حقائق الأصول - ج ٢

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

حقائق الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت (ع) للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

ووجب الترجيح بها وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقاً لأجل ان دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة ضرورة أنه رُب واجب يكون مقدما على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام فكيف يقدم على احتماله احتماله في صورة الدوران بين مثليهما فافهم

______________________________________________________

الجانبين (١) (قوله : ووجب) معطوف على (لا يجوز) وضمير بها في المقامين راجع إلى الشك والزيادة (٢) (قوله : وكذا وجب) على معطوف (لا يجوز) أيضاً يعنى بحيث تكون شدة الطلب تبلغ حدا موجبا للتعيين في محتملها عند الدوران بين التعيين والتخيير (٣) (قوله : الحرمة مطلقا) يعني وان لم تكن مشتملة على الشدة والزيادة (٤) (قوله : يكون مقدما على) كما لو توقف إنقاذ الغريق على استطراق أرض مغصوبة أو ركوب سفينة كذلك (٥) (قوله : على احتماله) ضمير الأول للواجب والثاني للحرام (٦) (قوله : مثليهما) أي الوجوب والتحريم. تنبيه. لو بني على التخيير في المقام فهل هو ابتدائي بحيث لا يجوز له في الزمان الثاني اختيار غير ما اختاره أولا ، أو استمراري؟ قولان أقواهما الثاني لعدم الفرق بين الوقائع في نظر العقل فكما يخير في الزمان الأول يخير في الزمان الثاني. ودعوى لزوم المخالفة القطعية لو اختار غير ما اختاره أولا مندفعة بلزوم الموافقة القطعية أيضا ولا ترجيح للموافقة الاحتمالية على الموافقة القطعية الملازمة للمخالفة القطعية. هذا بناء على التخيير العملي أما بناء على التخيير في الأخذ بأحد المحتملين فحيث كان المستند فيه اخبار التخيير بين المتعارضين فالمرجع إطلاق تلك الاخبار ، ومع عدمه الاستصحاب والظاهر ثبوت الإطلاق لأخبار التخيير من حيث الزمان لأن اختلاف الزمان موجب لتعدد الوقائع التي لا فرق فيها في مرجعية تلك الاخبار كما هو ظاهر بالتأمل ، فالتخيير إذاً استمراري أيضا وسيأتي إن شاء الله في أحكام التعارض ماله نفع في المقام فانتظر والله سبحانه الموفق المعين.

٢٨١

فصل

لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الإيجاب أو التحريم فتارة لتردده بين المتباينين وأخرى بين الأقل والأكثر الارتباطيين فيقع الكلام في مقامين «المقام الأول» في دوران الأمر بين المتباينين. لا يخفى أن التكليف المعلوم بينهما مطلقا ـ ولو كانا فعل أمر وترك آخر ـ ان كان فعليا من جميع الجهات بان

______________________________________________________

(الدوران بين المتباينين)

(١) (قوله : بين المتباينين) تباين المكلف به (تارة) يكون بالذات كما لو علم إجمالا بوجوب عتق رقبة أو صيام شهرين (وأخرى) بالعرض كما لو علم إجمالا بوجوب القصر أو التمام ، فان القصر إنما يباين التمام بلحاظ أخذ بشرط لا في القصر وشرط شيء في التمام فلا ينطبق أحدهما على الآخر ، وهذا بخلاف الأقل والأكثر فان الأقل لا يباين الأكثر ، بل الأقل بعض الأكثر الموجب لكون وجوده عين وجود الأكثر. وان شئت قلت : لا بد في كل علم إجمالي قائم بالمتباينين من إمكان فرض قضيتين شرطيتين مقدم إحداهما أحد الأمرين وتاليها نقيض الآخر ومقدم ثانيتهما عين الآخر وتاليها نقيض مقدم الأولى كقولنا : إن كان العتق واجبا فليس الصيام واجبا ، وان كان الصيام واجبا فليس العتق واجبا ، وان كان القصر واجبا فليس التمام واجبا ، وان كان التمام واجبا فليس القصر واجبا ، ولا يصح فرضهما في الأقل والأكثر ، فلا يقال : إن كانت العشرة واجبة فليست التسعة واجبة لأن التسعة بعض العشرة فوجوب العشرة وجوب التسعة وزيادة. ثم إن المراد من القضية السلبية في التالي سلب المعلوم بالإجمال فلا ينافي احتمال فرد آخر غيره. فلاحظ (٢) (قوله : الارتباطيين) أما الأقل والأكثر الاستقلاليان فلا إجمال في المكلف به فيهما لأن الأقل معلوم التكليف به والزائد مشكوك التكليف بدواً (٣) (قوله : ولو كان فعل امر وترك) لا يخفى أنه إذا علم إجمالا بوجوب شيء وحرمة آخر فلا علم إجمالا

٢٨٢

يكون واجداً لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي مع ما هو عليه من الإجمال والتردد والاحتمال فلا محيص عن تنجزه وصحة العقوبة على مخالفته وحينئذ لا محالة يكون ما دل بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة مما يعم أطراف العلم مخصصاً عقلا لأجل مناقضتها معه ، وإن لم يكن فعلياً كذلك ـ ولو كان بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله وصح العقاب على مخالفته لم يكن هناك مانع عقلا ولا شرعاً عن شمول أدلة البراءة الشرعية للأطراف. ومن هنا انقدح انه لا فرق بين العلم التفصيليّ والإجمالي إلا أنه

______________________________________________________

بوجوب أو تحريم وإنما علم إجمالا بالإلزام المردد بين الوجوب والتحريم فلا يدخل في العنوان المذكور في صدر المبحث إلا إذا أريد من المكلف به ما هو أعم من الفعل والترك فانه حينئذ يصح أن يقال : علم بوجوب فعل أحدهما أو ترك الآخر أو بحرمة أحدهما أو ترك الآخر. لكن عليه كان اللازم الاكتفاء بأحد الأمرين من الوجوب والتحريم ولا داعي إلى ذكرهما معا ، والأمر سهل (١) (قوله : فلا محيص عن تنجزه) قد عرفت الإشارة سابقا إلى أن التكليف الفعلي من جميع الجهات حيث كان مضادا للترخيص الشرعي فلا فرق بين العلم به والظن به واحتماله ولو موهوما في امتناع شمول أدلة الترخيص لأن شمولها بوجوب إما العلم بالمتضادين أو الظن بهما أو احتمالهما ، والجميع ممتنع ولا ميز للعلم الإجمالي على الظن والاحتمال في امتناع شمول أدلة الترخيص لمورده دون موردهما ، بل الجميع مما لا مجال لشمول أدلة الترخيص لمورده. نعم بينهما ميز في ثبوت الترخيص العقلي وعدمه فان العلم لما كان واجد المقتضي الحجية سواء أكان بنحو العلية التامة أم مجرد الاقتضاء امتنع الترخيص العقلي في مخالفته ، وليس كذلك الظن والاحتمال. هذا لو لم يكن معنى فعليته من جميع الجهات مساوقا لتنجزه وإلا فلا مجال لاحتمال فعليته من جميع الجهات مع عدم المنجز له في ظرف الشك فيه (٢) (قوله : لم يكن هناك مانع عقلا ولا شرعا) (اما) عدم المانع عقلا فلان العلم الإجمالي ليس علة تامة للتنجز

٢٨٣

كالعلم التفصيليّ حتى يمتنع الترخيص الشرعي في مخالفته لكونه ترخيصا في المعصية قبيحا في نظر العقل كما أشار إليه في مبحث القطع. هذا وقد عرفت هناك ما فيه وأن العلم الإجمالي ليس سنخا غير سنخ العلم التفصيليّ ، بل كشفه وإراءته لمتعلقه كشف العلم التفصيليّ عنه ، بل هو هو غاية الأمر يشك في انطباقه على كل واحد من أطرافه على البدل ، وهو امر خارج عن متعلق العلم ، وقد يكون المعلوم بالتفصيل كذلك فيشك فيما علم وجوب إكرامه تفصيلا أنه عالم أو جاهل أو غني أو فقير ... إلى غير ذلك من العناوين المنطبقة عليه ، فكما لا يقدح ذلك في كشف العلم التفصيليّ عن متعلقه لا يقدح الشك في انطباق المعلوم بالإجمال في كشف العلم الإجمالي عن متعلقه كما هو ظاهر. نعم الشك المذكور يوجب كون كل واحد من الأطراف موضوعا لأدلة الأصول ، وهذا المقدار لا أثر له في عدم منجزية العلم لأن إعمال أدلة الأصول في كل واحد من الأطراف يتوقف على عدم المانع عقلا عنه فإذا كان العلم الإجمالي منجزاً لمتعلقه في نظر العقلاء منع ذلك من إعمال أدلة الأصول لأن إعمالها يكون ترخيصا في محتمل المعصية وهو قبيح عقلا. فالعمدة حينئذ هو إثبات هذه الجهة ، أعني كونه منجزا في نظر العقلاء محدثا بمجرد حدوثه للداعي العقلي نحو موافقته كما في العلم التفصيليّ فيكون ذلك مانعا عن إجراء الأصول في الأطراف ، وإلا فمجرد كون كل واحد من الأطراف مشمولا لأدلة الأصول لا أثر له في رفع منجزيته ، وقد عرفت فيما سبق أن إحداثه للداعي العقلي إلى موافقته مما لا مجال للريب فيه عند العقلاء ، إذ لا فرق عندهم في حدوث الداعي المذكور بين أن يسمع العبد مولاه يقول : أكرم هذا ، مشيراً إلى معين ، وبين أن يسمعه يقول : أكرم زيدا ، مع تردد زيد في نظر العبد بين شخصين معينين ، وكما ينبعث نحو موافقة العلم في الأول بمجرد حصوله ينبعث نحو موافقته في الثاني أيضا كذلك ولا يتوقف حدوث الداعي له على عدم ورود الترخيص في مخالفته بحيث يكون منتظراً لذلك ، بل لو سمع المولى يقول : لا تكرم هذا ولا ذلك لأنك لا تعرف كلا منهما أنه زيد ، عد ذلك منه مخالفا لقوله الأول مضادا له ، وأقل

٢٨٤

سبر لحال العقلاء في هذا المقام كاف في إثبات ما ذكرنا. مع ان ما ذكره المصنف (ره) لا يكاد يلتزم به هو (ره) ولا غيره في جميع الموارد الفقهية ، وان صدر من بعضهم ما يوهم ذلك كان في مقام التشكيك وإبداء الاحتمال مما لا يعد خلافا في المسألة فراجع كلماتهم في المباحث الفقهية وتأمل (واما) عدم المانع شرعا فلان المحتمل في المنع أحد امرين (الأول) ان موضوع أدلة الأصول ما لم يعلم انه حرام ، وهذا العنوان مما لا يحرز في كل واحد من الأطراف لأن المعلوم بالإجمال لما كان معلوما أنه حرام فمع احتمال انطباقه على كل واحد من الطرفين يكون كل واحد منهما مما يحتمل أنه معلوم الحرمة واحتمال انه معلوم الحرمة ينافي إحراز انه لم يعلم انه حرام ، ومع عدم إحراز عنوان العام لا يجوز التمسك بالعامّ (وهذه) الشبهة ذكرها المصنف (ره) في مجهول التاريخ في مبحث الاستصحاب ولم يذكرها هنا مع عدم ظهور الفرق بين المقامين (وحاصل) الوجه في دفعها : أن العلم ليس من الصفات التي تسري إلى ما ينطبق عليه موضوعها كالصفات الخارجية حتى يصح قياسها عليها بحيث يكون حال العلم حال نفس النجاسة ، فكما أن احتمال انطباق النجس المعلوم بالإجمال على كل واحد من الأطراف موجبا لاحتمال كون كل واحد منها محتملا أنه نجس يكون احتمال انطباق المعلوم الحرمة على كل واحد من الأطراف موجبا لاحتمال كونه معلوم الحرمة بل ليس العلم إلا قائما بنفس الصورة لا يتعداها إلى ما تتحد معه تلك الصورة خارجا. والوجه في ذلك : انه لا ريب في مضادة الشك للعلم كما لا ريب في كون كل واحد من الأطراف مشكوك الحرمة فيمتنع ان يحتمل انه معلوم الحرمة ، وهذا واضح بأدنى تأمل (الثاني) لزوم التناقض في مدلول أدلة الأصول لو بني على تطبيقها على كل واحد من الطرفين. فان قوله عليه‌السلام : كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام ، لو بني على تطبيق صدره على كل واحد من الطرفين كان اللازم تطبيق ذيله على المعلوم بالإجمال فيلزم التناقض لأن عدم حل المعلوم بالإجمال وحل كل واحد من طرفيه مما لا يجتمعان (وفيه) أن هذا الإشكال على تقدير تماميته ـ كما سيجيء توضيح الحال فيه في الاستصحاب إن شاء الله ـ مختص بمثل

٢٨٥

روايتي مسعدة وابن سنان المشتملتين علي قوله عليه‌السلام : فتدعه ، فيكون نظير قوله عليه‌السلام في بعض أخبار الاستصحاب : ولكن تنقضه بيقين آخر ، ولا مجال له في مثل أحاديث الوضع والرفع والسعة ، بل وفي مثل كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام لأن عدم الحكم على المعلوم بالإجمال من حيث كونه معلوما لا ينافي الحكم بالحل على كل واحد من طرفيه لكونه مشكوكا لجواز اجتماع عناوين متعددة بعضها موضوع للحكم وبعضها غير موضوع له ، فان زيدا العالم يجب إكرامه لكونه عالما ولا يجب إكرامه لكونه غنيا أو فقيرا أو طويلا أو قصيراً ... إلى غير ذلك. اللهم إلا أن يستفاد منه أن الحكم بالحل على المشكوك لعدم المقتضي للمنع وعدم الحكم به على المعلوم الحرمة لوجود المقتضي للمنع ، وحينئذ ففعلية الحل لا تكون الا في ظرف عدم المانع عنه المقتضي للمنع ، فلا يمكن تطبيق الرواية الا في مورد لا يكون فيه مانع عن الحكم بالحل كالشبهات البدوية ، بل يشكل التمسك حينئذ بمثل حديث الرفع أيضا لوقوع التعارض بينه وبين الغاية في هذه الرواية الموجب لتقديم الغاية لعدم التنافي بين المقتضي واللامقتضي ، ويكون مفاد مجموع الأدلة أن المشكوك لا مقتضي فيه للمنع ، والمعلوم فيه مقتضى المنع ففي الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي لا مجال لفعلية الحل في كل واحد من الأطراف للاقتران بالمانع. فلاحظ وتأمل (ثم انه) لو بني على شمول أدلة الأصول لكل واحد من الأطراف فلا بد من رفع اليد عنها لما عرفت من كون العلم علة تامة للتنجز فيكون الترخيص في أطرافه ترخيصا في المعصية وهو قبيح بل ممتنع لأنه نقض للغرض ومضاد للحرمة المعلومة كما عرفت الإشارة إليه في الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية (فان قلت) : رفع اليد عن عموم أدلة الأصول إنما يتم لو كان العلم الإجمالي علما حقيقيا أما لو كان دليلا علميا كالعموم أو الإطلاق أو نحوهما من الظهورات فلا وجه لتعين رفع اليد عن عموم أدلة الأصول بل يدور الأمر بين رفع اليد عنها وبين رفع اليد عن الدليل المثبت للحرمة إجمالا ، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى الأقوى فقد يكون عموم

٢٨٦

الأصل وقد يكون دليل الحكم المعلوم بالإجمال «قلت» : هذا الإشكال وان أجيب عنه بوجوه كثيرة ، إلا أن التحقيق في الجواب أن أصالة الظهور في دليل التحريم حاكمة على أصالة العموم في دليل الأصل لأن أصالة الظهور في كل مقام انما تجري في مورد يحتمل مطابقة مؤداها للواقع أما لو علم بعدم مطابقة مؤداها للواقع فلا موضوع لها وإعمال أصالة الظهور في دليل التحريم يوجب العلم بعدم مطابقة أصالة الظهور في دليل الأصل للواقع دون العكس لأن إعمال أصالة الظهور في دليل التحريم يوجب تنجز التحريم عند العقل ، وحينئذ يمتنع الترخيص في مخالفته فيعلم بعدم مطابقة الظهور لدليل الترخيص للواقع فلا موضوع لأصالة الظهور فيه ، وإعمال أصالة الظهور في دليل الترخيص لا يوجب العلم بعدم مطابقة ظهور دليل التحريم للواقع لإمكان مطابقته للواقع حينئذ وانما توجب سقوط الظهور عن الحجية فيه إذ المصحح للترخيص عدم الحجة على التحريم الواقعي لا عدم التحريم في نفسه (والوجه) في أصل الإشكال توهم التنافي بين التحريم الواقعي والترخيص فتتعارض أصالة الظهور المثبتة لهما فلا بد من الأخذ بالأقوى ، وليس الأمر كذلك لما عرفت من عدم التضاد بين الحكم الواقعي والظاهري وانما التنافي بين الحجة على الحكم الواقعي والترخيص في مخالفته فيكون العلم بالحجة على الحكم الواقعي وهي أصالة الظهور في دليل التحريم موجباً للعلم بعدم الترخيص فلا مجال لاعمال أصالة الظهور في دليل الترخيص للعلم بمخالفتها للواقع ، وليس العلم بالحجة على الترخيص موجباً للعلم بعدم التحريم واقعاً ، بل هو مستحيل إذ لا ترخيص لا في مورد الشك فيه فلا تكون أصالة الظهور في دليل الترخيص رافعة لموضوع أصالة الظهور في دليل الواقع ، بل هذه مزيلة وتلك مزالة فلا يتعارضان (فان قلت) : إذا كان العلم الإجمالي علة تامة للتنجز بنحو يمتنع الترخيص في مخالفته كان اللازم عدم العمل على الأمارة القائمة على نفي التكليف في بعض الأطراف كما لو قامت البينة على طهارة أحد الإناءين في الشبهة المحصورة ، مع أنه لا ريب في جواز العمل عليها ، فيكشف ذلك عن جواز الترخيص في مخالفته فلا يكون علة لوجوب الموافقة القطعية ،

٢٨٧

(قلت) : قد عرفت الإشارة في مبحث القطع إلى أنه لا مجال للتفكيك في اقتضاء العلم الإجمالي بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، وما ذكر في السؤال لا يدل على خلاف ذلك لأن المقصود من كونه علة لوجوب الموافقة القطعية أنه يقتضي تنجز المعلوم بقول مطلق وليس للشارع الأقدس التصرف في مقام منجزيته له والردع عنها لا أنه بحيث يمنع عن تصرف الشارع الأقدس في مقام الفراغ ، فان العلم التفصيليّ ـ مع انه لا إشكال في منجزيته لمتعلقه ـ قد ثبت تصرفه في مقام الفراغ عنه بجعل الأمارات والأصول المفرغة ، مثل قاعدتي التجاوز والفراغ وأصالة الطهارة من الخبث واستصحاب الطهارة من الحدث ونحوها والبينة القائمة على طهارة أحد الإناءين في الشبهة المحصورة من هذا القبيل ، فان مدلولها المطابقي وان كان هو طهارة ما قامت على طهارته من الإناءين ، إلّا ان مدلولها الالتزامي كون الآخر هو النجس ، فمقتضى حجيتها في مدلولها الالتزامي أن ترك الآخر ترك المعلوم بالإجمال وفراغ عنه ، فحجيتها في هذا المقام تصرف في مقام الفراغ عما تنجز بالعلم لا تصرف في أصل التنجز الممنوع عنه عقلا بناء على انه علة لوجوب الموافقة القطعية ، وهذا هو ما اشتهر من جواز الترخيص بعد جعل البدل ، وأصل الطهارة ونحوه من الأصول النافية للتكليف انما امتنع جريانها في أحد الأطراف لأنها لا تصلح لتعيين المعلوم بالإجمال الأبناء على الأصل المثبت الّذي لا نقول به (فان قلت) : إذا جاء الترخيص بعد جعل البدل فلم لا يكون عموم أدلة الأصول بعد ما كان شاملا لكل واحد من الأطراف كاشفاً عن جعل البدل؟ فان عمومه لكل واحد منها وان كان شمولياً لا بدلياً إلا أنه لما امتنع ذلك لأنه ترخيص في المعصية فليحمل على أنه بدلي ويكون كاشفاً عن جعل مقدار الحرام بدلا على البدل إذ هو أولى من رفع اليد عنه بالنسبة إلى جميع الأطراف بالمرة «قلت» : قد عرفت سابقاً أن المصحح للترخيص في نظر العقل ليس مجرد جعل البدل واقعاً بل المصحح هو العلم بجعل البدل ، واحتمال جعل البدل واقعاً غير كاف بل هو نظير احتمال مخالفة الحجة القائمة على ثبوت المعلوم بالإجمال للواقع لا يصلح

٢٨٨

عذراً في نظر العقل ، فما لم يعلم العقل بجعل البدل يرد الترخيص ، فإذا كانت صحة الترخيص في نظر العقل موقوفة على العلم بجعل البدل امتنع استكشاف جعل البدل من دليل الترخيص لأنه دور ، فانه على هذا يكون العلم بجعل البدل موقوفا على العلم بالترخيص ، وقد عرفت أن العلم بالترخيص موقوف على العلم بجعل البدل ، «وبالجملة» : احتمال جعل البدل لما لم يكن حجة على جعله ولا يصلح عذراً في نظر العقل كان اقتضاء العلم الإجمالي للموافقة القطعية بحاله فيكون الترخيص في بعض الأطراف ترخيصاً في محتمل المعصية الممتنع ، فلا يخرج الترخيص عن كونه ترخيصاً في محتمل المعصية حتى يكون جعل البدل معلوماً محرزاً فيمتنع استفادة العلم بجعل البدل من قبل دليل الترخيص. نعم لو فرض النص من الشارع الأقدس على جواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة لا بد حينئذ من استفادة جعل البدل صونا لكلام الحكيم عن اللغوية ، لكن هذا ليس مما نحن فيه لأن الكلام في استفادة جعل البدل من نفس دليل الترخيص بحيث يكون مدلولا التزامياً له فانه موقوف على احتمال إرادة الترخيص ، وقد عرفت القطع بعدم إرادته لأنه ترخيص في المعصية والاستفادة في الفرض المذكور ليست من نفس الكلام الملقى إلى المكلف بل من قاعدة امتناع صدور اللغو من الحكيم. فتأمل في المقام فانه به حقيق ومنه سبحانه نستمد التوفيق (فان قلت) : لو نذر المكلف ان يتصدق بدرهم لو لم يكن مشغول الذّمّة لزيد بدرهم ، فانه يعلم إجمالا اما بوجوب دفع درهم لزيد وفاء لما في ذمته واما بوجوب الصدقة بدرهم ، ولا ريب في جريان استصحاب عدم اشتغال ذمته بدين لزيد ، وهذا الاستصحاب أصل ناف جار في بعض أطراف العلم وليس متعرضا لمقام الفراغ وجعل البدل فيكشف ذلك عن عدم وجوب الموافقة القطعية (قلت) : ما ذكرت من جريان الأصل المذكور مسلم وكذا عدم كونه من قبيل جعل البدل لأنه لا بد ان يكون بلسان تعيين المعلوم بالإجمال والأصل لا يفي بذلك إلّا بناء على الأصل المثبت ، والوجه في جريانه ـ مع انه أصل ناف للتكليف ـ ان من آثار موارده ثبوت التكليف في الطرف الآخر

٢٨٩

لا مجال للحكم الظاهري مع التفصيليّ فإذا كان الحكم الواقعي فعلياً من سائر الجهات لا محالة يصير فعلياً معه من جميع الجهات وله مجال مع الإجمالي فيمكن أن لا يصير فعلياً معه لإمكان جعل الظاهري في أطرافه وإن كان فعلياً من غير هذه الجهة فافهم. ثم إن الظاهر أنه لو فرض أن المعلوم بالإجمال كان فعلياً من جميع الجهات لوجب عقلا موافقته مطلقا ولو كانت أطرافه غير محصورة وإنما التفاوت بين المحصورة وغيرها

______________________________________________________

فيكون من قبيل الأصل المثبت للتكليف في أحد الأطراف فيوجب انحلال العلم الإجمالي كما تقدم تفصيله فراجعه. ومن هنا يظهر لك الفرق بين جعل البدل وبين الانحلال مع اشتراكهما في عدم لزوم الاحتياط فان الأول يلزم فيه ان يكون متعرضا لتعيين المعلوم بالإجمال ولا كذلك الثاني ، ويلزم في الثاني ان يكون متقدما أو مقارنا للعلم ولا يلزم ذلك في جعل البدل ، فان الأمارة القائمة بعد العلم على تعيين المعلوم بالإجمال تسوغ ارتكاب بقية الأطراف ، ولا كذلك الأصل المثبت للتكليف في بعض الأطراف إذا كان متأخرا عن العلم كما عرفت ذلك كله في مبحث الانحلال والله سبحانه اعلم (١) (قوله : لا مجال للحكم الظاهري) لأن العلم التفصيليّ لا يكون مقرونا بالشك الّذي هو موضوع الحكم الظاهري فلا يمكن جعل الحكم الظاهري معه (٢) (قوله : وله مجال مع الإجمالي) أي وللحكم الظاهري مجال مع العلم الإجمالي (٣) (قوله : لإمكان جعل) لاقترانه بالشك (٤) (قوله : فعليا من غير) أي فعليا من سائر الجهات بحيث لو علم تفصيلا لتنجز وان لم يكن فعليا من الجهة التي تضاد الترخيص وجعل الحكم الظاهري (٥) (قوله : ولو كانت أطرافه غير محصورة) إشكال على ما اشتهر من وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إذا كانت محصورة وعدم وجوبه إذا كانت أطرافه غير محصورة ، وحاصل الإشكال : ان الحكم المعلوم بالإجمال ان كان فعليا من جميع الجهات بحيث يمتنع الترخيص في مخالفته ولو في حال الشك فيه يجب الاحتياط في أطرافه وان كانت غير محصورة لامتناع الترخيص في بعض الأطراف حتى لا يجب الاحتياط فيه ، وان لم يكن

٢٩٠

هو ان عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم مع كونه فعليا لولاه من سائر الجهات (وبالجملة) لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين المحصورة وغيرها في التنجز وعدمه فيما كان المعلوم إجمالا فعلياً يبعث المولى نحوه فعلا أو يزجر عنه كذلك مع ما هو عليه من كثرة أطرافه والحاصل أن اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتا في ناحية العلم ولو أوجب تفاوتا فانما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر وعدمها مع عدمه فلا يكاد يختلف العلم الإجمالي باختلاف الأطراف قلة وكثرة في التنجيز وعدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعلية وعدمها بذلك وقد عرفت آنفا أنه لا تفاوت بين التفصيليّ والإجمالي في ذلك ما لم يكن تفاوت

______________________________________________________

فعليا كذلك بحيث يصح الترخيص في بعض أطرافه لا يجب الاحتياط في أطرافه وان كانت أطرافه محصورة كما عرفت سابقا فكون الأطراف محصورة أو غير محصورة مما لا أثر له في الفرق من حيث وجوب الاحتياط وعدمه ، بل الفرق في ذلك انما ينشأ من اختلاف المعلوم من حيث كونه فعليا من جميع الجهات بحيث يضاده الترخيص الشرعي أو غير فعلي بحيث لا يضاده الترخيص الشرعي (١) (قوله : هو ان عدم الحصر) يعني عدم حصر الأطراف قد يلازم وجود المانع من فعلية الحكم من سائر الجهات بحيث لو لا المانع الملازم لكان فعليا من سائر الجهات غير الجهة التي تضاد الترخيص ولأجل المانع لا يكون فعليا من سائر الجهات بحيث لو علم به تفصيلا لما تنجز ، وذلك مثل الخروج عن محل الابتلاء أو الاضطرار إلى الارتكاب أو غيرهما مما سيذكره المصنف (ره) (٢) (قوله : لولاه من سائر) ضمير (لولاه) راجع إلى (ما يمنع) و (من سائر) متعلق بقوله : (فعليا) (٣) (قوله : في فعلية) بيان ل (ناحية المعلوم) و (مع الحصر) متعلق ب (فعلية) (قوله : والإجمالي في ذلك)

٢٩١

في طرف المعلوم أيضا فتأمل تعرف وقد انقدح أنه

______________________________________________________

(١) المشار إليه التنجيز وعدمه (٢) (قوله : في طرف المعلوم) يعني من حيث كونه فعليا من جميع الجهات وليس فعليا كذلك فان العلم التفصيليّ لما لم يكن معه الشك الّذي هو موضوع الحكم الظاهري صار الحكم معه فعليا من جميع الجهات والعلم الإجمالي لما كان معه الشك لم يكن الحكم معه كذلك. ثم إن أوجه ما يذكر في الفرق بين العلم بالمردد بين الأطراف المحصورة والعلم بالمردد بين الأطراف غير المحصورة أن احتمال انطباق المعلوم بالإجمال في الثاني على كل واحد من الأطراف لما كان ضعيفا لم يكن محركا على الموافقة بخلاف الأول ، للفرق الواضح بين العلم بنجاسة إناء مردد بين إناءين وبين العلم بنجاسة إناء مردد بين عشرة آلاف فان احتمال الانطباق في الأول لما كان قويا كان محركا على الموافقة وفي الثاني لما كان ضعيفا لم يصلح ان يكون محركا ونظيره في العرفيات سب أحد ثلاثة على الإجمال وسب واحد من أهل البلد كذلك إذ في الأول يتأثر كل واحد من الثلاثة ، وفي الثاني لا يتأثر واحد من أهل البلد ، وكذا لو علم أن في أحد الإناءين سما فانه يمنع من استعمالهما معا ولا كذلك العلم بان في أحد عشرة آلاف سما فانه لا يصلح رادعا عن الارتكاب. وفيه أنه إن كان الغرض أن نفس العلم المتعلق بالأمر المردد بين الأمور غير المحصورة لا يصلح ان يكون بيانا على متعلقه ومنجزاً له ، ففيه ما عرفت من انه إذ لا قصور في ناحية العلم لكشفه عن متعلقه كشفاً تاماً ، ولا في ناحية المعلوم لكونه فعلياً بحيث لو علم به تفصيلا لوجبت موافقته فلم لا يكون بيانا عليه؟ وان كان الغرض انه ينجز متعلقه لكن احتمال انطباقه على كل واحد لما كان ضعيفاً لم يحدث داعياً إليه ، ففيه أنه بعد تنجز المعلوم واستحقاق العقاب على مخالفته كيف لا يكون احتمال انطباقه على كل واحد من الأطراف موجبا لحدوث الداعي العقلي إلى اجتناب كل واحد منها؟ مع أن احتمال الانطباق ملازم لاحتمال العقاب على تقدير الارتكاب المانع من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان. واما ما ذكر من ضعف احتمال

٢٩٢

لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة

______________________________________________________

الانطباق ، ففيه أنه مسامحة لأن ضعف احتمال الانطباق يلازمه قوة احتمال عدم الانطباق الّذي هو الظن بعدم الانطباق ويلازمه الظن بالانطباق على غير الأطراف وهو خلف «وبالجملة» : العلم المذكور بعد ما كان بياناً على متعلقه كان منجزاً له ، وحينئذ فيكون احتمال انطباقه على كل واحد من الأطراف ملازما لاحتمال العقاب على تقدير المخالفة ، وهذا الاحتمال لا بد أن يكون داعياً في نظر العقل موجباً لرجحان الاحتياط في كل واحد من الأطراف على عدمه وان كان ذلك الاحتمال ضعيفاً جداً ، ولذا لو فرض كون احتمال الانطباق على بعض الأطراف في الشبهة المحصورة كان ضعيفاً لا مجال لتوهم عدم وجوب الاحتياط عقلا فيه. وأما ما ذكر من الأمثلة العرفية فلا مجال للاستشهاد به للفرق بينها وبين ما نحن فيه ، فان قاعدة وجوب دفع الضرر المقطوع به أو المظنون أو المحتمل وان كانت من القواعد الفطرية الموجبة للداعي النفسيّ إلا أن باب تزاحم الدواعي واسع جداً ، فقد يترجح عندهم الإقدام على الضرر المحتمل لداع آخر أهم إذ لو فرض الاجتناب عما يحتمل عندهم كونه سما لتردده بين الأطراف غير المحصورة لزم الهرج والمرج لوجود هذا الاحتمال في أكثر موارد الابتلاء ، وكذا الحال في السباب فان سب واحد من أهل البلد لا يكون نقصاً في كل واحد لكثرة وجود من يستحق السب في أكثر البلاد ، وسب واحد من اثنين يكون نقصاً في كل واحد لندرة الاستحقاق ، ولذا ترى الإنسان لا يتأثر إذا قيل له : أنت تغضب في السنة مرة ، بل لعله يعده مدحا لكثرة وقوع الغضب من أكثر أفراد الإنسان ، ويغضب إذا قيل له : أنت تغضب في كل ساعة مرة «وبالجملة» : لا مجال لقياس ما نحن فيه على الأمور العرفية ، والتأمل يشهد بذلك. فتأمل. ويمكن أن يقال : ان الشبهة بعد ما لم تكن الا محصورة أو غير محصورة كان الفرق بينهما دائماً بزيادة واحد والعقل لا يجد لزيادة الواحد دخلا في عدم وجوب الاحتياط. فلاحظ ، (١) (قوله : لا وجه لاحتمال عدم) مما ذكرنا هنا وفي مبحث القطع الإجمالي

٢٩٣

مخالفتها ضرورة أن التكليف المعلوم إجمالاً لو كان فعلياً لوجب موافقته قطعاً وإلا لم يحرم مخالفته كذلك أيضا. ومنه ظهر أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالا إما من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه أو من جهة الاضطرار إلى بعضها معيناً أو مردداً أو من جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه إجمالا في هذا الشهر كأيام حيض المستحاضة مثلا لما وجب موافقته بل جاز مخالفته وأنه لو علم فعليته ولو كان بين أطراف تدريجية لكان منجزاً ووجب موافقته فان التدرج لا يمنع عن الفعلية ضرورة أنه كما يصح التكليف بأمر حالي كذلك يصح بأمر استقبالي كالحج في الموسم للمستطيع فافهم.

______________________________________________________

يتضح لك سقوط هذا الاحتمال. فراجع وتأمل (١) (قوله : مخالفتها) هذه الإضافة لا تخلو من سماجة وتقدم مثلها (٢) (قوله : أو من جهة تعلقه بموضوع) هذا لا ينبغي عده قسما مقابلا لما قبله فانه من القسم الأول أعني عدم الابتلاء ، (٣) (قوله : كأيام حيض المستحاضة) يعني لو ابتلي الرّجل بزوجته في أثناء الشهر فوجدها مستمرة الدم فانه يعلم بان لها أيام حيض يحرم فيها نكاحها لكن لا يدري انها فيما مضى أو في الحال أو فيما يأتي (٤) (قوله : بين أطراف تدريجية) كما لو نذر أن يصوم يوم الجمعة وتردد بين غده وما بعده فانه يعلم إجمالا بوجوب صوم الغد أو ما بعده وهما مترتبان زماناً ولا يقدح ترتبهما في وجوب الاحتياط. ودعوى أن ما بعد الغد مستقبل فلا يصح التكليف به لعدم القدرة عليه قبل وجوده فلا علم إجمالي بالتكليف. مندفعة بأنه يصح التكليف بالاستقبالي كما يصح بالحالي كما هو موضح في الواجب المعلق ، ونظيره التكليف بالحج في الموسم وهو أيام الحج من شهر ذي الحجة فانه يتحقق عند خروج الرفقة المتقدم عليه بمدة طويلة ،

٢٩٤

تنبيهات

(الأول) : أن الاضطرار كما يكون مانعاً عن العلم بفعلية التكليف لو كان إلى واحد معين كذلك يكون مانعاً لو كان إلى غير معين ضرورة

______________________________________________________

(١) (قوله : ان الاضطرار كما يكون) اعلم ان الاضطرار إلى مخالفة العلم في بعض الأطراف «تارة» يكون إلى واحد معين «وأخرى» يكون إلى واحد غير معين ، وكل منهما إما أن يكون حال العلم ، واما أن يكون طارئا بعده ، وكل منهما إما أن يرتفع الاضطرار بحيث يحسن التكليف به حال العلم معلقاً على ارتفاع الاضطرار ، أولا اما لاستمرار الاضطرار إلى آخر العمر أو لارتفاعه في زمان بعيد عن العلم بحيث لا يحسن التكليف به. ولا بأس بالتعرض لأحكام كل واحدة من الصور تفصيلا «فنقول» : إذا كان الاضطرار إلى معين حال العلم مستمراً أو مرتفعاً بحيث لا يحسن التكليف به حال العلم معلقاً فلا ينبغي التأمل في عدم وجوب الاحتياط في بقية الأطراف لعدم العلم بالتكليف وان علم بموضوعه فان الفرد المضطر إليه مما يعلم بعدم التكليف به والفرد الآخر مما يشك في كونه موضوعاً له فيكون التكليف به مشكوكا بدوا «فان قلت» : لا ريب في كون الشك في الاضطرار إلى الحرام موضوعا لوجوب الاحتياط فالموضوع المحرم محرز الثبوت وانما الشك في الاضطرار إليه ، فلا وجه لرفع اليد عن التكليف مع الشك في الاضطرار إليه (قلت) : ما نحن فيه مما لم يحرز فيه موضوع التكليف لما عرفت من أن المضطر إليه خارج عن حيطة التكليف قطعاً والطرف الآخر مما أحرز عدم الاضطرار إليه ويشك في كونه موضوعا للتكليف. نعم لو أحرز موضوع التكليف كهذا الإناء المعين وشك في الاضطرار إليه كان ذلك مجرى لأصالة الاحتياط (وان كان) الاضطرار إلى المعين حال العلم يعلم بارتفاعه بحيث يحسن التكليف به بعده وجب الاحتياط في الطرف الآخر للعلم الإجمالي بالتكليف بالأمر المردد بينه وبين المضطر إليه بعد ارتفاع الاضطرار. مثلا إذا

٢٩٥

حدث العلم بغصبية أحد الإناءين يوم الخميس مع الاضطرار إلى استعمال الأبيض منهما إلى صباح الجمعة فانه يعلم بوجوب الاجتناب اما عن الأبيض يوم الجمعة لو كان هو النجس أو الأسود من الآن فيجب الاجتناب عن الأسود لأنه أحد الفردين المعلوم وجوب الاجتناب عن أحدهما (وان طرأ) الاضطرار إلى معين بعد حدوث العلم مستمراً أو بحيث لا يحسن التكليف به معلقاً حال العلم وجب الاحتياط في الطرف الآخر ، وذلك لأن التكليف بالمضطر إليه عليه تقديره وان كان ينتهي بالاضطرار إلا أن العلم الإجمالي حين حدوثه لما نجز المعلوم بالإجمال المحتمل الانطباق على الطرف الآخر كما يحتمل انطباقه على المضطر إليه قبل زمان الاضطرار وجب الاحتياط في الطرف غير المضطر إليه لأصالة الاشتغال ، وان ارتفع العلم بالتكليف فعلا لأنه يكفي في بقاء تنجز الصوم المردد بقاء العلم به ولو بعد موافقته في بعض أطرافه ، ولا يعتبر في بقاء التنجز بقاء العلم بالتكليف الفعلي الباقي ببقاء العلم كما لو علم بوجوب صوم أحد اليومين من الخميس والجمعة فصام الخميس فانه في عشاء الجمعة لا يعلم بالتكليف فعلا لكنه يعلم بوجوب صوم اليوم المردد بين اليومين وهو كاف في بقاء تنجزه ، فلم يكن بد من الاحتياط بصوم يوم الجمعة لقاعدة الاشتغال وان كان صوم يوم الجمعة مشكوك الوجوب لأن الشك في التكليف انما يكون مورداً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان إذا لم يحتمل كونه المنجز ، وإلّا كان المرجع فيه قاعدة الاشتغال ، ولذا لو شك في التكليف الّذي علم ثبوته تفصيلا للشك في امتثاله كانت هي المرجع دون أصالة البراءة كما هو واضح فكذا في المقام (وان كان) الاضطرار إلى المعين طارئا بعد حدوث العلم ويعلم بارتفاعه في زمان يحسن التكليف به حال العلم معلقاً وجب الاحتياط في الطرف الآخر لما عرفت وللعلم الإجمالي بالمردد بينه وبين المضطر إليه بعد العلم كما عرفته في الصورة الثانية فهذه صور أربع للاضطرار إلى معين لا يجب الاحتياط في الأولى منها ويجب في الثلاث الأخيرة (ولو كان) الاضطرار إلى غير المعين فصوره أيضاً أربع وهي الجارية في الاضطرار إلى معين بعينها ، ففي الصورة الأولى لا يجب الاحتياط

٢٩٦

في غير ما اختاره عند المصنف (ره) خلافا لشيخه ـ رحمه‌الله ـ في رسائله فأوجب الاحتياط فيه ، والوجه فيما اختاره المصنف (ره) : ما ذكره في المتن من أن الاضطرار لما كان مانعاً من فعلية التكليف كان الاضطرار إلى غير المعين موجبا لتضييق دائرة التكليف وتقييده بغير ما اختار فيكون ما اختاره أولا حلالا وما يبقى مشكوك الحرمة بدواً للشك في كونه هو النجس والأصل فيه البراءة ، وقد عرفت في المقدمة الرابعة من مقدمات الانسداد الإشكال عليه من بعض مشايخنا المعاصرين دام تأييده ، كما عرفت دفع ذلك الإشكال فيما هو محل الكلام من ارتكابهما تدريجاً أما لو ارتكبهما دفعة فلا ينبغي التأمل في تحقق المعصية لاندفاع الاضطرار بغير الحرام جزماً فلا وجه لارتفاع حرمته. وتوضيحه يظهر من ملاحظة تقريب الإشكال هناك فراجع وتأمل. وربما يوجه ما ذكره شيخنا في رسائله بان الاضطرار إلى واحد غير معين ليس اضطراراً إلى الحرام ، ولذا لو انكشف الحال وارتفع الإجمال كان المتعين أنه الحلال كافياً في رفع الاضطرار ، وإذا لم يكن الاضطرار إلى الحرام لا وجه لرفع اليد عن فعلية التكليف به غاية الأمر أن العقل يعذر في ارتكاب واحد منهما فيبقى الباقي على منعه لأن الترخيص الآتي من قبل الاضطرار انما يمنع عن تحصيل العلم بالموافقة فيسقط وجوبه لا عن نفس الموافقة فيبقى وجوبها (وفيه) أنه لا ريب في أن الاضطرار إلى واحد غير معين من الأمرين اضطرار إلى كل منهما تخييراً ولا فرق بين الاضطرار التعييني والتخييري في رفع فعلية التكليف «فان قلت» : لازم ذلك جواز الارتكاب للنجس حتى لو ارتفع الإجمال (قلت) : لا يجوز حينئذ لإمكان الجمع بين غرضي الشارع وهما رفع الاضطرار والاجتناب عن النجس ، ولو لا ما ذكرنا من كون الاضطرار التخييري كالتعييني لم يكن وجه للترخيص في ارتكاب واحد من الأطراف لأن التكليف بالحرام إذا كان غير مزاحم بشيء كان مطلقاً من حيث الانطباق على كل واحد من الطرفين ، ومع هذا الإطلاق لا مجال للترخيص في بعض الأطراف فانه مناف للواقع المعلوم إجمالا كما هو ظاهر ، فلا يكون الترخيص الا من جهة تقييد

٢٩٧

أنه مطلقاً موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه تعييناً أو تخييراً وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا وكذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقاً على حدوث العلم أولا حقاً وذلك لأن التكليف [١]

______________________________________________________

الواقع بحالة عدم انطباقه على ما يختار ، ولذا لا ريب في ان ما يختاره لرفع الاضطرار حلال واقعاً وان كان هو النجس ، وذلك كله شاهد بكون الاضطرار إلى غير المعين اضطرارا إلى الحرام في الجملة ولو تخييراً وانه كاف في تقييد الواقع. فلاحظ (وأما) بقية صور الاضطرار إلى غير معين فيعلم الحكم فيها مما تقدم في الثلاث الأخيرة من صور الاضطرار إلى معين لعدم الفرق بينها في مقتضيات الاحتياط. ويعلم ذلك بمقايسة كل صورة إلى نظيرتها ، فلاحظ والله سبحانه ولي التوفيق (١) (قوله : انه مطلقاً) يعني سواء أكان اضطرارا إلى معين أم إلى غير معين (٢) (قوله : ارتكاب) يعني في الشبهة التحريمية (٣) (قوله : أو تركه) يعني في الشبهة الوجوبية (٤) (قوله : تعييناً) يعني إذا كان الاضطرار إلى معين (٥) (قوله : أو تخييراً) يعني إذا كان الاضطرار إلى غير معين (٦) (قوله : وهو ينافي العلم) لأن جواز ارتكاب واحد ينافي حرمته على تقدير الارتكاب فلا بد من تضييق دائرة الحرمة وتقييد إطلاقها فتختص بالنجس ان كان هو الباقي ولا تكون له ان كان ما ارتكب فيكون ثبوت الحرمة مشكوكا للشك في كون الباقي هو النجس كما عرفت بيانه أيضا في الحاشية السابقة (٧) (قوله : وكذلك لا فرق) يعني فلا يجب الاحتياط في الباقي ولو كان الاضطرار مطلقاً لا حقاً للعلم الإجمالي (٨) (قوله : وذلك لأن التكليف) إشارة إلى وجه القول بوجوب

__________________

[١] لا يخفى ان ذلك انما يتم فيما كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه واما لو كان إلى أحدهما المعين فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجز لعدم منعه عن العلم بفعلية التكليف المعلوم إجمالا المردد بين ان يكون التكليف المحدود في ذلك الطرف أو المطلق في الطرف الآخر ضرورة عدم ما يوجب عدم فعلية مثل هذا المعلوم أصلا وعروض

٢٩٨

الاحتياط إذا كان الاضطرار لاحقا للعلم ودفعه ، وحاصل الوجه : أنه قبل طروء الاضطرار يعلم إجمالا بوجوب الاجتناب عن النجس المردد مثلا وهذا العلم يوجب تنجيز المعلوم بالإجمال ، وبعد طروء الاضطرار إلى معين أو غير معين وان ارتفع العلم المذكور إلّا ان قاعدة الاشتغال بالتكليف المنجز تقتضي وجوب الاحتياط في الباقي. وحاصل الدفع : أن وجوب الاجتناب المعلوم قبل طروء الاضطرار ليس مطلقا بل هو مقيد بعدم طروء الاضطرار ففي زمان الاضطرار لا علم بالتكليف من أول الأمر حتى يكون الباقي طرفا لمعلوم منجز فيكون مجرى لقاعدة الاشتغال ليجب فيه الاحتياط. هذا وقد استشكل المصنف (ره) في هذا الدفع في حاشيته على المقام بان الباقي طرف لعلم إجمالي قائم بين التدريجيين وهما الباقي مطلقا والمضطر إليه قبل طروء الاضطرار ، كما أشرنا إليه هنا وأوضحناه في مبحث الانحلال ، فوجوب الاحتياط فيه لأجل هذا العلم القائم بين التدريجيين وان لم يكن طرفا لعلم إجمالي آخر قائم بين الدفعيين من جهة منافاة الاضطرار لفعلية التكليف مطلقاً ، لكنه خص هذا الإشكال بالاضطرار إلى معين دون الاضطرار إلى غير معين ، مع ان الفرق بينهما غير واضح لأنه إذا اختار المكلف أحد الطرفين فارتكبه كان الآخر عنده طرفا لعلم إجمالي قائم بينه وبين ما ارتكبه قبل طروء الاضطرار بعين العلم الحاصل له في صورة الاضطرار إلى معين ، ومن هنا ذكرنا سابقا ان الحكم في الصور الثلاث الأخيرة الجارية في الاضطرار إلى غير معين هو الحكم فيها في الاضطرار إلى المعين (فان قلت) : إذا كان الاضطرار إلى غير معين منهما فكل منهما موضوع للاضطرار كما تقدم فلا يكون أحدهما قبل الارتكاب طرفا لعلم إجمالي تدريجي (قلت) : الاضطرار وان

__________________

الاضطرار انما يمنع عن فعلية التكليف لو كان في طرف معروضه بعد عروضه لا عن فعلية المعلوم بالإجمال المردد بين التكليف المحدود في طرف المعروض والمطلق في الآخر بعد العروض وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه فانه يمنع عن فعلية التكليف في البين مطلقا فافهم وتأمل «منه قدس‌سره»

٢٩٩

المعلوم بينها من أول الأمر كان محدوداً بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقه فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوماً لاحتمال أن يكون هو المضطر إليه فيما كان الاضطرار إلى المعين أو يكون هو المختار فيما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين (لا يقال) : الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلّا كفقد بعضها فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان كذلك لا ينبغي الإشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه خروجاً عن عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه (فانه يقال) : حيث أن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به وقيوده كان التكليف المتعلق به مطلقا فإذا اشتغلت الذّمّة به كان قضية الاشتغال به يقيناً الفراغ عنه كذلك وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه فانه من حدود التكليف به وقيوده

______________________________________________________

كان إلى كل منهما إلا أنه على البدل فيكون هناك علم إجمالي على البدل قائم بالطرف الّذي لا ينطبق عليه الاضطرار فتأمل جيداً (١) (قوله : محدوداً بعدم) يعني مشروطاً بعدم طروء الاضطرار بحيث ينتهي التكليف بطروئه ، (٢) (قوله : حيث ان فقد المكلف به) المراد من المكلف به في المقام الموضوع الّذي يتعلق به فعل المكلف مثل الإناء النجس كما تقتضيه قرينة السؤال ووجه الفرق بين فقد بعض الأطراف والعجز عنه والاضطرار إليه مع اشتراكها في كون عدمها دخيلا في التكليف في الجملة ـ بحيث ربما يقال يعتبر في التكليف عدم الاضطرار والقدرة وكون موضوعه في مقام الابتلاء بحيث يكون موجودا لا مفقوداً ـ أن مقام شرطية هذه الأمور الثلاثة للتكليف مختلفة فان شرطية عدم الاضطرار راجعة إلى شرطية عدم المزاحم للمصلحة المقتضية للحكم ، فان المفسدة في النجس مثلا إنما تصلح للتأثير في حرمة شربه إذا لم تزاحم بمصلحة أهم كما لو توقف حفظ النّفس من الهلاك على شرب النجس الّذي هو معنى الاضطرار إليه أما إذا زوحمت بها كان شرب النجس أرجح من عدمه ، وشرطية القدرة راجعة إلى شرطية عدم المانع من تعلق الإرادة

٣٠٠