مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة الآداب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

المشترك بين التحريم والكراهة أو من جهة اجمال متعلق الحكم كالغناء فإن مفهومه مجمل والفرد المشكوك منه يجري فيه أصل البراءة أو من جهة اجمال المراد منه كما لو شك في إرادة الخمر الغير المسكر من لفظ الخمر الذي حكم الشارع بحرمة شربه فإنه يجري أصل البراءة إذا لم تجري أصالة إطلاق أو العموم أو كان الشك من جهة الاشتباه في الشيء لأمر خارجي كما لو شك في حرمة شرب مائع من جهة تردده بين كونه خمرا أو خلا ونحو ذلك مما يكون الشك فيه شكا في واقعة جزئية المعبر عنه في لسانهم بالشبهة الموضوعية.

إن قلت : ـ أنه في الشبهة المذكورة اعني الشبهة الموضوعية يحكم العقل بالاجتناب نظرا إلى أن الشارع قد بين حكم الخمر مثلا فيجب الاجتناب عن ما شك في خمريته وخليته مقدمة للعلم باجتناب الخمر فيكون من قبيل المقدمة العلمية للامتثال فكما أنه يجب ترك المائعين المعلوم كونه أحدهما خمرا والآخر خلا من جهة كون تركهما مقدمة علمية لامتثال التكليف بحرمة الخمر فكذا ما نحن فيه ولا يلزم العقاب بغير بيان للعلم بالحرمة كما ذكره بعضهم في دوران الصلاة الفائتة بين الأكثر والاقل من وجوب الاحتياط من باب المقدمة العلمية ، وبعبارة أوضح أن المقام يكون من باب الاشتغال لأنه قد اشتغلت ذمته يقينا بالتكليف كحرمة الخمر ويشك في فراغ ذمته من هذا التكليف لو ارتكب مشكوك الخمر فتجيء قاعدة الاشتغال الناطقة بأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

قلنا في الشبهة الموضوعية ليس علم باشتغال الذمة بالتكليف فإن هذا الفرد المشكوك خمريته لم يعلم بوجود التكليف بالاجتناب عنه لا علما تفصيليا ولا علما إجماليا ، فلم يكن اشتغالا يقينيا بالتكليف حتى يجب

١٤١

امتثاله في هذا الفرد ، والمقدمة العلمية إنما تجب إذا كان التكليف معلوم وجوده فيها تفصيلا أو اجمالا ، وبعبارة أوضح إن الافراد المعلومة الخمرية يوجد فيها اشتغال الذمة يقينا فتجيء ، القاعدة العقلية من أن اشتغال الذمة اليقيني ليستدعي الفراغ اليقيني ، وأما الافراد المشكوكة الخمرية فهي غير متيقن اشتغال الذمة بها فلا اشتغال يقينيا بها حتى يستدعي هذا الاشتغال فراغ الذمة منها ، ومن هنا يظهر لك الجواب عن شبهة وجوب الاحتياط بدعوى إنا نعلم اجمالا بمجىء الشريعة بتكاليف كثيرة قد اشتغلت ذمتنا بها ، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني وهو لا يحصل إلا بالاحتياط بإتيان كل ما احتمل فيه التكليف في موارد الشبه.

فإنا نقول إن الاشتغال اليقيني بالتكاليف الشرعية إنما هو في مورد قيام الأمارات المعتبرة والاصول الصحيحة ، وأما في ما عدا ذلك فعندنا شك في اشتغال الذمة فلا يقين باشتغالها لا تفصيلا ولا إجمالا فلا يجيء أصل الاشتغال ، وبعبارة أوضح إن الذي يسلمه العقل ويحكم به هو وجوب تحصيل البراءة اليقينية بقدر ما ثبت به الاشتغال اليقيني وليس هو إلا الأقل الذي قامت عليه الامارات والادلة والأصول المعتبرة والزائد عليه مشكوك من أول الامر فلا تقتضي قاعدة الشغل وجوبه هذا مضافا إلى أن المشرع بوضعه للطرق والاصول يعلم منه اكتفائه بما قامت عليه ولم يلزم بما عداه في تكاليفه الشرعية وإلا لنصب عليه الطرق.

شرائط الرجوع لأصل للبراءة :

ثم أن الرجوع لأصل البراءة في المورد المشكوك التكليف يشترط فيه : ـ

١٤٢

أولا : أن يكون بعد الفحص عن الدليل في الشبهة الحكمية فإذا فحص ولم يظفر بالدليل صح له الرجوع لأصل البراءة ، وذلك للأدلة الدالة على وجوب تحصيل العلم كآية النفر والسؤال والاخبار المتظافرة الدالة على وجوب تحصيل العلم والتفقه مؤيدا ذلك بالاجماع المنقول ولأنه لو أهمل الفحص عند اجراء البراءة يلزم يلزم إهمال التكاليف بل حصول شرع جديد ، ومقدار الفحص هو الى حد عدم لزوم الحرج والعسر للأدلة الدالة على نفي العسر والحرج في تكاليف الشريعة الاسلامية.

وأما الشبهة الموضوعية فلا يعتبر في اجراء الاصل الفحص ، فمتى شك في نجاسة بدنه ولم يكن له حالة سابقة أجرى أصل البراءة من وجوب تطهيره وليس عليه الفحص ، ويدل على ذلك اطلاق الاخبار مثل قوله (ع) «كل شيء لك حلال حتى تعلم أو حتى تستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة أو حتى يجيئك شاهدان يشهدان ان فيه الميتة» ونحو ذلك.

وثانيا : أن لا يكون أصل مقدم عليه فإذا شك في حرمة أكل لحم الحيوان من جهة الشك في تذكيته فلا يرجع لأصل البراءة في نفي الحرمة لأن أصالة عدم التذكية مقدمة عليه ان قلنا بجريانه.

وثالثا : أن لا يعارضه أصل مثله كما في الإناءين المعلومة خمرية أحدهما فإن اصالة البراءة من الحرمة في كل منها معارض بأصالة البراءة عن الحرمة في الآخر إذا قلنا ان بينهما معارضة وسيجىء إن شاء الله في اصالة الاشتغال تحقيق الحال.

ورابعا : أن لا يكون في جريانه خلاف الامتنان على الامة لأن أدلته واردة في مقام المنة على العباد كما يرشد الى ذلك قوله (ص) «رفع عن أمتي» ، فلو لزم من جريان أصل البراءة الفساد والضرر فلا يجري.

١٤٣

المصدر العشرون

اصالة التخيير

العشرون أصل التخيير فيما لو دار الامر بين محذورين فإنه يرجع لحكم العقل بقبح التكليف بالمتنافيين ولكنه بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل على الحكم لأحدهما. وهو إنما يجري في مورد يعلم بالتكليف اجمالا بين أمرين أو أكثر ، ولكن لا يمكن الجمع بينهما كما لو علم بالوجوب بين أمرين متضادين لا يمكن وجودهما معا ، أو بالحرمة بين أمرين لا يمكن تركهما معا فإنه يتخير بينهما لعدم التمكن من الاتيان بهما معا فلا يعقل أن يريدهما الشارع من المكلف معا ولكن عليه أن يأتي بأحدهما وإلّا للزم المخالفة القطعية ، فالموافقة القطعية وان لم يمكن تحققها من العبد لكن ترك المخالفة القطعية ممكن أن يتحقق منه فالعقل يمنع منه.

وهكذا يجري أصل التخيير فيما لو شك في التكليف من جهة تردده بين الوجوب والحرمة مع عدم احتمال حكم آخر في الواقعة وعدم حالة سابقه لواحد منها المعين بحيث يكون مجرى للاستصحاب سواء كان من جهة فقد النص كما لو اختلفت الأمة على قولين بالوجوب أو بالحرمة أو علم بوجود حكم في الواقعة أما الوجوب أو الحرمة وقام النص أو الاجماع البسيط على نفي الأحكام الثلاثة الغير الالزامية ، وان كان هذا الغرض نادرا بل لا يوجد كما لو شك في وجوب ايقاظ النائم للصلاة وحرمته ، والعقل حاكم بالتخيير بينهما

١٤٤

لعدم تنجز العلم الاجمالي لاضطراره لمخالفة أحدهما اذ المكلف لا يخلو عن الفعل أو الترك فهو مضطر لمخالفة الوجوب أو الحرمة فيجري أصل البراءة عن كل منهما ولذا لا يترتب الآثار الخاصة للوجوب ولا الآثار الخاصة للحرمة. ومحل الكلام فيما كان الوجوب والحرمة توصليين أو أحدهما لا بعينه تعبدي مع وحدة الواقعة إذ لو كانا تعبديين أو أحدهما بعينه تعبدي فيلزم من إجراء الأصلين البراءة عن الوجوب والبراءة عن الحرمة المخالفة القطعية لو أتى بالفعل بدون قصد القربة لأنه لو كان واجبا فهو لم يأني به لأنه فعله بدون قصد القربة ولو كان محرما فهو لم يتركه بقصد القربة فالعقل غير حاكم بالتخير بين الفعل والترك ، وإنما يحكم بفعله بقصد القربة أو تركه بقصد القربة فيما لو كان تعبديين أو بفعله تعبديا وبتركه فيما لو كان الوجوب تعبدي أو بتركه تعبدا وفعله فيما لو كان الترك تعبدي. نعم لو كان أحدهما تعبدي لا بعينه لم يحرز المخالفة القطعية بارتكاب أحد الطرفين قرارا عن المخالفة القطعية.

والحاصل أنه فيما ذكرنا أعني فيما كانا توصليين أو أحدهما لا بعينه تعبدي لم يتنجز التكليف المعلوم بالاجمال لعدم قابليته لذلك لأن اطاعته وامتثاله العلمي ومخالفته وعصيانه العلمى غير مقدورين ، والاحتمالي منهما مضطر اليه فالتكليف الواقعي المعلوم بالاجمال لا يكون باعثا ولا زاجرا وخصوص أحدهما المعين لا بيان عليه فهو مرفوع ومعذور عنه عقلا نظير التكليف المعلوم بالاجمال في الشبهة المحصورة المضطر لارتكاب أحد أطرافها.

وأما مع تعدد الواقعة كأن يعلم الولي بوجوب واحد لا بعينه من دفع المال للوارث القاصر أو القصاص من القاتل أو حرمة أحدهما لا بعينه ففي هذه الصورة يدور الأمر بين الموافقة الاحتمالية مع المخالفة الاحتمالية بأن يفعل أحدهما ويترك الآخر فانه يحتمل الموافقة للواقع كأن

١٤٥

يكون ما فعله هو الواجب وما تركه هو الحرام وبين الموافقة القطعية مع المخالفة القطعية بأن يفعلهما معا أو يتركهما معا فإنه إذ ذاك يعلم بأن ما هو الواجب قد فعله وما هو الحرام قد ارتكبه فيعلم بالموافقة القطعية والمخالفة القطعية والعقل يرجح الأول على الثاني لأن عند دوران الأمر بين محتمل الهلكة وبين مقطوعها يقدم الأول على الثاني ومن هنا يظهر لك أن التخيير إنما يكون بدويا لا استمراريا للزوم المخالفة القطعية من استمرار التخيير وإن حصلت بها الموافقة القطعية من دون فرق بين ما لو كانت الواقعة متعددة أو واحدة فإنه يحكم العقل بالاستمرار على ما أختاره أولا ، فتلخص أنه عند الدوران بين الوجوب والحرمة العقل يحكم بالتخير بين الفعل والترك ما لم يلزم المخالفة القطعية ويحكم بالتخيير الشرعي بناء على الملازمة بين حكم العقل والشرع.

وأما وجوب الالتزام والتدين والانقياد لو قلنا به فهو في المقام حاصل لأنه مع العلم الاجمالي المطلوب منه هو الالتزام والانقياد لحكم الواقعة الواقعي على إجماله وهو في المقام يمكنه الالتزام به على إجماله ودعوى لزوم خلو الواقعة على الحكم الظاهري لا تضر لأنه لا دليل على لزوم الحكم الظاهري للواقعة ، وإنما الدليل دل على لزوم الحكم الواقعي للواقعة وهو موجود فيها غاية الأمر أنه مردد بين الوجوب والحرمة.

ودعوى أنه قد ثبت شرعا عند تعارض الخبريين بتخير بينهما ولا ريب أن المناط في التخيير هو الأخذ بأحد الحكمين موجود هاهنا فنأخذ بأحد الحكمين ونعمل به كما في تعارض الخبرين ،

فاسدة فإن دليل التخيير في الخبريين يرجع إلى التخيير بين الحجتين ولم يعلم أن مناطه هو العلم الاجمالي بأحد الحكمين بل لعل مناطه هو العلم الاجمالي بأحد الحجتين. وفيما نحن فيه فرض الكلام عدم الحجة في المقام. ودعوى أنه لا وجه للحكم بالتخيير مطلقا بل يؤخذ بذي

١٤٦

المزية منها أو محتمل المزية منهما ويكون المقام من باب اجتماع الأمر والنهي أو من باب المتزاحمين.

مدفوعة بأن في المقام يعلم بوجود أحد الحكمين وعدم الآخر وفي باب اجتماع الأمر والنهي وباب التزاحم يعلم بوجودهما معا ولكن لا يمكن امتثالهما ، هذا كله في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة مع عدم النص.

وأما عند دورانه من جهة إجمال النص كما لو أمره بشيء ولكن تردد الأمر بين الوجوب والتهديد أو أمره بشيء مشترك لفظي بين الفعل والترك كلفظ القرء فحكمه حكم سابقه من صورة فقد النص.

وأما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة تعارض النصين فبيان حكمه في باب التعارض.

وأما لو دار الأمر بينهما من جهة اشتباه الأمور الخارجية فإن كان إطلاق دليل الوجوب ودليل الحرمة يشمل الواقعة أو علم وجود ملاكيهما في الواقعة ، فالمقام من باب اجتماع الأمر والنهي أو يعامل معاملة المتزاحمين فمع التساوي يتخير ومع وجود المزية أو احتمالها في أحدهما يؤخذ به ، وأما لو علم بعدم وجود ذلك واحتمل وجود أحدهما وعدم الآخر كما لو نذرت المرأة قراءة سورة العزائم في يوم معين واتفق ذلك اليوم في أيام استظهارها فالحكم هو التخيير الابتدائي هذا كله بناء على منجزية العلم الاجمالي وتمشيا مع المشهور في منجزيته وإلّا فسيجيء منا إنشاء الله عدم منجزيته في أصالة الاشتغال وشرط الرجوع للتخيير يعتبر في الرجوع لهذا المصدر اعني أصالة التخيير في موارد هو الفحص عن المرجح لأية النفر والسؤال والاخبار الدالة وجوب التعلم والنفر مؤيدا ذلك بالإجمال المنقول. ومقدار الفحص ان لا يبلغ حد الحرج لأدلة الحرج.

١٤٧

المصدر الواحد والعشرون

الظن المطلق

المصدر الواحد والعشرون الظن المطلق واستدلوا على ذلك بأربعة أدلة :

الأول : إن في مخالفة المجتهد لظنه المتعلق بالوجوب أو التحريم مظنة للضرر ودفع الضرر المظنون واجب. أما الصغرى فلأن الظن بالحكم الالزامي يلازم الظن بالعقوبة الأخروية على المخالفة لظنه.

وأما الكبرى فلا استقلال العقل بوجوب دفع الضرر الاخروي المظنون بل هو من جبلات النفوس لأن النفوس الرشيدة العاقلة قد طبعت على عدم الاقدام على ضررها ولو لأحتمال معتد به :

وجوابه منع الصغرى فإن الظن بالحكم الالزامي إذا لم يقم دليل على حجيته لا تكون مخالفته موجبة للضرر الاخروي لقبح العقاب بلا بيان.

إن قلت إن الظن بالحكم الالزامي احتمال للضرر الدنيوي وهي المفسدة بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ودفع الضرر المظنون لازم ، ألا ترى أن من احتمل أن في الاناء سما لا يقدم على شربه قلنا حيث أن العقل والشرع قد رفع التكليف مع الظن الذي لا دليل على حجيته بأصل البراءة لم يبق مع هذا الظن بالتكليف احتمال الضرر وإلا يكون الشارع قد أوقعه في التهلكة فلا بد أن يكون الشارع أما تداركه أو لم يكن موجودا.

١٤٨

الدليل الثاني : إنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح وفيه : ـ

إن هذه القضية هي آخر مقدمات دليل الانسداد الذي هو الدليل الرابع على حجية مطلق الظن ويلزم الترجيح المذكور لو كان الظن قد قام الدليل على حجيته. أما مع عدم قيام الدليل المعتبر على حجيته بل قيام الدليل أو الأصل المعتبر على خلافه فلا يلزم الترجيح المذكور وفي موارد الظن مع عدم الدليل نرجع للأصول العملية التي هي المعتبرة والحجة فيكون العمل بها ترجيحا للراجح شرعا.

الدليل الثالث : إنه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بإتيان كل ما يحتمل وجوبه وترك كل ما يحتمل حرمته ، ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كله لأن فيه عسر شديد ومقتضى الجمع بين قاعدة الاحتياط وقاعدة نفي الحرج هو العمل بالمظنونات دون المشكوكات والموهومات لأن الجمع بغير ذلك باطل إجماعا وفيه إن هذا بعض مقدمات دليل الانسداد.

الدليل الرابع : على حجية مطلق الظن وهي باطلة لانا بعد ما أثبتنا وجود أدلة خاصة على التكاليف كالكتاب والسنة كثيرة جدا بمقدار ما علم إجمالا بثبوته من التكاليف فيكون المرجع ما دلت عليه والباقي يرجع فيه للأصول المعتبرة ولا أثر لقاعدة الاحتياط لانحلال العلم الاجمالي بها.

الدليل الخامس ما يسمى بدليل الانسداد وهي مركب من مقدمات خمسة :

أولها : إنا نعلم إجمالا بثبوت تكاليف شرعية كثيرة فعلية منجزة علينا.

١٤٩

ثانيها : أنه انسد باب العلم والعلمي علينا في كثير منها بمعنى أنه لا يوجد القطع بها ولا توجد حجة معتبرة شرعية في أكثرها وهذه المقدمة هي العمدة في هذا الدليل فلذا نسب هذا الدليل اليها.

ثالثها : إنه لا يجوز لنا إهمال تلك التكاليف وعدم امتثالها وهذه المقدمة ترجع للأولى لأن العلم بأنها فعلية منجزة معناه أنه لا يجوز إهمالها وعدم امتثالها.

رابعها. أنه لا يجب الاحتياط في أطراف علمنا للزوم العسر والحرج ولا الرجوع إلى الاصول العملية للزوم اهمال التكاليف والخروج عن الشريعة الاسلامية.

خامسها : أنه يلزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح لو تركنا العمل بالظن بالاحكام الشرعية أما لو عملنا بالظن فلا يلزم إهمال التكاليف ولا يلزم العسر والحرج ولا ترجيح المرجوح وهو العمل بالوهم أو الاحتمال على الراجح وهو العمل بالظن.

وفيه : ـ إنك قد عرفت فيما تقدم أن باب العلم والعلمي غير منسد لقيام الدليل على حجية كثير من الامارات الخاصة كالكتاب والسنة وهي تدل على التكاليف بمقدار المعلومة بالاجمال بل أزيد منها وحينئذ فيرجع فيما عداها لما قامت عليه الأصول المعتبرة ولا يلزم الخروج عن الشريعة بذلك.

١٥٠

المصدر الثاني والعشرون

اصل الاشتغال

المصدر الثاني والعشرون أصل الاشتغال وقاعدة الاشتغال ويسمى بذلك لأنه يوجب اشتغال ذمة المكلف ومقدار اشتغالها ، ومورد هذا المصدر هو الشك في المكلف به مع العلم بأصل التكليف سواء علم بنوع التكليف كما لو علم بحرمة الخمر وتردد بين إناءين أو علم بخبر التكليف كما لو علم بوجوب هذا الشيء أو بحرمة ذلك الشيء وسواء تردد المكلف به بين متباينين كما لو علم بوجوب الظهر أو الجمعة أو تردد بين الأقل والاكثر كما لو علم بوجوب دين عليه لزيد ولكنه لا يدري إنها سبعة دراهم أو اكثر منها ثم أن أصل الاشتغال قد يكون في بعض موارده أصل الاحتياط فإن الاحتياط هو الأخذ بما هو الاقرب للواقع والعمل بما لا يحتمل الضرر أصلا كالإتيان بجميع الأفراد المحتمل فيها التكليف الإلزامي عند دوران الفعل المكلف به بين أمرين متباينين ، أو بما يحتمل الضرر احتمالا مرجوحا كالإتيان بالمظنون للتكليف عند الدوران بين محذورين أحدهما مظنون التكليف والآخر موهوم التكليف أو ربما يحتمل أن يكون أقل ضررا كالاتيان بذي المزية للراجحة عند الدوران بينه وبين فاقدها.

وأما أصل الاشتغال فإنه تارة يكون موافقا للاحتياط وأخرى يكون مخالفا له حيث أنه لما كان في بعض موارده يوجب الإتيان بما هو الأقرب للواقع كما في دوران الأمر بين المتباينين فإن أصل الاشتغال

١٥١

يوجب الاتيان بهما معا كان موافقا لأصل الاحتياط لأنه يوجب الإتيان بما هو الاقرب للواقع وقد يتخلف عنه كما في دوران الأمر بين الأقل والأكثر فإن أصل الاشتغال يقتضي الاتيان بالأقل لأنه القدر المتيقن ولكن الاحتياط يقتضي الإتيان بالاكثر لأنه الأقرب للواقع ، وعليه فلا وجه لتسمية بعضهم أصل الاشتغال بأصل الاحتياط وكيف كان فمورد أصل الاشتغال هو ما لو علم المكلف بالتكليف وتردد العمل المكلف به بين متباينين أو بين الأقل والأكثر فالكلام فيه يقع في فصلين : ـ

أحدهما : فيما لو تردد المكلف به بين أمور متباينة.

والثاني : فيما لو تردد المكلف به بين الأقل والأكثر.

(دوران الأمر بين المتباينين)

وهو تردد العمل المكلف به ودورانه بين أمور متباينة سواء كان التردد والدوران من جهة اختلاط الأمور الخارجية كما لو تردد الخمر بين إناءين لعدم معرفته أيهما خمرا.

وكما لو علم بوجوب القصر عليه أو الاتمام لعدم معرفته ما هو الفائت منه ، أو من جهة إجمال النص كما في مفهوم الغناء الثابت حرمته إذا تردد بين مفهومين بينهما عموم من وجه فإن مادتي الافتراق تكونان من هذا الباب ، وكقوله (ص) «من جدد قبرا فقد خرج عن الاسلام» حيث قرأ (جدد) بالجيم والخاء والحاء ، وكما في التردد بين وجوب الجمعة والظهر لاجمال النص على وجوبها في زمن الغيبة وكما لو تردد بين وجوب شيء عليه أو حرمة شيء آخر عليه كما لو علم بانه صدر منه يمين ولكنه لم يعلم بانه على وطء زوجته هند أو ترك

١٥٢

وطي زوجته فاطمة. فان المشهور هو وجوب الاحتياط بمعنى حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال ووجوب الموافقة القطعية له بإتيان المتردد بينهما فيما لو كان التكليف المعلوم بالاجمال هو الوجوب كما في مثال التردد بين القصر والإتمام والجمعة والظهر ، فإنه يجب الإتيان بالقصر والتمام والجمعة والظهر ويجب الاحتياط بتركهما فيما كان المعلوم بالاجمال هو الحرمة كما في مثال الخمر المتردد بين الإناءين والغناء المتردد مفهومه بين موردين فإنه يجب عليه ترك الإناءين وعدم استماع الموردين ويجب الاحتياط بفعل أحدهما وترك الآخر فيما كان المعلوم بالاجمال هو التكليف ولكنه تردد بين وجوب هذا العمل أو حرمة ذلك العمل الآخر كما في مثال اليمين المتقدم فانه عليه أن يطأ هند ويترك فاطمة.

والكلام في هذا يقع في مقامين : ـ

الأول : ـ في حرمة المخالفة القطيعة للعلم الاجمالي.

والثاني : ـ في وجوب الموافقة القطعية له.

أما المقام الأول : ـ وهو حرمة المخالفة القطعية للعلم الاجمالي.

فقد اختلفوا فيها على أقوال :

أحدها : وجوب الاجتناب عن الجميع كما نسب إلى المشهور وعليه الشيخ الانصاري.

وثانيهما : جواز ارتكاب الجميع كما قواه المجلسي في محكي أربعينه بل مال اليه المحقق الثالث بعض الميل.

وثالثهما : جواز الارتكاب إلى ان يبقى ما يساوى الحرام فلا يجوز كما أختاره المحقق الثالث والمحقق النراقي.

لكن مع اختلافهما في المسلك حيث ان وجوب بقاء ما يساوي

١٥٣

الحرام عند الأول على خلاف القواعد قد ثبت بدليل خارجي زاعما بان الخطابات الشرعية مسوقة لبيان الكبريات خاصة من غير نظر فيها إلى احراز الصغريات فلا بد حينئذ في ترتيب كبرياتها على صغرياتها من إحراز الصغريات من الخارج بطريق العلم أو الظن المعتبر فمع الشك فيها كما هو الفرض في المقام تسقط تلك الخطابات فيحكم بجواز ارتكاب المحتملات عملا بالبراءة السليمة عن المعارض لكنه لما ثبت بدليل من خارج وجوب الاجتناب عن الحرام أو النجس فيجب ابقاء ما يساوي الحرام حذرا عن المخالفة القطعية لهذا الدليل وإلا فلولاه لكان المتجه جواز ارتكاب الجميع وعند الثاني إنه على طبق القاعدة زاعما بانه عموم أدلة البراءة يقضي بجواز ارتكاب الجميع وقوله اجتنب عن النجس مثلا يقضي بوجوب الاجتناب عن النجس فيعمل بعموم الأول إلى ان يلزم مخالفة الثاني فيحكم بعدم الجواز فرارا عن المخالفة وبتقرير آخر أن في ذلك جمعا بين الدليلين وذلك بعينه نظير مسلكه في العام المخصص بالمجمل مثل قوله «اقتلوا المشركين إلا بعضهم» حيث قال بحجية وعدم سراية اجمال المخصص اليه خلافا للمشهور نظرا إلى ان العموم المذكور ينطق بوجوب قتل كل مشرك فيعمل بمقتضاه إلى أن يلزم طرح قوله إلا بعضهم فيجب حينئذ ابقاء واحد منهم لأنه أقل ما يصدق عليه البعض لئلا يلزم مخالفة ذلك الخطاب بل ويقتل الباقي عملا بالعموم الناطق ولعل هذا هو الوجه فيما ذهب اليه من عدم وجوب الفحص عن المعارض والمخصص وكيف كان فهما وإن كان قد تخالفا في المدرك إلا أنهما متفقان في الحكم والنتيجة وهو وجوب ابقاء ما يساوي الحرام وجواز الارتكاب ما عداه بل قد نسب ذلك إلى المحقق الأردبيلي وجماعة ممن تبعه كالسبزواري والبحراني وصاحب المدارك

١٥٤

ورابعها : القول بالقرعة لأنه لكل أمر مشكل ولخصوص ما ورد في قطيع الغنم وإن أرجعه في الهداية إلى القول الأول باعتبار إنه لا يجوز ارتكابهما قبل القرعة وبعد القرعة يخرج عن الشبهة فيخرج عن محل الكلام لكنه محل نظر.

وخامسها : التفصيل بين ما لو كان المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة وبين غيره فيجب الاحتياط في الثاني دون الأول كما ينقل عن المحدث البحراني.

وسادسها : التفصيل بين ما لو تقصد ارتكاب الحرام وبين غيره كما يستفاد من الأنصاري وإن لم يكن مختاره عند الرد على صاحب الفصول حيث اعترض على المحقق الثالث بان قضية ما ذكر إمكان التوصل إلى فعل جميع المحرمات على وجه مباح بان يجمع بين الحلال والحرام المعلومين على وجه يوجب الاشتباه فيرتكبهما.

وسابعها : التفصيل بين ارتكابهما دفعة فلا يجوز ، وبين ارتكابهما تدريجيا فيجوز.

قيل انه ليس قولا بالتفصيل في المسألة اذ الاجماع على عدم جواز الارتكاب دفعه فانه مخالفة معلومه تفصيلا فما أظن أحدا يتوهم جوازه فضلا عن القول به.

والحاصل ان بعضهم جوز المخالفة القطعية للعلم الاجمالي من جهة عدم وجود المقتضي لحرمتها كما هو المحكي من مسلك صاحب القوانين (رحمه‌الله) فإنه منع من وجود المقتضي لها لاختصاص الخطابات بالمشافهين واشتراك غيرهم معهم فيها إنما هو لأدلة الاشتراك الموقوفة على الاتحاد في الصنف الغير الثابت في المقام حيث يحتمل كون المشافهين عالمين بالخطاب حكما وموضوعا تفصيلا فلم يتوجه الخطاب بالاجتناب

١٥٥

عن الخمر مثلا إلينا إذا لم نعلمه تفصيلا وبعضهم من جهة كون الخطابات لبيان الكبريات كما سيجيء إنشاء الله بيان ذلك تفصيلا.

وبعضهم من جهة وجود المانع وهو ما دل على البراءة في أطراف العلم الاجمالي على تقدير وجود المقتضي. وذهب أستاذنا المحقق الشيخ كاظم الشيرازي (قدس‌سره) تبعا للمشهور إلى أن العلم الاجمالي علة تامة لحرمة مخالفته كالعلم التفصيلي ، بمعنى أنه لا يجوّز العقل للشرع الترخيص فيها فلو ورد دليل كان ظاهره ذلك وجب تأويله أو طرحه مستدلا (ره) على ذلك بأن العلم الاجمالي بالتكليف يقتضي الارادة الجدية من المولى للتكليف فيحكم العقل بتنجزه بمعنى عدم جواز مخالفته القطعية واستحقاق العقاب عليها لأنها عصيان للتكليف. ولا يخفى ما فيه فأنا وان سلمنا ان الشارع له ارادة جدية للتكليف لكن لا نسلم تنجزه على العبد المتردد في مصاديق موضوعه نظير التكليف المعلوم مع الشبهة البدوية في مصداق موضوعه فان التكليف مراد بارادة جدية لكنه غير منجز على العبد حتى لو كان ذلك المشتبه من مصاديق موضوعه في الواقع لأن التكليف إنما يتنجز على العبد فيما إذا علم بأنه مراد منه لا أنه مراد في نفسه ولا يحصل للعبد العلم بذلك إلا إذا صار لديه شكل أول مركب من صغرى تثبت إن هذا الشيء الذي يصدر من العبد من مصاديق موضوع التكليف ومن كبرى هي نفس التكليف وهذه الصغرى أما أن تكون معلومة بالوجدان أو محرزة بالدليل والبرهان فإن الخطابات المولوية بل سائر القوانين الدولية شرعية كانت أم غير شرعية إنما هي مسوقة لبيان الكبريات وتنجزها الذي هو عبارة عن العقاب على مخالفتها إنما يكون بعد إحراز الصغريات علما أو ظنا معتبرا ، وفيما نحن فيه الصغريات لم تحرز بشيء من الأمرين

١٥٦

لأنه ليس عندنا الّا نفس الخطابات وهي لا تحرز بها الصغريات وإنما تحرز بها الكبريات.

والعلم الموجود عندنا لا يفيد شيئا لأن غاية ما يقتضيه هو وجوب الاجتناب عن الخمر الواقعي في الواقع وهذا لا ينكره الخصم والذي يدعيه الخصم سقوط هذا الخطاب عن التنجز عند الشك في تحقق موضوعه وهو الخمر في كل من الافراد ، وعلى المستدل إثبات تنجز هذا الخطاب ولذا نرى أن للموالي أن يرخصوا في أطراف العلم الاجمالي فإن المولى إذا قال : «أكرم زيدا» له أن يقول لعبده عند تردد زيد معذور في ترك إكرامه بل للعبد أن يترك إكرام زيد عند تردده فيه بين أفراد معدودين وليس له أن يعتذر فيما لو علم بزيد تفصيلا.

إن قلت نرى بالوجدان ترك الأكل عند العلم بأن أحد الإناءين فيه سم.

قلنا هذا حتى عند الشبهة البدوية فإنا نترك محتمل السم» والسر في ذلك عدم المؤمن منه بخلاف ما نحن فيه فإن الخصم يدعي المؤمن من العقاب عند الشك ليحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

وبعبارة أخرى : إن احتمال الضرر الدنيوي لا يزول معه الضرر حتى في الشبهة البدوية بخلاف الضرر الاخروي فانه يزول عند الشك وإن شئت قلت إن محل كلامنا العقاب فإن احتماله هو الموجب للاطاعة وبالشك يرتفع كما في الشبهة البدوية ـ والخصم يدعي ارتفاعه عند الشبهة الاجمالية أيضا.

إن قلت إن الحكم المعلوم بالتفصيل لا يجعل في مورده حكما ظاهريا لأن الحكم الظاهري سمته سمة الطريق للواقع ومع انكشافه لا يعقل جعله مماثلا للواقع ولا مغايرا له وهكذا العلم الاجمالي يكون كاشفا

١٥٧

للواقع فلا يصح جعل الحكم الظاهري في مورده لأنه يصطدم بمقدار الكشف الحاصل بالعلم الاجمالي فإن هذا الكشف الجزئي ينافيه الترخيص في سائر الاطراف بمقداره نعم ترخيص بعضها لا ينافيه.

وتوضيح الحال إن عدم فعلية التكليف أما تكون لعدم المقتضي لبلوغه إلى هذه المرتبة كسائر الاحكام في صدر الاسلام ثم صارت فعلية في زمن الأئمة (ع)

وفي هذه الصورة لا وجه لجعل الحكم الظاهري لمثل هذه الاحكام الغير الفعلية ، وأما أن تكون عدم الفعلية لمانع من أمور خارجية كالعسر والحرج ونحوها ، ومنه قوله (ص) «لو لا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك» فإن وجوب السواك حكم غير فعلي لوجود المانع وهو المشقة ومن هذا الباب المستحبات التي يزيد ثوابها على ثواب الواجبات ، وأما أن تكون عدم الفعلية لعدم الانكشاف فإن كان لعدمه أصلا بحيث لم ينكشف الواقع بأدنى منفذ كالشبهة البدوية فلا مانع من جعل الحكم الظاهري في مورد الحكم الواقعي وإن كان لعدم الانكشاف في الجملة بحيث يكون للواقع انكشاف في الجملة كما في صورة العلم الاجمالي مع جعل الحكم الظاهري في أحد الأطراف ولا يجوز جعله في كلها ضرورة إن الاجمال يكون مانعا بقدره لكونه فيه مقدار من الكاشفية فيقدر المنع بقدرها.

قلنا : إنما يؤثر هذا الانكشاف الجزئي وأوجب فعلية التكليف وتنجزها وهو أول الكلام فللخصم أن يقول إن هذا التردد كان مانعا من التنجز أو الفعلية.

والحاصل أن العلم الاجمالي حلقة متوسطة بين العلم التفصيلي والشك البدوي فهو يتبع أخس المقدمات الحاصلة به لمعرفة الحكم الشرعي.

١٥٨

إن قلت إن شمول الخطاب لأحدهما يقتضي ثبوت الاجتناب عنه فإن النزاع في منجزية العلم الاجمالي بحيث لو انقلب الى علم تفصيلي لتنجز التكليف ، وهذا إنما يكون بعد الفراغ عن تمامية التكليف وهي إنما تكون بعد شمول الخطابات لأحد الاطراف ولا ريب في ظهور الخطابات الواقعية في فعلية التكاليف الواقعية على وجه تتصف بالباعثية والزاجرية الفعلية.

قلنا لا يكفي شمول الخطاب بل لا بد للمستدل من إثبات تنجزه في الطرف المشمول لها وإن الشك ليس بعذر للمكلف ، فإن أدلة الخطابات الواقعية إنما يقتضي ظهورها في الباعثية والزاجرية الفعلية في ظرف وصولها للمكلف وإلا نفس الخطاب لا يصلح لاثبات التنجز وفعلية استحقاق العقاب ولذا لا تقتضي ذلك عند الجهل بها كما في الشبهة البدوية. وفيما نحن فيه لم تصل إلى المكلف لأن وصولها له يحتاج الى ترتيب قياس مركب من صغرى تثبت تحقق الموضوع في الخارج وكبرى الخطاب وغاية ما يمكن أن يتصور القياس في المقام بوجهين : ـ

أحدهما : أن يقال هذا خمرا ، وكل خمر يجب الاجتناب عنه ، ولا ريب في بطلان الصغرى لأنه لأي الفردين أشار اليه لم يحرز أنه خمر.

ثانيهما : ـ أن يقال أن أحد هذين الإناءين خمر وكل خمر يجب الاجتناب عنه أو كل شيئين يكون أحدهما خمرا يجب الاجتناب عنهما ولا ريب في عدم تسليم الكبرى.

أما الكبرى الاولى فلأنه لا يسلم الخصم أن كل خمر حتى الذي يكون أحد هذين الإناءين لا على التعيين يجب الاجتناب عنه لعدم

١٥٩

تسليمه تنجز حكم الخمر مع اشتباه والتردد وعدم وصوله اليه تفصيلا بل هو عين المتنازع فيه.

وهكذا الكلام في الكبرى الثانية فإنها عين المتنازع فيه.

وكيف يدعى أن العلم الإجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية بحيث يؤول أو يطرح الدليل الدال على جوازها مع أنا لو رجعنا لوجداننا وعقولنا ، نجد أن للمولى أن يقول يجب رد السلام على زيد أو إكرامه ثم يقول لو تردد زيد بين الجالسين فلا يجب عليك الرد عليه ولا اكرامه ولو لأجل المنة من المولى والتفضل على عبده.

فمن يا ترى العقل والوجدان يستنكر هذا الخطاب الثاني من المولى ويعتبره إذنا في المعصية التي استقل العقل بقبحها ومناقضا ومنافيا لتكليفه الاول أو لحكم العقل بوجوب الطاعة فيؤوله أو يطرحه كلا وحاشا بل يراه نظير الحرج الذي يرفع العقاب عن التكليف مع بقاء التكليف فإن الشارع بطرو الحرج رفع فعلية التكليف وتنجزه منة منه وتفضلا.

وفيما نحن فيه للشارع أن يرفع الفعلية والتنجز للتكليف وبأذن ويبيح الاطراف منّة منه وتكرما.

إن قلت : نعم العلم الاجمالي ليس بعلة تامة لحرمة المخالفة القطعية ولكنه مقتضي لها لوجود المقتضي للاجتناب وعدم المانع منه أما ثبوت المقتضي فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان للمشتبه فإن قول الشارع اجتنب عن الخمر يشمل الخمر المعلوم المردد بين الإناءين ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلا مع أنه لو اختص به خرج الفرد المعلوم بالاجمال عن كونه حراما واقعيا وهو التصويب الباطل ، وأما عدم المانع فلأنه لا دليل عقلا ولا شرعا بمنع من وجوب الاجتناب

١٦٠