مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة الآداب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

المصدر الحادي عشر

عدم الدليل

الحادي عشر عدم الدليل : ـ فانه عندهم دليل على العدم وقد يعبر عنه بعدم الوجدان ويجعل دليلا على عدم الوجود فيقال عدم الوجدان دليل على عدم الوجود وهو أعم من أصل البراءة مطلقا لاختصاص أصل البراءة بالأحكام الشرعية التكليفية.

وأما عدم الدليل وعدم الوجدان فهو يجري فيها وفي غيرها من المسائل الأصولية كعدم الدليل على حجية الخبر دليل على عدم حجيته بل ويجري في مباحث الالفاظ كعدم الدليل على وضع الشارع للالفاظ دليل على عدم وضعه لها.

فيكون عدم الدليل أعم من أصل البراءة مطلقا لأن أصل البراءة مختص بنفي الوجوب والحرمة التكليفيين على ما هو المشهور وعدم الدليل يعم جميع الموضوعات والاحكام الالزامية والأحكام الوضعية والتكليفية نعم لو قلنا مفاد أدلة البراءة نفي العقاب والمؤاخذة تكون النسبة بينهما بحسب مدلوله المطابقي التباين الكلي وكيف كان فاصل البراءة أصل فقاهي وعدم الدليل دليل اجتهادي فهو عند العامل به امارة على عدم الحكم الشرعي وينسب القول به للشيخ وابن زهرة والفاضلين والشهيد وغيرهم. ويستند في حجيته إلى قضاء العادة واستمرار السيرة من العقلاء والفقهاء على ذلك وإن السيرة ثابتة في

١٢١

الموارد عموم البلوى بها وتتوفر الدواعي فيها.

إلا ان التحقيق ان يقال إن عدم الدليل على الشيء إن أفاد القطع بعدم ذلك الشيء فلا إشكال في حجيته كما في الموارد التي لو وجد الدليل على الحكم لظهر لأغلب الناس وكما يقال في الامور الشرعية العامة البلوى فإن عدم الدليل على التكليف بها دليل على عدم التكليف بها. وأما إذا كان لا يفيد القطع فإن استقر بناء العقلاء وسيرتهم على الأخذ به في المورد كما في وضع الألفاظ أخذ به وإلا فلا دليل على حجيته واعتباره فان عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.

نعم في الاحكام الشرعية عدم الدليل عليها يوجب قبح العقاب على مخالفتها لقاعدة قبح العقاب بلا بيان لا أنه يوجب انكشاف عدم وجودها فيكون أصلا فقاهيا ولا دليل عليه إلا أدلة أصل البراءة بخلافه على الاول فانه يكون دليلا اجتهاديا مستنده قضاء العادة والسيرة.

هذا وعدم الدليل غير أصل العدم فان أصل العدم إنما هو من الاصول اللفظية كاصالة عدم القرينة واصالة عدم التجوز ونحوها.

١٢٢

المصدر الثاني عشر

التسامح فى ادلة السنن

الثاني عشر التسامح في أدلة السنن : ـ وهو يرجع للسنة لأنه لا دليل عليه إلا الاخبار الدالة على إن من بلغه ثواب عمل فأتى به فله ذلك الثواب وأما إذا قلنا بأنه مستفاد من العقل باعتبار حكم العقل بحسن جلب المنفعة المحتملة وبقيام الخبر الضعيف على المطلوبية يحتمل النفع فهو من الدليل العقلي الاستلزامي باعتبار إن بلوغ الثواب يستلزم ذلك لحسن كمال اهتمام العبد في استرضاء مولاه عقلا وقد تقدم البحث في ذلك مفصلا في مبحث حجية السنة والخبر فراجعه.

١٢٣

المصدر الثالث عشر

الاستقراء

الثالث عشر الاستقراء : فإنه يرجع لحكم العقل الاستلزامي الظني باعتبار إن ثبوت الحكم لأغلب أفراد الكلي يستلزم عقلا بنحو الظن ثبوته لكليها ولباقي أفراده لأن ثبوته لأغلب أفراد الكلي يدرك العقل منه أن طبيعة الكلي تقتضي ثبوته لها أينما وجدت وحلت.

وتوضيح الحال أن الاستقراء لغة هو عبارة عن التتبع وقصد القرى قرية فقرية.

واصطلاحا عبارة عن الحكم على الكلي بما وجد في جزئياته كما في المصابيح ، أو بما وجد في الجزئيات كما في القوانين ، قال في النهاية المراد به إثبات الحكم في كلي لثبوته في جزئياته ، وفي الشمسية هو الحكم على كلي لوجوده في أكثر جزئياته. قال الشارح لأن الحكم لو كان موجودا في جميع جزئياته لم يكن استقراء بل قياسا ثم قال ويسمي استقراء لأن مقدماته لا تحصل إلا بتتبع الجزئيات كقولنا «كل حيوان يحرك فكه الاسفل عند المضغ لأن الإنسان والبهائم والسباع كذلك ، ثم قال وهو لا يفيد اليقين لجواز وجود جزئي آخر لم يستقرأ ويكون حكمه مخالفا لما استقرئ كالتمساح حيث نسمع إنه يحرك فكه الأعلى عند المضغ ثم لا يخفى عليك إن التعاريف المذكورة للاستقراء المصطلح في هذا الفن بأسرها مخدوشة ومنقوضة عكسا لعدم شمولها لما إذا قطعنا بانتفاء الحكم في بعض الجزئيات مع وجوده في

١٢٤

غالبها ولا ريب إن العاملين بالاستقراء يأخذون به في الصورة المذكورة ويلحقون الجزئي المشكوك بالغالب في هذا الحكم وإن حصل لهم القطع بانتفائه عن بعض الجزئيات ولا ريب أنه لا يصدق على الاستقراء في الصورة المفروضة أنه الحكم على الكلي إذ لو كان الاستقراء موجبا للحكم على الكلي امتنع انتفاؤه عن بعض الافراد كما لا يخفى ، ومن هذا الباب ما أشتهر من إن الشيء يلحق بالاعم الأغلب إلا اللهم أن يقال أن مرادهم بها بيان مصطلح أهل الميزان وهو كما ترى مناف لما نقلناه عن علماء الأصول في الكتب الأصولية أو يقال إن الاستقراء في الصورة المفروضة غير معتبر عندهم وهو أيضا مناف لتصريح جمع منهم كالأسترآبادي في المصابيح حيث قال : «والاقوى هو التفصيل بأن نقول بالحجية في الاحكام الشرعية عند تحقق المظنة المطمئنة بها النفس سواء تحقق الاستقراء في الأجناس أو الأنواع أو الاصناف أو الاشخاص وسواء ظهر في مخالفة بعض الأفراد أم لا».

أقول إذا عرفت ذلك فنقول الأصح في تعريف الاستقراء في مصطلح هذا الفن أن يقال هو تصفح الجزئيات لتعدي الحكم الثابت في غالبها إلى الجزئي المشكوك الواقع في عرضها ومرتبتها أو هو تصفح الجزئيات لالتحاق الجزئي المشكوك الواقع في عرضها بحكم غالبها أو هو الحكم على الجزئي المشكوك بما وجد في غالب الجزئيات الواقعة في عرضه سواء كانت الجزئيات المستقرأ فيها مع الجزئي المشكوك أفراد الصنف واحد أو أصنافا لنوع واحد أو أنواعا لجنس واحد فيشمل جميع أفراده ثم أنه قد اشتهر بينهم أن الاستقراء على قسمين : ـ

الأول الاستقراء التام : ـ وهو ما وجد الحكم في جميع الجزئيات مثل أن يقال أن الجسم إما حيوان أو نبات أو جماد وكل منها متحيز

١٢٥

فكل جسم متحيز وهو المسمى بالقياس المقسم ، قال في النهاية أنه دليل صحيح وفي القوانين هو مفيد اليقين ولا ريب في حجيته. لكن لا يخفى أنه لا يكاد يوجد في الاحكام الشرعية كما أنه ليس ذلك من الاستقراء المصطلح عندنا معاشر الاصوليين ولا بمثمر لنا في شيء إذ المفروض ثبوت الحكم في كل واحد من الجزئيات بدليل منفصل بحيث لا يوجد في البين فرد مشكوك وقد صرح في النهاية بأن إطلاق الاستقراء في كلماتهم لا يشمل هذا القسم إن قلت : أن المشكوك حينئذ هو نفس الكلي وبعد وجود الحكم في جميع الجزئيات نقطع بأن نفس الكلي حكمه ما وجدناه في جميع جزئياته فيثمر في مثل ما لو فرضنا وجود فرد من هذا الكلي في الأزمنة الآتية ونشك في مشاركته مع الجزئيات الموجودة المستقرأ فيها وعدمها فنحكم بالمشاركة لوجود الكلي في ضمنه قطعا وثبوت الحكم لنفس الكلي للاستقراء في جميع جزئياته.

قلنا لا يخفى ما فيه إذ لعل هذا الفرد ليس حكمه حكم كليه فالأولى أن يقال أن حصل القطع أو الاطمئنان بذلك فهو وإلا فلا دليل على أن حكم هذا الفرد هو عين حكم كليه لا يقال إن الحكم إذا ثبت للكلي بنص فإن الافراد لهذا الكلي الحادثة في الازمنة المتأخرة يثبت لها حكم ذلك الكلي فكذا ما نحن فيه فإنا نقول نعم ولكن يثبت بواسطة ظهور اللفظ وإطلاقه وفي المقام ليس لنا ذلك ولذا لو قام الاجماع على حكم كلي ولم يكن له معقد يستشكل في ثبوت حكم ذلك الكلي لافراده الحادثة.

والثاني الاستقراء الناقص : ـ وهو ما وجد الحكم في أكثر جزئياته كما نقلنا عن شارح الشمسية من التمثيل به ، وهذا القسم هو الذي ينصرف إطلاق لفظ الاستقراء اليه كما صرح به في النهاية ويصدق عليه

١٢٦

التعريفات المذكورة ثم أنه لا ريب في كونه مفيدا للظن بل قد يفيد القطع ولو بانضمام العادة كما لا يخفى خلافا للعلامة في النهاية حيث قال : «والاقرب أنه لا يفيد الظن» أيضا إلا بدليل منفصل تبعا للمحقق في المعارج حيث منع إفادته للظن أيضا على ما حكي عنه في المفاتيح وهو مخالف للحس والوجدان والظن المستفاد من الاستقراء يتفاوت درجته بتفاوت كثرة الافراد المستقرأ فيها بل ربما يحصل منه كثرتها الظن المتاخم للعلم كما صرح به غير واحد.

بقي الكلام في حجية هذا القسم من الاستقراء وعدم حجيته فنقول اختلفوا فيه على قولين :

فقول بالحجية في الاحكام الشرعية وهو مختار المحقق الثالث والمقدس الاسترابادي وشريف العلماء وهو المحكي عن جمهور القائلين بحجية الظن المطلق كما استفادة السيد السند في المفاتيح ونفي الوفاق على عدم حجية الاستقراء وترقى عن ذلك ونفى الشهرة على عدم حجيته واستفاد حجيته من القائلين بحجية مطلق الظن وعلل ذلك بقوله «لأنه من الظنون التي لم يقم دليل على عدم حجيته» بل يظهر من الكرباسي حجّيّة الاستقراء في اللغات وحكي عن ابن الحاجب وصاحب المعالم أنه طريق قطعي لا ينكر أي في اللغات وبه انقطع النزاع بين كافة العلماء في الحقيقة الشرعية ثم استكشف الكرباسي المذكور من كلامهما كون حجيته في اللغات متفق عليها بينهم ثم قال «وهو في الجملة مما لا ريب فيه» لكن الاسترابادي صرح بعدم حجيته في اللغات.

والقول الثاني عدم حجيه هذا القسم وهو المحكي عن المحقق في المعارج والعلامة في النهاية والمنسوب إلى القائلين بحجية الظن المخصوص. وهو الحق لعدم الدليل المعتبر على حجيته حيث إنا لا نقول بحجية الظن المطلق كما سيجيء إنشاء الله.

١٢٧

المصدر الرابع عشر

ثبوت الحكم فى الشرائع الالهية السابقة

الرابع عشر ثبوت الحكم في الشرائع الالهية السابقة : كالنصرانية واليهودية ولم ينسخ في شرعنا وكان مسكوتا عنه.

فجمهور الفقهاء على الالتزام به في شرعنا ويحكى الخلاف عن الاشاعرة والمعتزلة وبعض الشافعية بدعوى أن الشرائع السابقة مختصة بأمهما بخلاف شريعتنا فإنها جاءت عامة ناسخة للشرائع السابقة ولأن الرسول (ص) لما أرسل معاذ بن جبل لليمن ليحكم فيها قال له : «بم تقضي قال : بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله فإن لم أجد أجتهد». فلو كان شرع من قبلنا مصدرا عند انعدام النص لأمره رسول الله بالرجوع اليه لا أن يقره على الاجتهاد وهو يرجع للسنة إن كان من باب تقرير النبي (ص) له باعتبار أنه حكم كان ثابتا في الشرع السابق وحيث لم ينسخه الرسول (ص) فقد أقره ، أو للاستصحاب باعتبار أن الحكم في الشريعة السابقة كان ثابتا يقينا ونشك في ارتفاعه بشريعة الرسول ولا ينقض اليقين بالشك فنستصحبه إلى شرعنا الحاضر ولا نسلم أن الشرائع السابقة قد نسخت بأحكامها جميعا بل في القرآن ما يؤكد امضاءه للشرائع السابقة كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وكقوله تعالى (مُصَدِّقاً ...) وكقوله تعالى (مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) وإما قصة معاذ فانه بأخذه بأحكام الشريعة السابقة يكون أخذا بالكتاب والسنة ، لما قد عرفت أنهما يدلان على ثبوت أحكام الشريعة السابقة وتحقيق الحال يطلب مما كتبناه في استصحاب أحكام الشرائع السابقة ،

١٢٨

المصدر الخامس عشر

مذهب الصحابي

الخامس عشر مذهب الصحابي وهو القول والعمل الذي يصدر من الصحابي المشتهر بالفقه والفتوى ولديه الملكة الفقهية من دون أن يعرف له مستند في الواقعة فانه يدل على حكمها.

واستدلوا على حجيته بأن الصحابة كانوا أقرب الناس للنبي (ص) فهم أعلم الناس بسنته وبقول النبي (ص) «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وينسب لمالك وابن حنبل الاعتماد على قول الصحابي وهو مؤخر عندهم عن الاجماع ومقدم على القياس واختار الآمدي أنه ليس بحجة وقد عده الغزالي من الاصول الموهومة والحق أنه لا دليل لنا على حجيته إذ لعل الصحابي استند قوله لحدسه ورأيه وقد أخطأ فهو نظير فتوى المجتهد ليس بحجة على الغير والحديث لا يدل على لزوم العمل والاقتداء برأي الصحابي ولعله يراد به الأخذ بروايته لا برأيه مضافا إلى ضعف الحديث كما في كتاب الاحكام واعلام الموقعين و

التقرير والتحبير.

نعم قول الصحابي كنا نفعل كذا ونصنع كذا ونقول كذا عند رسول الله (ص) هو داخل في نقل السنة فهو من الخبر الواحد لتقرير الرسول (ص).

١٢٩

المصدر السادس عشر

تنقيح المناط

السادس عشر تنقيح المناط : وهو معرفة تمام علة الحكم للواقعة فإنه لو وجد فى غيرها ثبت الحكم فيه وهو يرجع للقياس وقد عرفت أنه من الدليل العقلي الاستلزامي.

١٣٠

المصدر السابع عشر

السيرة

السابع عشر السيرة من المسلمين أو من الفقهاء الصالحين على العمل فإنها تدل على صحته وتسمى بالاجماع العملي فقد ذكر العلماء في وجه حجيتها إنا إذا رأينا سيرة المسلمين أو العلماء الصالحين قد استدامت سيرتهم واستمرت طريقتهم على عمل خاص يتعاطونه مواظبين عليه ويتداولونه راغبين إليه من غير دليل يوافقهم أو يخالفهم ولم ينكر إمامهم عليهم ذلك كشف عن إنه راض به نظير استكشاف رأي المجتهد عن استمرار عمل مقلديه على شيء فإن إطباقهم كاشف عن رأيه وكذلك استكشاف رأي كل رئيس في كل فن من طريقة أتباعه.

نعم للاستكشاف المذكور شرائط مثل أن لا يكون العمل المذكور ناشئا عن المسامحة وقلة المبالاة إذ لو لم يعلم ذلك لما حصل العلم برأي الامام ولذا لا يكشف سيرتهم على المعاملة مع الاطفال بالبيع والشراء عن رأي إمامهم مع أنه متداول في الاعصار والامصار ولا استقرارها على المعاطاة عن كونها بيعا عند المشهور ولا استقرارها على التكلم مع الأجنبية أزيد من مقدار الحاجة عن الجواز ولا على عدم تحفظ النساء من ستر ما يقرب من الزند وحواشي الوجه في الصلاة عن الصحة وهكذا ومثل أن لا يكون هنالك إجماع قولي أو نص أو حكم عقلي على خلاف مقتضى السيرة إذ لا يجامع ذلك الاستكشاف المذكور ، ومثل أن لا يكون عملهم منتهيا الى تقليد مجتهد إذ لو علم ذلك كشف عن رأي المجتهد ومع الشك لم يكشف عن رأي الامام ، ومثل أن

١٣١

يحرز وجه العمل وهو العمدة إذ بدونه لا يمكن استكشاف وجه خاص فإن العمل الواحد قابل لوجوه عديدة والافعال مسلوبة الدلالة على جهة خاصة ولذا قالوا في باب التأسي كما يأتي إنشاء الله :

(إن فعل المعصوم إنما يكون حجة إذا علمنا بوجهه الذي أوقعه عليه) فنظره (ع) إلى امرأة أو أكله شيئا لا يثبت جواز ذلك في حقنا لاحتمال وقوعه في حقه عن ضرورة أو محرمية فلو نظر جماعة منا إلى امرأة لا يكشف عن جواز النظر إليها في حق غيرهم لجواز أن تكون زوجة لأحدهم وأمّا لآخر واختا لثالث وهكذا .. ومن هذا لا يجوز استناد حجية أخبار الكتب الاربعة الى عمل الأصحاب بها قديما وحديثا بعد احتمال اختلافهم في الوجه فيعمل واحد لقطعيتها صدورا أو دلالة أو صدورا ودلالة أو عملا أو صدورا وعملا أو لكونها آحادا محفوفة بقرائن قطعية أو لإفادتها الظن الشخصي أو النوعي أو من جهة الانسداد وهكذا فلا يحرز عنوان العمل ، ومجرد استكشاف الحجية لا يجدي بعد بنائه في مذهبه على جهة خاصة.

هذه هي الشروط التي ذكروها لحجية السيرة ، والواجب إضافة أمر آخر وهو عدم كون عملهم عن إكراه فاجتماع الشيعة على مثل صلاة الجمعة في بلاد العامة لا يكشف عن وجوبها إلا أن يدرج في الشرط الثالث.

والحاصل إن اعتبار سيرة العلماء والمسلمين إنما هو لأجل كشفها عن تقرير المعصوم (ع) ويشترط فيه كما قرر في محله علمه (ع) بما جرت عليه سيرتهم وكون علمه على سبيل العادة المتعارفة دون طريق الاعجاز وكشف المغيبات وتمكنه من الردع واحتماله (ع) لارتداع الفاعل عند ردعه (ع) عن ذلك الفعل.

١٣٢

المصدر الثامن عشر

الشهرة

الثامن عشر الشهرة ، والشهرة لغة الواضح المعروف ومنه : فلان شهر سيفه.

وفي الاصطلاح اتفاق جل العلماء على فتوى أو رواية ونظيرها الشهرة في الموضوعات إلا أن اسم الشهرة عند الفقهاء قد خص بالشهرة في الأحكام كما أن الشهرة في الموضوعات قد خصت باسم الشياع واسم الاستفاضة.

وعن الروضة أن الشياع هو أخبار جماعة بأمر تأمن النفس من تواطئهم على الكذب ويحصل بخبرهم الظن المتاخم للعلم.

والشهرة في الاحكام على ثلاثة أقسام :

الأول الشهرة في الرواية : ـ وهي عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة وأرباب الحديث بكثرة نقلها وسيجيء إنشاء لله بيان إنها من المرجحات في باب التعارض.

الثانى الشهرة العملية وتسمى بالشهرة الاستنادية : ـ وهي عبارة عن اشتهار العمل بالرواية عند قدماء أصحابنا واستنادهم في فتواهم اليها وسيجيء إنشاء الله بيان ان هذه الشهرة في الاستناد إلى الرواية عند القدماء جابرة لضعف الرواية وموجبة لاعتبارها وحجيتها وقد ضرب لها بعض الفقهاء المثل بالحديث النبوي المشهور «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» فإن فقهاؤنا قد تمسكوا به لعمل الاصحاب القدماء به مع أن هذا الحديث لم يذكره أحد من رواتنا في كتبهم وإنما روته العامة في كتبهم وكان في سنده الحسن البصري عن سمرة بن جندب عن النبي (ص) وسمرة بن جندب صاحب القضية التي قال فيها النبي (ص) : «لا ضرر ولا ضرار» ، وحكي عن أرباب الحديث أن الحسن البصري لم يرو حديثا منه قط فمع هذه الامور كلها كان

١٣٣

الحديث المذكور حجه عند فقهائنا باعتبار عمل القدماء من أصحابنا به وذلك لأن عمل المشهور من القدماء به يوجب الوثوق بصدوره.

الثالث الشهرة في الفتوى : ـ وهي عبارة عن اشتهار الفتوى بالحكم الشرعي ، وهي محل كلام القوم في مبحث الأدلة فقد وقع النزاع بينهم في أن الشهرة في الفتوى حتى عند القدماء يثبت بها الحكم الشرعي الذي تدل عليه الفتوى أم لا ، وفي المسألة أقوال : ـ

الأول : ـ القول بحجيتها مطلقا وقد حكي اختياره عن الشهيد في الذكرى والخونساري وولده جمال العلماء.

الثاني : ـ القول بعدم حجيتها وهو المشهور ، ويرشد إلى ذلك ما ذكره القوم في الدليل على عدم حجيتها من أن الشهرة لو ثبتت حجيتها لزم عدم حجيتها لأن المشهور عدم حجيتها فيلزم من وجودها عدمها وما يستلزم وجوده عدمه فهو باطل.

القول الثالث : ـ التفصيل بين الشهرة المدعاة قبل زمان الشيخ الطوسي فهي حجة وبين الشهرة بعد زمانه فهي ليست بحجة واختاره صاحب المعالم.

القول الرابع : ـ التفصيل بين الشهرة المقترنة بوجود خبر ولو كان ضعيفا لم يروه إلا أهل السنة وبين غيرها فالأولى حجة دون الثانية وحكي هذا القول عن صاحب الرياض وعن الوحيد البهبهاني.

وهذه الشهرة التي يوجد على طبقها الخبر على قسمين : ـ

استنادية : وهي التي يستند المفتون في فتواهم إلى ذلك الخبر.

وتطابقية : وهي التي لا يستند المفتون في فتواهم إلى ذلك الخبر ولعل السر في اعتبار ضم الخبر هو التحرز عن مخالفة المشهور القائلين بعدم حجيتها حيث نزلوا كلام المشهور على الشهرة المجردة فالقول بالحجية

١٣٤

للشهرة المطابقة للخبر ليس فيه مخالفة للمشهور ، وقد يستدل على حجيتها بأدلة منها : ـ

أن العقل حاكم بان اتفاق جماعة من العلماء الأخيار المتبحرين يوجب العلم والاطمئنان الذي هو بمنزلة العلم بحصول مستند معتبر لديهم.

وجوابه : ـ إنا لو سلمنا ذلك فهو إنما يوجب الوثوق بحصول دليل صحيح أو أصل معتبر لديهم ولا يلزم أن يكون صحيحا أو معتبرا عندنا ، ومنها أن رأي المتبوع يستكشف من رأي تابعيه ، فإنا نستكشف رأي أبي حنيفة من آراء فقهاء الحنفية.

وجوابه : أن الاستكشاف لم يكن على سبيل القطع بل هو على سبيل الظن فنحتاج إلى الدليل عليه.

ومنها : أن أدلة حجية الخبر الواحد تدل على اعتبار الخبر من باب الظن فتدل بالفحوى ومفهوم الأولوية على حجية الشهرة لكون الظن الذي تفيده الشهرة أقوى مما يفيده الخبر مضافا إلى أن عموم التعليل في آية النبأ شامل للشهرة ضرورة أن المستفاد منه : أن كلما لا يوجب العمل به الوقوع في التنديم عند العقلاء يجوز العمل به.

ومن المعلوم أن العمل بالشهرة لا يوجب ذلك ودعوى اختصاصه بالخبر يدفعها أن العبرة بعموم التعليل لا بخصوصية المعلل بل لعل التعليل في الشهرة أقوى وأولى من الخبر.

ويرد عليه : أن أدلة حجية الخبر تدل عليه بخصوصه أفاد الظن أم لم يفد ولذا نقول بحجيته حتى لو قام الظن الشخصي على خلافه.

ولو سلمنا لم ينفع ذلك لوضوح الفرق بين الظن بالحكم الحاصل من أخبار العادل به عن الامام وبين الظن الحاصل من شهرة الفتوى به فإن الظن من جهة الشهرة ينتهي إلى الحدس والظن من الخبر

١٣٥

الواحد ينتهي إلى الحس ، وأما عموم التعليل في آية النبأ فهو إنما يقتضي الاعتماد على المفتين في أن فتواهم كانت مستندة لشيء معتبر عندهم من دليل أو أصل لا لقول الامام إذ لم يعلم بل يقطع بعدم مشافهتهم له ولا ريب أن ما كان معتبرا عندهم ليس بمعلوم اعتباره عندنا إلا إذا اطلعنا عليه بنفسه.

ومنها : ما في الرواية المشهورة عند الشيعة من قوله (ع) «خذ بما اشتهر بين أصحابك».

وفيه أن المراد به هو الأخذ بالرواية المشتهرة به ، ولا يعم الفتوى المشتهرة كما هو أوضح من أن يخفى لأن محط النظر في الرواية المذكورة هي الروايات المتعارضة وهي لا ربط لها بالفتوى وتوضيح ذلك أن الرواية ليس فيها ما يدل على العموم عدا كلمة الموصول والموصول عمومه تابع للعهد بصلته ولم يكن هنا عهد بالصلة بنحو العموم للشهرة في الفتوى حتى يقال بعموم الموصول لها ويدل على ذلك قول الراوي في هذه الرواية بعد الفقرة المذكورة «فقلت يا سيدي هما معا مشهوران مأثوران عنكم» لوضوح عدم إمكان تحقق الشهرة في الفتوى في حكمين متضادين.

ثم أن الشهرة في الفتوى وإن لم تكن حجة فهل توجب حجية الرواية المطابقة لها بان يفتي الكثرة بما يطابق مضمون الرواية الضعيفة من غير أن يستندوا في فتواهم إليها كما أفتى المشهور بنجاسة العصير العنبي إذا غلى واشتد من دون تمسكهم بالرواية الضعيفة المطابقة لهذه الفتوى وقد ذهب جماعة إلى حجية هذه الرواية بواسطة هذه الشهرة المطابقية والظاهر أنه كذلك لحصول الوثوق بصدورها.

وأما الشهرة في الفتوى الاستنادية بأن يفتي الكثرة بما يطابق مضمون

١٣٦

الرواية الضعيفة مع الاستناد في فتواهم الى تلك الرواية الضعيفة كما حكموا بالطواف بين البيت والمقام استنادا لرواية ضعيفة تدل على ذلك فقد ذهب الكثير إلى أن هذه الشهرة توجب حجية الرواية الضعيفة وهو الحق لحصول الثقة بصدورها. نعم الشهرة في الرواية التي هي عبارة عن كثرة نقلها ويقابلها الندرة والشذوذ في الرواية وهي عبارة عن عدم اشتهار روايتها ، وفي كتب الاخبار قد جعلوا بابا للنوادر يريدون به الاخبار التي لا مثيل لها في الدلالة على مطلبها أو كان ولكن قليل جدا ولا معارض لها ولا كلام في صحتها.

والشهرة من المرجحات للرواية في باب التعارض بمعنى أن الرواية إذا اشتهر نقلها بين الأصحاب ترجح على الرواية المعارضة لها إذا لم تكن بمثابتها في الشهرة وذلك لما في مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة الواردتين في مورد تعارض الروايات من أمره (ع) بالأخذ بما اشتهر بين الاصحاب كما أنها موجبة لحجية الرواية وإن كانت ضعيفة السند لكونها موجبة للوثوق بصدورها ولقوله (ع) فيما تقدم بالأخذ بما اشتهر بين الاصحاب لكن بشرط عدم إعراض الاصحاب عنها من جهة صدورها وإلا فذكرها والمناقشة في دلالتها وإعراضهم عنها من جهة دلالتها لا يوجب وهنها إذ لو لم تكن معتبرة الصدور لناقشوا في الصدور لا في الدلالة ، فان اعراضهم عنها مع كونها بمرأى منهم ومسمع يوجب وهنها وعدم الوثوق بصدورها أو ضعف دلالتها. وبهذا تعرف وجه ما ذكره القوم من أن الشهرة في الفتوى عند القدماء موجبة لضعف الرواية المخالفة لها وان كانت صحيحة بحيث توجب الشهرة خروج الرواية الصحيحة عن الحجية لعدم الوثوق إذ ذاك بصدورها.

١٣٧

المصدر التاسع عشر

اصل البراءة

التاسع عشر أصل البراءة من التكليف المشكوك وجوده وهو يثبت به نفي التكليف في مورد الشك فيه شكا غير مسبوق بالعلم بالحكم للواقعة ، وبعد الفحص عن حكمها بمقدار لا يوجب العسر والحرج وعدم الظفر به ، وهذا الدليل يسمى بأصالة البراءة وأصالة النفي والبراءة الأصلية كما لو شككنا في وجوب نصح المستشير فإن هذا الشك يثبت به عدم وجوب النصح المذكورة وكما لو شككنا في حرمة شرب التتن فإن هذا الشك يثبت به عدم حرمته خلافا لبعضهم كما هو المحكي عن معظم الاخباريين من القول بالاحتياط والدليل على أن الشك المذكور يثبت به عدم التكليف من الكتاب آيات منها : ـ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) بناء على إرادة التكليف من الموصول فواضح وهكذا بناء على أن المراد ما آتاها من القدرة عليه من العلم والمال حيث لا يصدق الاتيان عند عدم الدليل المعتبر علي التكليف الشرعي ولا ينافي عموم الموصول خصوصية المورد على أن الآيات القرآنية أحكامها مستقلة لأنها نزلت نجوما فلا يكون ما قبلها مقيدا لما بعدها أو بالعكس. ومنها قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) لأن النفس لا وسع لها قبل معرفتها للتكليف.

ودعوى أن لها الوسع بالاحتياط ينافي كون الآية في مقام الامتنان ولا ريب أن الاحتياط فيه ضيق لا وسعة.

١٣٨

وأما من السنة فأخبار كثيرة منها : النبوي المروي في الخصال بسند صحيح كما في التوحيد عن حريز عن أبي عبد الله (ع) قال : «قال رسول الله (ص) رفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطبقون وما اضطروا إليه والطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة».

والحديث ، عن التهذيب (وضع) مكان (رفع) والظاهر منه هو رفع التكليف الفعلي المنجز عن الشيء الذي لا يعلم حكمه بقرينة السياق فإن رفع الخطأ والنسيان في الحديث المذكور ليس المراد به عدم وقوع نفسهما في هذه الأمة قطعا لوجودهما فيها وجدانا فلا بد أن يكون المراد رفع التكليف المنجز عما وقع فيه الخطأ والنسيان كما هو مقتضى وروده في مقام المنة ممن هو مشرع.

والحاصل أن المراد به في جميع الفقرات هو رفع الشيء الذي اضطر إليه والشيء الذي وقع الخطأ فيه والشيء المضطر إليه والشيء المكره عليه ، وباعتبار أن الرفع إنما كان من الشارع بما هو شارع فيكون المراد رفع الحكم الالزامي المنجز بمعنى عدم العقاب على مخالفته ومقتضى هذا السياق يكون معنى رفع ما لا يعلمون باعتبار صدوره من الشارع هو رفع حكمه المنجز الالزامي بمعنى عدم العقاب على فعل شيء لا يعلم حكمه سواء كان عملا أو تركا.

ومنها الموثق الذي رواه الكليني (رض) في باب حجج الله على خلقه عن الصادق (ع) «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».

ومنها الخبر المشهور من قوله (ع) ، «الناس في سعة ما لا يعلمون». فإن (ما) إما ظرفية أي في سعة ما داموا لم يعلموا

١٣٩

أو موصولة مضاف إليها أي في سعة من الذي لا يعلمونه ، وكيف كان فهي تقتضي عدم الضيق الحاصل بالتكليف عند الجهل به.

ومنها ما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج في من تزوج امرأة في عدتها قال (ع) : «أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها» فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك الخبر فإنه يدل على أن الجهالة بالحرمة عذر في المخالفة.

وأما العقل فلحكمه بقبح العقاب بلا بيان ويشهد له حكم العقلاء بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل لم يبين له حكمه. ودعوى حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل فاسدة فإنه إن أريد به الضرر الدنيوي فالعقل غير حاكم بوجوبه ولذى ترى العقلاء يرتكبون أغلب الأشياء المحتمل ضررها الدنيوي بل يرتكبون المقطوعة الضرر الدنيوي ولو سلمنا وجوب دفعه عقلا كما عن الشيخ (رض) فالشرع قد جوز ارتكاب القطعي منه إذا لم يبلغ حد التهلكة. نعم يمكن أن يقال بأنه لو احتمل الضرر الدنيوي البالغ حد التهلكة كما لو احتمل السم فالعقل يمنع منه ولعل ارتكابه يكون من باب إلقاء النفس في التهلكة لأنه يكون بارتكابه للمشكوك السمية إقدام منه على التهلكة ، وإن أريد به الضرر الاخروي فحكم العقل يقبح العقاب يرفع احتمال الضرر الاخروي فيكون واردا عليه لأنه مزيل لموضوعه وهو احتمال الضرر الاخروي.

وبهذا ظهر لك أن القاعدة هي البراءة عن التكليف المشكوك في الواقعة سواء كان وجوبا أو تحريما وسواء كان من جهة فقد النص فيها كما في شرب التتن أو من جهة اجمال للنص فيها من جهة إجمال ما دل على الحكم الشرعي كالامر المردد بين الوجوب والاستحباب والنهي

١٤٠