حقائق الأصول - ج ٢

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

حقائق الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت (ع) للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

فصل

لا إشكال في تعيين الأظهر لو كان في البين إذا كان التعارض بين الاثنين وأما إذ كان بين الزائد عليهما فتعينه ربما لا يخلو عن خفاء ، ولذا وقع بعض الاعلام في اشتباه وخطأ حيث توهم أنه إذا كان هناك عام وخصوصات وقد خصص ببعضها كان اللازم ملاحظة النسبة بينه وبين سائر الخصوصات بعد تخصيصه به فربما تنقلب النسبة إلى عموم وخصوص من وجه فلا بد من رعاية هذه النسبة وتقديم الراجح منه ومنها أو التخيير بينه وبينها لو لم يكن هناك راجح لا تقديمها عليه إلا إذا كانت النسبة بعده على حالها (وفيه) ان النسبة انما هي بملاحظة الظهورات وتخصيص العام بمخصص منفصل ولو كان قطعياً لا ينثلم به ظهوره وان انثلم به حجيته ولذلك يكون بعد التخصيص حجة في الباقي لأصالة عمومه بالنسبة إليه (لا يقال) : إن العام بعد تخصيصه بالقطعي.

______________________________________________________

لشريعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) (قوله : على حالها) أي نسبة الخاصّ إلى العام المطلق (٢) (قوله : وفيه أن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات) اعلم أنه إذا ورد عام وخاصان مثلا وكان أحد الخاصّين قطعيا أو مقدما رتبة على الخاصّ الآخر فخصص العام به ، فقد يقال : إن تخصيص العام به يوجب انقلاب النسبة بين العام والخاصّ الآخر ، لأن النسبة حينئذ إنما تلحظ بين الباقي بعد التخصيص والخاصّ الآخر ، ولا تلحظ بين نفس العام بفرض عدم تخصيصه وبين الآخر ، ومبنى هذا القول هو ما أشرنا إليه سابقاً من أن القرائن المنفصلة موجبة لانقلاب الظهور وانعقاده بما يوافقها ، فالخاص المنفصل كالخاص المتصل في كونه موجباً لانعقاد ظهور العام في الباقي بلا فرق بينهما ويتفرع على ذلك أمور (منها) ما هو محل الكلام ، مثلا إذا ورد أكرم العلماء ، ثم ورد لا تكرم الفساق ، وورد أيضا لا تكرم النحاة ، فان كلا من الأخيرين وان كان أخص مطلقا من (لا تكرم العلماء) لكن بعد تخصيصه ب (لا تكرم

٥٨١

لا يكون مستعملا في العموم قطعاً فكيف يكون ظاهراً فيه (فانه يقال) : إن

______________________________________________________

الفساق) يكون الباقي بينه وبين (لا تكرم النحاة) عموم من وجه (ومنها) ما لو ورد أكرم العلماء ، ثم ورد يحرم إكرام الفساق ، ثم ورد يكره إكرام الجهلاء الفساق ، فان الأخير أخص مطلقا من الثاني ، وبين الثاني والأول عموم من وجه ، وبعد تخصيص الثاني بالأخير تنقلب النسبة بينه وبين الأول إلى العموم المطلق ، فعلى المبنى المذكور تلحظ النسبة بعد التخصيص في المقامين ويعمل فيها على حسب القواعد ، وحيث عرفت أن المبنى المذكور خلاف مبنى العرف كان اللازم ملاحظة النسبة قبل التخصيص والعمل عليها ، ففي الأول إن أمكن تخصيص العام بالخصوصات أجمع وجب وإن امتنع من أجل لزوم محذور التخصيص المستغرق أو تخصيص الأكثر المستهجن بحيث لزم من التخصيص طرح العام في نظر العرف ولم يكن من الجمع العرفي بين الكلامين ، كان العام مع الخصوصات من قبيل المتعارضين ، فان أخذ بالخصوصات وجب طرح العام بالكلية حتى بالمقدار الزائد عليها الباقي بعد التخصيص لو فرض ، ولا يجوز الأخذ بذلك المقدار لفرض التعارض وسقوط العام عن الحجية رأساً ، وإن أخذ بالعامّ وجب طرح الخصوصات في الجملة وحينئذ يرجع إلى قواعد التعارض من التخيير مع عدم المرجح والترجيح معه ، (وإن شئت) قلت : يمتنع العمل بالعامّ والخصوصات ، بل يدور الأمر بين الأخذ بالخصوصات وطرح العام وبين أخذ العام مع أحد الخصوصات ، لعدم التنافي بعد تحقق الجمع العرفي بينه وبين واحد منها ، وحينئذ فان وجب الأخذ بأحد الخصوصات لكونه قطعيا دار الأمر بين الأخذ بالعامّ والأخذ بالخاص الآخر فيعمل قواعد التعارض بينهما ، فان كان مع أحدهما مرجح تعين الأخذ به ، وإلا تخير ، وان لم يتعين الأخذ بأحد الخصوصيات تخير مع عدم المرجح بين الأخذ بالخصوصات وطرح العام والأخذ بالعامّ مع أحدهما وإسقاط الآخر ، ويتخير أيضا بين الخاصّين ، وان كان مرجح يقتضي الأخذ بواحد من الوجوه الثلاثة تعين الأخذ بالراجح (١) (قوله : لا يكون مستعملا في العموم) قد يقال بان الاستعمال وعدمه ليس ميزان الظهور ، لأن

٥٨٢

المعلوم عدم إرادة العموم لا عدم استعماله فيه لإفادة القاعدة الكلية فيعمل بعمومها ما لم يعلم بتخصيصها وإلّا لم يكن وجه في حجيته في تمام الباقي لجواز استعماله حينئذ فيه وفي غيره من المراتب التي يجوز ان ينتهي إليها التخصيص ، وأصالة عدم مخصص آخر لا يوجب انعقاد ظهور له لا فيه ولا في غيره من المراتب لعدم الوضع ولا القرينة المعينة لمرتبة منها كما لا يخفى لجواز إرادتها وعدم نصب قرينة عليها (نعم) ربما يكون عدم نصب قرينة مع كون العام في مقام البيان قرينة على إرادة التمام وهو غير ظهور العام فيه في كل مقام «فانقدح» بذلك انه لا بد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات مطلقا ولو كان بعضها مقدماً أو قطعياً ما لم يلزم منه محذور انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفا ولو لم يكن مستوعبة لافراده فضلا عما إذا كانت مستوعبة لها ، فلا بد حينئذ من معاملة التباين بينه وبين مجموعها ومن ملاحظة الترجيح بينهما وعدمه فلو رجح جانبها أو اختير فيما لم يكن هناك ترجيح فلا مجال للعمل به أصلا ، بخلاف ما لو رجح طرفه أو قدم تخييراً فلا يطرح منها الا خصوص ما لا يلزم مع طرحه المحذور من

______________________________________________________

الظهور عبارة عن المعنى الّذي يحكم بكونه مرادا للمتكلم في مقام الحكم فقد يكون مستعملا في العموم وليس ظاهرا كما في العام المستثنى منه ، مثل : أكرم كل رجل الا زيدا ، فان (كل) مستعمل في العموم وهو كل فرد فرد من الرّجل ومع ذلك لا يكون كل فرد تحت الحكم بتوسط القرينة المتصلة أعني الاستثناء. فتأمل (١) (قوله : وإلا لم يكن وجه في حجيته في تمام الباقي) لعل الوجه فيه هو الوجه في المخصص المتصل لو بني على كون العام فيه مستعملا في الباقي (٢) (قوله : ولو كان بعضها مقدما) إما لأجل الدلالة أو المرجح (٣) (قوله : فلا بد حينئذ) أي حين لزوم المحذور من التخصيص من تخصيص الأكثر أو التخصيص المستغرق (٤) (قوله : فلا مجال للعمل به أصلا) أي حتى في المقدار الزائد الباقي بعد تخصيص الآخر ، ووجهه ما عرفت من سقوط العام عن الحجية بعد عدم الجمع العرفي وفرض التعارض (قوله : فلا يطرح منها الا خصوص)

٥٨٣

التخصيص بغيره فان التباين انما كان بينه وبين مجموعها لا جميعها وحينئذ فربما يقع التعارض بين الخصوصات فيخصص ببعضها ترجيحاً أو تخييراً فلا تغفل. هذا فيما كانت النسبة بين المتعارضات متحدة وقد ظهر منه حالها فيما كانت النسبة بينها متعددة كما إذا ورد هناك عامان من وجه مع ما هو أخص مطلقا من أحدهما وانه لا بد من تقديم الخاصّ على العام ومعاملة العموم من وجه بين العامين من الترجيح والتخيير بينهما وان انقلبت النسبة بينهما إلى العموم المطلق بعد تخصيص أحدهما لما عرفت من انه لا وجه إلا لملاحظة النسبة قبل العلاج (نعم) لو لم يكن الباقي تحته بعد تخصيصه إلا ما لا يجوز أن يجوز عنه التخصيص أو كان بعيداً جداً لقدم على العام الآخر لا لانقلاب النسبة بينهما ، بل لكونه كالنص فيه فيقدم على الآخر الظاهر فيه بعمومه كما لا يخفى

______________________________________________________

(١) يعني إذا قدم العام لم يجب طرح جميع الخصوصات ، بل لا يطرح منها الا الخاصّ الّذي لا يلزم لو طرح المحذور المتقدم من تخصيص الأكثر أو المستغرق ، لأن المانع من الأخذ بالخصوصات مع العام هو المحذور المتقدم فلا بد أن يقتصر في طرح الخصوصات على المقدار اللازم من الأخذ به المحذور ومن طرحه ارتفاع المحذور ، ولا يتعدى إلى غيره لأن الضرورات تقدر بقدرها ، ولم يكن التنافي بين العام وبين كل واحد من الخصوصات بل كان بين المجموع وبينه ، وحينئذ لا يجوز الأخذ بالمجموع وان جاز الأخذ بواحد ، بل يجب لقاعدة : الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح (٢) (قوله : فربما يقع) قد عرفت أنه ربما يكون الدوران بين صور ثلاث (٣) (قوله : متحدة) أي نسبة من سنخ واحد كما في الخصوصات بالنسبة إلى العام فان نسبة كل واحد منها إلى العام نسبة الخاصّ المطلق (٤) (قوله : عامان من وجه) كما إذا ورد : أكرم العلماء ، وورد أيضاً : يحرم إكرام فساقهم ، ويستحب إكرام العدول ، فان النسبة بين الأولين عموم مطلق وبين الأول والأخير عموم من وجه (٥) (قوله : نعم لو لم يكن الباقي تحته) أشار بذلك إلى تفصيل في مقابل الشيخ (قدس‌سره)

٥٨٤

حكم بتقديم العام المخصص على غيره من العمومات المعارضة لأن نسبته إليها بعد تخصيصه بالخاص نسبة الخاصّ إلى العام ، فان : أكرم العلماء ، وان كان بينه وبين : يستحب إكرام العدول عموم من وجه ، إلا انه بعد تخصيصه بيحرم إكرام فساقهم ، يختص بالعلماء العدول ، ونسبته إلى مطلق العدول المستحب إكرامهم نسبة الخاصّ للعام ، والمصنف (قدس‌سره) لم يرتضه على إطلاقه ، بل فصل بين ما لو كان الباقي مقدارا لا يجوز ان يتعداه التخصيص لكونه من تخصيص الأكثر فيجب تقديم العام على سائر معارضاته ، وبين ما لو كان الباقي أكثر من ذلك ، ووجهه : أن العام في ذلك المقدار يكون نصا فيقدم على غيره بعد قوة دلالته ، وفيما يزيد على ذلك لا يكون كذلك فلا تقوى دلالته فلا مرجح له على غيره ليكون موجبا لتقديمه عليه ، وربما يشكل عليه بأن العام وإن كان نصا في ذلك المقدار إلا أن ذلك المقدار صدقه على الباقي بعد التخصيص كصدقه على ما خرج بالتخصيص ، وحينئذ يمتنع أن يكون نصا في خصوص الباقي بعد التخصيص ، والمفروض أنه ـ أعني الباقي ـ هو مورد المعارضة ودلالته عليه كدلالة غيره عليه ، وعليه فلا وجه للاستدراك عليه بقوله : نعم لو لم يكن ... إلخ ، مضافا إلى أنه لا وجه للتفصيل بين القسمين أيضا لأن الرجوع بعد التخصيص إلى ملاحظة النسبة قبله يوجب سقوط العام المخصص بالكلية لو قدم غيره عليه فيلزم سقوطه فيما هو نصّ فيه ـ أعني المقدار المتقدم إليه الإشارة ـ ولا فرق بين القسمين إلّا انه يسقط العام المخصص في خصوص ذلك المقدار في أحدهما وفيه وفيما يزيد عليه في الآخر وإلا فهو ساقط في ذلك المقدار في المقامين فيلزم إسقاطه فيما هو نصّ فيه (نعم) ما قيل : من انه لو لم يقدم على معارضاته لزم إما إلغاء النص أو طرح الظاهر وكلاهما باطل ، بخلاف ما لو قدم على غيره فانه يعمل به في الباقي وبالنص فيما يختص به والجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، حسن لو كان ذلك موجبا للجمع العرفي بحيث لو عرض الأدلة الثلاثة على العرف لخصصوا العام بالخاص وقدموا العام

٥٨٥

فصل

لا يخفى أن المزايا المرجحة لأحد المتعارضين الموجبة للأخذ به وطرح الآخر بناء على وجوب الترجيح وإن كانت على أنحاء مختلفة ومواردها متعددة من راوي الخبر ونفسه ووجه صدوره ومتنه ومضمونه مثل الوثاقة والفقاهة والشهرة ومخالفة العامة والفصاحة وموافقة الكتاب والموافقة لفتوى الأصحاب ... إلى غير ذلك مما يوجب مزية في طرف من أطرافه خصوصاً لو قيل بالتعدي من المزايا المنصوصة إلا أنها موجبة لتقديم أحد السندين وترجيحه وطرح الآخر فان أخبار العلاج دلت على تقديم رواية ذات مزية في أحد أطرافها ونواحيها فجميع هذه من مرجحات السند حتى موافقة الخبر للتقية فانها أيضاً مما يوجب ترجيح أحد السندين وحجيته فعلا وطرح الآخر رأساً وكونها في مقطوعي الصدور متمحضة في ترجيح الجهة لا يوجب كونها كذلك في غيرهما

______________________________________________________

على معارضاته ، لكنه يحتاج إلى مزيد تأمل ، فتأمل فانه غير بعيد (١) (قوله : فجميع هذه من مرجحات السند حتى موافقة) قد عرفت فيما سبق ان الخبرين المختلفين ، تارة يعلم بكذب أحدهما وان احتمل موافقة مضمونيهما للواقع ، وتارة يعلم بمخالفة مضمون أحدهما وإن احتمل صدقهما معا ، وتارة يعلم بكذب أحدهما ومخالفة مضمونه للواقع ، والظاهر أن مورد السؤال في جميع اخبار التخيير والترجيح الأول ـ أعني ما علم بمخالفة أحدهما للواقع مضمونا سواء علم بكذب أحدهما أم احتمل صدقهما معا ـ كما ان الظاهر أن أدلة الترجيح في مقام تعيين ما هو اقرب إلى الواقع مضمونا حتى ما دل على الترجيح بمثل الأوثقية والأعدلية وشهرة الرواية مما هو راجع إلى الترجيح بحسب السند ، لأن الترجيح بحسب السند انما هو بلحاظ كون الراجح سندا اقرب إلى الواقع ، لأن البيان الصادر من المعصوم هو طريق إلى الواقع. ثم ان المرجح على أقسام (الأول) ما يكون راجعا إلى الترجيح من حيث السند بحيث يكون دليل الترجيح

٥٨٦

به حاكما بأن الراجح هو الصادر والمرجوح ليس بصادر (الثاني) ما يكون راجعا إلى الترجيح من حيث الجهة بحيث يكون الراجح صادراً لبيان الواقع والمرجوح صادر لا لبيان الواقع. (الثالث) : ما يكون راجعا إلى الترجيح من حيث المضمون بحيث يكون الراجح مطابقا للواقع والمرجوح مخالفا له ، ومن المعلوم ترتب هذه الأقسام الثلاثة ، أما تقدم القسم الأول على الثاني فلأن موضوع أصالة الجهة الكلام الصادر ممن له الحكم فإذا فرض وجود المرجح بحسب السند كان موجبا لسقوط موضوع أصالة الجهة بالنسبة إلى المرجوح ، وأما تقدم القسم الثاني على الثالث فلأن موضوع أصالة الظهور الكلام الصادر ممن له الحكم لبيان الواقع لا لأمر آخر من تقية ونحوها ، فإذا فرض وجود المرجح لأصالة الجهة في أحدهما دون الآخر كان موجبا لسقوط أصالة الجهة في الآخر فيرتفع موضوع أصالة الظهور فيه ، كما انه لو فرض تساوى الخبرين من حيث المرجحات السندية ينتقل حينئذ إلى المرجحات الجهتية ، فان تساويا فيها أيضاً جرت المرجحات المضمونية ، فان تساويا فيها أيضا يتخير ، كما أنه لو كانا مقطوعي الصدور ينتقل إلى المرجحات الجهتية فإذا كانا مقطوعي الجهة ينتقل إلى المرجحات المضمونية ، ولا يعقل ان يكونا مقطوعين من الجهات الثلاث (فان قلت) : إذا تساويا من حيث السند فان جرت أصالة السند فيهما لزم من إجرائها فيهما معا عدم إجراءها في أحدهما لأن المرجح الجهتي يوجب سقوط المرجوح حتى من حيث السند فيلزم من وجوده عدمه ، وإن لم تجر فيهما لزم عدم إحراز موضوع أصالة الجهة فيمتنع إجراؤها (قلت) : بل تجري أصالة السند فيهما معا ، وكون المرجح الجهتي يوجب سقوط المرجوح حتى من حيث السند ممنوع ، فانه إنما يتم لو لم يترتب أثر على جريان أصالة السند في كل منهما إلا ما يترتب على مضمونه فانه يلزم من سقوط المرجوح من حيث الجهة سقوطه من حيث السند ، أما لو كان هناك أثر يصح بلحاظه التعبد غير ما يترتب على مضمونه وهو كونه موضوعا لوجوب الترجيح فلا يضر إلغاؤه من حيث المضمون في جريان أصالة السند في كل منهما ، فان دليل الترجيح من حيث الجهة إذا كان موضوعه

٥٨٧

الخبرين الصادرين صح إجراء أصالة السند فيهما بلحاظ ترتب هذا الأثر وإن لزم طرح أحدهما بلحاظ الترجيح من حيث الجهة ، وكذا الكلام سؤالا وجوابا بالنسبة إلى أصالة الجهة وأصالة الظهور. فلاحظ وتأمل (فان قلت) : كيف يصح الحكم بهذه المراتب الثلاث مع أن المقبولة قدمت رتبة الترجيح بموافقة الكتاب التي هي من المرجحات المضمونية على مخالفة العامة مع انها من مرجحات الجهة مع أن الأمر على ما ذكرت بالعكس (قلت) : الظاهر من المقبولة ان مخالفة العامة من المرجحات المضمونية لا الجهتية فلا يتم الإشكال ، ويشهد لما ذكرنا التعليل بان فيه الرشاد الدال على أن المخالف للعامة انما يؤخذ به لأنه أقرب إلى الواقع لا لأن الموافق فيه التقية لتكون من المرجحات الجهتية. مضافا إلى أنها تضمنت الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة بما أنها مرجح واحد الظاهر في انهما من سنخ واحد لا سنخين. (وبالجملة) : المحتمل بدواً في الترجيح بمخالفة العامة أمور ، (الأول) : أن يكون وجه الترجيح بها محض التعبد ، الثاني : أن يكون لمجرد حسن المخالفة ، (الثالث) : ان يكون لأجل أن المخالف اقرب إلى الواقع ، كما يظهر من رواية ابن أسباط : قلت للرضا عليه‌السلام : يحدث الأمر لا أجد بدّاً من معرفته وليس في البلد الّذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك فقال : ائت فقيه البلد واستفته في أمرك فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، وأصرح منها خبر الأرّجاني : أتدري لم أمرتم بالاخذ بخلاف ما يقوله العامة؟ فقلت :

لا أدري ، فقال : ان عليا عليه‌السلام لم يكن يدين الله بشيء إلا خالف عليه العامة إرادة لإبطال امره ، وكانوا يسألون عن الشيء الّذي لا يعلمونه فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدا من عندهم ليلبسوا على الناس. (الرابع) : أن يكون لأجل أن الموافق لهم صادر على نحو التقية ، ومن المعلوم أن الاحتمالين الأولين ساقطان لمخالفة الظاهر خصوصا الثاني ، لأن الأوامر المذكورة في الترجيح طريقية لا نفسية ولا غيرية ، وهو انما يتم على الثاني ، ولمخالفة النصوص فيتعين أحد الاحتمالين الأخيرين والظاهر أن المقبولة من قبيل رواية ابن أسباط تدل على أنها من المرجحات المضمونية لا الجهتية ، فتكون معارضة بما دل على كونها من المرجحات الجهتية ، مثل :

٥٨٨

ضرورة انه لا معنى للتعبد بسند ما يتعين حمله على التقية فكيف يقاس على ما لا تعبد فيه للقطع بصدوره (ثم) انه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجحات لو قيل بالتعدي وإناطة الترجيح بالظن أو بالأقربية إلى الواقع ضرورة ان قضية ذلك تقديم الخبر الّذي ظن صدقه أو كان اقرب إلى الواقع منهما والتخيير بينهما إذا تساويا فلا وجه لإتعاب النّفس في بيان أن أيها يقدم أو يؤخر إلا تعيين أن أيها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها مع الآخر «واما» لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فله وجه لما يتراءى من ذكرها

______________________________________________________

ما سمعته مني يشبه قول الناس ففيه التقية وما سمعته مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه ، والكلام المتقدم منا مبني على كونها من المرجحات الجهتية فلاحظ ، وكيف كان فقد ظهر الإشكال على المصنف (قدس‌سره) بأنها من مرجحات السند (١) (قوله : ضرورة انه لا) قد عرفت الجواب عنه. مضافا إلى أن كونها من مرجحات السند يراد به أنها موجبة للحكم بكذب أحد السندين على ما عرفت سابقا من أن لازم التعارض التكاذب وكونها من مرجحات الجهة يراد به أنها موجبة للحكم بكذب أحد الخبرين من حيث الجهة وكون لازم ذلك عدم الحكم بأصالة السند في المرجوح من أجل عدم الانتهاء إلى الأثر العملي الموجب للغوية الحكم غير الحكم بكذب أحد السندين. فتأمل (٢) (قوله : لا وجه لمراعاة الترتيب) قد عرفت وجهه للترتب الطبعي بينها لو أريد الترتيب بين الأقسام الثلاثة ، ولو أريد الترتيب فيما بين افراد كل قسم منها فيمكن القول بالترتيب بينها ، بناء على أن الترتيب الشرعي لعله كاشف عما هو اقرب واقعا وان لم يكن كذلك بنظر غير الشارع ، كذا قيل. وقد يشكل بما عرفت من أن لازم التعدي عن المرجحات المنصوصة بقرينة التعليلات الواردة رفع اليد عن خصوصية المرجحات المنصوصة وان المناط في الترجيح حيثية الأقربية العرفية ، فلا بد أن يكون النّظر العرفي ممضى عند الشارع وإلا كان الترجيح تعبديا فيمتنع التعدي. وبالجملة : لازم القول

٥٨٩

مرتباً في المقبولة والمرفوعة مع إمكان أن يقال : ان الظاهر كونهما كسائر اخبار الترجيح بصدد بيان ان هذا مرجح وذاك مرجح ولذا اقتصر في غير واحد منها على ذكر مرجح واحد وإلا لزم تقييد جميعها على كثرتها بما في المقبولة وهو بعيد جداً ، وعليه فمتى وجد في أحدهما مرجح وفي الآخر آخر منها كان المرجع هو إطلاقات التخير ولا كذلك على الأول بل لا بد من ملاحظة الترتيب إلا إذا كانا في عرض واحد (وانقدح) بذلك أن حال المرجح الجهتي حال سائر المرجحات في انه لا بد

______________________________________________________

بالتعدي إمضاء الشارع نظر العرف من حيث الأقربية. فتأمل (١) (قوله : مرتبا في المقبولة والمرفوعة) قد عرفت أن ظاهر المقبولة والمرفوعة بل وظاهر غيرهما من اخبار الترجيح أن الترجيح بمخالفة العامة من المرجحات المضمونية لا الجهتية فراجعها وحينئذ فأخبار الترجيح متعرضة لقسمين من المرجحات وهما المرجحات المضمونية والمرجحات السندية ، وقد اتفقت المقبولة والمرفوعة وجملة من غيرها على تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامة وفي جملة لم يذكر الا الترجيح بمخالفة العامة وحينئذ فمقتضى الجمع العرفي بينهما تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامة حملا للمطلق على المقيد ، وأما المرجحات السندية فلم يتعرض لها الا في المقبولة والمرفوعة مع اختلافهما في الترتيب ، ففي المرفوعة قدم الترجيح بالشهرة على الترجيح بصفات الراوي ، وفي المقبولة بالعكس ، ومقتضى الجمع التخيير بينهما وعدم الترتيب لكنه يتوقف على حجية المرفوعة وكون الترجيح بالصفات في المقبولة راجع إلى الترجيح من حيث الرواية لا الترجيح بين الحكمين أو المجتهدين. (والإنصاف) ان المرفوعة لم تجمع شرائط الحجية ، واما المقبولة فالظاهر أن الإشكال المذكور لا رافع له كما عرفت فلم يثبت مرجح للسند غير الشهرة وكيف كان فالإشكال يختص بالمرجحين المذكورين ، لكن المحكي عن الأصحاب تقديم الترجيح بالشهرة على الترجيح بالصفات فتخالف الرواية عمل المشهور فيشكل الأخذ بها من هذه الجهة. هذا كله بعد فهم الترتيب وإلا فلا إشكال

٥٩٠

في صورة مزاحمته مع بعضها من ملاحظة أن أيهما فعلا موجب للظن بصدق ذيه بمضمونه أو الأقربية كذلك إلى الواقع فيوجب ترجيحه وطرح الآخر أو انه لا مزية لأحدهما على الآخر كما إذا كان الخبر الموافق للتقية بماله من المزية مساويا للخبر المخالف لها بحسب المناطين ، فلا بد حينئذ من التخيير بين الخبرين فلا وجه لتقديمه على غيره كما عن الوحيد البهبهاني ـ قدس‌سره ـ وبالغ فيه بعض أعاظم المعاصرين ـ أعلى الله درجته ـ ولا لتقديم غيره عليه كما يظهر من شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ قال : أما لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور بأن كان الأرجح صدوراً موافقاً للعامة فالظاهر تقديمه على غيره وإن كان مخالفاً للعامة بناء على تعليل الترجيح بمخالفة العامة باحتمال التقية في الموافق لأن هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعاً كما في المتواترين أو تعبداً كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبد بصدور أحدهما وترك التعبد بصدور الآخر ، وفيما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلة الترجيح من حيث الصدور (إن قلت) : إن الأصل في الخبرين الصدور فإذا تعبدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقية كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما فيكون هذا المرجح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدماً على الترجيح بحسب الصدور (قلت) : لا معنى للتعبد بصدورهما

______________________________________________________

(١) (قوله : بحسب المناطين) هو الظن بالصدق والأقربية (٢) (قوله : وفيه مضافا إلى ما عرفت) يريد به ما ذكره بقوله : ثم إنه لا وجه لمراعاة الترتيب ، وأشار إليه أيضا بقوله بعد ذلك : وانقدح بذلك أن حال المرجح الجهتي حال سائر المرجحات ... إلخ من ان مرجح الجهة وان لم يكن راجعا إلى المرجح السندي إلا ان البناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة يقتضي عدم ملاحظة الترتيب بينها بل الأخذ بما يوجب حصول المناط في التعدي سواء كان مرجح السند أم الجهة. وحاصل الإيراد المضاف إلى ذلك : هو منع كون المرجح الجهتي مقابلا للمرجح السندي بل راجع إليه

٥٩١

مع وجوب حمل أحدهما المعين على التقية لأنه إلغاء لأحدهما في الحقيقة ، وقال ـ بعد جملة من الكلام ـ : فمورد هذا الترجيح تساوي الخبرين من حيث الصدور إما علما كما في المتواترين أو تعبداً كما في المتكافئين من الاخبار وأما ما وجب فيه التعبد بصدور أحدهما المعين دون الآخر فلا وجه لاعمال هذا المرجح فيه لأن جهة الصدور متفرع على أصل الصدور. انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه وفيه ـ مضافاً إلى ما عرفت ـ أن حديث فرعية جهة الصدور على أصله إنما يفيد إذا لم يكن المرجح الجهتي الجهتي من مرجحات أصل الصدور بل من مرجحاتها ، وأما إذا كان من مرجحاته بأحد المناطين فأي فرق بينه وبين سائر المرجحات؟ ولم يقم دليل بعد في الخبرين المتعارضين على وجوب التعبد بصدور الراجح منهما من حيث غير الجهة مع كون الآخر راجحا بحسبها بل هو أول الكلام كما لا يخفى ، فلا محيص من ملاحظة الراجح من المرجحين بحسب أحد المناطين أو من دلالة أخبار العلاج على الترجيح بينهما مع المزاحمة ومع عدم الدلالة ولو لعدم التعرض لهذه الصورة فالمحكم هو إطلاق التخيير فلا تغفل. وقد أورد بعض أعاظم تلاميذه عليه بانتقاضه بالمتكافئين من حيث الصدور فانه لو لم يعقل التعبد بصدور المتخالفين من حيث الصدور مع حمل أحدهما على التقية لم يعقل التعبد بصدورهما مع حمل

______________________________________________________

(١) (قوله : ولم يقم دليل بعد) أقول : قد عرفت الدليل على هذا التقديم وأن أصالة الجهة موضوعها الكلام الصادر فإذا فرض وجود المرجح بحسب السند كان موجبا لسقوط المرجوح سندا وتسقط أصالة الجهة فيه ، وإن كان أرجح فيها لارتفاع موضوعها ، وكأن الّذي دعا المصنف (ره) إلى إرجاعها إلى المرجحات السندية امتناع التعبد بما يتعين حمله على التقية فتكون موجبة لسقوط السند أيضا كالمرجحات السندية. فراجع وتأمل (٢) (قوله : فانه لو لم يعقل التعبد) حاصل الإشكال على المصنف «ره» كما تقدم الإشارة إليه : أنه ان كان يعتبر في الترجيح بحسب الجهة جريان أصالة السند فيهما معا امتنع بالبديهة ، لأن الترجيح

٥٩٢

أحدهما عليها لأنه إلغاء لأحدهما أيضا في الحقيقة «وفيه» ما لا يخفى من الغفلة ، وحسبان أنه التزم ـ قدس‌سره ـ في مورد الترجيح بحسب الجهة باعتبار تساويهما من حيث الصدور إما للعلم بصدورهما وإما للتعبد به فعلا ، مع بداهة ان غرضه من التساوي من حيث الصدور تعبداً تساويهما بحسب دليل التعبد بالصدور قطعاً ، ضرورة أن دليل حجية الخبر لا يقتضي التعبد فعلا بالمتعارضين بل ولا بأحدهما ، وقضية دليل العلاج ليس إلّا التعبد بأحدهما تخييراً أو ترجيحاً. والعجب كل العجب أنه ـ رحمه‌الله ـ لم يكتف بما أورده من النقض حتى ادعى استحالة تقديم الترجيح بغير هذا المرجح على الترجيح به وبرهن عليه بما حاصله امتناع التعبد بصدور الموافق لدوران أمره بين عدم صدوره من أصله وبين صدوره تقية ولا يعقل التعبد به على التقديرين بداهة كما أنه لا يعقل التعبد بالقطعي الصدور الموافق بل الأمر في الظني الصدور أهون لاحتمال عدم صدوره بخلافه ثم قال : فاحتمال تقديم المرجحات السندية على مخالفة العامة مع نصّ الإمام عليه‌السلام على طرح موافقهم من العجائب والغرائب التي لم يعهد صدورها من ذي مسكة فضلا عمن هو تالي العصمة علماً وعملا ثم قال : وليت شعري ان هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه مع أنه في جودة النّظر يأتي بما يقرب من شق القمر (وأنت خبير) بوضوح فساد برهانه ضرورة عدم دوران أمر الموافق بين الصدور تقية وعدم الصدور رأساً لاحتمال صدوره لبيان حكم الله واقعاً وعدم صدور المخالف المعارض له أصلا ولا يكاد يحتاج في التعبد إلى أزيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك بداهة وانما دار احتمال الموافق بين الاثنين إذا كان المخالف قطعياً صدوراً وجهة ودلالة ضرورة دوران معارضه حينئذ بين عدم صدوره وصدوره تقية وفي غير هذه الصورة كان دوران امره بين الثلاثة لا محالة لاحتمال صدوره لبيان الحكم الواقعي حينئذ أيضاً ، ومنه قد انقدح إمكان التعبد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم الواقعي أيضاً وانما لم يمكن التعبد بصدوره لذلك إذا كان معارضه المخالف قطعياً بحسب السند والدلالة

٥٩٣

لتعيين حمله على التقية حينئذ لا محالة. ولعمري ان ما ذكرنا أوضح من أن يخفى على مثله إلا أن الخطأ والنسيان كالطبيعة الثانية للإنسان عصمنا الله من زلل الإقدام والأقلام في كل ورطة ومقام (ثم) إن هذا كله إنما هو بملاحظة أن هذا المرجح مرجح من حيث الجهة ، وأما بما هو موجب لأقوائية دلالة ذيه من معارضه

______________________________________________________

موجب لسقوط أصالة السند في أحدهما لامتناع التعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعين على التقية ، وان كان لا يعتبر ذلك لم يضر وجود المرجح السندي الموجب لسقوط أحد السندين. وحاصل ما أجاب به المصنف (قدس‌سره) عن هذا الإشكال : أن مراده أنه يعتبر في الترجيح بمرجح الجهة تساويهما من حيث دليل التعبد ، بحيث تكون نسبتهما إلى دليل التعبد ، نسبة واحدة ، وهذا لا يجري مع وجود المرجح السندي لاختلاف نسبتهما إليه حيث حكم بسقوط أحدهما عن الحجية وبقاء الآخر. هذا وقد عرفت أنه لا دليل في المقام من نصّ أو إجماع يتضمن الشرط المذكور للترجيح بمرجح الجهة حتى يقال بأن المعتبر في دليل الترجيح تساويهما في النسبة إلى دليل حجية السند وان لم تجر أصالة السند فيهما معا فعلا ، فيفرق بين المتكافئين والمتخالفين ، بل الدليل على اعتبار الشرط المذكور هو الترتب الطبعي بين أصالة السند وأصالة الجهة وان الثانية انما تجري بعد الفراغ عن ثبوت السند ، لأن موضوعها الكلام الصادر ممن له الحكم فما لم يحرز موضوعها امتنع جريانها ، ومقتضى ذلك لزوم جريان أصالة السند فيهما فعلا ليثبت الموضوع ومع عدم الجريان فيهما كذلك ولو للمعارضة يمنع من جريان أصالة الجهة ويمنع من تحقق التعارض بينهما ، وحينئذ يعود الإشكال فيقال : إن كان المعتبر جريان أصالة السند فعلا فقد عرفت امتناعه ، وان كان المعتبر جريانها اقتضاء لم يضر وجود المرجح السندي فانه لا يرفع الاقتضاء في كل من المتعارضين بالنسبة إلى أصالة السند فلا بد من الرجوع إلى ما ذكرنا من انه يعتبر الجريان فعلا ، ويكفي مصححا للجريان الانتهاء إلى الترجيح بحسب الجهة وان لم يترتب الأثر المضموني لكل منهما

٥٩٤

«والتحقيق» : ان توقف إجراء أصالة الجهة على إجراء أصالة السند فعلا يراد به إجراؤها فعلا من جميع الحيثيات غير حيثية أصالة الجهة ، لا من جميع الحيثيات حتى حيثية أصالة الجهة ، وإلّا فيلزم الدور لتوقف أصالة السند على أصالة الجهة والمفروض توقف أصالة الجهة على أصالة السند وهو دور ، وحينئذ فالمانع من فعلية أصالة السند ان كان ناشئا من أصالة الجهة أو من أحكامها فلا يضر في فعليته أصالة السند المعتبرة في أصالة الجهة بل هي حاصلة إذا كانت من سائر الجهات محفوظة وحينئذ نقول في رفع الإشكال : ان كان مرجح لأحد السندين على الآخر كان موجبا لسقوط أصالة السند في المرجوح فلا تنتهي النوبة إلى الترجيح بحسب الجهة ويسقط المرجوح السندي ، وان كان بحسب الجهة أرجح لارتفاع موضوع أصالة الجهة بتوسط المرجح السندي وان لم يكن مرجح سندي فلا مانع من فعلية أصالة السند في كل من الخبرين فتجري أصالة الجهة لتحقيق موضوعها ، فإذا كان أحد الأصلين الجهتيين أرجح من الآخر قدم ، ولا يرد بأن معارضة أصالة الجهة في الطرفين فرع فعلية أصالة السند فيهما ، وهي ممتنعة لامتناع التعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعين على التقية ، لأنا نقول : ان كان المراد من فعلية أصالة السند المعتبرة في أصالة الجهة فعليتها حتى من حيث ترجيح إحدى أصالتي الجهة على الأخرى الّذي هو من أحكام معارضتهما ، فهو ممتنع للزوم الدور ، وان كان المراد فعليتهما من سائر الحيثيات ، بمعنى : عدم وجود مانع من أصالة السند غير حيثية الترجيح الجهتي الّذي هو من أحكام المعارضة ، فهي حاصلة بالضرورة فحسب ، وهذا هو مراد شيخنا الأعظم «قده» ، فلا يتوجه عليه الإشكال المزبور ، ومن هنا يظهر الإشكال على المصنف «ره» في إرجاعه الترجيح الجهتي إلى المرجح السندي ، فان المرجح السندي رافع لموضوع أصالة الجهة فيمتنع أن يكون من افراده الترجيح الجهتي كما أنه يظهر الإشكال فيما ذكره المصنف (ره) دليلا على المطلب من قوله : ضرورة انه لا معنى للتعبد ... إلخ ، والإنصاف أن الترتيب الطبعي بين المرجحات المذكورة للترتيب الطبعي بين مواردها مما لم يقم

٥٩٥

لاحتمال التورية في المعارض المحتمل فيه التقية دونه فهو مقدم على جميع مرجحات الصدور بناء على ما هو المشهور من تقدم التوفيق بحمل الظاهر على الأظهر على الترجيح بها (اللهم) إلا أن يقال : إن باب احتمال التورية وإن كان مفتوحاً فيما احتمل فيه التقية إلا انه حيث كان بالتأمل والنّظر لم يوجب أن يكون معارضه أظهر بحيث يكون قرينة على التصرف عرفا في الآخر فتدبر.

فصل

موافقة الخبر لما يوجب الظن بمضمونه ولو نوعاً من المرجحات في الجملة بناء على لزوم الترجيح لو قيل بالتعدي من المرجحات المنصوصة أو قيل بدخوله في القاعدة المجمع عليها كما ادعي وهي لزوم العمل بأقوى الدليلين وقد عرفت أن التعدي محل نظر بل منع وأن الظاهر من القاعدة هو ما كان الأقوائية من حيث الدليليّة والكشفية ومضمون أحدهما مظنونا لأجل مساعدة أمارة ظنية عليه لا يوجب قوة فيه من هذه الحيثية بل هو على ما هو عليه من القوة لو لا مساعدتها كما لا يخفى ، ومطابقة أحد الخبرين لها

______________________________________________________

عليه برهان بل ولا وجه له بعد التأمل ، فان القول بأن موضوع أصالة الجهة الكلام الصادر ممن له الحكم ليس أولى من القول بالعكس وان أصالة السند موضوعها الكلام الصادر لبيان الواقع ، وهكذا الكلام في أصالة الظهور بالنسبة إليهما بل التأمل يقتضي القول بان ترتب الأثر العملي على جريان هذه الأصول الثلاثة ترتيب عرضي ، نظير ترتيب الأثر على المركبات ، ولا يصح القول بان اجزاء المركب بعضها منوط ببعض ، ويترتب على ذلك حصول التعارض بين المرجحات المذكورة كما ذكره المصنف (قده) وما ذكرناه من أوله إلى آخره كان تتميما لما ذكره شيخنا الأعظم «قده» في رسائله من فرعية الأصول بعضها على بعض فراجع وتأمل والله تعالى اعلم ومنه نستمد التوفيق فانه حسبنا ونعم الوكيل (١) (قوله : لاحتمال التورية في المعارض) اعلم أن الخبر الصادر تقية يحتمل أن يكون المراد ظاهره

٥٩٦

لا يكون لازمه الظن بوجود خلل في الآخر إما من حيث الصدور أو من حيث جهته ، كيف وقد اجتمع مع القطع بوجود جميع ما اعتبر في حجية المخالف؟ لو لا معارضة الموافق والصدق واقعاً لا يكاد يعتبر في الحجية كما لا يكاد يضر بها الكذب كذلك (فافهم) هذا حال الأمارة غير المعتبرة لعدم الدليل على اعتبارها أما ما ليس بمعتبر بالخصوص لأجل الدليل على عدم اعتباره بالخصوص كالقياس فهو وإن كان كغير المعتبر لعدم الدليل بحسب ما يقتضي الترجيح به من الاخبار بناء على التعدي والقاعدة بناء على دخول مظنون المضمون في أقوى الدليلين ، إلا أن الأخبار الناهية عن القياس وأن السنة إذا قيست محق الدين مانعة عن الترجيح به ضرورة أن استعماله في ترجيح

______________________________________________________

فيكون من الكذب المرخص فيه للمصلحة ، ويحتمل أن يكون المراد به خلاف ظاهره بلا نصب قرينة على ذلك فيكون من قبيل التورية ، وعلى الاحتمال الأول كانت المخالفة مرجحا من حيث الجهة ، وعلى الثاني كانت من مرجحات الدلالة ولا دخل لها في جهة الكلام إذ لم يقصد بالكلام الا بيان الحكم الواقعي إلّا ان بيانه لم يكن بكلام ظاهر فيه بل كان بكلام غير ظاهر فيه ، وحينئذ فيكون الجمع العرفي حمل الموافق على معنى لا يخالف المخالف ، مثلا إذا ورد يجوز : قوله (آمين) ، في الصلاة بعد الفاتحة ، وورد : لا يجوز قول (آمين) أمكن التصرف في الأول ما لا يمكن في الثاني ، بحمل (يجوز) على معنى : لا يجوز ، وان كان بعيداً أو حمله على حال التقية وحمل (لا يجوز) على غير حال التقية برفع اليد عن إطلاق كل منهما نعم إنما يتم ذلك ـ أعني كونه من مرجحات الدلالة ـ لو كان الكلامان بحيث لو جمعا في كلام واحد لم يكونا متنافيين في نظر العرف كما هو معنى الجمع العرفي ، ومجرد انفتاح باب احتمال في الموافق لا يحتمل في المخالف أو إمكان الجمع بينهما بحمل أحدهما على حال التقية والآخر على غير حال التقية لا يقتضي ذلك بحيث يكون ظاهراً لكلا الكلامين ويكون أحدهما على الآخر قرينة (١) (قوله : لازمه الظن بوجود خلل) اعلم : ان الكلام في الترجيح بالمرجحات الخارجية انما هو إذا لم يكن

٥٩٧

أحد الخبرين استعمال له في المسألة الشرعية الأصولية وخطره ليس بأقل من استعماله في المسألة الفرعية (وتوهم) أن حال القياس هاهنا ليس في تحقق الأقوائية به إلا كحاله فيما ينقح به موضوع آخر ذو حكم من دون اعتماد عليه في مسألة أصولية ولا فرعية قياس مع الفارق لوضوح الفرق بين المقام في الموضوعات الخارجية الصرفة : فان القياس المعمول فيها ليس في الدين فيكون إفساده أكثر من إصلاحه ، وهذا بخلاف المعمول في المقام فانه نحو إعمال له في الدين ، ضرورة انه لولاه لما تعين الخبر الموافق له للحجية بعد سقوطه عن الحجية بمقتضى أدلة الاعتبار والتخيير بينه وبين معارضه بمقتضى أدلة العلاج فتأمل جيدا ، واما ما إذا اعتضد بما كان دليلا مستقلا في نفسه كالكتاب والسنة القطعية فالمعارض المخالف لأحدهما إن كانت مخالفته بالمباينة الكلية فهذه الصورة خارجة عن مورد الترجيح لعدم حجية الخبر المخالف كذلك من أصله ولو مع عدم المعارض فانه المتيقن من الاخبار الدالة على أنه (زخرف) أو (باطل) أو انه «لم نقله» أو غير ذلك ، وان كانت مخالفة بالعموم والخصوص المطلق فقضية القاعدة فيها وان كانت ملاحظة المرجحات بينه وبين الموافق وتخصيص الكتاب به تعييناً أو تخييراً لو لم يكن الترجيح في الموافق بناء على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، إلّا ان الاخبار الدالة على أخذ الموافق من المتعارضين غير قاصرة عن العموم لهذه الصورة لو قيل بأنها في مقام ترجيح أحدهما لا تعيين الحجة عن اللاحجة كما نزلناها عليه ، ويؤيده اخبار العرض على الكتاب الدالة على عدم حجية المخالف من أصله فانهما تفرغان عن لسان واحد فلا وجه لحمل المخالفة في إحداهما على خلاف المخالفة في الأخرى كما لا يخفى (اللهم) إلّا ان يقال : «نعم» إلّا ان دعوى اختصاص هذه الطائفة بما إذا كانت المخالفة بالمباينة بقرينة القطع بصدور المخالف غير المباين عنهم عليهم‌السلام كثير أو إباء مثل :

٥٩٨

ما خالف قول ربنا لم أقله أو زخرف أو باطل عن التخصيص غير بعيدة ، وان كانت المخالفة بالعموم والخصوص من وجه فالظاهر انها كالمخالفة في الصورة الأولى كما لا يخفى ، واما الترجيح بمثل الاستصحاب كما وقع في كلام غير واحد من الأصحاب فالظاهر انه لأجل اعتباره من باب الظن والطريقية عندهم واما بناء على اعتباره تعبداً من باب الاخبار وظيفة للشاك كما هو المختار كسائر الأصول العملية التي تكون كذلك عقلا أو نقلا ، فلا وجه للترجيح به أصلا لعدم تقوية مضمون الخبر بموافقته ولو بملاحظة دليل اعتباره كما لا يخفى هذا آخر ما أردنا إيراده والحمد لله أولا وآخراً وباطناً وظاهراً.

______________________________________________________

وجود المرجح في أحد الطرفين موجبا لاختلال شرط من شرائط الحجية في الآخر بحيث به يخرج عن موضوع الحجية ، كما لو قلنا بعدم حجية الخبر المخالف للمشهور أو المخالف للكتاب ولو بنحو العموم والخصوص المطلق أو الخبر المظنون خلافه فان الأمور المذكورة موجبة لسقوط المخالف عن الحجية ولو لم يكن له معارض فضلا عما لو كان له معارض ، وحينئذ فان كان المدعي للترجيح بمثل الموافقة للشهرة الفتوائية يستند إلى انها موجبة للظن بوجود خلل في المخالف فان كان غرضه انها موجبة لارتفاع شرط من شرائط الحجية في الآخر ، (ففيه) مع انه لا يحسن التعبير بأنها موجبة للظن بالخلل بل هي موجبة للقطع بالخلل قطعاً أنه ليس هو محل الكلام بل الكلام في غيره ، وان كان المقصود انها موجبة للظن بمخالفته للواقع اما لمخالفة أصالة السند له أو لمخالفة أصالة الجهة أو لمخالفة أصالة الظهور فهو حق إلا انه لا ينفع في الترجيح بعد ما كان البناء على الاقتصار على المرجحات المنصوصة مضافا إلى أنه لا وجه لحصر الخلل المظنون بالصدور والجهة بل يمكن أن يكون في الظهور. (هذا آخر ما برز من قلمه الشريف في التعادل والتراجيح) في النجف الأشرف يوم السابع والعشرين من ذي الحجة الحرام من السنة التاسعة والثلاثين بعد الألف والثلاثمائة هجرية على مهاجرها أفضل صلاة وتحية والحمد لله رب العالمين.

٥٩٩

ختام واعتذار

سبق أن قد نبهنا على أن سيدنا الوالد ـ مد ظله العالي ـ قد أنهى تعليقته الأنيقة ـ تبعا لانتهاء درسه الشريف ـ ولما يتم مباحث التعادل والتراجيح ومباحث الاجتهاد والتقليد ، فكان مناسبا جدا إتمام مباحث التعادل والتراجيح بتعليقته القديمة على هذه المباحث. أما مباحث الاجتهاد والتقليد فقد رأينا أن نستغني عن نشر التعليق عليها بما كتبه ـ مد ظله ـ في الجزء الأول من (مستمسك العروة الوثقى) في شرح هذه المباحث فانه أحدث عهدا وأوسع بحثا والله سبحانه ولي التوفيق والسداد وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٣ شعبان سنة ١٣٧٢ ه‍

يوسف الطباطبائي

الحكيم

٦٠٠