضوع للأعلمية وأما لو شك في بقائها من جهة الشك في بقاء ما تتوقف عليه كالحياة أو الاجتهاد أو كلاهما فلا يصح استصحابها لعدم إحراز موضوعها اعني الحياة أو الاجتهاد أو كلاهما ولا يصح استصحاب ما تتوقف عليه لاثباتها لانها ليست بأثر شرعي له فيكون من الأصل المثبت.

ومن هنا وقع جملة من العلماء في الاشكال في صحة استصحاب الاعلمية إذا شك فيها من جهة الشك في بقاء الاجتهاد أو الحياة ويتعدى الاشكال إلى ما ذكره الفقهاء من صحة استصحاب بقاء المجتهد عند الشك في حياته اذ استصحاب حياته لا يثبت اجتهاده الذي هو موضوع جواز تقليده إلا على القول بالأصل المثبت.

والتحقيق في الجواب كما ذكرناه عند المناقشة مع بعض الفضلاء أنه تستصحب وجود المجموع المركب من الموصوف والصفة اعني وجود زيد المتصف بالاجتهاد والأعلمية كما في استصحاب وجود المركب من الاجزاء الخارجية.

التنبيه الثالث : في استصحاب الكلي وأقسامه : ـ

لا ريب في جريان الاستصحاب في الكليات كما يجري في الجزئيات

٢٨٦

لشمول ادلة الاستصحاب له وعدم المانع عنه ولما كان اليقين بالكلي والشك فيه يتسبب عن اليقين بفرده والشك في بقائه انقسم استصحاب الكلي الى أقسام ثلاثة : ـ

الاول أن يكون الشك في بقاء الكلي مسببا عن الشك في بقاء فرد خاص منه كما إذا شك في وجود الانسان في الدار من جهة الشك في بقاء زيد فيه وكما إذا شك في مطلوبية كلي الصلاة في يوم الجمعة غير الصلاة اليومية في زمن الغيبة من جهة الشك في بقاء وجوب صلاة الجمعة إلى زمن الغيبة فلا ريب في استصحاب الكلي في هذا القسم عند من يقول بحجية الاستصحاب فيصح استصحاب وجود الإنسان واستصحاب المطلوبية للصلاة وترتيب آثارهما عليهما كما يصح استصحاب الجزئي وهو وجود زيد ووجود الوجوب للجمعة.

القسم الثاني من استصحاب الكلي ان يكون الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في فرده لتردد فرده الذي كان موجودا سابقا بين ما هو مقطوع الزوال لو كان هو الموجود أولا وبين ما هو ممكن البقاء لو كان هو الموجود أولا كما لو علم بوجود الحيوان في الدار وشك في وجوده من جهة تردد الحيوان الذي كان معلوما وجوده على سبيل الاجمال بين الفيل وبين البقة فلو كان هو الفيل لكان محتمل البقاء ولو كان البقة لكان معدوما قطعا.

وكما لو علم بوجوب الطهارة عليه لتردده بين كونه محدث بالحدث الاصغر أو الحدث الاكبر ثم تطهر بالوضوء فانه بعد الوضوء يشك في وجوب الطهارة لتردده بين وجوبين وجوب يكون هو الفرد القصير الذي قطعا قد زال لو كان هو الموجود أولا وهو وجوب الطهارة من الحدث الاصغر وبين الفرد الطويل الذي هو باقي لو كان هو الموجود أولا وهو وجوب الطهارة من الحدث الأكبر وهذا يجري في كل شبهة محصورة بعد الامتثال لأحد اطرافها كما لو علم بوجوب صلاة

٢٨٧

الظهر عليه أو الجمعة فانه لو أتى بالجمعة فبعدها يشك في بقاء الوجوب المشترك بين الوجوبين لتردده بين فرد مقطوع الزوال وهو وجوب الجمعة وبين ما هو مشكوك البقاء وهو وجوب الظهر وهكذا لو أتى أولا بالظهر فانه أيضا يشك كذلك ومثله ما لو تردد بين حرمة شرب هذا المائع أو ذاك وكيف كان فالشك في بقاء الكلي واستمراره مستند إلى الشك فيما تحقق الكلي في ضمنه من الافراد والأشهر على حجيته لوجود المقتضي وهو عموم الادلة وعدم المانع فان الكلي موجود قطعا في الخارج بوجود أفراده فهو يكون معلوما خارجيا لنا غاية الأمر أنه غير معلوم الحدود والخصوصيات ونشك في ارتفاع نفس ذلك المعلوم فيستصحب فكانت القضية المشكوكة والمتيقنة واحدة ، ولا يحتاج الاستصحاب الى أزيد من الشك واليقين وكون المشكوك هو المتيقن وفيما نحن كذلك لأن المشكوك هو الكلي وقد كان متيقنا كما أن كل من الفردين يجري الاستصحاب لعدمها ويحكم بعدمها لو لا المانع من جريان الأصول في أطراف الشبهة المحصورة.

ان قلت أن نستصحب عدم الطويل ولازمه عدم الكلي وهو حاكم على استصحاب الكلي لتقدم الأصل السببي على المسببي.

قلنا ان سببيته عقلية لأن ارتفاع الكلي بارتفاع فرده العقلي.

ان قلت إن عدم الكلي يثبت باستصحاب عدم الفرد الطويل مع ضميمة العلم بانعدام القصير فيثبت عدم الكلي بعدم الفرد القصير بالوجدان وبالتعبد بعدم الطويل من جهة استصحاب عدمه ويرتب آثار عدم الكلي.

قلنا ان ترتب عدم الكلي على عدم شيء من افراده في الخارج عقلي. وعينية الكلي لافراده بحسب الوجود لا يرفع الاثنينية بينهما نظير الماهية والوجود.

نعم ذكر استاذنا الشيخ كاظم الشيرازي انه قد يستشكل على

٢٨٨

خصوص استصحاب الجامع بين الاحكام كالطلب الجامع بين الوجوب والاستحباب وكالمبغوضية الجامعة بين الحرمة والكراهة بأن الجامع لا يمكن تحقيقه في الخارج الا في ضمن أحد أنواعه من غير فرق بين الموجودات الاعراض والجواهر وبين الاحكام الشرعية فكلي الطلب بما هو من غير ان يتقوم بأحد حديه من الوجوب والاستحباب غير ممكن الوجود في الخارج لا واقعا ولا ظاهرا فلا يعقل ان ينشئه الشارع ويجعله وإلا لزم قيام الجنس بدون نوعه.

نعم في الموضوعات الخارجية يمكن ان يستصحب الجامع لأن باستصحابه إنما يجعل الشارع آثاره وليس يجعله بنفسه حتى يلزم محذور وجود الجنس بدون نوعه.

وقد أجاب عن هذا الاشكال بوجهين : ـ

الأول منهما المنع من لزوم جعل الشارع للمستصحب حتى في استصحاب الاحكام وانما جعل الشارع حرمة النقض ووجوب البناء على المتيقن السابق فان كان الوجوب هو المتيقن يكون العمل على طبق حرمة النقض وعلى طبق وجوب البقاء مطابقا لعمل بقاء الوجوب وقس على ذلك باقي الاحكام الشرعية تكليفية أو وضعية فالمجعول حقيقة هو وجوب البقاء على طبق الحالة السابقة المتيقنة ويختلف مقتضى العمل بهذا التكليف فقد ينطبق مع العمل على طبق الوجوب أو على طبق الحرمة أو على طبق الاباحة فيقال وجوب استصحابي أو إباحة استصحابية ونحو ذلك وإلا فلا مجعول للشارع من الاحكام شيئا غير المجعول بقوله (ع) (لا تنقض) كما في صدق العادل بالنسبة إلى مداليل الأخبار فان المجعول من الشرع ليس إلا وجوب تصديق العادل وهذا يفيد فائدة جعل الوجوب فيما اذا اخبر العادل بالوجوب وفائدة الاستحباب فيما اذا أخبر العادل بالاستحباب.

وعليه ففي استصحاب الكلي كالطلب يقتضي وجوب العمل على طبقه

٢٨٩

نظير من تيقن به مجردا عن خصوصية الوجوب وعن خصوصية الاستحباب فانه إن كان للطلب عمل فعله.

نعم هذا الجواب لا يتم على من التزم في الاستصحاب بجعل الشارع للحكم الشرعي في تأتي الحال على طبق الحكم الشرعي المتيقن سابقا.

الجواب الثاني هو التزام جعل الشارع مع الكلي المستصحب أحد فصوله جمعا بين ما ذكر من عدم امكان جعل الجامع بلا فصل له وبين عموم ادلة الاستصحاب للمورد فان الجمع بينهما يقتضي الالتزام بجعل الفصل للجامع المستصحب في مثل المورد المذكور وليس الفصل المجعول في المورد المذكور إلا ما به قوام الاستحباب لعدم الدليل على زيادة الطلب على اكثر من الاستحباب وعدم الدليل دليل العدم.

ان قلت عدم الدليل لا يثبت خصوصية الاستحباب لاستصحاب عدمها المقتضي لعدم جعل الجامع فيتعارض استصحاب الجامع مع استصحاب عدم الخصوصية لأن استصحاب الجامع يقتضي ثبوت الخصوصية واستصحاب عدمها يقتضي عدم الجامع فيتساقطان.

قلنا استصحاب عدم الخصوصية لا يثبت عدم الجامع إلا على القول بالأصل المثبت لأن عدم الخصوصية يلزمها عدم الجامع ويمكن ان يمنع من استصحاب هذا القسم من الكلي اعني القسم الثاني منه فان المعتبر هو تعلق الشك ببقاء المتيقن سابقا ومن المعلوم ان المتيقن سابقا هو الكلي المتحقق في ضمن فرد خاص تيقن ارتفاعه والكلي المشكوك لم يكن متيقن وجوده بنفسه سابقا وبعبارة اخرى الكلي بوصف أنه كلي بمعنى تجريده عن خصوصياته المفردة له لا وجود له في الخارج حقيقة بل لا بد أن يوجد بوجود أفراده الجزئية المشخصة له لأنه لا وجود للكلي الطبيعي إلا بوجود افراده كما عليه المحققون معللين ذلك بأن الكلي لو كان موجود لزم اتصاف الموجود الواحد بالمتضادين والمتناقضين فيما إذا كانت افراده متصفة بها مضافا إلى أن الاحكام والآثار التي

٢٩٠

تتعلق بالكليات إنما تتعلق بها باعتبار مصاديق وجودها الخارجي ، وعلى هذا فوجوده المحتمل في الحال لم يكن متيقن الحدوث سابقا وانما كان المتيقن وجود آخر له قد زال قطعا ، وأما وجوده في ضمن احد الفردين لا بعينه ليس له وجود وحداني بسيط خارجي مستمر وانما هو اعتباري محض. وان شئت قلت انا لو سلمنا ان وجود الكلي واحد غير متعدد بتعدد افراده إلا أن العرف يرى ان وجوده في الخارج متعدد ولذا يحكم العرف بتعدد افراد وتباينها فوجود الإنسان بوجود عمر مباين لوجوده بوجود زيد ومغاير له عند العرف فلا يصدق النقض عندهم وعليه فلا تشمله الأخبار ولا السيرة ولا بناء العقلاء.

والحاصل ان العرف لا يرى تحقق النقض لوجود الحيوان في هذه الصور لو عمل على خلافه فالمعلوم في السابق هو وجود الكلي المقطوع الزوال والمشكوك بقاؤه هو وجود الكلي المشكوك حدوثه والقدر الجامع بينهما امر اعتباري محض يعتبره العقل لا يرى العرف له وجود استقلالي امتدادي علم بحدوثه وشك في بقائه سلمنا لكن المنصرف من الأخبار بل هو الظاهر منها الاختصاص بالوجود الخارجي الخاص الذي يحتمل الوجود والعدم كالطهارة والثوب وزيد الغائب ونحوها وهكذا لم يثبت بناء العقلاء على الحكم بالبقاء في مثل المقام ولا ريب أن الذي يؤخذ به في بنائهم هو القدر المتيقن منه لأنه دليل لبي.

ودعوى إن قاعدة الامكان التي اشار اليها الشيخ الرئيس بقوله (كلما شككت في امكانه وامتناعه فذره في بقعة الامكان ما لم يزده قائم البرهان) تقتضي امكان البقاء ففاسدة لأن المراد بها الامكان الاحتمالي لا الامكان الوقوعي ، سلمنا ذلك لكن الامكان الوقوعي للبقاء غير استصحاب البقاء فان مجرد البناء على امكان البقاء لا يقتضي البناء على تحقق البقاء.

والحاصل أنه بعد القطع بارتفاع أحد الفردين يصير الشك في بقاء

٢٩١

القدر المشترك في ضمن الفرد الآخر شكا في حدوث القدر المشترك في ضمن ذلك الفرد الآخر فيرجع الشك الموجود الى ان الكلي هل حدث في ضمن الفرد القابل للبقاء ام لا من اول الامر ومقتضى الأصل عدمه.

ان قلت ان اللازم من نفي حدوث الفرد الطويل هو ارتفاع ما في ضمنه من حصة الكلي لا نفي الكلي المشترك بينه وبين الفرد القصير.

قلنا انه غفلة عن حقيقة الحال اذ ليس عندنا الا كلي مردد بين الفرد القصير والفرد الكبير والكلي في الفرد القصير قطعا قد زال وانما المشكوك فعلا هو الكلي في الفرد الطويل فقط فالكلي المحتمل وجوده فعلا هو الكلي المشكوك حدوثه لا غيره والاستصحاب يقتضي عدمه ان قلت مما يدل على جريان الاستصحاب في هذا القسم أعني القسم الثاني ما بنى عليه الأصحاب من عدم الاكتفاء بطهارة واحدة للصلاة فيما لو علم اجمالا بحدوث أحد الحدثين الذي يقتضي أحدهما الوضوء والآخر الغسل وحكمهم بوجوب الجمع فإنه لا مدرك له إلا استصحاب كلي الحدث بعد فعل أحد الطهارتين.

قلنا ان المنشأ لحكمهم هو قاعدة الشغل اليقيني المقتضية للبراءة اليقينية التي لم تتحقق الا بالجمع وليس المنشأ لحكمهم هو استصحاب الكلي ويدلك على ان المصدر لهم هو ذلك أنه لم يجب الجمع بين الطهارتين فيما لو علم بصدور الحدث الاصغر منه ثم شك في صدور الحدث الأكبر منه سواء كان ذلك قبل القطع بصدور الاصغر أو بعده أو مقارنا له ثم أتى برافع الحدث الأصغر فقط فان مقتضى جريان الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي جواز الرجوع الى استصحاب بقاء كلي الحدث بعد الإتيان برافع أحد الحدثين والحكم بوجوب الجمع بين الطهارتين مع أنه لم يلتزم به أحد.

ان قلت أنه إذا أتى بالغسل كفى عن الوضوء.

قلنا انه من المحتمل أن يكون الخارج منه هو الأصغر فقط فالغسل

٢٩٢

غير رافع له فلا بد له من الوضوء لأحتمال كون الحادث هو الاصغر والغسل لاحتمال كونه هو الأكبر. والاكتفاء بالغسل انما هو فيما كان صدور الاكبر يقينا سواء شك في حدوث الاصغر أو علم به لا في مثل المقام الذي يكون الأمر بالعكس وهكذا يرد عليهم النقض بما لو علم باشتغال ذمته بمقدار معين من الدين لزيد ثم شك باشتغال ذمته بمقدار آخر ثم أدى المقدار المعلوم اشتغال ذمته به فمقتضى استصحاب كلي الدين الحكم بوجوب أداء المقدار الآخر الذي شك في اشتغال ذمته به وترتيب ساير احكامه عليه. وكذا لو علم بفوات فائتة معينه منه وشك في فوات فائته أو فوائت أخرى منه ثم قضى الفائتة المعينة فمقتضى ما ذكر استصحاب كلي الفائتة والحكم بوجوب قضاء الفوائت المحتملة وترتيب آثارها. وهكذا الحال في باب الزكاة والأخماس وغير ذلك مما دار الأمر فيه بين الأقل والاكثر الاستقلاليين مع انه لم يلتزم احد بجريان الاستصحاب في تلك الموارد وهذا موهن آخر لعدم جريان استصحاب الكلي في القسم الثاني وهكذا الحال فيما لو علم اجمالا بنجاسة أحد الإناءين أو احد طرفي الثوب ثم طهر احدهما بعينه فانه لو لاقت يده كلاهما بعد ذلك لم يحكم الفقهاء بنجاسة يده مع ان الاستصحاب لكلي النجاسة جاري في هذين الإناءين وهذا الثوب فتكون اليد قد لاقت النجاسة نظير ما إذا علم نجاسة الإناء ثم شك في طهارته فانه لو لاقته اليد يحكم بنجاستها.

وقد فصل بعضهم بأن الملاقاة لازم عقلي في الأول دون الثاني فانه أمر حسي فانه في المثال الأول استصحاب الكلي لا يثبت بأن هذا الطرف نجس أو ذاك الطرف نجس وانما يثبت كلي النجاسة ولا ريب ان ملاقاة الاطراف لازمها العقلي الملاقاة للكلي ونظير ذلك كثير في الشرع كما لو علم بأن زيد استعار من عمر ثوبا ثم مات زيد ولم يكن في تركته إلا ثوب واحد فشك الورثة في انه له فان استصحاب بقاء

٢٩٣

العارية عنده لا يثبت ان هذا الثوب لعمر ومثله في الوديعة وفي موارد كثيرة.

ان قلت ان استصحاب عدم الفرد لا يثبت عدم الكلي فان عدم الكلي ليس من اللوازم الشرعية لعدم الفرد بل من لوازمه العقلية.

قلنا ان وجود الكلي عين وجود الفرد فيكون عدم الفرد عين عدم الكلي فلا حاجة إلى الواسطة بل لا واسطة في المقام حتى يبتني ذلك على القول بالأصل المثبت مضافا إلى انه يكفي في المقام عدم ثبوت بقاء الكلي ولا حاجة إلى اثبات عدمه ليلزم الالتجاء إلى القول بالاصل المثبت.

القسم الثالث من استصحاب الكلي أن يكون الشك في بقاء الكلي من جهة قيام فرد أخر مقام الفرد الذي كان مقطوع الوجود سابقا ويجزم بارتفاعه فعلا ، كما إذا علمنا بوجود زيد في الدار ثم قطعنا بخروجه منها لكن شككنا في ان عمر جاء للدار عند خروجه فيكون عندنا اليقين بوجود الكلي وهو الانسان في الدار سابقا والشك في وجوده لاحقا لأحتمال ان عمر دخل عند خروجه. ومثاله في الشرعيات الماء المتغير أحد اوصافه بالنجاسة إذا ذهب أحد أوصافه كاللون وشك في انه هل قام مقامه الطعم أو الريح والظاهر عدم صحة استصحاب الكلي لأن بقاء الكلي في الخارج عبارة عن استمرار وجوده الخارجي المعلوم سابقا وهو مقطوع فعلا بعدم بقائه وهذا هو الفارق بين هذا القسم والاقسام السابقة فان في القسمين السابقين الوجود الخارجي المعلوم لم يقطع بارتفاعه وان شئت قلت ان العرف يرى الوجود الاول للكلي قد ارتفع ويشك في أصل الوجود للكلي في الآن الثاني.

نعم يستثنى من هذا القسم الثالث ما يعد فيه الفرد الثاني عند العرف استمرارا لوجود الفرد الأول كما لو علم بالسواد الشديد وقطع بارتفاعه ولكنه احتمل انه تبدل الى مرتبة أخف منه فيستصحب كلي السواد

٢٩٤

وكما في كثرة الشك لو كانت بمرتبة علم بزوالها ولكنه احتمل انها تبدلت بمرتبة أدنى منها أو زالت بالكلية فيصح استصحاب كثرة الشك وهكذا الماء المضاف لو علم باضافته بمرتبة قطعا زالت عنه ولكنه شك في تبدلها بمرتبة ادنى منها أو زالت الاضافة بالكلية فيصح استصحاب الاضافة.

والسر في ذلك هو أن العرف يرى ان تبدل المراتب لوجود العرض بمنزلة تبدل الحالات للجواهر كما يكون الوجود للجوهر في الزمان الثاني بقاء لذاته كذلك يرى العرف ان الاعراض باقية بتبدل مراتبها ومن هذا الباب اعني استصحاب الكلي من القسم الثالث في الاحكام الشرعية هو استصحاب كلي الطلب فيما لو شك في بقائه بتبدله بمرتبة اخرى كما لو علم بثبوت الطلب للشيء بالعلم بوجوب ذلك الشيء ثم علم بارتفاع الوجوب واحتمل انه تبدل بمرتبة اخرى للكلي اعني الاستحباب وقد يستشكل فيه بأن اختلاف الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة وان كان بشدة الطلب وضعفه وكان تبدل احدهما بالآخر مع عدم تخلل العدم غير موجب لتعدد الكلي الموجود بينهما إلا أن العرف يرى الايجاب والاستحباب المتبدل به وكذا الحرمة والكراهة المتبدلة بها فردين للكلي متباينين والعبرة في الاستصحاب هو نظر العرف دون الحقيقة.

وقد اجاب عنه بعضهم انا لو سلمنا ذلك فانما هو بالنسبة إلى نفس الحكمين دون مناطيهما وأما هما فلا إشكال في كون الاختلاف بينهما من قبيل اختلاف المراتب عرفا ، ولا يخفى ما فيه فان استصحاب كلي مناط الحكمين وكلي المصلحة المقتضية له غير معدود من استصحاب الاحكام الشرعية بل يحتاج استصحابه الى اثر شرعي فهو خارج عن استصحاب الحكم الذي هو محل الكلام مضافا إلى ان ترتب الحكم الشرعي على مناطه ومصلحته ليس من الآثار الشرعية.

٢٩٥

التنبيه الرابع في استصحاب عدم التذكية : ـ

لا بد قبل البحث فيها من الرجوع إلى الأدلة الشرعية في أن الذي ثبت له الحلية والطهارة هو المذكى أو ان عنوان الميتة هو الذي ثبت له الحرمة والنجاسة فنقول ان الادلة الشرعية مختلفة جدا ففي بعضها يكون العنوان هو المذكى كقوله تعالى (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ، وقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، وقوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، وقوله (ع) في ذيل موثقة ابن بكير «إذا علنت أنه ذكي قد ذكاه الذبح» ، وبعض الاخبار المعللة لحرمة الصيد الذي ارسل اليه كلاب الصيد ولم يعلم انه مات بأخذ الكلب المعلم بالشك في استناد موته إلى المعلم ، وما ورد من جواز ترتيب احكام المذكى على المأخوذ من يد المسلم أو من سوق المسلمين أو غير ذلك مما هو امارة على التذكية فانه يعطي أن الطهارة والحل في اللحوم والجلود على خلاف الأصل وإلا لما احتاج في حليتها وطهارتها إلى قيام الامارة لأن الأمارة لا يصح ان تنصب على ما هو موافق للأصل وانما تنصب على مخالفته ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن حصر الشارع للمحرمات يدل على حلية ما عداها. وفي بعضها الآخر يكون العنوان هو الميتة كما في قوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) على ظاهر الآية ، وقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) ما ورد من عدم جواز الصلاة في شيء من الميتة أو في جلده وإن دبغ سبعين مرة ، وقول الصادق (ع) في صحيحة الحلبي «وصل فيه حتى تعلم انه ميتة بعينه» وفي رواية اخرى «ما علمت انه ميته لا تصل فيه». وما ورد في تعليل الحكم بحرمة الطعام الذي مات فيه فارة بأن الله حرم الميتة من كل شيء إلى غير ذلك ، وعلى هذا فمقتضى ذلك كون كل منهما عنوانا على حده مستتبعا لحكم مغاير لما يستتبعه الآخر بل ومقتضى ذلك كون كل منهما أمرا وجوديا إذ لو لا ذلك لعبر الشارع عن العدمي منهما

٢٩٦

بعنوان عدمي بل لا يكون حاجة لذكره ولا فائدة لأن يستفاد حكمه حينئذ من حكم العنوان الوجودي ، وعليه فلا يثبت بجريان الاصل في عدم أحدهما الحكم المرتب على الآخر إلا على القول بالأصل المثبت بناء على كونها ضدين لا ثالث لهما كالحركة والسكون وإلا فلا يثبت به حتى على القول بالأصل المثبت.

ودعوى ان المذكى امر وجودي والميتة عدم المذكى ليست بأولى من العكس وترجيح الأول بأن للتذكية شروطا وجودية فلا بد أن تكون الميتة عبارة عما عدمت فيه تلك الشروط كلا أو بعضا فلا محالة تكون الميتة أمرا عدميا مدفوع بأنه موقوف على ثبوت الحقيقة الشرعية للتذكية وهو ممنوع بل هي باقية على معناها اللغوي اعني خصوص الذبح وفري الاوداج واعتبار الشارع تلك الشروط في التذكية لا يقتضي ذلك لإمكان أن يقال ان الميتة عبارة عن خصوص ما مات حتف انفه غاية الامر ان المذبوح الفاقد لتلك الشروط كلا أو بعضا ملحق بها حكما لدليل خارجي مضافا الى ان كلا من التسمية والاستقبال شرط ذكري فأصالة عدمهما لا تثبت الحرمة إلا بعد إثبات كون تركهما عن عمد والأصل لا يثبت ذلك الا على القول بالأصل المثبت وقد انتصر للمشهور القائلين بأصالة عدم التذكية بوجوه : ـ

احداها بأن وقوع التعبير عن موضوع الحرمة بغير المذكى في جملة من الأدلة يعطي بأن المدار على التذكية وفيه ما عرفته من التعبير عن موضوع الحرمة بالميتة في كثير من الأدلة وعن موضوع الحلية بالمذكى هذا مع انه لم يقع فيما اطلعنا علية من الادلة لفظ عدم التذكية ليدعى كونه موضوعا للحرمة بل الواقع فيها التذكية والميتة.

وما ربما يتخيل منه ذلك من النهي عما لم يذكر اسم الله عليه لا يخفى فساده إذ هو مسوق لبيان أن التسمية شرط وليس بمسوق لجعل عدم التذكية عنوانا ومعروضا للحرة مضافا لما عرفت من أن

٢٩٧

التسمية شرط ذكري.

الثاني بأن الميتة عند الشارع عبارة عما زهق روحه بغير التذكية إذ لا واسطة بينهما وإلا لزادت النجاسات على ما عدوها. وفيها انه مصادرة محضة لإمكان دعوى العكس كامكان دعوى كون كل منهما أمرا وجوديا فيكونان من الضدين الذين لا ثالث لهما كل مختص بحكم مغاير للآخر. ولزوم زيادة النجاسات على ما عدوها لا ضير فيه مع انه يمكن منعه لأن الواسطة وهو المذبوح الفاقد لشروط التذكية لما الحقوها بالميتة حكما بدليل خارجي فهو ميتة حكما وإن لم تكن ميتة موضوعا.

الثالث ان الحكم لم يرتب في الشرع على الميتة بل على غير المذكى وفيه وضوح فساده لما تقدم من الآيات والأخبار التي جعلت الميتة موضوعا للحرمة.

الرابع امكان دعوى ان الميتة عبارة عما زهق روحه مطلقا فتشمل حتى المذكى إلا أن المذكى خرج بالدليل عن تحته وحكم بحليته فيكون خارج عن الميتة حكما وان كان منها واقعا فاذا شك في تحقق عنوان المخصص يرجع الى العام ويحكم بترتب احكام الميتة.

وفيه ان الشبهة مصداقية ولا يرجع فيها للعام إلّا ان يقال ان الشبهة المصداقية انما لا يرجع فيها للعام اذا لم يكن أصل موضوع يحرز به عدم المخصص كما لو شككنا في عروض الفسق لزيد العالم فإنه يستصحب عدم فسقه ويتمسك بالعام وهو اكرم العلماء على وجوب اكرامه وفيما نحن فيه نستصحب عدم التذكية الذي هو المخصص ونتمسك بعمومات الميتة ونرتب آثار الميتة لكن التحقيق ان الميتة ليس لها عموم لأنها هي الموت حتف الانف والأصل لا يقتضيها فبعد الحياة يتعارض الاصلان استصحاب عدم التذكية واستصحاب عدم الميتة ويتساقطان فيرجع لأصالة الحل وأصالة الطهارة ويرشد الى

٢٩٨

ما ذكرناه جملة من الأخبار كالمروي عن سماعة قال : «سألته عن اكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت والفراء. فقال (ع). لا بأس ما لم يعلم انه ميتة». وعن جعفر بن محمد بن يونس أن أباه كتب إلى أبي الحسن (ع) «يسأله عن الفرو والخف ألبسه وأصلي فيه ولا أعلم انه ذكي فكتب لا بأس به». وعن أبي عبد الله عن أمير المؤمنين (ع) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وبيضها وفيها سكين فقال أمير المؤمنين (ع) «يقوّم ما فيها ثم يؤكل لانه يفسد وليس لها بقاء فإن جاء طالبها عوض عن ما له الثمن. قيل يا أمير المؤمنين لا يدري سفرة مسلم أو مجوسي قال : هم في سعة حتى يعلموا ذلك».

التنبيه الخامس في استصحاب الأمور الغير القارة.

الموجودات على قسمين : ـ

قارة ودفعية وهي التي يكون بقاؤها بوجود واحد مستمر كالطهارة والنجاسة وكزيد وعمر.

وغير قارة وتدريجية وهي التي يكون بقاؤها بوجود تدريجي متصرم يتجدد شيئا فشيئا فلا يتحقق جزء منه إلا بعد انعدام ما قبله وهو :

اما ان يكون تدرجه بالذات وهو على قسمين :

الزمان كالليل والنهار واليوم وغيرها من أقسام الزمان.

وزماني كالحركة والقراءة وجريان الماء والدم والمشي والأكل وغيرها من الأفعال الزمانية التي يكون وجودها متصرم لا يتحقق جزء منه إلا بعد انعدام ما قبله.

وأما ان يكون تدرجه وعدم قراره بالعرض بواسطة تقيده بأمر غير قار بالذات وإلا في نفسه يكون قارا كما لو امره المولى بالإمساك طول النهار أو بالسكوت عند تكلم أبيه.

٢٩٩

والظاهر هو صحة الاستصحاب في جميع ذلك فيصح استصحاب الليل والنهار والسنة واستصحاب سيلان دم الحيض وجريان الماء من المادة واستصحاب كون الامساك امساكا في النهار وكون الصمت صمتا عند قراءة القرآن بل واستصحاب سعة الزمن والوقت المعمل بمستحباته فاذا شك في كون الوقت بقي منه ما يسع الصلاة بوضوئها أو الغسل لها أو انه ضيق فيكون حكمه التيمم لها استصحب السعة وإن أبيت فيصح منه ان يستصحب بقاء الوقت الى حين تمام العمل بشرائطه فيستصحب بقاء الوقت لصلاة الفجر بمقدماتها من وضوء أو غسل ويكون من الاستصحاب للامور المستقبلة الذي سيجيء إن شاء الله منا الكلام في صحته.

وقد اشتهر الايراد على صحة الاستصحاب في الامور الغير القارة بعدم تحقق اركان الاستصحاب فيها لان المتيقن من وجودها السابق مقطوع الزوال والمشكوك من وجودها مقطوع عدمه في السابق فكلما يشك في وجود جزء منه يئول الشك إلى الشك في حدوثه ووجوده ابتداء وإن شئت قلت إنه في هذه الأشياء لم يتحقق معنى البقاء.

اما في غير القار بالذات فلوضوح إن البقاء عبارة عن وجود الشيء الموجود في الزمان الأول بعينه في الزمان الثاني ولا ريب إن هذا المعنى لا يتصور بالنسبة لغير القار بالذات لأن وجود كل جزء منه مرتب على انعدام الجزء السابق منه حيث إن أجزائه تتحقق على سبيل التدريج ولازمه عدم صدق البقاء لأن المتيقن وجوده منه مقطوع عدمه في زمان الشك.

وأما في غير القار بالعرض كالامساك في نهار الخميس فلأن التمييز بين أجزائه يكون بأجزاء ما قيد به من الأمر التدريجي فيكون كل جزء منه مقرون ومتقوم بجزء من الأمر التدريجي وعليه فيكون تحقق كل جزء منه مرتب على انعدام جزئه المتحقق قبله لأن المقيد لا بقاء

٣٠٠