مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة الآداب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

الشرع أم لا.

فإن قال بالثاني كذبه الوجدان والعيان وإن قال بالأول فهو المطلوب.

الثاني : ان الاحكام الوضعية تفهم من الأدلة كما تفهم الأحكام التكليفية الشرعية منها فهي احكام مفهومة من الأدلة كغيرها فيلزم العمل بها وارجاعها إلى الأحكام التكليفية ارتكاب لخلاف الظاهر فيكون تصرف بالحجة بلا حجة.

الثالث : ان الحكم الوضعي لو لم يكن مجعولا وكان منتزعا عن الحكم الطلبي عقلا لاستحال انفكاكه عنه لاستحالة تخلف التابع واللازم عن متبوعه وملزومه والتالي باطل بالوجدان لما نشاهده من ثبوت الحكم الوضعي في موارد يعلم بعدم الحكم التكليفي فيها كثبوت الضمان والجناية والنجاسة ونحوها في حق الصبي والنائم والمجنون وغيرهم بإيجاد اسبابها من اتلاف مال الغير وادخال الحشفة في الفرج والانزال وملاقاة البول وغير ذلك مع انتفاء الحكم التكليفي الذي هو منشأ الانتزاع ، ودعوى ان الحكم التكليفي الذي هو منشأ الانتزاع أعم من التنجزي أو الشأني وفي المذكورات ثابت الحكم الشأني بل الحكم التعليقي أعني المعلق على البلوغ والافاقة من الجنون وهو كاف في انتزاع الحكم الوضعي.

فاسدة ضرورة ان البلوغ والعقل والقدرة التي هي من الشروط العامة من شروط أصل تعلق التكليف لا من شروط تنجزه فمع انتفاء أحدها لا تكليف شأنا ولا فعلا لحكم العقل بعدم الفرق بين فاقدها وبين البهائم والجمادات ،

هذا مضافا إلى أن ظاهر كلماتهم هو ثبوت الأحكام الوضعية المذكورة من الضمان ونحوه فعلا وتنجزها بمجرد وجود أسبابها في مواردها مع أن الحكم التكليفي لو كان موجودا فإنما يكون معلقا أو شأنيا

٢٦١

ولا يعقل فعليّة التابع واللازم وتنجزهما مع انتفاء فعليّة المتبوع والملزوم وعدم تنجزهما حيث يستحيل أن يكون المنتزع منجز والمنتزع عنه معلقا أو إنشائيا وحينئذ فلا بد أما أن يقال ان الضمان والنجاسة مثلا أيضا تعليقي كالمنتزع منه وهو خلاف ظاهر كلماتهم قاطبة أو بفعلية المنتزع منه كالمنتزع وهو خلاف الاجماع بل الضرورة أو بمنع الانتزاع والاعتراف بأنه مجعول مستقل في عرض الحكم التكليفي وهو المطلوب.

مضافا الى أن توجه الخطاب التعليقي الى الصبي والمجنون لا يعقل فإنه إن كان هو نفس الخطاب المتوجه للمكلفين أيضا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ضرورة ان الخطاب التنجيزي غير الخطاب التعليقي وإن كان بخطاب خاص فمع انه غير موجود لدينا يرد عليه أنه حينئذ لا يمكن أن يكون إنشاء بل يكون اعلاما بأنهم سيصحبون مكلفين ولا دخل للأعلام بالأحكام مع ان الاعلام بعد حصول الشرائط لا ينهض لاثبات التكليف بالنسبة الى ما سبق سببه ضرورة استحالة انقلاب الاخبار الى الانشاء فلا بد من خطاب جديد ينتزع منه الضمان والجنابة والنجاسة والطهارة قبل حدوث هذا الخطاب الجديد.

ودعوى انتزاع الاحكام الوضعية المذكورة من الحكم التنجيزي المتوجه للولي فاسدة فإنها غير جارية في الجنابة والنجاسة والطهارة مضافا إلى أنه لازم ذلك أن يضاف الحكم الوضعي للولي لا الى الصبي والمجنون اذ الأمر الانتزاعي تابع لمورد منشأ انتزاعه ولا معنى لاضافة المنتزع الى غير من تعلق به منشأ الانتزاع.

الرابع ما ورد في الشرع الشريف من القضايا الظاهرة في جعل الحكم الوضعي كقوله (ع) «من أتلف مال غيره فهو له ضامن»

٢٦٢

وقوله (ع) «قد جعلته حاكما» وقوله (ع) «الماء كله طاهر» وسائر الأدلة المثبتة للخيارات ونحوها مما هو ظاهر في جعل الحكم الوضعي ولا وجه لصرفها عن ظاهرها لأن الظاهر حجة فمخالفته تحتاج الى دليل وهو مفقود.

ان قلت ان المولى إذا قال لعبده (اكرم زيدا إن جاءك) لا يجد من نفسه أنه أنشأ إنشاءين وجعل أمرين أحدهما وجوب إكرام زيد والثاني كون مجيئه سببا لوجوب اكرامه بل يجد من نفسه ان الثاني مفهوم منتزع من الأول لا يحتاج الى جعل مغاير لجعله للأول بل حتى لو قال المولى (الدلوك سبب لوجوب الصلاة) فإنا لا نعقل منه جعل السببية لا بجعل مستقل ولا بالتبع وإنما نعقل منه إنشاء الوجوب عند الدلوك وانتزاع العقل السببية للدلوك هذا كله في السبب والمانع والشرط.

وأما الصحة والفساد فهما في العبادات موافقة العمل المأتي به للمأمور به أو مخالفته ومن المعلوم ان الموافقة والمخالفة ليستا مجعولتين بجعل جاعل وأما في المعاملات فهما ترتب الاثر على المعاملة وعدم الترتب ومرجع ذلك الى سببية المعاملة للأثر وعدم سببيتها وقد عرفت ان السببية غير مجعولة للشارع.

والحاصل أن هذه الأشياء ليست بأحكام مجعولة للشارع لا بنفسها ولا بتبع غيرها بل هي أما أمور واقعية كشف عنها الشارع كسببية الدم للنجاسة أو أمور انتزاعية من الاحكام التكليفية كالملكية فانها منتزعة من جواز الانتفاع بالشيء وبعوضه بلا بدل.

قلنا ان ما ذكره الخصم كله راجع الى دعوى الوجدان الممنوعة عليه والمصادرة العارية عن البينة والبرهان ومع ذلك في كلامه مواقع للنظر.

٢٦٣

منها قوله لا يجد المولى من نفسه انه أنشأ انشاءين.

قلنا نعم أنه أنشأ إنشاءين أحدهما إنشاء العلقة والربط بين المجيء وبين الوجوب والثاني طلب الاكرام عند المجيء غاية الأمر أنه كان بخطاب واحد ولا ضير فيه بعد ما كان دلالة الخطاب على أحدهما وهو التكليف بالمطابقة وعلى الآخر وهو الحكم الوضعي بالالتزام فيكون الآخر مجعولا للشارع جعلا أصليا لا انتزاعيا ولكن استفادته من الخطاب بالتبع وبالدلالة الالتزامية نظير ما ذكروه في قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) من دلالته على الصحة التي هي الحكم الوضعي بالالتزام فاستفادة الحكم الوضعي من الخطاب المذكور وان كانت تبعية إلا أن ذلك لا يقتضي أن يكون المستفاد أيضا تبعيا بل المستفاد أيضا أصليا بل يمكن أن يكون كلاهما بالمطابقة بأن يقال أن التكليف مستفاد من الامر والحكم الوضعي مستفاد من التقييد بالدلوك وبالمجيء في المثالين المتقدمين فيكون الخطاب من قبيل الدالين على مدلولين.

ومنها قوله (واما الصحة والفساد) ففيه أن ما ذكره إنما يتوجه إلى تفسير المتكلمين لهما بذلك وأما بناء على تفسير الفقهاء الصحة عن اسقاط القضاء والفساد عن عدمه فيمكن دعوى تعلق الجعل بهما إذ هما بهذا المعنى ليسا من الأمور العقلية لا تتغير ولا تتبدل بجعل الجاعل ولا بالأمور المنتزعة من أمر آخر بل هما مما للشارع التصرف فيهما بأن يحكم بسقوط القضاء وإن لم يأت المكلف بالمأمور به كما في صلاة العيدين والجمعة كما للشارع أن يجعل الفعل المأتي به المخالف للمأمور به الواقعي مسقطا له بناء على أجزاء الأوامر الظاهرية عن الواقعية كما لو صلى باستصحاب الطهارة مع فقدها في الواقع ونظير ذلك بذل المتبرع دين غيره أو صداق زوجة غيره فانه مسقط لوجوب الأداء عليه.

٢٦٤

ومنها قوله (امور واقعية كشف الخ ..) ففيه انها صارت أحكاما شرعية بعد جعل الشارع لها ولو بنحو الامضاء مع أنه لو كانت امورا واقعية لا تحتاج الى الجعل لم تكن حاجة لكشف الشارع عنها لانها ان كانت يعرفها العقلاء والعرف فواضح وان لم يعرفها فنحن نمنع ذلك وليس هو أولى من الالتزام بالجعل لمصلحة هناك تقتضي جعلها كما اقتضت المصلحة جعل التكليف ثم كيف يدعي الخصم انها منتزعة من الأحكام الشرعية مع أنها امور واقعية اذ على هذا التقدير تكون أسبق من الأحكام.

ان قلت ان الأحكام الوضعية غير قابلة للجعل فان مواردها مشتملة على خصوصية تكوينية موجبة لتلبس ذيها بالحكم الوضعي في عالم التكوين والايجاد فالسبب والشرط والمانع والرافع للتكليف لم تتصف بهذا الوضع والحكم إلا لأجل تلك الخصوصية وإلا لزم أن يكون كل شيء متصفا بهذه الصفات ومن المعلوم أن مجرد الانشاء لمفاهيمها مثل ان يقول (دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة) إنشاء للسببية الدلوك لا يوجب سببية الدلوك لوجوبها ما لم يكن في الواقع خصوصية في الدلوك توجب الوجوب للصلاة ، وعليه فيكون إنشاء الحكم الوضعي كاشف عن وجود تلك الخصوصية لا أنه موجد لها بخلاف انشاء سائر الأحكام فإنه موجد لها فسببية العقد أو الحيازة ونحوها لجواز التصرف وشرطية الاختيار في التصرف لتأثيرها وعدم المانع منها من سبق عقد الغير أو حيازته أو نحو ذلك من اجزاء العلة كلها أمور واقعية تكوينية كشف عنها الشارع ولم يجعلها الشارع.

قلنا أن الجواب عن ذلك بالنقض بنفس التكاليف فانها لا بد وأن تكون لخصوصية في موردها. وعليه فيكون انشاؤها كاشفا عن تلك

٢٦٥

الخصوصية وليس بكاشف عن الجعل للشارع لها.

وبالحل نسلم انه لا بد من خصوصية لكن تلك الخصوصية تقتضي جعل من بيده الجعل السببية للتكليف أو الشرطية له أو نحو ذلك حيث يرى المصلحة تقتضي ذلك كما أن رؤيته للمصلحة الواقعية في العمل تقتضي إيجابه أو تحريمه.

والحاصل أن السببية التشريعية التكليف أو سائر أجزاء علته مثلا فانها وان كانت تتوقف على كون الشيء ذا خصوصية في الواقع ومصلحة في نفس الامر مقتضية لترتب التكليف عليه إلّا انه نفس الجعل لها من الشارع في عالم الإنشاء يكون لأجل حصول تلك الخصوصية والمصلحة في الخارج فالمجيء بذاته والدلوك في نفسه والجنابة في الواقع وان كانت فيها خصوصية ومصلحة تقتضي التكليف بالاكرام والصلاة والغسل إلا أن حصول تلك الخصوصية تحقق تلك المصلحة لا يحصلها العبد ولا يظفر بها المكلف الا بعد جعل الشارع لها سببا أو شرطا أو نحو ذلك للتكليف نظير الخصوصيات والمصالح في الأعمال الموجبة للتكليف بها.

وان شئت قلت ان المصلحة المقتضية للتكليف لا تتحقق إلا بعد حصول تلك الامور فالمولى جعلها اسبابا ليحصل العبد المصلحة المقتضية للتكليف.

ان قلت ان السبب للحكم والشرط له وعدم المانع والرافع كلها في مرتبة العلة لصدور الحكم من الحاكم فالإرادة للحكم والمصلحة الموجبة له لا يعقل أن تكون مجعولة من الحاكم للحكم.

قلنا محل كلامنا ليست هذه الأمور التي هي في مرتبة العلة لصدور الحكم فانها بالنسبة الى الحكم يكون اتصافها بحسب التكوين لا بحسب

٢٦٦

التشريع لا بالذات ولا بالتبع فان الارادة من الحاكم للحكم سبب تكويني لصدوره منه وانما محل كلامنا هذه الامور التي هي في مرتبة الموضوع والمتعلق للحكم الشرعي بحيث يكون جعله وثبوته منوطا بها كالدلوك والقدرة وعدم الجنون لوجوب الصلاة والاستطاعة للحج وبلوغ النصاب للزكاة.

وذهب استاذنا الشيخ كاظم الشيرازي قدس‌سره في هذا المقام بتوضيح منا ان مراد القوم بكون الوضع مجعولا وعدمه بقرينة ما رتبوا عليه من جواز الاستصحاب نظير استصحاب الأحكام التكليفية وعدم جوازه إلّا بتبع استصحاب منشأ الانتزاع نظير الامور الاعتبارية هو جعلها بالجعل التشريعي على نحو يكون للتعبد ببقائها أثر عملي خارجي كما ان التعبد ببقاء التكليف له عمل خارجي كالطاعة أو العصيان فمرجع النزاع إلى أن الاحكام الوضعية هل لها عمل خارجي صح باعتباره جعل البقاء والاستصحاب التشريعي لها كالأحكام التكليفية أم لا. فالقائل بعدم الجعل يقول نحن لا نعقل لغير التكليف أثر من طاعة أو عصيان يعبدنا الشارع ببقائه باعتبار ذلك الأثر. والقائل بالجعل يدعي وجود ذلك وان الأثر هو الاتيان بالتكليف عند حصول السبب واتيان الجزء في ضمن امتثال الأمر بالشكل وعليه فالجزئية والسببية تستصحب مع سبق اليقين بوجودها وترفع عند الجهل بها مع عدم اليقين السابق بها باعتبار ذلك الأثر.

ثم اختار (ره) على هذا المبنى الوجه الأول وهو عدم الجعل لعدم عمل خارجي لنفس جعل بقائها وما ذكر من الأثر في الامثلة المتقدمة إنما هو أثر عملي للتكليف بالكل أو لتعلق التكليف بالجزء في ضمن الكل ولا أثر عملي لنفس الجعل للبقاء حتى في الملكية

٢٦٧

والولاية والقضاء ومجرد أنه يجعل بجعل من له الأمر لا يصح جعل بقائها إذا لم يكن لها عمل تعبدي وحينئذ لا بد في استصحابها من أثر عملي في الخارج كاستصحاب الموضوعات الخارجية بل كاستصحاب الأحكام الشرعية إذا رتب عليها أثر شرعي.

والحاصل ان الأحكام الوضعية كالموضوعات الخارجية لا بد في استصحابها من ملاحظة التكاليف المرتبة عليها التى تكون هي بمنزلة الموضوع لها ولا ريب أنها في هذه المرتبة يكون استصحابها مثل استصحاب الموضوعات الخارجية لا يصح بدون ترتب أثر شرعي عليها ولا نعقل امرا غير التكليف قابلا لوضع بقائه ورفعه بعنوان المولوية المؤثرة ، هذه خلاصة مرامه رفع الله مقامه وأنت بعد ما اوضحنا لك الحال تعرف حقيقة هذا المقال.

دفع توهم :

هذا وقد يتخيل ان الاستصحاب لا يجري في مثل الشرطية والسببية والمانعية لأن الشك فيها مسبب عن الشك في منشأ انتزاعها فاذا شككنا في شرطية الاستقبال للصلاة مثلا نجري الاستصحاب في منشأ انتزاعها وهو كون الأمر بالصلاة مقيدا بالاستقبال لأنها مسببة عنه.

وفيه أنه لا بد من ملاحظة الدليل الشرعي فقد يكون الأمر كما ذكره المتخيل كما لو كان لسان دليل الشرطية اذا صليت فاستقبل القبلة وقد يكود الأمر بالعكس كما لو كان لسان دليلها الاستقبال شرط للصلاة.

ثمرات القول بجعل الحكم الوضعي

الأولى : ـ انه على القول بالجعل يجوز اجراء اصالة العدم في نفي الجزئية والشرطية فيما يشك فى انه جزء أو شرط في عبادة أو في

٢٦٨

معاملة وهو مقدم على اصل الاشتغال لأنه أصل موضوعي حاكم على قاعدة الاشتغال بخلافه على الآخر لعدم جريان الأصل في اللوازم والتوابع والامور الانتزاعية.

الثانية : أنه بناء على حجية الاستصحاب مطلقا يجوز إجراء الاستصحاب في الوضعي على القول بالجعل فيجري استصحاب سببية الغليان للنجاسة في العصير الزبيبي لو تمت أركانه ولو قلنا بعدم حجية الاستصحاب التعليقي ولا يجوز على القول بعدم جعل الوضعي :

الثالثة : ـ انه يصح الحكم بارتفاع الحكم الوضعي بنفسه عند الشك بمقتضى حديث الرفع ولا يصح على القول بعدم جعله.

الرابعة : ـ ما ربما يقال من ظهور الثمرة في انتقاض الفتوى بالفتوى في الأسباب الشرعية كما لو تزوج مجتهد مثلا بمن حصل بينه وبينها عشر رضعات لفتواه بعدم نشر الحرمة ثم تبدل رأيه إلى انتشار الحرمة بها فعلى القول بالجعل يستصحب الزوجية المسببة من العقد السابق فيحكم بصحة النكاح لأن التبدل في الفتوى بالتكليف انما كان في التكليف وهو الحرمة وهو لا يستلزم التبدل في الحكم الوضعي ويشك في بقائه فيستصحب بخلافه على القول بالعدم اذ الوضعي تابع للتكليف فمع انتقاض المتبوع ينتقض التابع ولا يشك في بقائه.

تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الأول على ان الاستصحاب من الاحكام الظاهرية : ـ

وينبغي التنبيه على أمور مهمة : ـ

الأول : لما كان العمدة في أدلة الاستصحاب هو الأخبار الصحيحة المتقدمة وهي انما تدل على أن الاستصحاب وظيفة للشاك تثبت للشيء

٢٦٩

بوصف أنه مشكوك الحكم كان من الاحكام الظاهرية والأصول العملية نظير البراءة والاشتغال والتخيير وهو ظاهر كل من تمسك بها واعتمد عليها وذكر غير واحد أن أول من تمسك بها هو الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي (ره) والد الشيخ البهائي في العقد الطهماسي وتبعه السبزواري والخونساري ومن تأخر عنهم ويشعر بذلك تعبير الحلي في سرائره بنقض اليقين باليقين في مقام الاستدلال على نجاسة الماء المتنجس بالنجس اذا زال تغيره من قبل نفسه.

وعليه فيكفي في الاستصحاب مجرد عدم العلم بزوال الحالة السابقة ولا يعتبر فيه الظن ببقائها بل يجري حتى مع الظن بالخلاف كما تقتضيه صحيحة زرارة السابقة في أول الاخبار ، كما أنه يكون من الاصول العملية لأنه يكون تعبدا بالحكم السابق في مورد الشك في بقائه. وعلى تقدير قيام بناء العقلاء عليه أو الاجماع على اعتباره. فنقول أن ذلك هو القدر المتيقن منها.

وأما المتقدمون من الاصحاب فظاهر الأكثر كالشيخ والسيدين وغيرهم بل وعامة المخالفين على ان الاستصحاب من الأدلة العقلية لأنه حكم عقلي يتوصل به لحكم شرعي بواسطة خطاب شرعي فيقال ان الخطاب الشرعي قام على ان حكم الشيء الفلانى الشرعي سابقا هو كذا ونشك في بقاء الحكم الشرعي في الحال وكلما كان كذلك فهو باق. فالصغرى شرعية والكبرى عقلية ظنية فهو نظير القياس والاستحسان في كونه من المستلزمات العقلية الغير المستقلة ومن الأدلة الاجتهادية الظنية والامارات الشرعية نظير الخبر وليس من الاصول العملية ولذا لم يتمسك هؤلاء بالأخبار.

نعم ذكر الشيخ الانصاري في رسائله ان الشيخ في العدة انتصارا

٢٧٠

لحجية الاستصحاب ذكر ما روي عن النبي (ص) «من ان الشيطان ينفخ بين أليتي المصلي فلا ينصرفن احدكم إلا بعد أن يسمع صوتا أو يجد ريحا» ثم أورد عليه الأنصاري (ره) ان الرواية ضعيفة ومختصة بموردها (ره) ولا يخفى ان الانتصار بذلك ليس من الشيخ نفسه بل نسب الانتصار به الى غيره حيث قال (ره) «فاستدل من نصر استصحاب الحال بما روي عن النبي (ص)». وعليه فيعتبر فيه الظن ببقاء الحالة السابقة إلا ان المعهود من طريقة الفقهاء عدم اعتبار افادة الاستصحاب الظن بل يجري حتى مع الظن بالخلاف. نعم يظهر من المحكي عن الحبل المتين للشيخ البهائي والشهيد في الذكرى ان المدار هو الظن ببقاء الحالة السابقة.

لكن قد عرفت ان العمدة في أدلته هو الأخبار وهي ظاهرة في جعل الحكم السابق عند الشك في بقائه وبيان الوظيفة عند التردد فيه كأصل البراءة والاشتغال في جعل الإباحة أو الاحتياط في مقام الشك ولو سلمنا دلالة بناء العقلاء والاجماع عليه فالقدر المتيقن منها هو ذلك بمعنى أن بناء العقلاء على أنه الوظيفة في مقام الشك لا أنه امارة على الواقع وهكذا الإجماع.

التنبيه الثاني فيما يعتبر في تحقق الاستصحاب : ـ

انه لا بد في تحقق ماهية الاستصحاب أمور ثلاثة : ـ

الأول والثاني : ـ اليقين الفعلي بوجود الشيء والشك الفعلي في بقائه ولا يكفي اليقين التقديري بأن يكون الشيء فيه سبب يوجب اليقين به بحيث لو التفت اليه لتيقن بوجوده كما يكفي الشك التقديري في بقائه بأن يكون بحيث لو التفت الى بقائه لشك فيه لأن اليقين التقديري ليس بيقين حقيقة ولا الشك التقديري شكا حقيقة فإنه مضافا الى أن حقيقته

٢٧١

متقومة بذلك. أن الأدلة المعتبرة على اعتباره قد اخذ في موضوعها اليقين والشك وهي ظاهرة في الفعليين كما هو الظاهر من الموضوعات المأخوذة في سائر الأدلة ألا ترى حجية الخبر لما أخذ في موضوعها الثقة فإنه يراد به الثقة بالفعل لا بالتقدير ، هذا مضافا الى أنه لو أريد من اليقين اليقين التقديري لزم مع الشك في وجود الشيء ان يستصحب وجوده على تقدير وجوده سابقا لأنه مع وجوده في السابق يكون متيقنا به تقديرا لأنه لو التفت اليه لتيقن بوجوده وعليه فلا يصح إجراء أصل البراءه في كل مورد لأنه في موردها يحتمل الوجود السابق للحكم الشرعي ويكون متيقنا تقديرا فيستصحب على تقدير وجوده وهو يقتضي تنجزه لو كان موجودا سابقا واشتغال الذمة به على تقدير وجوده نظير صورة الشك في الحكم قبل الفحص فإن المانع من اجراء البراءة فيه هو احتمال تنجزه لو كان موجودا ومن هنا يتوجه الاشكال على استصحاب الاحكام الشرعية التي قامت عليها الامارات الظنية المعتبرة كخبر الواحد بناء على ان المجعول في مورد الامارات الظنية ليس إلّا الحجية للامارة التي نتيجتها هو تنجز الواقع على تقدير المصادفة والعذر على تقدير المخالفة لا جعل الحكم الظاهري في موردها على طبق مؤداها وذلك لأن المستصحب على البناء الأول أعني جعل الحجية لو كان هو الحكم الواقعي فهو غير متيقن وجوده وإن كان الحكم الظاهر فهو معلوم العدم لأن الفرض إنه لم يجعل في موردها حكما ظاهريا نعم لو قلنا بجعل حكم ظاهري في موردها صح استصحابه لليقين الفعلي به عند قيامها.

وقد اجاب عنه صاحب الكفاية بتوضيح وتنقيح منا بأنا نلتزم بالاستصحاب للمتيقن وان لم يكن يقينا فعليا به بأن يكون المستصحب

٢٧٢

هو الحكم الواقعي الذي هو مدلول الدليل على تقدير وجود ذلك الحكم لان مفاد أدلة الاستصحاب هو الملازمة بين وجود الشيء وبقائه لأن اليقين والشك ليس لهما موضوعية وخصوصية وانما ذكر اليقين باعتبار ثبوت المتيقن به فهو مأخوذ باعتبار الطريقية المحضة وهكذا الشك أخذ لبيان عدم الاعتناء به مع اليقين لا لخصوصية له. عليه فالامارة اذا قامت على وجود الحكم وكانت تقتضي تنجزه لو طابقت الواقع يثبت بها لوازم وجوده وهو البقاء على تقدير مطابقتها ببركة أدلة الاستصحاب فيتنجز بها البقاء على تقدير المطابقة للواقع كنفس تنجز مدلولها على تقدير مطابقتها للواقع فتكون الامارة ببركة أدلة الاستصحاب منجزة لوجود الواقع ولبقائه على تقدير مصادفتها للواقع كما تنجز سائر آثار الواقع الشرعية الثابتة له عند الشرع ، ونظير ذلك ما إذا قام الدليل على الملازمة بين الافطار والقصر للصلاة وقامت الامارة على وجوب الافطار عند السفر فيتنجز وجوب القصر فيه ببركة أدلة الملازمة بينهما وإن كانت الامارة التي قامت على وجوب الافطار يتنجز بها الواقع لو طابقت الواقع وتكون عذرا عند المخالفة فإنه إذ ذاك يكون وجوب القصر كوجوب الإفطار في تنجزه لو صادقت الامارة الواقع لأنه بالأمارة يثبت الملزوم وإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم. وبعبارة أخرى أن أدلة الاستصحاب تدل على الملازمة الظاهرية بين وجود الحكم وبين بقائه عند الشك فيه فإذا ثبت حدوثه بالامارة أو بغيرها يثبت اللازم له بالاستصحاب وهو بقاؤه عند الشك فيه.

وأما دعوى انه يلزم ان لا يجري أصل البراءة لجريان الاستصحاب المذكور وان لا ينحل العلم الإجمالي بالحرام اذا قامت الامارة على حلية بعض أطرافه فهي فاسدة. لأن الاستصحاب يكون للحكم بالمرتبة الموجود فيها وفي البراءة وصورة انحلال العلم الاجمالي يكون الحكم على تقدير وجوده في مرتبة عدم التنجز فاستصحابه على تقدير وجوده

٢٧٣

بمرتبة عدم التنجز لا يوجب تنجزه لو كان في الواقع موجودا بخلاف ما اذا قامت الامارة المعتبرة عليه فإنه على تقدير وجوده يكون منجزا والاستصحاب على هذا التقدير يكون استصحابا له في مرتبة تنجزه فهو أيضا يقتضي انه على تقدير وجوده يكون باقيا بنحو التنجز وعلى تقدير عدم وجوده يكون العمل بالاستصحاب عذرا للمكلف. هذا غاية ما يمكن أن يقرب به هذا الوجه.

وأما لو قلنا بجعل الحكم الظاهري في مورد الامارة فلا إشكال لأن الحكم الظاهري متيقن الوجود عند قيامها فيستصحب نفسه.

ويرد على هذا الجواب بأن تنجيز بقاء الحكم أما بالامارة أو بالاستصحاب فإن كان بالامارة فهو باطل لعدم دلالتها الا على مجرد ثبوت الحكم حسب الفرض وحجيتها مقصورة على مقدار مدلولها سعة وضيقا فكيف تكون حجة على بقاء الحكم مع فرض خروجه عن مقدار مدلولها.

وان كان بالاستصحاب يثبت البقاء على تقدير الوجود بأن يكون الاستصحاب عبارة عن تعبد الشارع لنا بالبقاء على تقدير الوجود عند الشك في البقاء بأن يكون الاستصحاب عبارة عن الملازمة بين الوجود والبقاء ، والبقاء من لوازمه وحينئذ يكون المنجز للوجود منجز للبقاء فهو أيضا باطل لأن الاستصحاب متقوم بكون المستصحب حكما أو موضوعا ذا حكم وفيما نحن فيه وإن كان المستصحب حكما قامت الامارة على وجوده إلا أنه لما كان غير معلوم الوجود والجعل كان الاستصحاب لشيء غير معلوم التحقق وبقاء شيء غير معلوم التحقق سابقا ليس له أثر ولا عمل فجعل البقاء للشيء إنما ينفع مع العلم واليقين به أما عدم اليقين به فيكون جعلا على تقدير وجوده ووجوده حسب الفرض غير معلوم فيكون الجعل للبقاء أيضا غير معلوم وإن فرضنا أنه يكفي في تنجزه قيام الامارة عليه إلا أن الاستصحاب مؤداه

٢٧٤

فقط الملازمة بين الوجود والبقاء فلا بد من إحراز الوجود حتى نحرز تحقق لازمه وهو البقاء.

أما مع عدم إحرازه فنحن نشك في تحقق اللازم له وهو البقاء.

إن قلت إنا نستصحب التنجز للحكم الذي قامت الامارة عليه أو نستصحب الحكم المذكور على تقدير وجوده بمرتبة تنجزه فنقول كان الوجوب على تقدير وجوده منجزا فهو الآن كذلك ونتيجة ذلك هو وجوب الاحتياط والعمل على طبق الوجوب اذ بمجرد ذلك تنقطع البراءة ويرتفع قبح العقاب بلا بيان ،

قلنا ان الحكم المدلول للامارة انما كان منجزا على تقدير وجوده بقيام الامارة بمقدار دلالتها عليه وأما فيما أزيد من ذلك المقدار فلا منجز له فنبقى نحن وأدلة الاستصحاب والكلام في انها تدل على تنجزه في غير مقدار مدلول الامارة أم لا.

فنقول ان كان المراد (باليقين) فيها هو اعتبار الصفة الوجدانية بأن يكون أخذ اليقين فيها بنحو الموضوعية بأن الشارع أخذ اليقين بما هو طريق للواقع موضوعا للاستصحاب كما هو ظاهر أدلة الاستصحاب فهي غير دالة على التنجيز لعدم وجود صفة اليقين فيما نحن فيه وإن كان المراد منها نفس المتيقن بأن يكون أخذ اليقين فيها بنحو الطريقية المحضة لثبوت الواقع ولا يكون لصفة اليقين أي أثر في الاستصحاب فكذلك تكون أدلة الاستصحاب غير دالة على تنجز الحكم في غير مقدار مدلول الامارة. لأن أدلة الاستصحاب حينئذ إنما تدل على لزوم البقاء في ظروف الشك لما هو الموجود الواقعي حيث يكون هو الموضوع فيها فلا بد من احرازه في تحقق الاستصحاب ومع عدم احراز الموجود الواقعي لم يحرز تحقق موضوع أدلة الاستصحاب فلا يحرز دلالتها على البقاء لعدم احراز موضوعها وهو الوجود الواقعي ولا يخفى ما فيه فان الملزوم إذا ثبت يثبت لازمه وفيما نحن فيه

٢٧٥

قد ثبت الملزوم وهو مدلول الامارة فيثبت لازمه وهو بقاؤه عند الشك فيه.

إن قلت ان الملزوم لو كان هو الثبوت لوجود الحكم صح ما ذكر لكن الملزوم هو نفس وجود الحكم لأن اليقين كما ذهب إليه الخصم أريد به نفس المتيقن الذي هو الوجود الواقعي له وبهذا أيضا نلتزم في وجوب الإفطار والقصر فإنه إن كانت الملازمة بين نفسهما وقلنا يجعل الحجية لم يكن قيام الأمارة على الملزوم منهما مثبتا للازمه.

وإن قلنا إن الملازمة بين الثبوت للملزوم وبين نفس اللازم يثبت بأمارة ذلك.

قلنا لما تحققت الملازمة بين نفسيهما أعني بين وجود الحكم وبين بقائه عند الشك فما كان ينجز الملزوم منهما على تقدير تحققه ينجز لازمه على ذلك التقدير للملازمة بينهما ومقتضى ذلك اشتغال الذمة بهما وعدم المعذورية لو صادفت الأمارة الواقع والمعذورية عند مخالفتها.

نعم على هذا يكون العمل بالبقاء من باب الاحتياط لأن بقاء الحكم كان محتملا وانما وجب امتثاله لأن احتماله يكون احتمالا منجزا نظير احتمال الحكم قبل الفحص.

والحق ان يقال أن الظاهر من أدلة الاستصحاب أن المراد باليقين فيها هو الحجة سواء كانت يقينا أو إمارة أو أصلا وليس المراد به هو الصفة الخاصة الوجدانية والمراد بالشك هو عدمها والدليل على ذلك هو فهم المتشرعة منها ذلك فإنهم لم يتوقفوا في جريان الاستصحاب عند قيام الامارة أو الأصل على وجود الحكم أو الموضوع عند الشك في البقاء مضافا إلى أنه لو أريد باليقين الصفة الوجدانية لم يكن للاستصحاب مورد وان وجد فهو في غاية القلة لأن اليقين بالأحكام المشكوك بقاؤها لا يكاد يوجد وإن وجد فهو في غاية القلة وهكذا الموضوعات المذكورة فيها كالوضوء وطهارة الثوب المعار للذمي فإن اليقين بها لا يكاد يوجد وانما تقوم الحجة عليها.

٢٧٦

سلمنا لكن أدلة الامارات لو قلنا بعدم جعل الحكم الظاهري على طبق مؤداها تنزلها منزلة اليقين فيرتب عليه آثاره التي منها عدم نقضه بالشك.

والحاصل ان الاستصحاب متقوم باليقين الفعلي أو ما نزله الشارع منزلته كالامارات المعتبرة والاصول المجعولة فاذا قامت الامارة المعتبرة على الحكم الشرعي وشك في بقائه استصحب مؤداها وهكذا لو قام أصل الطهارة على طهارة الثوب وشك في بقائها لأحتمال عروض النجاسة له استصحب تلك الطهارة الظاهرية كمن أعار ثوبه للذمي الذي لا يتقيد من الطهارة والنجاسة.

وحيث قد عرفت أن الاستصحاب متقوم بالشك الفعلي كما هو متقوم باليقين الفعلي فلا استصحاب مع عدمه ومن هنا يظهر لك أن المتيقن بالحدث اذا غفل عن حاله وصلى وبعد الصلاة احتمل انه قد تطهر وصلى فلا يجري في حقه الاستصحاب للحدث المتيقن سابقا ويحكم بصحة صلاته لقاعدة الفراغ بخلاف ما إذا شك قبل الصلاة ثم غفل ثم صلى كانت صلاته فاسدة لاستصحاب الحدث المتيقن سابقا ولا تنفع قاعدة التجاوز ولا قاعدة الفراغ لتمام أركان الاستصحاب قبل الصلاة فيكون محكوما بالحدث عند دخوله في الصلاة.

ان قلت سلمنا تحقق الشك بعد اليقين بالحدث قبل الصلاة وثبوت الحدث عند الشك إلّا انه لما كان أمرا ظاهريا استصحابيا كان دائرا مدار موضوعه وهو الشك فهو إنما يبقى ما دام الشك.

وبالغفلة يزول الشك ويزول الامر الاستصحابي ببقاء الحدث فلا حدث ظاهر حين الدخول في الصلاة فتجري قاعدة الفراغ والتجاوز بعد الصلاة.

نعم لو كان الشك موجودا حين الدخول في الصلاة كانت الصلاة فاسدة للأمر الاستصحابي ببقاء الحدث.

قلنا أنه لما صار محكوما بالحدث بواسطة الاستصحاب صار محدثا

٢٧٧

وإذا دخل في الصلاة دخل وهو محكوم بالحدث ومن المعلوم ان الغفلة لا تزيل الحدثية عنه.

الأمر الثالث : ـ الذي يعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع والمعروض للمستصحب في زمان الشك مما عرفت من ان الاستصحاب متقوم باليقين والشك وهما لا يوجدان بدون النسبة فإن اليقين هو الاذعان والتصديق بثبوت شيء لشيء. والشك هو الاحتمال والتردد في ثبوت شيء لشيء والنسبة لا بد لها من طرفان منسوب ومنسوب اليه.

والمنسوب إليه في باب الاستصحاب يسمى بالموضوع والمعروض لأنه هو المركز والمتقوم به المنسوب والعارض عليه كما ان المنسوب يسمي بالمستصحب لأنه هو المراد اثباته وبقاء صحبته للموضوع. وبهذا ظهر لك ان الاستصحاب يعتمد على قضيتين قضية متيقنة سابقة وقضية مشكوكة لاحقة فاستصحاب عدالة زيد المتيقنة سابقا والمشكوكة فعلا يرجع لقضيتين احداهما زيد عادل سابقا وهو القضية المتيقنة. وثانيهما زيد عادل فعلا وهي القضية المشكوكة.

والموضوع في هذا الاستصحاب الذي عرض عليه المستصحب والمتقوم به المستصحب هو (زيد). والحكم المستصحب الذي هو العارض والمحمول والمتركز في الموضوع والمتقوم بالموضوع هو العادل وحيث كان الشك في الاستصحاب هو الشك في بقاء المتيقن السابق الذي هو المستصحب لا في حدوثه بخلاف قاعدة (اليقين والشك) فان الشك فيها يكون في الحدوث. وكان اللازم في الاستصحاب بقاء الموضوع للمستصحب في زمان الشك أما المقدم أعني كون الشك في الاستصحاب شكا في البقاء فلأن الدليل على الاستصحاب أما الإجماع أو بناء العقلاء أو الأخبار.

فأما الأولان أعني الإجماع وسيرة العقلاء فهما كانا ثابتين في الشك في بقاء المتيقن السابق وهو يقتضي بقاء الموضوع لأنه مع عدم وحدة

٢٧٨

الموضوع واختلافه لم يكن الشك شكا في بقاء المستصحب المتيقن سابقا بل يكون شكا في أمر حادث لأن الموضوع هو المقوم للمستصحب والمستصحب متركز به وعارض عليه ومع اختلاف المقوم يختلف المتقوم ومع اختلاف الموضوع يختلف المحمول ومع اختلاف المعروض عليه يختلف العارض.

وأما لو كان الدليل على الاستصحاب هو الاخبار فان لسانها النهي عن نقض اليقين بالشك أو ما يؤدي معناه وهو يرجع إلى إبقاء المتيقن السابق ولا يتحقق الإبقاء إلا مع بقاء الموضوع في ظرف اليقين الى ظرف الشك ووحدته وإلا لم يكن البقاء للمستصحب بقاء له لما عرفت من أن اختلاف الموضوع للشيء يوجب اختلاف ذلك الشيء فلا يكون عدم ترتيب آثار المتيقن سابقا عند الشك نقضا للمتيقن السابق وانما هو رفع لآثاره عن امر مغاير له وأجنبي عنه وهو ليس بنقض له.

ومن هنا ظهر لك ان معنى بقاء موضوع المتيقن السابق عند زمان الشك هو وحدته بمعنى أن موضوع المستصحب عند اليقين به عينه عند الشك في بقاء ذلك المستصحب بأن يكون موضوع القضية المتيقنة في السابق التي محمولها المستصحب عين موضوع القضية المشكوكة في اللاحق التي يكون محمولها المستصحب ففي مثل استصحاب وجود زيد المتيقن سابقا عند الشك في وجوده كان الموضوع المستصحب وجوده هو زيد وهو عينه عند الشك في المستصحب فمعنى بقاء الموضوع هو عدم تبدل الموضوع بغيره وليس معنى البقاء هو الوجود المستمر حتى يشكل باستصحاب الوجود للموضوعات التى شك في وجودها بعد اليقين به أعني الهليات البسيطة وهكذا لا يصح الاشكال باستصحاب العدم لذات الشيء عند الشك فيه مع سبق اليقين به اعني الليسيات البسيطة كما لو استصحب عدم زيد أو عدم ابنه وذلك لما عرفت من أن مصدر اعتبار البقاء في موضوع المستصحب هو ان يصدق عدم

٢٧٩

النقض عند ترتيب آثار المتيقن السابق عند للشك اللاحق وان لا يكون الشك في أمر حادث جديد وهذا إنما يقتضي وحدة الموضوع وعدم تبدله وعدم تغيره وعدم اختلافه بين حالة اليقين وحال الشك هذا في استصحاب الوجودات الخارجية والعدميات ومثل ذلك يقال في الشك في بقاء الحكم أو عدمه فاذا شك في وجوب صلاة الجمعة بعد اليقين بها سابقا كانت القضية المتيقنة سابقا هي صلاة الجمعة واجبة والقضية المشكوكة فعلا هي نفسها أعنى صلاة الجمعة واجبة وهكذا مثل ذلك يقال في استصحاب العدم للحكم كعدم الوجوب لصلاة النافلة.

ومن هنا ظهر لك أنه لا بد من إحراز بقاء الموضوع للمستصحب في ثبوت الاستصحاب ولا يكفي احتمال بقائه اذ مع احتمال عدم بقائه لا يحرز صدق عدم النقض عند عدم ترتيب آثار المتيقن ولا صدق النقض عند عدم ترتيب الآثار ويكون التمسك بأدلة اعتبار الاستصحاب في اعتبار هذا الاستصحاب من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية نظير التمسك بوجوب اكرام العلماء في وجوب اكرام مشكوك العالمية.

ان قلت ان المحمول أيضا يعتبر في الاستصحاب وحدته كما هو ظاهر فلما ذا ذكروا اشتراط وحدة الموضوع وبقائه دون المحمول الذي هو المستصحب.

قلنا أن المقام في ذكرها هو معتبر إحرازه في الاستصحاب ووحدة المحمول وبقائه عبارة عن نفس الاستصحاب لبا وحقيقة فاذا أحرز بقائه لم يصح الاستصحاب بخلاف وحدة الموضوع وبقائه نعم المستصحب لا بد من وحدته وانما لم تذكر لانه لو لم يكن واحدا لم يكن مستصحبا ،

ثم انما يعتبر في الاستصحاب هو بقاء الموضوع ووحدته بحسب نظر العرف ولا يعتبر بقاؤه بحسب الدقة العقلية أو بحسب الشرع بمعنى ان ما يراه العرف موضوعا لحكم الشرع هو الذي يعتبر بقاؤه في الاستصحاب لا ما كان موضوعا للحكم بحسب نظر العقل ودليله

٢٨٠