مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة الآداب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

أو عدميا موضوعا خارجيا أو حكما شرعيا جزئيا أو كليا تكليفيا أو وضعيا ومن دون فرق في الشك في البقاء من جهة الشك في المقتضى أو من جهة الشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود ومن دون فرق في الدليل الدال على ثبوت المستصحب في الزمن السابق من كونه لبيا من عقل أو اجماع أو لفظيا إلى غير ذلك من الامور التي لأجلها كثرت الأقوال في المسألة وحيث كان المهم في نظر العلماء وفيه يكثر الابتلاء وبه محل النزاع هو عموم الأدلة لموارد ثلاثة نتعرض لها.

حجية الاستصحاب في الموضوعات والاحكام : ـ

المورد الاول عموم الادلة للموضوعات والاحكام فنقول الحق إن ادلة الاستصحاب تدل على حجيته في الموضوعات والاحكام لأنها تدل على التعبد بوجود المتيقن والبناء عليه عملا وهذا المعنى يقتضي الحكم الشرعي المماثل للسابق أو الجري عليه إذا كان المتيقن السابق حكما شرعيا ويقتضى جعل الاثر الشرعي إذا كان المتيقن السابق موضوعا ذا اثر شرعي وليس في ذلك استعمال للفظ في اكثر من معنى واحد.

ان قلت لا يصح استصحاب الأحكام الشرعية لأنه إنما يشك فيه إذا تبدل قيد موضوعه ومع تبدله يختلف الموضوع ويكون الاستصحاب من قبيل اسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر وان اتحد معه في الذات إلا أنه مختلف في الصفات وإلا لما شك في البقاء ومن المعلوم إن أدلة الاستصحاب مختصة بصورة ما إذا كان الشك شكا في البقاء حتى يصدق النقض للحالة السابقة أو عدم نقضها والشك في بقاء الأحكام لا يتصور إلا إذا كان الموضوع المشكوك بقاء الحكم له عين الموضوع المتيقن ثبوت الحكم له بحيث تكون القضية المشكوكة عين القضية المتيقنة

٢٤١

وإلا لما كان الشك شكا في البقاء بل شكا في حكم آخر.

قلت نعم لا بد من كونه عينه لكن لما كان المخاطب بالكلام هو العرف كان المطلوب منهم إبقاء الحكم المتيقن فيما يرونه بقاء له ولا ريب انهم يرونه بقاء له فيما كان الموضوع عندهم واحدا فالمعتبر هو وحدة الموضوع وعينيته عندهم لا بحسب الدليل ولا بحسب الدقة العقلية وطالما يرون الموضوع واحدا وباقيا وإن اختلفت حالاته وصفاته بل كثيرا ما يكون الشيء له دخل في ثبوت الحكم ولكنه ليس له دخل في موضوعه كالسبب وعدم المانع والشرط فانه لا بد منها في ثبوت الحكم لموضوعه مع إنها خارجة عنه نظير الزوال فانه سبب لثبوت وجوب الظهر للشخص وليس له دخل في موضوعه ولذا الظهر يكون واجبا حتى مع ذهاب الزوال وسببا لوجوب القضاء عليه إذا انضم إليه الفوت لصلاة الظهر. ونظير ذلك في الاحكام الشرعية ما لا يحصى حتى الوضعية منها ألا ترى ان الغليان موجب لنجاسة العصير العنبي والملاقاة موجبة لنجاسة الملاقي للنجس وليس لهما دخل في موضوع النجاسة لكونها تبقى مع زوالهما.

ان قلت إنه مع اتحاد الموضوع لا يعقل الشك في البقاء لكون الموضوع علة تامة لثبوت الحكم له إلا على البداء الممتنع على الله تعالى ففي الآن الثاني الذي يشك في ثبوت الحكم فيه ان كان الموضوع السابق معلوم الوجود فيه فكيف يمكن الشك في ثبوت الحكم له وان كان معلوما عدم وجوده فلا مجال للاستصحاب لأنه عبارة عن ابقاء الحكم ومع العلم يتعدد الموضوع يمتنع الابقاء لأنه لا يتحقق إلا مع وحدة الموضوع وإن كان الموضوع مشكوك البقاء فيشك في تحقق الابقاء فلا يمكن التمسك بدليل الاستصحاب على ابقاء الحكم في ثاني الحال لأنه

٢٤٢

يكون من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لعدم احراز انه ابقاء للحكم.

قلنا انا نختار عدم احراز بقاء الموضوع على الوجه الذي كان علة لثبوت الحكم ومع ذا لا مانع من الاستصحاب لأن العلة لثبوت الحكم وجودا وعدما هو الموضوع بوجوده الحقيقي الدقي دون الوجود المسامحي العرفي. والعرف يرى الموضوع هو العمل الذي تعلق التكليف به دون ما ألحقه الشارع به من الزمان والشروط ونحوها فانه يراها من الحالات للموضوع وإن أبيت عن ذلك فالميزان هو أن يرى العرف ان نفس التكليف باق لو نص الشارع على ثبوته مع تغير ذلك الحال وهو انما يكون إذا كان ما يراه العرف موضوعا للتكليف باقيا.

وعليه فالذي يلزم احرازه في مقام التمسك بالاستصحاب هو وجود الموضوع عرفا حتى يصدق البقاء والابقاء عند العرف لأنهم هم المخاطبون فلا بد من أن يكون المولى يريد بخطاباته ما يفهمونه.

إذا عرفت ذلك فنقول ان وجود الموضوع وان كان مشكوكا بل معلوم الارتفاع احيانا ولذا نشك في ثبوت الحكم في الآن الثاني إلا أن الوجود العرفي للموضوع الذي هو المناط في صدق البقاء والنقض محرز فلا مانع من الاستصحاب.

ان قلت أولا نمنع من كفاية الوجود العرفي في جريان الاستصحاب وما قرع سمعك من اتباع العرف في فهمه انما هو بالنسبة إلى نفس مداليل الألفاظ حيث ان تشخيصها موكول إلى فهم العرف حتى انه يقدم على تنصيص اللغويين وأما مسامحته في التشخيصات فلا دليل على اتباعه.

وبعبارة اخرى بعد كون البقاء والنقض عبارة عن ثبوت الحكم

٢٤٣

ورفعه في الموضوع الأول يجب احراز وحدة الموضوع حقيقة ولا يعتنى بالمسامحة العرفية.

وثانيا ما ذكر من المسامحة انما يتم إذا استندنا في مدرك حجية الاستصحاب إلى الأخبار وأما إذا اعتمدنا فيه إلى بناء العقلاء تعبدا أو ظنا فاللازم هو الأخذ بالقدر المتيقن وهو ما إذا عد الموضوع في ثاني الحال هو الموضوع في أوله بل لا معنى لدعوى الظن بثبوت الحكم.

ثانيا في موضوع مغاير أو مشكوك التغاير للمتيقن فانه أشبه بالقياس من الاستصحاب.

قلنا اما الجواب عن الاول فيمنع كون ذلك من الرجوع إلى العرف في المسامحة بل هو رجوع إليه في فهم معنى البقاء والنقض ولا ريب ان البقاء والنقض عند العرف موضوع لاستمرار الحكم ورفعه فيها يراه متحد الموضوع فما رآه متحدا في نظره كان باقيا حقيقة قال المرحوم أحمد الحسيني يتنقح منا ان الموضوع الذي يعتبر بقاؤه في الاستصحاب هو الموضوع الخارجي الذي هو معروض للحكم في الخارج دون المبتدأ عند النحاة والمسند إليه عند أهل البيان حيث ان العرف هو المحكم في ذلك ومن المعلوم أن الموضوع الخارجي هو ذات الشيء دون الذات مع القيود ولا الذات المقيدة بها فالموضوع في الخارج للقبح هو ذات الصدق لا وصف الضررية ولا الصدق المقيد بها لاستحالة قيام العرض بالعرض. وانما كان لوصف الضررية مدخل في عروض الحكم إلا ان انتفاءه لا يوجب تبدل الموضوع أصلا وإن كان قد يوجب انتفاء الحكم كما لو كان ذلك القيد علة حقيقة أو جزء علة كالمثال المذكور لكن انتفاء الحكم مع ذلك غير مستند إلى تبدل الموضوع بل إلى انتفاء علته أما اذا كان القيد علة اعدادية أعني علة

٢٤٤

محدثة كالباني بالنسبة للبناء أو احتمل كونه كذلك وشك في بقاء الحكم بعد انتفائها يمكن إجراء الاستصحاب فيه.

وأما الجواب عن الثاني فبدعوى تحقق بناء العقلاء على الحكم باستمرار الحكم الثابت الى الآن الثاني عند بقاء ما يراه العرف موضوعا للحكم في الآن الأول كما انه يمكن دعوى حصول الظن بذلك أيضا ويؤيد ذلك ان منشأ الظن بالبقاء ليس إلّا الغلبة الخارجية والذي يمكن دعواه ليس إلّا الغلبة في مثل الفرض وأما البقاء فيما كان مع الموجود الأولي واحدا حقيقة فهو معلوم دائمي لا غالبي كذا أفاد ذلك استاذنا الشيخ كاظم الشيرازى (ره).

ان قلت انه لا يجوز استصحاب الاحكام لأن الحكم انما يستصحب اذا شك في بقائه من جهة تبدل الموضوع الذي اخذ في الدليل أو احتمل اخذه في الموضوع لمعارضته باستصحاب العدم الازلي لذلك الحكم الثابت للعنوان الفاقد للقيد المأخوذ في الدليل أو المحتمل أخذه فيه ، فمثلا إذا شك في بقاء وجوب صلاة الجمعة عند غيبة الامام (ع) فاستصحاب وجود للوجوب يعارضه استصحاب عدم للوجوب الازلي عند الغيبة فإنه عند الغيبة يحتمل بقاء الوجوب فيستصحب ويحتمل بقاء العدم الأزلي للوجوب فإن الصلاة عند الغيبة لم تكن واجبة أزلا فيستصحب بقاؤه.

والحاصل ان هنا شكا واحدا في وجوب صلاة الجمعة بعد الغيبة ويقينان فإنه بهذا القيد متيقن عدمه من الأزل والأبد فيستصحب هذا العدم كما أنه قبل الغيبة متيقن وجوده فيستصحب هذا الوجود للوجوب فيقع التعارض بينهما.

قلنا هذا الايراد قد نسب للفاضل النراقي (ره) وتبعه جملة من

٢٤٥

المحققين ومنعوا من استصحاب الأحكام الشرعية.

والتحقيق في جوابه أن يقال أنه لما كان المعتبر في النقض والبقاء في الاستصحاب هو نظر العرف وقد عرفت أن العرف يرى القيود المأخوذة في موضوع التكليف ويرى الزمان المأخوذ فيه من حالات التكليف وظروفه وغير منوعة له ومقسمة له وإن بقاء التكليف وموجوديته به لا بقيوده وانعدام التكليف بعدمه لا بعدم قيوده وإن التكليف ينتقض لو رفع عنه فاذا كان العرف يرى ذلك كانت أدلة الاستصحاب تشمل وجود التكليف عند ما يشك في وجوده بواسطة زوال الحالة أو الزمان الذي قيده الشارع به أو قيد موضوعه به ويرى العرف عند زوال ذلك يكون رفع اليد عن الحكم الشرعي نقضا له وحينئذ فلا مجال لاستصحاب العدم الازلي للتكليف عند زوال القيد لأن العرف يرى أن التكليف باق عند زوال القيد لبقاء موضوعه عنده حتى بعد زوال القيد فالعدم الازلي عند العرف قد زال عن التكليف حتى حال الشك في نفس التكليف. ففي المثال العرف يرى أن وجوب الجمعة موجود عند الغيبة وان عدمه قد زال وإن البناء على عدمه نقض للحالة السابقة والبناء على وجوده ابقاء للحالة السابقة فعلى المكلف الشاك أن يبقي الحكم السابق ولا ينقضه ، واذا كان الامر كذلك فلا يعقل أن يرى العرف عدم الوجوب الازلي موجودا حال الغيبة حتى يستصحبه الشاك فيه لما عرفت من أن العرف لا يرى القيود منوّعة للموضوع ومقسمة له حتى يستصحب هذا العدم للتكليف المقيد فانه العرف نظر واحد لا نظرين.

نعم العدم الازلي انما يستصحب التكليف اذا كان العرف يرى أن وجود التكليف حال الشك وجودا مستقلا لا إنه بقاء للوجوب

٢٤٦

السابق فيستصحب عدمه لبقاء العدم في نظره. لكن قد عرفت أن العرف يراه وجودا استمراريا للوجود السابق فلا يعقل أن ينظر التكليف بالنظر الاستقلالي وعليه لو فرض أن العرف رأى للواقعة موضوعين متعددين جرى استصحاب العدم الأزلي للوجوب للموضوع الآخر المشكوك الوجوب كما لو قال الشارع صوم يوم الخميس واجب فإن العرف يراه موضوعا غير موضوع صوم يوم الجمعة فيستصحب عدم وجوب صوم الجمعة لكن بخلاف ما إذا قال صم الى المغرب ولم يعلم المغرب انه بسقوط القرص أو بذهاب الحمرة المشرقية فان العرف يرى أن وجوب الصوم حتى سقوط القرص عين وجوب الصوم حتى الحمرة المشرقية فيستصحبه فعلى الفقيه أن يدرك نظر العرف عند ما يشك في البقاء.

وكيف كان فلا وجه لدعوى المعارضة بين الاصل الوجودي للحكم والاصل العدمي له لأن العرف ان كان يرى أن بتغير القيد أو بتبدله أو اختلاف الزمان للحكم أو موضوعه من قبيل تبدل الحالات أو تغير الظروف وإن الشك في الحكم بسبب ذلك شك في بقاء ذلك الحكم السابق لذلك الموضوع الذي كان ثابتا له جرى الاستصحاب ولا معنى للاستصحاب الأزلي لعدم الحكم حيث ان الفرض أن العرف يراه شكا في بقاء وجود الحكم السابق ولا يراه شكا في بقاء عدم أزلي لحكم جديد نظير الشك في بقاء وجود الأشياء الخارجية كزيد وعمر بواسطة تبدل الحال أو الزمان.

وأما ان كان العرف يرى أن الشك في الحكم بسبب تغير القيد شكا في ثبوته لموضوع آخر لا لذلك الموضوع الاول فيكون شكه شكا في حكم آخر لموضوع آخر فيستصحب عدمه الازلي ولا يجري

٢٤٧

استصحاب الحكم السابق لأنه ليس الشك شكا في بقائه وانما هو شك في موضوع جديد فالميزان نظر العرف الى موضوع التكليف وإنه واحد بوحدة توجب عدم تعدده وتنوعه وان كان بحسب الشرع ودقة العقل متعدد ومتنوع.

والمحكي عن المرحوم الشيخ الجليل الشيخ عبد الكريم القمي (ره) بتوضيح منا حيث لم تحضرني درره أنه لا معارضة بين الاستصحابين فان فرض الكلام أن العرف يرى أن موضوع التكليف باق وان التغير الذي طرأ عليه لم يؤثر على بقائه فتدل أخبار الاستصحاب على بقائه في ثاني الحال وحينئذ فيستفاد من دليل التكليف بضميمة أدلة الاستصحاب بقاء التكليف المطلق الغير المقيد بالحال الأول ولا بالحال الثانية فيكون في المثال المتقدم وجوب الجمعة مطلقا سواء قبل الغيبة أو بعدها والاستصحاب العدمي إنما هو بالنظر للتكليف بعد تغير الحالة السابقة فإن التكليف المقيد بما بعد تلك الحال كان معدوما في الأزل فنستصحب عدمه وهذا الاستصحاب إنما يقتضي رفع التكليف المقيد وهو لا ينافي ثبوت التكليف المطلق فإن وجوب الجمعة بقيد أنه بعد الغيبة وبخصوصية أنه بما بعد الغيبة ليس بموجود وانما الموجود هو وجوب الجمعة مطلقا قبل الغيبة وبعدها فالاستصحابان جاريان ولا معارضة بينهما.

إن قلت لا وجه لاستصحاب الأحكام الشرعية لأن الاستصحاب إنما يعمل به حيث لا نص على الحكم الشرعي وقد ثبت بواسطة تواتر الأخبار بأن كلما تحتاج اليه الأمة ورد فيه خطاب شرعي حتى أرش الخدش.

قلنا انه قد ثبت انه كثير ما ورد مخزون عند أهل الذكر (ع).

إن قلت تواترت الأخبار بحصر المسائل بالنسبة إلى الأحكام الشرعية في ثلاثة أقسام بين رشده ، وبين غيه ، ومشتبه أمره يتوقف فيه.

٢٤٨

قلنا أخبار الاستصحاب حاكمة عليه لأنها توضح الحكم الشرعي وتبينه.

حجية الاستصحاب في الشك من جهة المقتضي أو الرافع

المورد الثاني الذي وقع الكلام فيه وهو محل الابتلاء هو عموم الادلة لصورة الشك في البقاء من جهة الشك في المقتضي أو جهة من الشك في الرافع بمعنى أن أدلة الاستصحاب تعم الشك في البقاء سواء كان الشك في البقاء للمتيقن السابق من جهة الشك في اقتضائه للاستمرار واستعداده للبقاء كما لو شك في بقاء الزوجية المنقطعة للشك في مدتها أو من جهة الشك في وجود الرافع والمزيل لبقاء المتيقن بحيث مع عدم هذا الرافع يكون وجوده مستمرا كالموجودات التي حدوثها موجب لدوامها واستمرارها إلا إذا جاء الرافع لها كالملكية فان حدوثها موجب لدوامها إلا اذا حدث الموت أو النقل من المالك فان الشك في بقائها لا يكون إلا شكا من جهة الرافع لها لأن المقتضي لبقائها هو حدوثها ومثل الزوجية الدائمة والطهارة والنجاسة أو كان المقتضي لها محرز كالحمى الناشئة من الامساك فانه قد يشك في بقائها من جهة تأثير الدواء مع إحراز المقتضي لها.

وكيف كان فلا وجه لما عن بعض اساتذة العصر من تقييد الشك في الرافع بما كان حدوثه علة لبقائه.

وقد ذهب الشيخ الأنصاري (ره) الى حجية الاستصحاب في خصوص صورة الشك في الرافع وينسب هذا القول للمحقق الحلي قدس‌سره وللخوانساري في شرح الدروس.

وقد يستدل عليه بأنه القدر المسلم من الأدلة هو ذلك لأن الإجماع لو تم والسيرة لو ثبتت فهما إنما يكونان حجة في القدر المتيقن منهما

٢٤٩

والقدر المتيقن من ثبوتهما هو صورة الشك في الرافع.

واما الأخبار فلأن المراد من اليقين في قضية (لا تنقض اليقين بالشك) هو المتيقن لا نفس اليقين. لأنه لا إشكال في أنه قد انتقض بالشك قطعا ولا آثار نفس اليقين لأن هذه القضية قد ذكرت في الأخبار للنهي عن نقض آثار المتيقن كالطهارة ونحوها فاليقين مأخوذ فيها على سبيل المجاز في المتيقن ولا يصح نسبة النقض إليه إلا اذا كان المتيقن مما كان له البقاء والاستمرار لأن حقيقة النقض هو حل الشيء المستحكم ابرام اجزائه ولذا ينسب للغزل فيقال (هذه نقضت غزلها) وينسب للبناء فيقال (نقض البناء اذا هدمه) وينسب الى الحبل فيقال (نقض الحبل إذا حل اجزاءه) ويقال (أنقضت الارض إذا خرج نباتها منها). فاذا كان المتيقن مما كان له الدوام والاستمرار يكون مبرما مستحكما ويكون رفع اليد عن بقائه للشك في وجود رافع بقاؤه نقضا له.

أما إذا لم يكن كذلك بأن كان الشك فيه من جهة الشك في دوامه لم يكن مستحكما مبرما فلا يكون رفع اليد عنه نقضا له ، ومن المعلوم انما يحرز بأن المتيقن له الدوام والاستمرار لو لا الرافع المشكوك اذا أحرز وجود المقتضي لدوامه واستمراره ولو على نحو الإجمال وإلا فالشيء الممكن في نفسه ليس له الدوام والاستمرار فتلخص ان النهي عن نقض المتيقن عبارة عن ترتيب آثاره عليه عند احراز استمرار وجوده لو لا رافعه.

وبتقريب آخر لأستاذنا المحقق الشيخ كاظم الشيرازي (ره) بأن حقيقة النقض لم يمكن ارادتها في المقام فلا بد من ارادة المعنى المجازي للنقض ولا مناص عن اختيار الاقرب للمعنى الحقيقي وليس هو إلا

٢٥٠

رفع اليد عن الأمر الثابت المستحكم ولو بحسب المقتضي وإطلاق النقض على مطلق رفع الأمر وإن لم يكن فيه مقتضى البقاء وإن كان صحيحا أيضا إلا أن الواجب عند تعدد المجازات هو المصير إلى أقربها.

وبتقريب آخر للمرحوم الشيخ عبد الحسين الكاظمي ان ظاهر الرواية لا يعم مطلق اليقين بالشيء بل المراد منها ما يصح اسناد النقض إليه والذي يصح اسناد النقض إليه هو اليقين الذي تعلق بالشيء الذي يكون حدوثه يقتضي استمراره فانه هو الذي يصح إسناد النقض إليه عند عدم العمل به في الزمن اللاحق.

وقد اجاب صاحب الكفاية بان النقض تعلق باليقين وهو فيه الاستحكام والإبرام في تحقق المتيقن وليس هو مثل الظن والوهم والشك وهو كاف في صحة تعلق النقض به حتى لو كان الشك من جهة المقتضي.

ورد على صاحب الكفاية استاذنا الشيخ كاظم الشيرازي (ره) بتوضيح منا ان الاستحكام في اليقين المدعى في المقام ان كان بالنسبة إلى زمان اصل وجود المتيقن فهو صحيح إلا أنه لا ينفع في المقام لأن متعلق النقض هو بقاء المتيقن لا اصل وجوده مع ان اليقين بالنسبة إلى أصل وجود المتيقن في الاستصحاب لم ينتقض لأنه مفروض البقاء. وان كان الاستحكام في اليقين المدعى في المقام بالنسبة إلى بقاء المتيقن فنمنع استحكامه لفرض الشك في بقاء المتيقن.

ان قلت ان المراد هو الأول أعني الاستحكام في اليقين بالنسبة لأصل وجود المتيقن وحيث في الاستصحاب يلغى عرفا التقييد بالزمان في المتيقن بين أصل وجوده وبين بقائه فكان وجوده في الزمان الثاني عين وجوده في الزمان الأول عرفا صار عدم ترتيب الآثار على بقائه

٢٥١

في الزمان الثاني نقضا لليقين بالنسبة لأصل وجود المتيقن فيكون المصحح لاستعمال النقض في المقام اجتماع الامرين وهما كون اليقين فيه الاستحكام والابرام والثبوت في محله والثاني عد المتيقن في زمان الشك عينه في زمان الحدوث عرفا فيكون رفع اليقين في الزمان الثاني كرفعه في الزمن الأول في كونه نقضا.

قلنا أن الاستصحاب لما كان مبنيا على اليقين بالحدوث والشك في البقاء كان ملحوظا فيه التعدد الزماني ومتقوما به وإلا لم يكن يقينا بالحدوث وشكا في البقاء فلا يعقل الغاء التعدد الزماني فيه.

نعم يعتبر ان يكون الموجود في الزمان الثاني عينه في الزمان الأول عند العرف من غير جهة الزمان.

سلمنا ان التعدد الزماني ملغى في الاستصحاب وأنه يكفي في صدق النقض المضاف إلى اليقين إلا انه مبنى على أن يكون المتعلق للنقص هو اليقين نفسه ومن المعلوم عدمه لما عرفت أنه ليس المراد عدم نقض نفس اليقين ولا احكامه وانما المراد به عدم نقض المتيقن واحكامه فيكون المتيقن هو متعلق النقض حقيقة فيجب أن يراعى حاله من كونه فيه اقتضاء الاستمرار والابرام لأنه اذ ذاك تكون اجزاؤه لها هيئة اتصالية استمرارية يتعاقب بعضها ببعض ومبرم بعضها ببعض لاستمرارها فيصح إذ ذاك نسبة النقض إليه عند رفعه وعدم ترتيب آثاره عليه لأن الرفع يكون حلا لهيئة الاستمرار بين الأجزاء وفكا لإبرام بعضها عن بعض.

ان قلت انا سلمنا أن المراد حقيقة هو المتيقن لكن ذلك يتصور على أنحاء ثلاثة : ـ

أحدها أن يكون ذلك بالتجوز واستعارة اليقين للمتيقن نظير

٢٥٢

استعارة الاسد والتجوز به عن زيد في قولك جاء الأسد عارضا رمحه مريدا بذلك زيدا.

وثانيها بالاضمار بارادة احكام المتيقن الثابتة بواسطة اليقين حتى يكون الملحوظ بالذات هو المتيقن.

ثالثها ان يكون ذلك على نحو الكناية بأن يكون نسبة النقض إلى اليقين بنحو الحقيقة لكن بعنوان مرآتية اليقين وطريقيته للمتيقن فانه لازمه وان كان هو ان يتعلق النقض باليقين إلّا أنه من قبيل الكناية عن عدم نقض المتيقن نظير الكناية بكثرة الرماد عن الكرم وعليه فيكون الملحوظ بالذات هو نفس اليقين لا المتيقن ويصح النسبة إليه لما فيه من الاستحكام وإن لم يكن المتيقن فيه اقتضاء الاستمرار والاستحكام فتكون القضية المذكورة إنشاء للنهي عن عدم النقض لليقين اولا وبالذات لينتقل منه إلى لازمه كما إذا أراد المخبر بأن زيدا كثير الرماد هو كثرة رماده لينتقل إلى كرمه وجوده وعليه فلعل المراد بالقضية هو المتيقن ، لكن بهذا النحو الثالث وهو يشمل المتيقن سواء كان فيه استمرار الدوام أولا.

قلنا انا ما ذكر من الكناية لا ينفع في إثبات الدعوى لامكان أن يكون الاستعمال وقع على النحو الأول ولا معين لأحدهما على الآخر فيكون حمل الرواية عليه بلا سند ولا بد حينئذ بالأخذ بالقدر المتيقن من الروايات وهو صورة الشك في الرافع مع إحراز المقتضي مضافا إلى أن التجوز في المقام أرجح ارادته من الكناية لأن الكناية تحتاج إلى ملاحظة أمرين ملاحظة الاستحكام في اليقين وملاحظة وحدة متعلق اليقين بالنسبة للزمان الأول والزمان اللاحق يعني الغاء التعدد الزماني.

وأما على التجوز فيحتاج الى أمر واحد وهو ملاحظة الوجودات

٢٥٣

المتدرجة للمتيقن المستمر كأنها مبرم بعضها ببعض فالتجوز يحتاج لملاحظة مسامحة واحدة وهي تنزيل الاجزاء في اتصالها الاستمراري منزلة المبرم بعضها ببعض بخلاف الكناية فانها تحتاج إلى مسامحتين : ـ

احداهما تنزيل اليقين بالنسبة لمتعلقه منزلة الأمر المستحكم المبرم أحدهما بالآخر.

والثانية تنزيل متعلق اليقين بالنسبة الى اليقين بحيث ينزل اليقين في الاستصحاب بالنسبة الى حدوث الشيء وبقائه منزلة اليقين بنفس الشيء ولا إشكال إن الأول أقل عناية وأقرب الى الحقيقة فيكون هو المتعين لأنه أقل كلفة وهو يقتضى أن يكون المتيقن مستمر ومتماسك وجوداته المتعاقبة بحيث يكون انعدامه في أثنائها كأنه فل وفك للمفتول ونقض للمغزول وهذا إنما يتصور إذا فرض وجود المقتضي له في زمان الشك.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب قول المفصلين بين الشك في المقتضي والرافع لكن لا يخفى ما فيه.

أولا ان ظاهر قضية (لا تنقض اليقين بالشك) هو نسبة النقض لليقين لا المتيقن وهي انما كانت باعتبار ارتباط اليقين بالمتيقن فان ارتباطه به ارتباط محكم لا يزول بالسهولة والسرعة بخلاف ارتباط الظن والوهم والشك بمتعلقاتها فانها تزول عنها بالسرعة ولا ريب ان عدم ترتيب وجود المتيقن على اليقين أو عدم ترتيب آثار المتيقن على اليقين يكون نقضا لليقين نفسه حقيقة كما في نقض البيع أو العهد أو اليمين أو البيعة فان النقض ينسب الى نفسها حقيقة عند عدم ترتيب آثار المعاهد عليه أو المقسم عليه أو المبايع عليه فالمتيقن إذا لم يرتب آثاره عليه صح نسبة النقض إلى نفس اليقين المتعلق به حقيقة

٢٥٤

وان لم يكن حقيقة فمجازا بالتشبيه لاستحكام اتصال اليقين بالمتيقن وقوة ارتباطه به وشدة ابرامه به بابرام أجزاء الحبل وحيث كان المتيقن في الاستصحاب عند العرف واحد وان المتعدد هو زمانه كسائر الموجودات المستمرة كان عند العرف عدم ترتيب آثار المتيقن في الزمان الثاني نقض لليقين حقيقة أو مجازا يقرب للحقيقة نظير نقض البيعة بعدم ترتيب آثار المبايع عليه واليمين عند عدم ترتيب آثار المقسم عليه فمن تيقن بوجود زيد ثم شك في وجوده ولو من جهة عدم استعداد وجوده للبقاء فإن العرف يرى ان عدم ترتيب آثار وجوده نقضا لليقين لأنه يراه وجودا واحدا للمتيقن مستمرا وان تعدد الزمان فان الزمان ليس من مقومات الوجود حتى يكون موجبا للتعدد فلا مجاز في المقام ولو وجد المجاز فهو إنما يكون بالنسبة لتشبيه ارتباط اليقين بمتعلقه بارتباط أجزاء الحبل والبناء ولا مجاز حينئذ في نسبة النقض نظير أنشبت المنية أظفارها فانه لما شبه المنية بالأسد المفترس وجعلها من أفراده كان نسبة الأظفار لها على سبيل الحقيقة هذا مع التنزل وإلا فانا نقول أن النقض هو حل وفك لكل ارتباط سواء كان للارتباط بين أجزاء الحبل أو البيعة بالنسبة للمبايع عليه أو نحو ذلك فان العرف لا يرى أن أدنى تجوز ولا أي تنزيل في نسبته لليقين أو البيعة أو اليمين أو نحو ذلك وعليه فالروايات تشمل صورة الشك في البقاء من جهة الشك في المقتضي كما تشملها من جهة الشك في الرافع للحقيقة.

والحاصل أن النقض المستعمل في المقام انما هو باعتبار أن شدة الارتباط بين اليقين والمتيقن تنحل وتنفك عند عدم الأخذ بالمتيقن وعدم ترتيب آثار المتيقن على اليقين سابقا لا باعتبار انحلال استحكام المتيقن وانفكاك إبرامه بذلك ولا باعتبار اليقين وحده بل إنما هو

٢٥٥

باعتبار اليقين بالنسبة للمتيقن عند عدم الاخذ بالمتيقن وعدم ترتيب آثاره عليه.

وفيه ثانيا ان المراد بالنقض هو مطلق الرفع والأبطال والافساد فانه كثر استعماله في ذلك كقولهم (نقيض كل شيء رفعه) ومنه نقائض جرير ونقائض المتنبي والقرينة على إرادة هذا المعنى منه في المقام ما ورد في جملة من الأخبار في سياق تلك (القضية) من قوله (عليه‌السلام) : «ولكن تنقض الشك باليقين» فان ظاهر السياق أن وجه اسناد النقض إلى اليقين هو بعينه وجه اسناده الى الشك ومن المعلوم أن الوجه في اسناد النقض للشك هو كون اليقين رافعا للشك فليكن الامر في اسناد النقض لليقين كذلك لوحدة السياق.

وفيه ثالثا بأن الأخبار الدالة على حجية الاستصحاب غير منحصرة بما اشتمل عليه لفظ النقض بل هناك أخبار لم تشتمل عليه كموثقة عمار عن أبي الحسن (ع) المتقدمة وخبر الصفار المتقدم في صوم يوم الشك : وخبر عبد الله بن سنان المتقدم ورواية الخصال التي صرح المجلسي (ره) عنها بأنها في غاية الوثوق المتقدمة ،

ودعوى ان هذه الرواية أعني رواية الخصال مشتملة على الأمر بالامضاء وهو مساوق للنهي عن النقض لأن الامضاء هو الجري فيما له ثبات ودوام. مدفوعة بأنها مشتملة على المضي على اليقين السابق وهو عبارة عن تنفيذه والعمل على طبقه ولا يلزم من الجري على الشيء ان يكون له الدوام والاستمرار فإنه بقال فلان مضى وجرى على سيرة القدماء مع أن سيرتهم ذهبت بذهابهم.

ودعوى أنها أيضا مشتملة على الدفع وهو انما يكون في الشيء له الاستمرار والثبوت مدفوعة بأن الدفع غير الرفع والدفع هو المنع عن

٢٥٦

الشيء والحيلولة دونه ولا يقتضي وجود المدفوع وثبوته ولذا يقال هذا الحرز يدفع الاذى عنك ويدفع عنك الحمى وان لم يوجد الأذى ولا الحمى. نعم الرفع يقتضي ثبوت المرفوع.

حجية الاستصحاب في الشك في الحكم التكليفي أو الوضعي : ـ

المورد الثالث الذي وقع فيه النزاع ويكثر الابتلاء فيه هو عموم أدلة الاستصحاب للشك في الحكم سواء كان تكليفيا أو وضعيا.

أما الحكم التكليفي كالوجوب والحرمة فواضح لأنه مجعول للشارع وجعله ورفعه بيده.

وأما الوضعي فما كان مجعولا للشارع بالذات فهو كذلك في جريان الاستصحاب فيه لأنه كالحكم التكليفي وضعه ورفعه بيد الشارع فيجري فيه ما يجري فيه وما كان من الحكم الوضعي غير مجعول للشارع ولكنه له اثر شرعي فيجري أيضا فيه الاستصحاب كما يجري في الموضوعات الخارجية ذات الآثار الشرعية.

وأما ما كان من الحكم الوضعي ما هو مجعول بالتبع لجعل التكليف الشرعي فان أمر رفعه ووضعه وان كان بيد الشارع لكون منشأ انتزاعه بيد الشارع رفعه ووضعه فهو مما تناله يد التصرف من الشارع بالتبع إلّا أنه لا مجال لاستصحابه لأنه مسبب عن منشأ انتزاعه والاستصحاب في المسبب لا يجري لأنه محكوم لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه وتوضيح الحال وتنقيحه يحتاج إلى ذكر أمور : ـ

الاول ان الحكم من مقولة الانشاء الذي هو عبارة عن الجعل والإيجاد الذي هو من أوصاف المنشئ والوجود له وجود وتحقق في عالم نفسه كما له تحقق في الخارج بواسطة اللفظ الدال عليه ونحوه ومنه يظهر ان الوجوب والحرمة ونحوها والكراهة والاستحباب ليست بأحكام

٢٥٧

بل هي محكومة بها إذ الحكم من مقولة الانشاء وهو قائم بنفس الحاكم فلا ربط له بالمحمولات المنتسبة الى متعلقاتها فان تلك المذكورات من المحمولات القائمة بالفعل حاصلة من الإيجاب والتحريم ولا ربط لها بالحكم أصلا وتسمية الفقهاء لها بالحكم مسامحة باعتبار كونها من لوازمه.

الثاني إن الجعل في الشرعيات مساوق للخلق في التكوينات وليس الجعل إلا عبارة عن الانشاء الذي هو من أوصاف المنشئ وهكذا الخلق عبارة عن الإيجاد الذي هو من أوصاف الموجب وهذا الانشاء والجعل إن تعلق بالتكوينيات والموجودات الخارجية فالتغاير بينه وبين متعلقه حقيقي والإضافة في مثله لامية ، وان تعلق بالأمور القائمة في النفس كالجعل المتعلق بالطلب القائم بنفس الطالب وبالحكم القائم بنفس الحاكم والبيع القائم بنفس البائع ونحو ذلك من الأمور التى يكون تحققها بصدورها وقيامها بنفس فاعلها فالاضافة بيانية ولا مغايرة بينه وبين متعلقه إلا باعتبار فانشاء الحكم والطلب والبيع ونحو ذلك عين هذه الاشياء ولا مغايرة بينهما بالاعتبار كمغايرة الضرب الصادر من الضارب للضرب الواقع على المضروب.

وعلى هذا فإنشاء الحكم الشرعي عين الحكم الشرعي وما يلازمه من الطلبية والمطلوبية ونحوها أمور اعتبارية لا تأصل لها

الثالث انه وقع الخلاف بين الحكماء في لوازم الماهيات كحلاوة الحلويات وحرارة النار وضوئها ومرارة السم هل هي مجعولات بجعل مغاير لمحالها كما ذهبت اليه الأشاعرة واستدلوا عليه بقوله تعالى (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) ، أو أنها منجعلة بجعل محلها كما ذهب اليه المعتزلة وأشار اليه ابن سينا بقوله وما جعل الله المشمش مشمشا بل أوجده على هذا فالسببية كسببية البول للطهارة في الصلاة

٢٥٨

وكالكسوف لوجوب الصلاة أو الشرطية كشرطية الاستطاعة للحج والمانعية كما نصبه الدين من وجوب الحج على المستطيع والقاطعية كقاطعية الضحك للصلاة وقاطعية قصد الاقامة للسفر وأمثال ذلك من قيل لوازم الماهية في عدم تأصلها كالطالبية والمطلوبية وليست بهذا الاعتبار من مقولة الإنشاء القائم بنفس المنشئ بل تكون من العوارض والتوابع الطارية التي يحكم بها العقل على جعل الحكم الشرعي. فالمجعول الشرعي بالذات هو الحكم التكليفي مقيدا بوجود شيء أو عدمه فينتزع منه العقل سببية ذلك الشيء أو مانعيته أو قاطعيته ولا منشأ لانتزاعها سوى ذلك كما يذهب إليه المنكرون لجعلها أو انها لها وجود منشأ انتزاع خاص لها مغاير للأحكام التكليفية لا بد في جعلها من جعل الشارع لها وتكون من مقولة الانشاء القائم بنفس المنشأ كما ذهب إليه المثبتون من أن الوضعيات المعروفة تحتاج إلى جعل غير جعل الأحكام التكليفية فاذا قال المولى (أقم الصلاة لدلوك الشمس) يفهم منه جعلان للتكليف والوضع وهو سببية الدلوك لإقامة الصلاة وإلا فلا سببية يحكم بها العقل والحاصل ان المنكرين يقولون ليس عندنا إلا أحكام تكليفية غاية الأمر أن العقل ينتزع منها معنى يسمى بالحكم الوضعي. والمثبتون يمنعون عنه ويدعون أن كلا منها أمر مستقل مجعول في عرض آخر.

اذا عرفت ذلك فنقول وقع الخلاف في المسألة على أقوال منهم من ذهب الى جعلها بالاستقلال مطلقا وهو المنسوب الى العلامة في النهاية وللعلامة الطباطبائي والسيد الصدر في شرح الوافية والى الباغنوي والغزالي والسيد شريف وصاحب المحصول والفاضل احمد النراقي والمحقق الكرباسي بل يمكن استظهاره من كل من نفى الجزئية أو الشرطية المشكوكتين بالاصل فانها لو لم تكن مجعولة عنده لما صح ذلك منه.

٢٥٩

ومنهم من ذهب الى النفي مطلقا وينسب لصاحب الزبدة وتلميذه في شرحها وللخوانساري. ومنهم من فصل بين الجزئية والشرطية والسببية والمانعية مما كان جزءا للعلة وبين غيرها فأنكره في الأول وأثبته فى غيرها. ومنهم من فصل بين ما يكون مسبوقا بالتكليف ويتبع الحكم التكليفي كالصحة والفساد والجزئية والشرطية ونحو ذلك وبين ما يترتب عليه الاحكام الشرعية كالملكية والزوجية والطهارة والنجاسة وأمثالها فأنكر الجعل الاستقلالي في الأول دون الثاني ويدل على قول المثبتين لجعلها وجوه : ـ

أحدها : أنه لا شبهة في عدم المناسبة الذاتية بين الأسباب الشرعية ومسبباتها ولا بين الشرائط الشرعية ومشروطاتها ولا بين الأجزاء الشرعية ومركباتها كما أنه لا شبهة في حدوث العلقة والربط بجعل الشارع للأسباب والشروط والأجزاء أما لمصلحة يراها في ذلك كما عليه العدلية أو أنه اقتراح منه على ما عليه الأشاعرة وعلى كل تقدير فهذه العلقة لم تكن بينها قبل جعل الشارع وانما حدثت بعد حكم الشارع بالشرطية والسببية ونحو ذلك. وليس جعل الحكم الوضعى الا عبارة عن إحداث هذه العلقة وإنشاء هذا الربط في عالم التشريع ومرتبة من القانون وجعله. وعلى هذا فان كان الخصم ينكر إحداث وجود ذلك الربط وتلك العلقة فمع أنه يكذبه الوجدان وترده البديهة والعيان ويلزمه الالتزام بلغوية تقييد الطلب في مثل قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) وقوله (ع) «لا صلاة إلّا بطهور» ونحو ذلك ضرورة ان وجود القيد مع عدم الربط بينه وبين المقيد كعدم القيد فلم يكن فرق بين هذا الخطاب والخطاب المطلق كأن يقول أقم الصلاة بلا تقييد وان كان الخصم يعترف بالربط والعلقة والتقييد فيقال له أنه هل جاء بذلك

٢٦٠