حقائق الأصول - ج ٢

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

حقائق الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت (ع) للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

محكمة فيما شك فيها لأجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعاً كما أن أصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طروء ما يمنع عنه فيحكم بها فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه كما لا يخفى فتأمل جيداً (الثاني) انه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبية أو التحريمية في العبادات وغيرها كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الأمر أو النهي ، وربما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب من جهة أن العبادة لا بد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا وحسن الاحتياط عقلا لا يكاد يجدي في رفع الإشكال ولو قيل بكونه موجباً لتعلق الأمر به شرعاً بداهة توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته؟ وانقدح بذلك أنه لا يكاد يجدي في رفعه أيضاً القول بتعلق الأمر به

______________________________________________________

(١) (قوله : محكمة) كما عرفت في صدر المبحث كما عرفت أيضاً أنه بناء على ما ذكر في معنى التذكية لا تجري أصالة عدم التذكية إذا شك في شرطية شيء لها (٢) (قوله : إذا شك في طروء) يعني بنحو تكون الشبهة موضوعية (٣) (قوله : في جريان الاحتياط) يعني في إمكان الاحتياط فيها ولازم الإشكال المذكور عدم إمكانه في العبادات (٤) (قوله : وغير الاستحباب) أما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب فلا مجال للإشكال للعلم بالأمر المصحح لنية القربة. نعم يشكل من جهة الوجه وهو إشكال آخر. فتأمل (٥) (قوله : من جهة ان العبادة) بيان لوجه الإشكال ، وحاصله : أن الاحتياط عبارة عن الإتيان بمحتمل الواقع ، وهذا لا يمكن في العبادة لأن قوام العبادة نية القربة وهي متوقفة على الأمر فمع الشك في الأمر تتعذر نية القربة ، وحينئذ لا يمكن الإتيان بمحتمل العبادة لأن المأتي به بلا نية القربة يعلم بأنه ليس هو العبادة (٦) (قوله : وحسن الاحتياط) هذا أحد وجوه دفع الإشكال ، وحاصله : أن حسن الاحتياط عقلا لما كان

٢٦١

من جهة ترتب الثواب عليه ضرورة أنه فرع إمكانه فكيف يكون من مبادئ جريانه؟ هذا

______________________________________________________

موجباً لمطلوبيته شرعا بناء على الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع في المقام أمكنت نية القربة للعلم بأمر الشارع تفصيلا ولو بتوسط حسن الاحتياط عقلا. وحاصل إيراد المصنف ـ رحمه‌الله ـ عليه : أن حسن الاحتياط عقلا من قبيل العارض عليه والعارض متأخر رتبة عن المعروض فيمتنع أن يكون من علل وجوده لأنه دور (١) (قوله : من جهة ترتب الثواب) هذا وجه آخر لدفع الإشكال (وتوضيحه) أن ترتب الثواب على الاحتياط يتوقف على كونه طاعة وهو يتوقف على تعلق الأمر به فيكشف ترتب الثواب عن تعلق الأمر كشف المعلول عن علته ، فيتأتى حينئذ الإتيان بالفعل بنية القربة. وحاصل إشكال المصنف ـ رحمه‌الله ـ عليه : أن ثبوت الأمر يتوقف على إمكان الاحتياط فيمتنع أن يتوقف عليه إمكان الاحتياط لأنه دور. وقد يدفع بكلا تقريريه بأنه دور معي فان إمكان الاحتياط وإن كان موقوفا على الأمر به إلا أن الأمر به موقوف على إمكانه ولو بواسطة الأمر. وفيه أن داعوية الأمر بالاحتياط متأخرة رتبة عن الأمر به فيمتنع أن تكون مأخوذة في موضوعه «وان شئت قلت» : تطبيق مفهوم الاحتياط على فعل العبادة المشكوكة يتوقف على تعلق الأمر بها إذ لو لا الأمر لا مجال لتطبيق الاحتياط عليها ، وحينئذ يمتنع أن يكون المصحح للتطبيق المذكور هو الأمر بالاحتياط لأنه متأخر رتبة عن التطبيق ، فلا يكون مصححاً له. وكأن المستشكل حسب أن المراد بالإمكان ما هو مفاد كان التامة ، فأمكنه أن يقول : لا دليل على وجوب كون المأمور به ممكناً في رتبة سابقة على الأمر بل يجوز أن يكون الأمر من مقدمات إمكانه ، ولذا صح أن يكون الأمر من مقدمات وجود المأمور به. وفيه أن المراد بالإمكان في المقام ما هو مفاد كان الناقصة ـ أعني تطبيق الاحتياط على فعل العبادة المشكوكة المطلوبية ـ إذ قد عرفت أن هذا التطبيق يتوقف على الأمر في رتبة سابقة عليه ، ولا يكفي فيه الأمر بالاحتياط ، لأن

٢٦٢

مع أن حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الأمر به بنحو اللم ولا ترتب الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الإن ، بل يكون حاله في ذلك حال الإطاعة فانه نحو من الانقياد والطاعة ، وما قيل في دفعه من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة فيه ـ مضافا إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على حسنه بهذا المعنى فيها بداهة انه ليس باحتياط حقيقة بل هو أمر لو دل عليه دليل كان مطلوباً مولوياً نفسياً عباديا والعقل لا يستقل إلّا بحسن الاحتياط والنقل لا يكاد يرشد الا إليه (نعم) لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة لما كان محيص عن دلالته اقتضاء على ان المراد به ذاك المعنى بناء على عدم إمكانه فيها بمعناه حقيقة كما لا يخفى

______________________________________________________

الأمر بمفهوم الاحتياط لا يصحح تطبيقه على المورد. ومن ذلك يظهر الإشكال في قوله : إلا أن الأمر به موقوف على إمكانه ولو بواسطة الأمر ، ضرورة أن الأمر بمفهوم لا يصحح تطبيقه ولا يمكن أن يكون دخيلا فيه لأنه من قبيل الحكم والحكم لا يكون علة لوجود موضوعه. فتأمل جيداً (١) (قوله : مع أن حسن) هذا إشكال آخر على ما ذكر في دفع الإشكال ، (وتوضيحه) : أن حسن الاحتياط عقلا وترتب الثواب عليه لا يكون كاشفاً عن الأمر به ، بل يمكن أن يكون من قبيل حسن الإطاعة الحقيقية وترتب الثواب عليها فانهما لا يكشفان عن الأمر بالإطاعة شرعا لما عرفت من أن الأمر بها إرشادي لا غير فلاحظ (٢) (قوله : فانه نحو من) الضمير راجع إلى الاحتياط وحينئذ يكون ترتب الثواب على الاحتياط ذاتيا بلا توسط امر به (٣) (قوله : في دفعه) أي في دفع الإشكال في جريان الاحتياط في العبادة (٤) (قوله : هو مجرد الفعل) وحينئذ لا مجال للشك في جريانه (٥) (قوله : أنه ليس باحتياط) إذ هو ليس إتيانا بمحتمل الواقع حتى يكون احتياطا حقيقة (٦) (قوله : مولويا نفسيا) يعني لا إرشاديا لأنه ليس موضوعا لحكم العقل حتى يكون الأمر الشرعي إرشادا إليه (قوله : نعم لو كان هناك)

٢٦٣

أنه التزام بالإشكال وعدم جريانه فيها وهو كما ترى (قلت) : لا يخفى أن منشأ الإشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر الشروط المعتبرة فيها مما يتعلق بها الأمر المتعلق بها فيشكل جريانه حينئذ لعدم التمكن من قصد القربة المعتبر فيها وقد عرفت انه فاسد [١] وإنما اعتبر قصد القربة فيها عقلا لأجل أن الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه وعليه كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الإمكان ضرورة التمكن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله غاية الأمر انه

______________________________________________________

(١) استدراك على قوله عدم مساعدة دليل ... إلخ (٢) (قوله : انه التزام بالإشكال) هذا هو أصل الاعتراض فهو مبتدأ خبره قوله : (فيه مضافا) (٣) (قوله : انه فاسد) لما تقدم في مبحث الأمر من البرهان على امتناع أخذ القربة في موضوع الأمر وان ليس موضوعه الا ذات العبادة (٤) (قوله : ضرورة التمكن) أقول : التمكن المذكور وان كان تمكنا من الاحتياط إلا أن مثل هذا الاحتياط

__________________

[١] هذا مع انه لو أغمض عن فساده لما كان في الاحتياط في العبادات إشكال غير الإشكال فيها فكما يلتزم في دفعه بتعدد الأمر فيها ليتعلق أحدهما بنفس العمل والآخر بإتيانه بداعي امره كذلك فيما احتمل وجوبه منها كان على هذا احتمال امرين كذلك أي أحدهما كان متعلقا بنفسه والآخر بإتيانه بداعي ذاك الأمر فيتمكن من الاحتياط فيها بإتيان ما احتمل وجوبه بداعي رجاء امره واحتماله فيقع عبادة وإطاعة لو كان واجبا وانقياداً لو لم يكن كذلك. نعم كان بين الاحتياط هاهنا وفي التوصليات فرق وهو ان المأتي به فيها قطعا كان موافقا لما احتمل وجوبه مطلقا بخلافه هاهنا فانه لا يوافق الا على تقدير وجوبه واقعاً لما عرفت من عدم كونه عبادة الا على هذا التقدير ، ولكنه ليس بفارق لكونه عبادة على تقدير الحاجة إليه وكونه واجبا (ودعوى) عدم كفاية الإتيان برجاء الأمر في صيرورته عبادة أصلا ولو على هذا التقدير (مجازفة) ضرورة استقلال العقل بكونه امتثالا لأمره على نحو العبادة لو كان وهو الحاكم في باب الإطاعة والعصيان فتأمل جيداً.

منه قدس‌سره

٢٦٤

لا بد أن يؤتي به على نحو لو كان مأموراً به لكان مقرِّبا بان يؤتى به بداعي احتمال الأمر أو احتمال كونه محبوباً له تعالى فيقع حينئذ على تقدير الأمر به امتثالا لأمره تعالى وعلى تقدير عدمه انقياداً لجنابه تبارك وتعالى ويستحق الثواب على كل حال إما على الطاعة أو الانقياد وقد انقدح بذلك انه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلق أمر بها بل لو فرض تعلقه بها

______________________________________________________

مما لا يستقل العقل بحسنه ولا يرشد النقل إليه كما تقدم الإشكال به منه (ره) على الوجه الثالث من وجوه الدفع. هذا مضافا إلى أن نية القربة وان كانت خارجة عن موضوع الأمر إلا أنه لما لم يكن للموضوع إطلاق يشمل حال عدمها كما تقدم توضيحه سابقا فلا ينطبق عنوان الاحتياط على فعله مطلقا بل يختص بالفعل الصادر عن نية القربة فيرجع الإشكال. فالأولى في دفعه (اما) بالالتزام بان القربة المعتبرة في العبادة يراد بها الجامع بين الفعل عن الأمر المعلوم والفعل برجاء الأمر ولا تختص بخصوص الأول غاية الأمر اختصاص الأول بصورة العلم بالأمر واختصاص الثاني بصورة الشك فيه إذ على هذا لا مجال لدعوى عدم التمكن من نية القربة مع الشك في الأمر كما ذكر المستشكل للتمكن منها بالتمكن من الفرد الآخر لها (واما) من الالتزام بان الفعل في حال الشك في الأمر يصدر عن نفس الأمر كما يصدر عنه في حال العلم غاية الأمر أن تأثير الأمر في وجود الفعل ، تارة يكون بتوسط العلم به ، وأخرى يكون بتوسط احتماله فالعلم والاحتمال دخيلان في تأثير الأمر في وجود الفعل فنية القربة الممكنة في حال العلم بعينها ممكنة في حال الشك بلا فرق بينهما أصلا ، ومنه يظهر أنه لا يتوقف اندفاع الإشكال على كون نية القربة خارجة عن موضوع الأمر لتأتي الوجهين ولو قيل بدخولها فيه. فلاحظ (١) (قوله : لا بد ان يؤتى به على) لا ملزم بذلك إلا ما أشرنا إليه في صدر الحاشية السابقة من عدم إطلاق متعلق الأمر بنحو يشمل صورة عدم الداعي. هذا لو كان الاحتياط عبارة عن مجرد فعل مشكوك المطلوبية ، وان كان عبارة عن فعله بداعي موافقة

٢٦٥

لما كان من الاحتياط بشيء بل كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها كما لا يخفى ، فظهر أنه لو قيل بدلالة اخبار : (من بلغه ثواب) على استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف لما كان يجدي في جريانه في خصوص ما دل على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف بل كان ـ عليه ـ مستحباً كسائر ما دل الدليل على استحبابه

______________________________________________________

الأمر على تقدير ثبوته فالملزم به أنه لولاه لا يكون الفعل احتياطا. فتأمل جيداً (١) (قوله : لما كان من الاحتياط) لأن قوام الاحتياط كون الفعل برجاء موافقة الأمر الواقعي الموجب لتردده بين كونه طاعة وانقياداً وفعل مشكوك المطلوبية لموافقة الأمر المتعلق به بعنوان كونه مشكوك المطلوبية ليس إلا طاعة جزمية. ثم إن إشكال تعلق الأمر الاستحبابي بالفعل المشكوك المطلوبية من جهة لزوم اجتماع الحكمين للفعل الواحد لا مجال لدفعه ببعض ما تقدم في إشكال الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية من كون الحكم الظاهري عذريا صرفا أو طريقيا لعدم كون الأمر الاستحبابي كذلك ، فلا بد من دفعه بغير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه من عدم التنافي مع اختلاف الرتبة أو غير ذلك إن تم وإلّا أشكل تعلق الأمر بالفعل المشكوك المطلوبية بما هو كذلك. فلاحظ وتأمل (٢) (قوله : لما كان يجدي في جريانه) هذا وجه آخر لدفع إشكال جريان الاحتياط في العبادة ، وتوضيحه أن الشك في المطلوبية الواقعية وإن كان مانعا عن التمكن من قصد التقرب بها بالنظر إلى الأمر الواقعي إلا أن الاخبار الكثيرة الدالة على ترتب الثواب على العمل الّذي دل على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف تدل على استحباب العمل المذكور فيمكن التقرب بلحاظ هذا الاستحباب المدلول عليه بهذه الاخبار ، وحاصل الإشكال عليه ، ما عرفت من أن موافقة هذا الأمر الاستحبابي لما كان طاعة جزمية لم تكن من الاحتياط في شيء إذ قوامه كون الفعل بقصد موافقة الأمر الواقعي الثابت في رتبة سابقة على عنوان الاحتياط الموجب لتردد الفعل بين

٢٦٦

(لا يقال) : هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الّذي بلغ عليه الثواب بعنوانه ، وأما لو دل على استحبابه لا بهذا العنوان بل بعنوان انه محتمل الثواب لكانت دالة على استحباب الإتيان به بعنوان الاحتياط كأوامر الاحتياط لو قيل بأنها للطلب المولوي لا الإرشادي (فانه يقال) : إن الأمر بعنوان الاحتياط ـ ولو كان مولويا ـ لكان توصليا مع أنه لو كان عباديا لما كان مصححاً للاحتياط ومجدياً في جريانه في العبادات كما أشرنا إليه آنفاً. ثم إنه لا يبعد دلالة بعض تلك الاخبار على

______________________________________________________

كونه طاعة وانقيادا بحتا فلاحظ (١) (قوله : لا يقال هذا لو قيل بدلالتها) هذا القائل تخيل أن وجه عدم ارتفاع الإشكال بالاستحباب المستفاد من اخبار من بلغه ... إلخ كون الاستحباب المذكور ناشئا عن مصلحة في نفس عنوان بلوغ الثواب على العمل ولا ربط له بالواقع فيكون استحبابا مستقلا في قبال الواقع ، أما لو كان أمرا بما هو محتمل الواقع من حيث كونه كذلك كان كاستحباب الاحتياط بناء على كونه شرعياً كافياً في إمكان التقرب بالعبادة المشكوكة (٢) (قوله : فانه يقال إن الأمر) حاصل الإشكال عليه امران (الأول) أن أوامر الاحتياط لو كانت مولوية لا إرشادية فهي توصلية لا عبادية ، فيكفي في سقوطها مجرد موافقتها ولا يتوقف سقوطها على داعويتها كما هو شأن الأوامر العبادية ، وحينئذ فلا ملزم بنية التقرب لها (والثاني) ما تقدم من لزوم الدور وغيره. هذا ولا يخفى أن مفهوم الاحتياط تارة يكون منتزعا عن مجرد فعل مشكوك المطلوبية ، وأخرى يكون منتزعا عن الفعل المذكور بعنوان كونه عن دعوة امره الواقعي المحتمل ، فعلى الأول يكون الأمر به مولويا عباديا تارة وتوصليا أخرى ، وعلى الثاني لا يكون الأمر به إلا إرشاديا لعين البرهان المتقدم على كون أوامر الإطاعة إرشادية فلا يتضح الوجه لما ذكره المصنف (ره) من لزوم كون امر الاحتياط مولويا توصليا ، مضافا إلى أن كونه توصليا لا يمنع من صحة مقربيته فيصحح جريان الاحتياط في العبادة. فتأمل جيداً (٣) (قوله : لا يبعد دلالة بعض) اعلم أن الاخبار المشار

٢٦٧

إليها تحتمل بدواً أحد معان ثلاثة (الأول) حجية الخبر الضعيف الدال على استحباب الفعل أو وجوبه وترتب الثواب عليه فيكون مفادها حكما أصوليا لا فرعيا (الثاني) استحباب الفعل الّذي بلغ المكلف عليه الثواب فيكون الفعل بسبب طروء عنوان بلوغ الثواب عليه مستحبا شرعياً كسائر المستحبات الشرعية (الثالث) ترتب الثواب على الانقياد الحاصل من الفعل برجاء كونه مطلوبا شرعاً ، وظاهر فتوى المشهور بالاستحباب بمجرد ورود الخبر الضعيف الدال على وجوب الفعل أو استحبابه هو الأول حتى اشتهر تعليل ذلك بالتسامح في أدلة السنن إذ لو لا استفادتهم من الاخبار المذكورة ذلك لم يكن وجه لإفتاء العامي بالاستحباب بمجرد عثور المجتهد على الخبر وعدم عثور العامي عليه ، بل اللازم على تقدير استفادتهم منها الثاني الفتوى باستحباب الفعل الّذي بلغ المكلف عليه الثواب ولا يكون مستحبا في حق العامي إلا إذا عثر على الخبر الدال على ترتب الثواب عليه ، إلا أن يكونوا قد فهموا من البلوغ الطريقية المحضة إلى نفس الوجود الواقعي بحيث تدل على استحباب الفعل الّذي يوجد خبر يدل على ترتب الثواب عليه وان لم يبلغ المكلف ، والمصنف (ره) استظهر الثاني من صحيحة هشام بتقريب : أن ترتب الثواب على العمل المترتب على بلوغ الثواب عليه (تارة) يكون بعنوان كونه رجاء موافقة الواقع ، وعليه فلا طريق إلى استكشاف الأمر المولوي الموجب لاستحبابه لعدم المقتضي له مع صلاحية العنوان المذكور لترتب الثواب ولو لم يكن أمر حيث أنه إطاعة حكمية موجبة بذاتها لترتب الثواب عليها كالإطاعة الحقيقية (وأخرى) يكون على نفس العمل بلا أخذ العنوان المذكور جهة تقييدية بل أخذه جهة تعليلية ، وعليه فلا بد من استكشاف الأمر المولوي لعدم صلاحية نفس العمل لترتب الثواب عليه إلا بتوسط انطباق عنوان الإطاعة اللازم لوجود الأمر ، وظاهر الصحيحة هو الثاني ، وظاهر غيرها وان كان الأول إلا أنه لا منافاة بينهما فيؤخذ بظاهر كل منهما (هذا) ولكن لا يخفى أن المناط في استكشاف الأمر المولوي في مثل : من سرح لحيته فله كذا ، ليس هو ترتب الثواب على العمل مطلقاً

٢٦٨

استحباب ما بلغ عليه الثواب فان صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : (من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله) ظاهرة في ان الأجر كان مترتباً على نفس العمل الّذي بلغه عنه أنه ذو ثواب وكون العمل متفرعاً على البلوغ وكونه الداعي إلى العمل غير موجب لأن يكون الثواب إنما يكون مترتبا عليه فيما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط

______________________________________________________

لأن الثواب بعد ما كان لا يختص بالإطاعة ويكون على الانقياد فلا ملازمة بينه وبين الإطاعة اللازمة للأمر الا في ظرف القطع بعدم انطباق عنوان الانقياد ، وهذا القطع غير حاصل في المقام فمع احتمال كون الثواب من جهة الانقياد لا مجال للاستكشاف المذكور ، مضافا إلى أن ظاهر الصحيحة كون موضوع الثواب هو العمل المتفرع على البلوغ لمكان الفاء ، وهذا العمل هو منشأ انتزاع عنوان الانقياد الّذي قد عرفت أنه كالإطاعة يمتنع أن يتعلق به الأمر المولوي ولا موجب لرفع اليد عن هذا الظهور وجعل الثواب مترتبا على نفس العمل بلا ملاحظة حيثية ترتبه على البلوغ ، لا أقل من كون الصحيحة من قبيل المقرون بما يصلح للقرينية المانع عن انعقاد ظهوره الموجب لإجراء حكم الإجمال عليه فيرجع إلى غيره مما هو ظاهر في المعنى الأخير ، ولو فرض عدم حجيته في نفسه فالمرجع أصالة عدم الاستحباب ، مع أن الحكم بالاستحباب يحتاج إلى تكلف دفع إشكال الجمع بينه وبين الحكم الواقعي الّذي عرفت الإشارة إليه قريباً. وأما المعنى الأول فهو ساقط قطعاً لعدم اشعار في النصوص به فضلا عن ظهورها فيه ، بل لعل صراحة النصوص بترتب الثواب على العمل ولو في صورة مخالفة الخبر للواقع شاهد بخلافه لأن الأمر الطريقي لا يصلح لترتب الثواب في صورة الخطأ ، بل يكون حينئذ على الانقياد فتأمل ، فالمتعين من بين المعاني هو الأخير والله سبحانه اعلم (١) (قوله : غير موجب لأن يكون) يعني لا يوجب ان يكون الترتب على البلوغ ملحوظا قيدا في موضوع

٢٦٩

بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً يؤتى به بذاك الوجه والعنوان وإتيان العمل بداعي طلب قول (النبي) كما قيد به في بعض الأخبار وإن كان انقياداً إلا أن الثواب في الصحيحة إنما رتب على نفس العمل ولا موجب لتقييدها به لعدم المنافاة بينهما بل لو أتى به كذلك أو التماساً للثواب الموعود كما قيد به في بعضها الآخر لأوتي الأجر والثواب على نفس العمل لا بما هو احتياط وانقياد فيكشف عن كونه بنفسه مطلوباً وإطاعة فيكون وزانه وزان : من سرح لحيته ، أو من صلى أو صام فله كذا ، ولعله لذلك أفتى المشهور بالاستحباب فافهم وتأمل (الثالث)

______________________________________________________

الثواب (١) (قوله : في بعض الاخبار) هو رواية محمد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له ذلك الثواب وان كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله (٢) (قوله : ولا موجب لتقييدها) قد عرفت أنه لو لم يكن موجب للتقييد فلا موجب للإطلاق المؤدى إلى استظهار الاستحباب (٣) (قوله : كذلك) يعني طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) (قوله : في بعضها الآخر) وهو رواية محمد ابن مروان عن أبي جعفر عليه‌السلام : من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وان لم يكن الحديث كما بلغه (٥) (قوله : لأوتي الأجر والثواب) هذا غير ظاهر إذ لو فرض دلالة هذه النصوص على استحباب الفعل كما ذكر المصنف ـ رحمه‌الله ـ كان ترتب الثواب على العمل منوطاً بقصد استحبابه المستفاد منها أما لو لم يقصد الأمر الواقعي المحتمل فالثواب المترتب لا بد أن يكون على الانقياد لا غير لأن ترتب الثواب تابع لقصد الفاعل عقلا فان قصد أمراً معيناً ترتب الثواب المترتب على ذلك الأمر ولا يترتب ثواب غيره إلا تفضلا فثواب الإطاعة لا يترتب على الانقياد ولا العكس بل المترتب ثواب نفسه عليه (٦) (قوله : فيكون وزانه وزان) قد عرفت الفرق بينهما (٧) (قوله : ولعله لذلك أفتى) قد عرفت أن فتوى المشهور إنما تتم بناء على استفادة حجية الخبر

٢٧٠

أنه لا يخفى ان النهي عن شيء إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان بحيث

______________________________________________________

الضعيف منها ولا يكفي فيها استفادة الاستحباب (١) (قوله : إذا كان بمعنى طلب تركه) قد عرفت الإشارة إلى جملة من أنحاء تصور الماهية في مسألة تعلق الأمر بالطبائع وان الماهية التي تكون موضوعا للأمر والنهي تكون ملحوظة بما أنها حاكية عن الوجود الخارجي بحيث لا ترى الا خارجية وان لحاظها كذلك قد يكون لحاظا لصرف الطبيعة وهو المسمى بصرف الوجود وقد يكون لحاظا لكل حصة حصة من الطبيعة وهو المسمى بالطبيعة السارية ، ولازم الأول ان لو كانت موضوعا للنهي كانت له طاعة واحدة حاصلة بترك جميع أفرادها ومعصية واحدة حاصلة بفعل بعض أفرادها ولو مع ترك الباقي ، ولازم الثاني أن لو كانت موضوعا للنهي كانت له طاعات متعددة ومعصية كذلك بتعدد حصص الطبيعة فإذا ارتكب فرداً وترك آخر عصى في الأول وأطاع في الثاني ، فلو ارتكب أفراداً كثيرة وترك مثلها عصى في كل واحد مما ارتكب وأطاع في كل واحد مما ترك ، والسر في ذلك أن التكليف المتعلق بها على النحو الأول ليس إلّا تكليفاً واحداً لموضوع واحد فلا مجال لتعدد إطاعته ومعصيته ، والتكليف المتعلق بها على النحو الثاني منحل إلى تكاليف متعددة بتعدد الحصص فلكل واحد من تلك التكاليف طاعة ومعصية. ومنه يظهر أنه لو شك في فردية خارجي لتلك الماهية ، فعلى الأول يجب الاحتياط إذ الشك ليس في التكليف لكون التكليف الوارد على المفهوم المحصل معلوماً وانما الشك في أن ارتكاب ذلك الخارجي المشتبه معصية للنهي أولا وحيث أن شغل الذّمّة اليقيني يستدعى الفراغ اليقيني فلا بد من تركه ليحصل اليقين بالفراغ عن التكليف المعلوم ، وعلى الثاني لا يجب الاحتياط لأن الشك في فردية الخارجي مستلزم للشك في أصل التكليف به حيث أنه على تقدير كونه فرداً فهو موضوع لتكليف مستقل فالشك في فرديته مستلزم للشك في تعلق التكليف به ، ومع الشك في التكليف يكون المرجع البراءة. ومن هنا يظهر أن إطلاق القول بان المرجع في الشبهة الموضوعية التحريمية هو البراءة في غير محله بل يختص بما

٢٧١

لو وُجد في ذاك الزمان أو المكان ـ ولو دفعة ـ لما امتثل أصلا كان اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرة ولو بالأصل فلا يجوز الإتيان بشيء يشك معه في تركه إلا إذا كان مسبوقا به ليستصحب مع الإتيان به (نعم) لو كان بمعنى طلب ترك كل فرد منه على حدة لما وجب إلا ترك ما علم أنه فرد وحيث لم يعلم تعلق النهي إلا بما علم أنه مصداقه فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة ، فانقدح بذلك أن مجرد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة أو كان الشيء مسبوقا بالترك وإلا لوجب الاجتناب عنها عقلا لتحصيل الفراغ قطعاً فكما يجب فيما علم وجوب شيء إحراز إتيانه إطاعة لأمره فكذلك يجب فيما علم حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالا لنهيه غاية الأمر كما يحرز وجود الواجب بالأصل كذلك يحرز ترك الحرام به والفرد المشتبه

______________________________________________________

كان موضوع النهي فيه ملحوظاً بنحو الطبيعة السارية. هذا ولكن قد يقال : بأن صرف الوجود وإن كان عبارة عن صرف المفهوم الصالح للانطباق على القليل والكثير إلا أنه كما يكون في ظرف انطباقه على القليل عين القليل يكون في ظرف انطباقه على الكثير عين الكثير فالشك في فردية خارجي للطبيعة ملزوم للشك في اتساع دائرة التكليف بنحو يشمل ذلك الخارجي وضيقه فلا يخرج أصل التكليف عن كونه موضوعا للشك الموجب للرجوع فيه إلى أصالة البراءة. ومما ذكرنا يظهر لك الفرق بين المقام وبين الموارد التي يكون الشك فيها في المحصِّل فان المتحصل الواجب لما لم يكن عين المحصل في الخارج ، بل كان أجنبياً عنه فالشك فيه لا يكون شكا في التكليف ، بل الشك فيما يحصل الواجب يقيناً الموجب لتحصيل الفراغ عنه يقيناً بالاحتياط (١) (قوله : إذا كان بمعنى) يعني كان ملحوظاً بنحو صرف الوجود (٢) (قوله : مسبوقا به ليستصحب) يعني إذا كان مسبوقا بتركه بحيث يصدق عليه أنه تارك للخمر مثلا فانه يجوز له ارتكاب الفرد المشكوك لاستصحاب

٢٧٢

وان كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه إلا أن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه ولا يكاد يحرز إلّا بترك المشتبه أيضا فتفطن (الرابع) أنه قد عرفت حسن الاحتياط عقلا ونقلا ولا يخفى أنه مطلقاً كذلك حتى فيما كان هناك حجة على عدم الوجوب أو الحرمة أو أمارة معتبرة على انه ليس فرداً للواجب أو الحرام ما لم يخل بالنظام فعلا فالاحتياط قبل ذلك مطلقاً يقع حسناً كان في الأمور المهمة كالدماء والفروج أو غيرها وكان احتمال التكليف قوياً أو ضعيفاً كانت الحجة على خلافه أولا ، كما ان الاحتياط الموجب لذلك لا يكون حسناً كذلك وان كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا فافهم.

______________________________________________________

تركه للخمر الّذي هو موضوع الطلب نظير استصحاب الطهارة من الحدث والخبث لإثبات الطهارة المعتبرة في الصلاة وغيرها (١) (قوله : وان كان مقتضى أصالة) يعني مقتضى أصالة البراءة مع قطع النّظر عن العلم بحرمة صرف الطبيعة أما بالنظر إليه فحيث أنه بيان يكون رافعاً لموضوع أصالة البراءة ، وهذا هو المراد من تقديم مقتضى لزوم إحراز الترك اللازم على مقتضى أصالة البراءة وإلّا فلا وجه لتقديم مقتضى أحدهما على مقتضى الآخر مع تساويهما في الاقتضاء (٢) (قوله : حتى فيما كان) بيان لوجه الإطلاق ، (٣) (قوله : حجة على عدم) هذا في الشبهة في الحكم الكلي (٤) (قوله : أو أمارة معتبرة) هذا في الشبهة الموضوعية (٥) (قوله : ما لم يخل بالنظام) قيد لقوله : حسن الاحتياط (٦) (قوله : قبل ذلك) يعني قبل أن يكون مخلا فعلا بالنظام ، (٧) (قوله : كان في الأمور) بيان لوجه الإطلاق (٨) (قوله : لذلك) يعني الخلل بالنظام (٩) (قوله : كذلك) يعني مطلقاً بالنحو المذكور (١٠) (قوله : وان كان الراجح) يعني إذا كان الاحتياط التام موجباً لاختلال النظام فالراجح لمن التفت إلى ذلك التبعيض في الاحتياط والاقتصار فيه على ما لا يلزم منه الاختلال وترجيح الاحتياط في الموارد المهتم بها ، أو يكون احتمال التكليف فيها أقوى على الاحتياط

٢٧٣

فصل

إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته لعدم نهوض حجة على أحدهما تفصيلا بعد نهوضها عليه إجمالا ففيه وجوه (الحكم) بالبراءة عقلا ونقلا لعموم النقل وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به (ووجوب) الأخذ بأحدهما تعييناً أو تخييراً (والتخيير) بين الترك والفعل عقلا مع التوقف عن الحكم به رأساً أو مع الحكم عليه بالإباحة شرعا أوجهها الأخير لعدم الترجيح بين الفعل والترك وشمول مثل : «كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام» له

______________________________________________________

في غيرها ، ووجه ترجيح تلك الموارد على غيرها ظاهر (١) (قوله : لعموم النقل) مثل حديث الرفع وغيره مما استدل به على البراءة (٢) (قوله : للجهل به) الموجب لصدق عدم البيان الّذي هو موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان (٣) (قوله : ووجوب الأخذ) معطوف على الحكم بالبراءة فيكون هو الوجه الثاني (٤) (قوله : تعييناً) بان يأخذ باحتمال الحرمة فان دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ولغير ذلك (٥) (قوله : أو تخييراً) بان يتخير بين الأخذ باحتمال الوجوب فيلزمه الفعل والأخذ باحتمال الحرمة فيلزمه الترك ، وبذلك يفترق عن الوجه الثالث الّذي هو التخيير بين الفعل والترك فانه تخيير في العمل لا غير (٦) (قوله : أوجهها الأخير) وهو التخيير عقلا عملا والحكم بالإباحة شرعاً فالدعوى مركبة من أمرين (٧) (قوله : لعدم الترجيح) استدلال على الأمر الأول منهما ، وحاصله : ان في كل من الفعل والترك احتمال الموافقة والمخالفة إذ لو فعل احتمل الموافقة على تقدير الوجوب والمخالفة على تقدير الحرمة ولو ترك احتمل الموافقة على تقدير الحرمة والمخالفة على تقدير الوجوب وحيث تساوى الفعل والترك في ذلك يحكم العقل بالتخيير بينهما فان شاء فعل وان شاء ترك (٨) (قوله : وشمول مثل) استدلال على الأمر الثاني منهما يعني أن الرواية المذكورة لا تختص بمحتمل الحرمة والإباحة بل تشمل محتمل الحرمة والوجوب

٢٧٤

ولا مانع عنه عقلا ولا نقلا وقد عرفت انه لا يجب موافقة الأحكام التزاماً ولو وجب لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه ممكنا والالتزام التفصيليّ بأحدهما لو لم يكن تشريعاً محرماً لما نهض على وجوبه دليل قطعاً ، وقياسه بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب باطل فان التخيير بينهما على تقدير كون الاخبار حجة من باب السببية يكون على القاعدة

______________________________________________________

فتكون حجة على ثبوت الإباحة فيه شرعا. هذا ولكن قد عرفت أن مفاد الرواية جعل الحل الواقعي المقابل للحرمة في ظرف الشك في الحرمة نظير قاعدة الطهارة وقاعدة الحرية وغيرهما ، ومن المعلوم أن الحل المقابل للحرمة ليس هو الإباحة شرعا بل هو أعم منها ومن الاستحباب والوجوب والكراهة. مع انه لو سلم كون مفادها جعل الحل ظاهراً في ظرف الشك في الحرمة من دون نظر إلى جعل الحل الواقعي ليترتب عليه آثاره فليس الحل المجعول إلا ما يقابل الحرمة لا ما يرادف الإباحة شرعاً فإثبات الإباحة بالرواية يتوقف على تطبيقها بلحاظ احتمال الوجوب وحرمة الترك ولولاه لم تكن دليلا إلا على مجرد رفع المنع ورفع وجوب الاحتياط. فتأمل جيداً (١) (قوله : ولا مانع عنه عقلا) كما في الشبهة المحصورة (٢) (قوله : ولا نقلا) كما في الشبهة البدوية بناء على تقديم اخبار الاحتياط كما هو مذهب الأخباريين (٣) (قوله : وقد عرفت انه لا يجب) دفع لما يتوهم من أن كل شيء لك حلال وان كان في نفسه لا قصور فيه من حيث شموله للمقام إلا انه ممنوع من أجل ما دل على وجوب الموافقة الالتزامية لأن جعل الإباحة يوجب الالتزام بما علم انه خلاف الحكم الواقعي (وحاصل الدفع) : انك قد عرفت أنه لا دليل على وجوب الموافقة الالتزامية ، ولو سلم وجوبها فاللازم الالتزام بالواقع إجمالا وهو لا ينافي الالتزام بالإباحة تفصيلا ظاهراً (٤) (قوله : والالتزام التفصيليّ) شروع في الرد على القول بوجوب الأخذ بأحدهما (٥) (قوله : لو لم يكن تشريعاً) بل قد عرفت انه تشريع محرم (٦) (قوله : وقياسه بتعارض الخبرين) شروع في الجواب

٢٧٥

ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين وعلى تقدير أنها من باب الطريقية فانه وإن كان على خلاف القاعدة إلا ان أحدهما تعييناً أو تخييراً حيث كان واجداً لما هو المناط للطريقية من احتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشرائط جعل حجة في هذه الصورة بأدلة

______________________________________________________

عما استدل به لكل واحد من بقية الأقوال وإشارة إلى الاستدلال للقول بوجوب الأخذ بأحدهما والرد عليه (وحاصل الاستدلال) انه لا إشكال في وجوب الأخذ بأحد الخبرين لو دل على وجوب شيء والآخر على حرمته ولا فرق بين مورد تعارض الخبرين وبين المقام فما دل على وجوب الأخذ تخييراً هناك دال عليه هنا (وحاصل الجواب عنه) : ان قياس المقام بصورة التعارض قياس مع الفارق فانه إذا نبي على كون حجية الخبر من باب السببية فالتخيير حينئذ يكون على القاعدة لأن كل فرد من الخبر يكون واجد المناط وجوب الأخذ به فمع تعارض الخبرين لما لم يمكن الأخذ بهما معاً وجب الأخذ بأحدهما تخييراً كما هو القاعدة في جميع المقتضيات المتزاحمة التي لا يمكن إعمال جميعها فانه يتخير بينها في الأعمال كالغريقين للذين لا يمكن إنقاذهما معاً ، وحينئذ لا مجال لقياس المقام بصورة التعارض فان كلا من احتمالي الوجوب والحرمة لا اقتضاء له في وجوب الأخذ به حتى يتخير بينهما من جهة التزاحم ، وان نبي على كون حجية الخبر من باب الطريقية فان الأصل عند التعارض وان كان هو التساقط دون الترجيح والتخيير إلا أنه لما قام الدليل على الترجيح مع وجود المرجح والتخيير مع عدمه أمكن ان يكون الوجه فيه هو الطريقية النوعية التي عليها الخبر ، ومن المعلوم عدم وجود صفة الطريقية المذكورة في احتمالي الوجوب والحرمة فكيف يصح قياسهما بذلك المقام (١) (قوله : ومن جهة) عطف تفسيري على القاعدة (٢) (قوله : أحدهما تعيينا) يعني مع وجود المرجح فيه (٣) (قوله : أو تخييراً) يعني مع عدم المرجح (٤) (قوله : للطريقية) يعني الطريقية الفعلية (٥) (قوله : من احتمال) بيان للمناط والمراد الطريقية النوعية التي لا ينافيها وجود المعارض (٦) (قوله : جعل حجة) الضمير النائب عن

٢٧٦

الترجيح تعييناً أو التخيير تخييراً ، وأين ذلك مما إذا لم يكن المطلوب إلا الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً وهو حاصل والأخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه بموصل. نعم لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة وإحداثهما الترديد بينهما لكان القياس في محله لدلالة الدليل على التخيير بينهما على التخيير هاهنا فتأمل جيداً. ولا مجال هاهنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فانه لا قصور فيه هاهنا وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية

______________________________________________________

الفاعل راجع إلى أحدهما (١) (قوله : مما إذا لم يكن المطلوب) كما فيما نحن فيه إذ ليس إلّا الحكم الواقعي (٢) (قوله : وهو حاصل) يعني للالتزام به إجمالا (٣) (قوله : والأخذ بخصوص) يعني الأخذ بأحدهما تخييراً أو تعيينا (٤) (قوله : ربما لا يكون) إذ أحدهما محتمل الواقع (٥) (قوله : على التخيير بينهما) متعلق ب (الدليل) والضمير راجع إلى (الخبرين) (٦) (قوله : على التخيير هاهنا) متعلق ب (دلالة) (٧) (قوله : فتأمل جيداً) يمكن أن يكون إشارة إلى القطع بعدم كون المناط إبداء الاحتمال ، ضرورة أنه لو قام أحد الخبرين على الوجوب والآخر على الحرمة واحتمل كون الحكم الواقعي هو الكراهة مثلا لا يجوز الالتزام باحتمال الكراهة بل يجب الالتزام بخصوص مضمون أحد الخبرين (٨) (قوله : ولا مجال هاهنا) هذا رد على الوجه الأول وهو الحكم بالبراءة عقلا ، وحاصله أنه لا وجه لتطبيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان في المقام لوجود البيان وهو العلم بلزوم الفعل أو الترك كما لو علم بوجوب شيء أو حرمة آخر فانه لا ينبغي التأمل في وجوب الاحتياط معه بفعل الأول وترك الثاني ، غاية الأمر ان المكلف في المقام لا يمكنه الاحتياط والموافقة القطعية لامتناع الجمع بين الفعل والترك لكونهما نقيضين كما لا يمكنه المخالفة القطعية لامتناع ترك النقيضين فلا يترتب على العلم المذكور أثر في نظر العقل ويسقط عن المنجزية ، فعدم منجزيته ليس لعدم كونه

٢٧٧

كمخالفتها والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة كما لا يخفى. ثم إن مورد هذه الوجوه وإن كان ما إذا لم يكن واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبديا إذ لو كانا تعبديين

______________________________________________________

بيانا بل لعدم القدرة فكيف يصح تطبيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان (فان قلت) : إذا حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك كان ذلك موجبا لسقوط العلم بالالتزام المردد بين الوجوب والحرمة عن كونه بيانا فيصح حينئذ تطبيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان (قلت) : أولا نمنع سقوطه عن البيانية ولو بملاحظة حكم العقل بالتخيير فان العجز عن موافقة التكليف المعلوم لا يوجب عدم كون العلم بيانا عليه فضلا عن العجز عن الموافقة القطعية. وثانيا انه لا مجال لتطبيقها ولو في الرتبة اللاحقة إما للزوم اجتماع المثلين أو للزوم اللغوية ، فتأمل جيداً (١) (قوله : كمخالفتها) الإضافة إلى الضمير غير ظاهرة المعنى (٢) (قوله : ثم ان مورد هذه الوجوه) اعلم : ان الوجوب والتحريم المعلوم ثبوت أحدهما إجمالا في الواقعة الخاصة تارة يكونان توصليين ، وأخرى تعبديين ، وثالثة يكون أحدهما المعين تعبديا دون الآخر ، ورابعة يكون أحدهما المردد تعبديا دون الآخر ، وتشترك الصور الأربع في امتناع الموافقة القطعية ، وتفترق الأولى والأخيرة عن الباقيتين في امتناع المخالفة القطعية فيهما وإمكانها في الباقيتين إذ لو فعل المكلف أو ترك لا بقصد التقرب يقطع بالمخالفة في الصورة الثانية ، ولو فعل لا بقصد التقرب يقطع بالمخالفة في الصورة الثالثة لو كان الوجوب المحتمل تعبديا ، ولو ترك لا بقصد التقرب يقطع بالمخالفة لو كان التحريم المحتمل تعبديا ، وحيث اشتركت جميعها في امتناع الموافقة القطعية اشتركت في الرجوع إلى أصالة التخيير لعدم المرجح ، وحيث افترقت في إمكان المخالفة القطعية افترقت في جواز الرجوع إلى أصالة الإباحة ، فما تمكن فيها المخالفة القطعية لا يجوز الرجوع فيه إلى أصالة الإباحة لأن الرجوع إليها موجب للمخالفة القطعية الممنوع عنها عقلا ، وما لا تمكن فيها المخالفة القطعية يجوز الرجوع فيها إلى أصالة الإباحة لعدم المانع كما تقدم (قوله : هذه الوجوه)

٢٧٨

أو كان أحدهما المعين كذلك لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة لأنها مخالفة عملية قطعية ـ على ما أفاد شيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ إلا أن الحكم أيضا فيهما إذا كانا كذلك هو التخيير عقلا بين إتيانه على وجه قربي بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه وتركه كذلك لعدم الترجيح وقبحه بلا مرجح. فانقدح أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين بالنسبة إلى ما هو المهم في المقام وان اختص بعض الوجوه بهما كما لا يخفى. ولا يذهب عليك ان استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما

______________________________________________________

(١) يعني الوجوه في المسألة التي منها الرجوع إلى البراءة (٢) (قوله : لأنها مخالفة عملية) هذا ربما ينافي ما سيأتي منه (ره) من الرجوع إلى الإباحة عند الاضطرار إلى بعض أطراف الشبهة المحصورة لعدم الفرق بينه وبين المقام إلا أن يكون هذا منه جريا على مذاق شيخه. فتأمل (٣) (قوله : لا وجه لتخصيص المورد) المقصود به التعريض بشيخه في رسائله حيث انه بعد ما ذكر وجوها في المسألة منها الرجوع إلى الإباحة ظاهراً قال : ومحل هذه الوجوه ما لو كان كل من الوجوب والتحريم توصليا ... إلخ ، فان مقصوده وإن كان أن تمام الوجوه المذكورة إنما تكون في الصورة المذكورة لا تخصيص مرجعية أصالة التخيير بها ، لكن لما كان المهم وهو أصالة التخيير لا يختص بالصورة المذكورة كان المناسب له التعرض لذلك. فتأمل (٤) (قوله : ما هو المهم) يعني أصالة التخيير التي عقد لها المبحث (٥) (قوله : بعض الوجوه) يعني القول بالإباحة (٦) (قوله : ولا يذهب عليك ان استقلال) يعني أن ما ذكرنا من استقلال العقل بالتخيير بين الفعل والترك إنما هو فيما لم يحتمل أهمية أحد الحكمين على تقدير ثبوته ، أما مع احتمال أهميته في ظرف ثبوته لزيادة مصلحته أو مفسدته فالعقل يحكم بتعين موافقة محتمل الأهمية ، فلو دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته واحتمل أهمية الوجوب على تقدير ثبوته واقعا لتأكد

٢٧٩

على التعيين ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعينه ، كما هو الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام ، ولكن الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الإخلال بها في صورة المزاحمة

______________________________________________________

مصلحته أو أهمية التحريم لتأكد مفسدته تعين الفعل في الأول والترك في الثاني كما هو الحال في الدوران بين التعيين والتخيير العقليين ، كما في المتزاحمات فانه كما لا ريب عند تزاحم المقتضيات في وجوب الأخذ بالأهم منها ـ لو كان ـ لأن الأخذ بالمهم تفويت للمقدار الأهم بلا مسوغ كذلك يجب الأخذ بمحتمل الأهمية ، فكما يجب إنقاذ من يعلم أنه نبيّ عند دوران الأمر بين إنقاذه وإنقاذ مؤمن غيره لعدم التمكن من إنقاذهما معاً ، كذا يجب إنقاذ من يحتمل انه نبيّ عند الدوران المذكور وكذا نقول في المقام إذا احتمل أهمية أحد الحكمين بعينه يكون من الدوران بين التعيين والتخيير العقلي والأصل التعيين (قلت) : قياس المقام على صورة الدوران بين التعيين والتخيير في المتزاحمات غير ظاهر ، إذ التعيين مع إحراز الأهمية إنما هو من جهة لزوم التفويت ، ومع احتمال الأهمية من جهة الشك في المزاحمة الّذي هو كالشك في وجود المزاحم موجب للاحتياط ، والمقام ليس من التزاحم في شيء إذ لم يحرز المقتضي إلا لأحد الحكمين فلا موجب للأخذ ٠ بمحتمل الأهمية على تقدير ثبوته. نعم لو كان أحد الحكمين مظنونا والآخر محتملا وجرت مقدمات الانسداد وجب الأخذ بالمظنون على ما تقدم. فتأمل (١) (قوله : على التعيين) أما لو احتمل الترجيح في أحدهما على الترديد فلا مجال لاحتمال التعيين كما هو ظاهر (٢) (قوله في غير المقام) يعني مقام التزاحم (٣) (قوله : ولكن الترجيح) يعني الترجيح المحتمل الموجب للتعيين في نظر العقل إنما هو بمعنى شدة الطلب في أحدهما وأهمية مصلحته أو مفسدته بالنسبة إلى الآخر لا غير ذلك (٤) (قوله : بما لا يجوز الإخلال) يعني بحيث تبلغ شدة الطلب حداً موجباً للترجيح على تقدير التزاحم بإحراز المقتضى من

٢٨٠