مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة الآداب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

الخمر حرام لأنه مسكرا ولإسكاره وبين كون العلة المنصوصة لا بطريق الاضافة كما لو قال الشارع الخمر حرام للاسكار فعلى الأول ليس بحجه وعلى الثاني يكون حجه.

لكن المختار عندي هو حجية القياس المنصوص العلة مطلقا من غير تفصيل لفهم العرف من قوله الخمر حرام لكونه مسكرا أو للاسكار هو حرمة كل مسكر من دون فرق بين المثالين فالعرف يفهمون من التعليل المذكور ترتيب الشكل الأول وان التعليل بمنزلة كلية الكبرى فالمعنى بمقتضى فهم العرف أن الخمر مسكر وكل مسكر حرام فالخمر حرام وكذا الفرع مثلا النبيذ مسكر بالوجدان وكل مسكر حرام لقوله (ع) لأنه مسكر أو للاسكار فينتج النبيذ حرام فيكون القياس المنصوص العلة مطلقا حجة لحجية الظهور بدليل فهم العرف منه ان ذلك تمام العلة مطلقا.

ان قلت ان اضافة الإسكار إلى ضمير الخمر تفيد التقييد بالخمر فيكون العلة هو الإسكار المقيد بالخمرية لا مطلق الإسكار فلا يتعدى إلى اسكار غير الخمر لأن التعليل بالمقيد لا يوجب عليّة المطلق.

قلنا ان مرجع التعليل بشيء هو الاستدلال به بنفسه عليه فاذا قيل لا تأكل الرمان الحامض لأنه حامض أريد الاستدلال بالحموضة على حرمة أكله ولذا يقتنع به في مقام الخصومة والجدال ولو أريد به المقيد أعني حموضة الرمان خرج التعليل عن كونه استدلاليا ويكون من قبيل المصادرة وتعليل الشيء بنفسه اذ يرجع إلى قولنا لا تأكل الرمان الحامض لأنه رمان حامض وهو من السخافة بمكان.

إن قلت : سلمنا ذلك وان العلة هي المطلق لا المقيد ولا خصوصية للمورد في التعليل لكن لا نسلم انها هي العلة التامة فلعلها علة ناقصة

١٠١

من قبيل المقتضي.

قلنا ان ظاهر التعليل بشيء لآخر انه هو العلة التامة لذلك الآخر لأنه لو تخلف عنه في مورد لكان أما لاشتراطه بأمر غير موجود أو بعدم شيء كان موجودا وهو خلاف ظاهر التعليل لأن ظاهره ان المذكور وحده علة وخلاف ما يقتضيه الاقتصار عليه في مقام التعليل بل في الحقيقة يكون المذكور ليس بعلة وهو خلاف ما تقتضيه الحكمة من المتكلم وإما يلزم تخلف المعلول عن علته التامة.

ان قلت ان السيد المرتضى (ره) ذكر إن العلل الشرعية إنما تلبي عن الدواعي الى الفعل أو عن وجه المصلحة فيه. ولا ريب ان الشيئين قد يشتركان في صفة واحدة وتكون في احدهما داعية إلى فعله دون الأخرى وقد تدعوا الصفة للشيء في حال دون حال وعلى وجه دون وجه وقدر منه دون قدر وقد تكون مثل المصلحة مفسده تمنع من تأثير المصلحة في الفعل ولهذا جاز ان يعطي لوجه الإحسان فقير دون فقير ودرهم دون درهم وحال دون حال وإن كان فيما لم يفعله الوجه الذي لأجله فعل الآخر ثم ذكر (ره) انه إذا صحت هذه الجملة لم يكن في النص على العلة ما يوجب القياس وجرى النص على العلة مجرى النص على الحكم في قصره على مورده وليس لأحد أن يقول إن ذكر العلة يكون عبثا لانا نقول انه يفيد ما لم نكن نعلمه لولاه وهو ما كان لهذا الفعل المعين من المصلحة.

قلنا : ـ الظاهر من كلامه (ره) ان العلل الشرعية ليست بعلل تامة اذ لعله تكون من المقتضيات فيجب الاقتصار على موردها لكنك قد عرفت ان التعليل بالشيء ظاهر في كونه علة تامة والظهور هو الحجة. نعم لو قام على التعليل ما لا ظهور له في ذلك كالادلة

١٠٢

اللبية مثل الاجماع أو اللفظية المجملة وجب الاقتصار على موردها.

ان قلت : ان المعروف بين الفقهاء ان علل الشرع معرفات لا علل حقيقية فهي يجوز انفكاكها عن معلولها لأن الشيء قد يكون معرفا لعدة أشياء كالظلمة فانها معرفة لوجوب صلاة المغرب ولجواز الإفطار.

قلنا : العلل الشرعية على قسمين : ـ

احدهما : ما يكون الشارع قد بيّنها بلسان انها اسباب لأحكام خاصة كالزوال لوجوب الصلاة والعقود والايقاعات للنقل والانتقال والزوجية والطلاق والحدث للطهارة ونحو ذلك فانها تكون معرفات وعلامات للاحكام المرتبة عليها شرعا وليست بعلل حقيقية للأحكام المرتبة عليها.

ثانيهما : ما يكون الشارع قد بيّنها بلسان انها هي الموجبة للتشريع للحكم وانها هي المنشأ لجعل الحكم وان مطلوبية الفعل أو مبغوضيته مستندة اليها كالإسكار في الخمر فمراد الفقهاء بكون العلل معرفات هو القسم الأول لا الثاني فان ما يكون من قبيل القسم الثاني ظاهر في كونه علة تامة لمحبوبية الشارع للعمل أو مبغوضيته له. ولا ريب في سريان المحبوبية بسريان علتها التامة. نعم لو شك في كون العلة من أي القسمين كان اللفظ مجمل فلا يسري الحكم بسريان تلك العلة.

الثالث : هو القياس بطريق أولى وتعريفه ان يقال هو اجراء الحكم الثابت في الاصل للفرع لكون علة الحكم في الفرع آكد وأشد وأقوى كقوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) حيث يدل على حرمة ضربهما وشتمها بطريق أولى فإن علة حرمة التأفيف كف الأذى عن الوالدين ولا شك أن ذلك آكد وأقوي في الفرع وهو الضرب والشتم وهذا

١٠٣

القسم من القياس على نوعين : ـ

الاول : أن يكون الأولوية مستفاد من اللفظ بأن يكون كلام المتكلم منساقا للترقي من الأدنى الى الاعلى كالآية الشريفة المذكورة فانها منساقة للترقي من الأدنى وهو حرمة التأفيف إلى الأقوى وهو حرمة الضرب ، وكآية القنطار ، وهذا القسم من القياس بطريق أولى حجة لأن الأولوية فيه مستفادة من اللفظ عرفا فيكون للفظ ظهور في ذلك والظهور حجة وإن كانت الدلالة ظنية وهذا القسم هو المسمى بفحوى الخطاب ولحن الخطاب ومفهوم الموافقة.

الثاني : هو أن يستفاد الأولوية من العقل لا من اللفظ كما اذ سئل منه الامام (ع) عن رجل تزوج امرأة في العدة الرجعية فهل تحرم عليه فقال (ع) «إنها محرمة عليه أبدا».

فيستفاد منه عقلا أن العقد على ذات البعل أيضا سبب لتحريم الأبدي بطريق أولى لأن المطلقة الرجعية في حكم الزوجة فاذا ثبت أن العقد عليها في العدة يوجب التحريم الأبدي مع وجود الطلاق فبالطريق الأولى يكون العقد موجبا للتحريم الأبدي مع عدم الطلاق. وهذا القسم من القياس بطريق الأولوية على قسمين : ـ

أولوية قطعية : ـ وهو مما لا ريب في حجيتها لكون القطع حجة بنفسه.

وأولوية عقلية ظنية : ـ وقد وقع الخلاف في حجيتها على قولين : ـ

فقيل : بعدم حجيتها كما عن المحقق الثالث (ره).

وقول : بحجيتها كما هو مختار بعض المحققين ، وللقول الاول أدلة أربعة : ـ

١٠٤

الأول : الأصل فإن الأصل الأصيل حرمة العمل بالظن.

الثانى : الشهرة العظيمة إذ المشهور على عدم حجية الأولوية الظنية.

الثالث : إطلاق الأخبار الدالة على حرمة العمل بالقياس مطلقا وخصوص الأخبار الخاصة الواردة في الأولوية الظنية الدالة على عدم اعتبارها منها ما روي من قوله (ع) لأبي حنيفة ، «لو كان هذا الدين يؤخذ بالقياس لوجب على الحائض أن تقضي الصلاة لأنها أفضل من الصوم». وكذا قوله (ع) له «القتل أعظم أم الزنا فقال : القتل فقال (ع) : ما مضمونه أن الله تعالى رضا في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلا بأربع وعلى قياسك أن يكون الأمر بالعكس».

وكذا قوله (ع) له «البول أقذر أم المني فقال : البول فقال (عليه‌السلام) ما يقرب ذلك أن يلزم على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني مع أنه تعالى أوجب الغسل من المني دون البول».

ان قلت : أنه يدل على عدم حجية الأولوية مطلقا القطعية والظنية ما رواه الصدوق وثقة الاسلام في باب ديات الأطراف عن أبان بن تغلب قال : «قلت لأبي عبد الله (ع) ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها قال عشرة من الإبل قلت ، قطع اثنين قال : عشرون قلت : قطع ثلاثا قال ، ثلاثون قلت : قطع أربعا قال : عشرون. قلت : سبحان الله بقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ويقطع اربعة فيكون عليه عشرون إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنتبرأ ممن قاله ونقول إن الذي قاله شيطان فقال (ع) مهلا يا أبان هذا حكم رسول الله (ص) إن المرأة تعاقل الرجل ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى

١٠٥

النصف يا أبان إنك أخذتني بالقياس ، والسنة إذا قيست محق الدين» فإن في هذه الرواية قياسين : ـ

أحدهما : القياس المساوي وهو أن دية قطع أربعة من أصابع المرأة أربعون من الإبل وذلك لأن الواحد كان ديته عشرة والاثنين عشرون والثلاث ثلاثون فيكون دية الأربعة أربعين أو ديته مطلق ما يزيد على ثلاثين كما هو قضية القياس المساوي.

وثانيهما هو القياس بطريق أولى : ـ وهو إنه إذا كان دية الثلاث ثلاثين لا يكون دية الأربع أقل من ثلاثين بطريق أولى ثم أن وجه. الاستدلال بالرواية أن أبان عمل بالأولوية القطعية في القياس بطريق أولى كما يشهد عليه إصرار أبان ومبالغته في الانكار حيث قال سبحان الله بتعجب ثم قال إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنتبرأ ممن قاله ونقول إن قائله شيطان ولا شك أن تبرأه ممن قال ذلك والحكم بأنه شيطان يدل على أنه كان قاطعا بأن دية الاربع ليس أقل من دية الثلاث ويشهد عليه الوجدان فإنك لو خليت وطبعك ورجعت إلى وجدانك إذا لم يكن مسبوقا بالشبهة ولم تر هذه الرواية أو نظائرها قطعت بأن دية قطع الاربع ليس أقل من دية قطع الثلاث وعلمت أن أبان كان قاطعا بذلك والإمام (ع) نهاه عن العمل بالاولوية القطعية فإذا لم تكن الاولوية القطعية حجة لا تكون الاولوية الظنية حجة بطريق أولى كما لا يخفى.

لا يقال إن تعجب أبان إنما هو للتأسف وإظهار الندامة على ما فعله في العراق من التبرؤ من قائل ذلك والحكم بأنه شيطان لأنا نقول صرح أبان بوجه التعجب حيث قال سبحان الله يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ويقطع أربعا وعليه عشرون فلا معنى للتأويل المذكور في

١٠٦

وجه التعجب.

لا يقال : إن عتاب الامام (ع) بالنسبة إلى أبان ليس لأنه عمل بالقياس بطريق أولى وهو نهاه عن العمل به بل لأحد الأمرين :

الأول : أن قوله (ع) أخذتني بالقياس معناه إنك يا بان مع دنو رتبتك مني وانحطاط شأنك عني لست أقابلها بالمجادلة بالقياس لا أن القياس غير قابل لأن يجادل به.

الثاني : معنى قوله (ع) أخذتني أنه وإن كنت رجلا جليلا القدر ، إلا أنه لا ينبغي منك أن تجادل معي مع اني معصوم عالم بعلوم الأولين والآخرين.

لانا نقول قوله (ع) والسنة إذا قيست محق الدين يدفع كلّا من الاحتمالين ويعين الاحتمال الاول الذي تعنيه وهو أنه (ع) نهاه عن العمل بالقياس من حيث أنه قياس كائنا ما كان لأن قوله (ع) والسنة إذا قيست محق الدين الذي هو بمنزلة كلية الكبرى ظاهر في نفي حجية القياس من حيث هو قياس.

والجواب إن هذه الرواية مشتركة الورود لأنه تنفي حجية مطلق المستقلات العقلية والقطعيات العقلية وذلك لأنها تنفي حجية الاولوية القطعية ونفي حجية الاولوية القطعية تنفي حجية المستقلات العقلية لكون المدرك هو حكم العقل القطعي.

ودعوى الفرق بينها تحكم بحث لأن العقل إذا حصل له القطع يحكم على طبق قطعه سواء كان قطعه تفصيلا أم إجمالا فالتحقيق أن يقال أنها بصريحها وإلا فبظاهرها تدل على عدم حجية الأولوية العقلية بل وسائر المستقلات العقلية مع وجود النص الصريح القطعي الدلالة والسند والحق كذلك لأن النص من المعصوم اقوى دلالة على الحكم

١٠٧

الشرعي من العقل فإن العقل في الأمور الشرعية التعبدية قطعه يكون موجودا ما لم يظفر بنص أو دليل أقوى منه كما هو الشأن في سائر الادلة العقلية في تشخيص أحكام الموالي ولا ريب إن النص المقطوع السند والمتن من نفس الشارع أقوى دلالة على الحكم الشرعي من دليل العقل حيث لم يحصل به القطع مع وجود النص الشرعي المقطوع الدلالة والسند لا أنه مع حصول القطع به لا يعمل به. وبعبارة أخرى ان الدليل القطعي يجوز ان يكون الواقع على خلافه فاذا ظهر الواقع تزول الاستفادة منه وتذهب القطعية بالواقع منه.

والمقام من هذا القبيل حيث ان الامام (ع) أظهر له الواقع لإزالة القطعية من هذا الدليل كما هو الحال في سائر الأدلة القطعية كالتى تقام على وجود الله وصفاته ونبوة انبيائه وخلافة أوصيائه في مقابل المنكرين لها.

١٠٨

المصدر السادس

الاستحسان

الاستحسان : قد يفسر بالدليل في مقابل القياس الجلي أعني القياس الذي تسبق اليه الافهام ، فإن الدليل الذي يعارض هذا القياس الجلي ويكون أقوى منه يسمى بالاستحسان سواء كان نصا من الكتاب أو السنة أو إجماعا أو قياسا خفيا أقوى من ذلك القياس الجلي وهكذا الرجوع للدليل المخصص أو المقيد لقاعدة كلية يعد من الاستحسان كالرجوع لقاعدة الحرج والضرر وبهذا تعرف أن الاستحسان يرجع للأدلة الاربعة المتقدمة. وقد تمسك به الاحناف والمالكية والحنابلة وهو بهذا المعنى لا ريب في صحته إذا كان يرجع فيه للدليل الصحيح الموجود في الواقعة الذي هو أقوى من غيره وقد يفسر الاستحسان بترك القياس والاخذ بما هو أوفق للناس أو بطلب السهولة في الاحكام فيما يبتلي به الأنام أو الاخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الرحمة ، ولا ريب في بطلان الاستحسان بهذه المعاني فإنه لا دليل على صحته ويلزم منه التلاعب بالاحكام الشرعية والقوانين الالهية واعطاء الناس رغباتهم في الاطاعة والامتثال وفي ذلك فساد عظيم وشر جسيم. وإلى هذا الاستحسان بهذا المعنى تشير الاخبار الدالة على أن دين الله لا يصاب بالعقول.

وعن الشافعي انه قال : «من استحسن فقد شرع» والاصح والذي هو محط نظر الفقهاء إن مرادهم بالاستحسان انه ما يستحسنه المجتهد بطبيعته وعادته وسليقته وذوقه من دون دليل شرعي معتبر

١٠٩

ولعله هو المعتر عنه بشم الفقاهة وهو ليس بحجة عندنا لاجماع الامامية على بطلانه وإنه يرجع للعمل بالرأي الذي دلت الاخبار على بطلانه والنهي عنه وقد يستدل على صحة الاستحسان بما روي عن رسول الله (ص) «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» ويرده بأنا لو سلمنا صحتها فهي دليل على حجية الاجماع نظير قوله (ص) «لا تجتمع أمتي علي الخطأ» لأن الظاهر بقرينة إن (المسلمون) في الرواية جمع محلى باللام هو إرادة جميعهم بنحو الاستغراق. المجموعي. ودعوى أن المراد به الاستغراق الافرادي نظير «إن جاءك العلماء فأكرمهم» حيث يدل على وجوب الاكرام ولو بمجيء واحد منهم فكذا ما نحن فيه فيكون دليلا على حجية ما يستحسنه الفقيه الواحد فاسدة إذ يلزم عليها التخصيص بالأكثر لأن المسلمين فيهم العوام والفساق فلا يعقل إن استحسان كل واحد منهم يوجب استحسان الله تعالى ولو سلمنا ذلك فالرواية محتملة لمعنيين الاستغراق المجموعي والاستغراق الافرادي والدليل متى تطرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.

١١٠

المصدر السابع

المصالح المرسلة

المصالح المرسلة : في السنة تسمى عند المالكية ويسميه الغزالي بالاستصلاح والاصوليون بالمناسب المرسل الملائم وهو وجود المصالح التي يريدها الشارع ، وقد حصرها علماء الاصول في خمسة حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال في واقعة لم يقم على حكمها دليل فإنه يستفاد من ذلك حكم الشارع بمقتضى تلك المصلحة ومرادهم بالمصلحة هو ما به الصلاح والنفع وليس مرادهم بها اللذة وإلّا فقد يكون باللذة المفسدة والضرر كشرب الخمر وبعضهم عمم المصلحة للمنفعة ودفع المفسدة فجعل دفع المفسدة من المصلحة ، وأرادوا بالمفسدة المضرة لا الألم وإلا فقد يكون بالألم النفع كقلع السن وشرب الدواء.

وسميت بالمرسلة لأنها مطلقة غير مقيدة في لسان الشارع بنوع خاص من الوقائع ولا بوجه عام وعنوان عام من الوقائع وإنما عرفت واستنتجها العقل من أهداف الشريعة ومقاصدها ومصب عموماتها وما ترمي إليه من قواعدها كالأمور الخمسة المتقدمة ولهذا لو كانت المصلحة مما نص عليها الشارع. بخصوصها في نوع خاص من الوقائع كالمنع من سب الأصنام أمام عبدتها لأجل أن لا يسبوا الله تعالى فتسرية الحكم بواسطتها ليس من الاستصلاح والمصالح المرسلة بل هو من القياس وهكذا لورود النص بوجه عام من المصالح كالأمر باجتناب الخبائث فتسرية

١١١

الحكم لما كان فردا من الخبائث كالدخان ليس من باب المصالح المرسلة وإنما هو من باب التمسك بالعام في أحد مصاديقه وبهذا يظهر لك أن التمسك بنفي الحرج والضرر في مورد الضرر والحرج ليس من باب المصالح المرسلة وإنما هو من باب التمسك بالعام في أحد مصاديقه وهكذا التمسك بالأمر بالاحسان والعدل لقوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) في مورد الإحسان والعدل ليس من الاستصلاح والمصالح المرسلة وإنما هو من التمسك بالعام في أحد مصاديقه.

وبعضهم قسّم المصالح إلى مصالح ثلاث : ـ

الأولى : ـ المصلحة المعتبرة سواء كانت منفعة أو دفع مفسدة ومضرة وهي التي شرع الشارع أحكاما لتحققها ودل الدليل على أنه قصدها عند تشريعه وهذه لا إشكال في وجود الحكم عند وجودها وتبعيته لها وتسمى بملاك الحكم ومناطه وقد قسموا هذا النوع من المصلحة إلى ثلاثة أقسام :

الأول : ـ ما كانت ضرورية لا بد منها. بحيث إذا لم تنفذ فسد الاجتماع واختل نظام الحياة وحدث الهرج والمرج وهو خمسة حفظ الدين والنفس والمال والنسل والعقل فإن الشارع قد شرع أحكاما لحفظها ودفع ما يفسدها كالجهاد وحرمه الالقاء في التهلكة وحرمة الغصب وحلية النكاح وحرمة الزنا وحرمة شرب الخمر ، ومن ذلك قتل الكافر المضل فإن المصلحة في قتله هي دفع مفسدته بالإضلال للغير.

الثاني : ـ ما كانت حاجية وهي التي يحتاج الناس اليها من حيث التوسعة ودفع الضرر والعسر والحرج كالإباحة لبعض المحضورات في بعض المناسبات وكالرخصة لترك بعض العبادات في بعض الاحوال كالصلاة من جلوس للعاجز وكالافطار للصوم للضرر وإباحة الطيبات

١١٢

من المأكولات والمشروبات واباحة المعاملات كالبيع والاجارة والمصالحة ورفع الحرج والضرر.

الثالث : ـ تحسينية وهي التي ترجع لمكارم الأخلاق وتهذيب النفوس كالأمر بالتستر والضيافة والشجاعة والكرم وآداب الطعام والشراب وحسن الجوار ونحوها ، وهذه المصلحة المعتبرة بأنواعها الثلاثة هي المصلحة التي لو أدركها العقل لحكم على طبق الشرع ، ومن هذا الباب ذكر الفقهاء المستقلات العقلية فان المراد بها هي الأحكام الشرعية التي بحكم العقل بها لو لم يطلع العقل على نص من الشارع عليها إذا أدرك هذه المصلحة بأحد أنواعها الثلاثة في الواقعة ، وقد عرفت أن مرادهم بالمصلحة أعم من جلب المنفعة الموجودة فيها التي تقتضي إرادتها أو دفع المفسدة الموجودة فيها التي تقتضي عدم إرادتها وهي محط البحث في التحسين والتقبيح العقليين. الثانية المصلحة الملغاة وهي المصالح التي ألغاها الشارع كمساواة المرأة للرجل في الإرث وهذه لا خلاف بين العلماء في عدم وجود الحكم بوجودها.

الثالثة : المصلحة المرسلة وهي التي لم يعلم من الشارع أنه ألغاها أو اعتبرها ولكن العقل أدركها من عمومات الشريعة واستنتجها من قواعدها وأهدافها كإيذاء المتهم بالسرقة للاعتراف بها فإنه لم يقم دليل عليه إلا من باب المصالح المرسلة وهي محل الكلام. وكيف كان فهذا الدليل يرجع لحكم العقل بالاستلزام لإدراكه لهذه المصلحة من القواعد والعمومات الشرعية ، وقد اعتمد على هذا الدليل المالكية والحنبلية والمحكى عن الآمدي منع الشافعية والحنفية من التمسك به وعن الخوارج التمسك به ما دام لم يصادم نصا ولا إجماعا ومنع من العمل به الشيعة والظاهريون معللين ذلك بأن فتح هذا الباب معرض لاستغلاق

١١٣

أهل الأهواء وذوي النفوذ والسلطان ويمكن أن يقال في ردهم أن الاحكام لما كانت تابعة للمصالح والمفاسد ودائرة مدارها لكون الشرع إنما جاء لسعادة البشرية لا لشقائها ومعالجة مشكلات الحياة ومسالكها كان للعقل مجال لمعرفة الحكم الشرعي إذا أدرك المصلحة والمفسدة من دون توقف على النص الشرعي وبهذا الاعتبار نقول : إن الحكم الشرعي تابع لعلته وجودا وعدما من جهة اشتمال علته على المصلحة والمفسدة والقائلون بالتحسين والتقبيح العقليين لا بد لهم من الالتزام بذلك إذا أدرك العقل المصلحة القائمة في العمل الموجبة لحسنه العقلي للملازمة بين الحسن العقلي والحسن الشرعي الموجب للحكم عليه.

اختلاف الاحكام باختلاف المصالح والمفاسد :

ولما ذكرناه وقع النزاع في تغيير الاحكام وتبدلها تبعا لتبدل المصالح والمنافع وتغيرها وإن خالفت النص والاجماع لأن عدم التبدل يوجب الضرر والحرج والشريعة الإسلامية تأباه لأنها قد جاءت لكل زمان ومكان ما دام الدهر فلا بد أن تساير شئون للناس ومصالحهم وذلك لا يكون إلا إذا التزمنا بتبعية الاحكام للمصلحة ويؤيد ذلك وقوع النسخ في الشريعة والتدرج في بلاغ أحكامها فإنه لا يكون ذلك إلا لمراعاة مصلحة المكلفين وإن ذلك ليس تقديما للمصلحة على النص وإنما هو تفسير وتقييد للنص بحكم العقل فإنه نظير ما لو قال : اقتل الاعداء فإن العقل يقيده بغير الذي فيه مصلحة في بقائه لعدم قيامه بالضرر والفساد ، فمثلا الاضاحي كانت لا تخرج من منى لقلة الحجيج أما اليوم بعد كثرتهم وزيادتهم زيادة أوجب الفساد والضرر في بقائها فالحكم يتغير ويوجب إخراج ما فضل منها أو ذبحه في خارجها ،

١١٤

وهكذا الطواف حول البيت فقد كان بين البيت والمقام أما اليوم لما كثر الزحام بحيث يفقد الإنسان الاطمئنان والتوجه في هذه العبادة فالمصلحة تقتضي تبدل هذا الحكم إلى الطواف في البيت خارج المقام وقد يجاب عن ذلك إن هذا منافي لما روى من حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام ليوم القيامة وفي ذلك فتح للتلاعب بالاحكام الشرعية وتأثرها بالاهواء والشهوات ومراعاة ذوي النفوذ والسلطان ويكون الافتاء بحسب الهوى لا بحسب الحجة العليا.

ويمكن الجواب عن الرواية المتقدمة بأنه مع تغير المصلحة يكون حلال محمد (ص) وحرامه هو خصوص ما فيه المصلحة وما عداه ليس بحرام لمحمد (ص) ولا يشمله دليل الحرمة والمقيد له هو حكم العقل بارادة الشارع لحرمته المستكشفة هذه الارادة بحكم العقل بوجوب متابعة المصلحة والفرض إن مصلحة الحرمة موجودة ويؤيد ذلك ويؤكده ما ورد في القرآن الشريف وسنة النبي الكريم من تعليل بعض الاحكام الشرعية بالمصالح والمفاسد ، وقد ألف الصدوق كتابه علل الشرائع تضمن هذا الأمر والحق في المقام إن ذلك أوجب القطع بكون العلة التامة هي المصلحة الكذائية أو المفسدة الكذائية سرى الحكم بسريانها وإلا فلا ، لعدم الدليل على اعتبار الظن المذكور.

١١٥

المصدر الثامن

سد الذرائع وفتحها

الثامن سد الذرائع وفتحها : ـ والمراد بهذا الدليل هو ما يتوصل به ويكون ذريعة ووسيلة لشيء معلوم الحكم فانه يكون تابعا لما يتوصل به إليه في الحكم فإذا حرم الشارع شيئا وله طرق ووسائل تفضي اليه وتوصل له ولو بنحو الاغلب تكون تلك الوسائل والذرائع محرمة عند الشارع ومنسدة عنده تحقيقا لحرمة ذلك الشيء وتثبيتا لحرمته إذ أن إباحتها من الشارع نقضا لتحريمه لذلك الشيء وإغراء للنفوس بفعله وهو خلاف عدله تعالى وحكمته وهكذا ذرائع الواجبات وهي الوسائل والمقدمات التي تفضي إليها في الاغلب تكون واجبة عند الشارع ومفتوح فعلها وهكذا ذرائع المستحبات والمكروهات فانها تابعة لما هي ذريعة له في الحكم الشرعي فمقدمات الحرام ووسائله الموصلة له ولو في الغالب قد ذهب قسم من الفقهاء إلى سدها وقالوا بحرمتها وعبروا عنه بسد الذرائع ، ومقدمات الواجبات ووسائلها الموصلة لها في الغالب قد ذهب قسم من الفقهاء إلى فتحها وقالوا بوجوبها وسموه بفتح الذرائع ولكن القوم ركزوا البحث عن خصوص ذرائع المحرمات لاكتفائهم عن البحث في ذرائع غيرها بمبحث مقدمة الواجب وأنت خبير بأن هذا البحث يرجع للدليل العقلي الاستلزامي.

والحاصل إن موارد الاحكام نوعان :

الأول : ما كانت محطا للحكم بالذات ومطلوبة فعلها أو تركها

١١٦

بالذات وهي ما كانت المصلحة أو المفسدة قائمة في ذاتها.

الثاني : ما كانت ذريعه ووسيلة مفضية ومؤدية لما فيه المصلحة أو المفسدة فالذريعة والوسيلة تأخذ حكم ما يترتب عليها والفقهاء الأربعة يأخذون بأصل الذرائع بمعنى أنهم يعطون الوسيلة حكم الغاية إذا انحصر الطريق بها وبعضهم لا يشترط الانحصار فالنظر إلى عورة الاجنبية حرام لأنه يؤدى إلى المفسدة وهي الزنا وقالوا إن من هذا القبيل ضرب المرأة رجلها للاعلام بزينتها لأنه وسيلة للافتتان بها ولذا قال تعالى : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) ومن هذا القبيل قوله (ص) (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ) فإن السب للأصنام ونحوها كان ذريعة ووسيلة قد تقضي لسب الله تعالى وينسب القول بسد الذرائع وفتحها لمالك وأحمد وغيرهم وينسب المنع للظاهرية وغيرهم وقد حققنا الكلام في ذلك في مبحث المقدمة للواجب.

١١٧

المصدر التاسع

العرف والعادة

وهو ما تعارف واعتاد بين الناس فعله أو تركه أو قوله وهو المسمى بالعادة العامة ويسمى بالسيرة مع عدم ردع الشارع عنه.

وذكروا إن العرف والعادة قد تكون لفظية وهي ما كانت في اللفظ كاستعمالهم لفظ الولد في الذكر مع إنه ليشمل الذكر والانثى ، وهكذا لفظ الدابة فإن العرف إنما استعملها في خصوص ذات القوائم مع إنها موضوعة لكل ما يدب على الارض.

وقد تكون عملية وهي ما اعتاد عمل الناس عليه في حياتهم وكان متعارفا في تصرفاتهم ومعاملاتهم وأفعالهم كما تعارفوا على بيع المعاطاة وكما تعارفوا على السبح في الحمامات والجلوس في المقاهي بأجور معينة من دون تحديد لزمن البقاء وقد يكون العرف والعادة عند بلد خاص كما تعارف في العراق إن البرتقال يباع بالعدد فيكون من المعدود دون الليمون الحلو فإنه من الموزون ومن المعلوم إن هذا الدليل إن كان لمعرفة الحكم الشرعي كصحة بيع المعاطاة فهو يرجع للسنة لأن منها تقرير المعصوم فبيع المعاطاة كان في زمن المعصوم وهو لم يردع عنه وإن كان لمعرفة الموضوع كاستعمال لفظ الولد في الوصية فهو يرجع لتشخيص المعنى المراد منه ولا ريب إن العرف يوجب انعقاد الظهور للفظ في ما يستعمله فيه ، وهكذا في كون الشيء مكيلا أو موزونا فإنه يرجع للعرف في تشخيص موضوعات الاحكام وتحققها.

١١٨

والحاصل إن العرف والعادة تارة يستدل بها على الحكم الشرعي وهذا يقتضي ثبوتها في زمن المعصوم مع عدم ردعه عنها وتمكنه من الردع وتارة يستدل بها على تشخيص الموضوع للحكم الشرعي وهذا أيضا صحيح لأن الاحكام الشرعية يرجع في موضوعاتها للعرف وفهمه لأنهم هم المخاطبون بها.

نعم يقع الاشكال فيما لو كان التعارف والعادة في مثل ما لو كان قيمة السبح في الحمام أو الجلوس في المقهى خمسين فلسا فلما سبح أو جلس في المقهى طلب منه صاحبهما اكثر من ذلك فهل يرجع للعرف باعتبار أنهما الطرفان للمعاملة حيث لم يظهر منهما خلاف المتعارف يكون البناء منهما على المتعارف أو يعطي ما طلب منه باعتبار أن الناس مسلطون على أموالهم وهكذا لو خاط عنده ثوب وكان المتعارف والعادة قيمة الخياطة دينارا فطلب منه الخياط بعد الخياطة أكثر من ذلك وهكذا لو كان المتعارف ضريبة الملك على المالك فبعد الاجارة أو البيع امتنع المالك عن ادائها ولذلك أمثلة كثيرة في المعاملات والتصرفات.

١١٩

المصدر العاشر

التلازم القطعي

العاشر التلازم القطعي الثابت من الشرع بين أمرين مثل قوله (ص) «كلما قصرت أفطرت». فإذا ثبت التقصير في مورد ثبت الإفطار فيه وهذا يرجع للسنة لثبوت التلازم بواسطتها وإن أرجعه بعضهم لدليل العقل باعتبار انضمام حكم العقل اليه من امتناع انفكاك المتلازمين وكيف كان فهو لا يخرج عن دليلي العقل والسنة.

١٢٠