حقائق الأصول - ج ٢

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

حقائق الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت (ع) للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

المقصد السابع في الأصول العملية

وهي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل مما دل عليه حكم العقل أو عموم النقل والمهم منها أربعة فان مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية وان كان مما ينتهي إليها فيما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته إلا أن البحث عنها ليس بمهم حيث انها ثابتة بلا كلام من دون حاجة إلى نقض وإبرام

______________________________________________________

(في الأصول العملية)

(١) (قوله : في الأصول) الأصل في الاصطلاح حكم مجعول في ظرف الشك ويقابله الدليل الّذي هو حكم يوجب إلغاء الشك ، ولهذه الجهة كان الدليل مقدما على الأصل موافقا كان أو مخالفا ، والأصل العملي في الاصطلاح هو الجاري في الشبهة في الحكم الكلي الناشئة من عدم الدليل أو إجماله أو تعارضه بناء على كونه مرجعا عند تعارض الأدلة ، وتوصيف المصنف (ره) له بما ينتهي إليه المجتهد ... إلخ ، ليس بما يقومه اصطلاحا بل بما هو لازم له من باب الاتفاق لما سيأتي في بيان اعتبار الفحص في الرجوع إلى الأصول فلو فرض عدم الدليل على وجوب الفحص في الرجوع إلى الأصول وجواز الرجوع إليها قبله لم تخرج عن كونها أصولا عملية (٢) (قوله : مما دل عليه حكم) هذا بيان للموصول وتقسيم للأصول على قسمين عقلي وهو الحاكم به العقل وشرعي وهو الحاكم به الشرع (٣) (قوله : منها أربعة) وهي البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ، واما أصالة العدم ، وأصالة عدم الدليل دليل العدم ، وأصالة الحلية ، وأصالة الحضر ، فاعتذر عن عدم التعرض لها برجوع الأول إلى الاستصحاب والثالث إلى البراءة والآخر من الأمارات لا الأصول (٤) (قوله : إلّا ان البحث عنها ليس) حكي عن شيخنا الأعظم (ره) الاعتذار عن عدم التعرض لأصالة الطهارة بأنها راجعة إلى أصالة البراءة ، ولا يخلو من

٢٢١

بخلاف الأربعة وهي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب فانه محل الخلاف [١] بين الأصحاب ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومئونة حجة وبرهان. هذا مع جريانها في كل الأبواب واختصاص تلك القاعدة ببعضها فافهم

______________________________________________________

إشكال فانها تجري لإحراز الشرط وموضوع التكليف مثل طهارة ماء الوضوء وطهارة لباس المصلي ، وليس شأن أصل البراءة ذلك. وهذا الإشكال على تقدير تماميته يختص بأصل الطهارة الجاري في الشبهة في الحكم الكلي واما الجاري في الشبهة الموضوعية فلا مجال فيها للإشكال كسائر الأصول الجارية فيها مثل أصل الصحة وأصالة الفراش وأصالة الحرية ونحوها من الأصول الموضوعية ، لأنها ليست من الأصول العملية ، ولا من شأن الأصولي البحث عنها بل هي من المسائل الفرعية التي يكون البحث عنها من شأن الفقيه (١) (قوله : ببعضها) وهو خصوص باب النجاسات من الفقه (٢) (قوله : فافهم) يمكن أن يكون إشارة إلى التأمل في صحة الاعتذار الأخير إذ الاختصاص بباب لا يصحح الإهمال

__________________

[١] لا يقال : ان قاعدة الطهارة مطلقا تكون قاعدة في الشبهة الموضوعية فان الطهارة والنجاسة من الموضوعات الخارجية التي يكشف عنها الشرع ، فانه يقال أولا نمنع ذلك بل انهما من الأحكام الوضعيّة الشرعية ولذا اختلفتا في الشرع بحسب المصالح الموجبة لشرعهما كما لا يخفى وثانيا انهما لو كانا كذلك فالشبهة فيهما فيما كان الاشتباه لعدم الدليل على أحدهما كانت حكمية فانه لا مرجع لرفعها الا الشارع وما كانت كذلك ليست إلّا حكمية. منه قدس‌سره

٢٢٢

فصل

لو شك في وجوب شيء [١] أو حرمته ولم تنهض عليه حجة جاز شرعاً وعقلا ترك الأول وفعل الثاني وكان مأموناً من عقوبة مخالفته كان عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص أو إجماله واحتماله الكراهة أو الاستحباب أو تعارضه

______________________________________________________

(أصل البراءة)

(١) (قوله : في وجوب شيء أو حرمته) يعني لو شك في وجوب شيء وعدم وجوبه مع العلم بعدم حرمته أو شك في حرمته وعدمها مع العلم بعدم وجوبه ، وقد جمع الصنف (ره) في هذا الفصل مباحث عقد لها الشيخ (قدس‌سره) في رسائله ست مسائل فان الشك في الوجوب وعدمه عقد له ثلاث مسائل : الأولى فيما لو كان الشك لعدم النص ، والثانية فيما لو كان لإجماله ، والثالثة فيما لو كان لتعارض النصين ومثلها المسائل التي عقدها للشك في الحرمة وعدمها ، وما ذكره المصنف (ره) أولى لأن اختلاف منشأ الشك أو موضوعه مع الاتحاد في مناط البحث لا يصحح عقد مسائل (٢) (قوله : ترك الأول) يعني ما شك في وجوبه (٣) (قوله : وفعل الثاني) يعني ما شك في حرمته (٤) (قوله : واحتماله للكراهة) بيان لإجمال النص واحتمال

__________________

[١] لا يخفى أن جمع الوجوب والحرمة في فصل وعدم عقد فصل لكل منهما على حدة وكذا جمع فقد النص وإجماله في عنوان عدم الحجة إنما هو لأجل عدم الحاجة إلى ذلك بعد الاتحاد فيما هو الملاك وما هو العمدة من الدليل على المهم واختصاص بعض شقوق المسألة بدليل أو بقول لا يوجب تخصيصه بعنوان على حدة واما ما تعارض فيه النصان فهو خارج عن موارد الأصول العملية المقررة للشاك على التحقيق فيه من الترجيح أو التخيير كما انه داخل فيما لا حجة فيه بناء على سقوط النصين عن الحجية واما الشبهة الموضوعية فلا مساس لها بالمسائل الأصولية بل فقهية فلا وجه لبيان حكمها في الأصول الا استطرادا فلا تغفل. منه قدس‌سره

٢٢٣

فيما لم يثبت بينهما ترجيح بناء على التوقف في مسألة تعارض النصين فيما لم يكن ترجيح في البين وأما بناء على التخيير كما هو المشهور فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها لمكان وجود الحجة المعتبرة وهو أحد النصين فيها كما لا يخفى وقد استدل على ذلك بالأدلة الأربعة «أما الكتاب» فبآيات أظهرها قوله تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وفيه أن نفي التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله كان منة منه تعالى على عباده مع استحقاقهم لذلك ولو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية لما صح الاستدلال بها

______________________________________________________

الكراهة راجع إلى صورة الشك في الحرمة واحتمال الاستحباب راجع إلى صورة الشك في الوجوب (١) (قوله : فيما لم يثبت بينهما) أما لو ثبت بينهما ترجيح فالعمل على الراجح إجماعا (٢) (قوله : بناء على التوقف) إذ على هذا المبنى يمكن الرجوع إلى الأصل لعدم الحجة ويختار حينئذ كون الأصل أصل البراءة لا الاحتياط (٣) (قوله : وهو أحد النصين) يعني أحدهما تخييراً ويحتمل ان يكون ما يختاره تعيينا ، وسيأتي إن شاء الله في محله تحقيق ذلك (٤) (قوله : أظهرها قوله تعالى) الظاهر ان الآية مسوقة للاخبار عن فعل الله سبحانه بالأمم السابقة ، وانه ما كان يعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا ، فالمراد من العذاب العذاب الدنيوي ومن الرسول الرسول الظاهري وأين هي مما نحن فيه. ثم إن الأظهر في تقريب الاستدلال بها على المقام جعل الرسول كناية عن البيان وقيام الحجة على التكليف ، ويكون المراد من قوله تعالى : (ما كنا معذبين) ما كان يحسن منا العذاب وقول المصنف (ره) : وفيه ان نفي التعذيب ... إلخ راجع إلى منع كون المراد ذلك بل ليس الظاهر منها الا نفي العذاب الفعلي وهو أعم من ان يكون لعدم حسنه فتكون دالة على نفي الاستحقاق أو يكون منة على العباد فلا تدل على نفي الاستحقاق فلا تصلح لإثبات نفي الاستحقاق الّذي هو المدعي (٥) (قوله : ولو سلم اعتراف الخصم) هذا إشارة إلى دفع ما ذكره شيخنا العلامة (ره) في رسائله من ان الآية الشريفة وان كانت

٢٢٤

إلا جدلا مع وضوح منعه ضرورة أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم مما علم بحكمه وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلا كالوعيد به فيه فافهم (وأما السنة) فروايات منها حديث الرفع حيث عدّ ما لا يعلمون من التسعة المرفوعة فيه فالإلزام المجهول مما لا يعلمون فهو مرفوع فعلا وان كان ثابتا واقعاً فلا مؤاخذة عليه قطعاً

______________________________________________________

ظاهرة في نفي فعلية العذاب لا نفي الاستحقاق يصح الاستدلال بها لنفي الاستحقاق لأن الخصم يعترف بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية في المقام فنفي أحدهما يستلزم نفي الآخر. والوجه في اعترافه بالملازمة : أن الأدلة التي أقامها على الاستحقاق تدل على فعلية العقاب مثل اخبار التثليث الدالة على أن الأخذ بالشبهة موجب للوقوع في الهلكة ، والظاهر من الهلكة الهلكة الفعلية لا مجرد الاستحقاق ، ووجه الدفع (أولا) ان الاستدلال حينئذ يكون جدليا لا ينفع في إثبات المدعى إلّا باعتقاد الخصم (وثانيا) منع هذا الاعتراف من الخصم إذ لا تزيد الشبهة عنده على المعصية الحقيقية ولا ملازمة عنده بين الاستحقاق والفعلية فيها فكيف يعترف بالملازمة بينهما في الشبهة؟ ومجرد استدلاله باخبار التثليث لا يقتضي ذلك فان الوعيد بالهلكة في اخبار التثليث ليس إلّا كالوعيد بالعذاب على المعصية لا بد ان يكون محمولا على الاستحقاق (١) (قوله : إلا جدلا) القياس الجدلي ما يتألف من المشهورات أو المسلمات (٢) (قوله : بالعذاب فيه) ضمير (فيه) راجع إلى ما شك في حكمه وضمير (به) راجع إلى ما علم بحكمه (٣) (قوله : منها حديث الرفع) وهو المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن أمتي تسعة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الإنسان بشفته (٤) (قوله : فالإلزام المجهول مما لا يعلمون) هذا بناء منه على جعل (ما) بمعنى الحكم لا الموضوع كما سيصرح به ، وسيأتي توضيح المراد (٥) (قوله : مرفوع فعلا) يعني ظاهراً في رتبة الجهل به كما سيصرح به لا واقعا وإلا لزم كون الجهل بالحكم علة للعلم بعدمه (قوله : فلا مؤاخذة)

٢٢٥

(لا يقال) : ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهراً فلا دلالة له على ارتفاعها [١] فانه يقال : إنها وإن لم تكن بنفسها أثراً شرعياً إلا أنها مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه من إيجاب الاحتياط شرعاً فالدليل على رفعه دليل على

______________________________________________________

(١) يعني لا استحقاق للمؤاخذة كما هو ظاهر (٢) (قوله : لا يقال ليست) يعني الآثار التي تترتب وتنتفي على جريان الأصل هي الآثار الشرعية لمجراه والمؤاخذة ليست منها بل من الآثار العقلية فكيف تنتفي بنفي الحكم ظاهراً (٣) (قوله : فانه يقال إنها) يعني ان المؤاخذة وان كانت أثراً عقليا لكنها لما كانت مترتبة حقيقة وواقعا على إيجاب الاحتياط وكان نفي التكليف ظاهراً دليلا على عدم إيجاب الاحتياط الّذي هو موضوعها حقيقة ، فالدليل الدال على نفي التكليف لا بد ان يكون موجباً لنفيها حقيقة ، وما اشتهر من أن الآثار غير الشرعية لا تترتب وجوداً وعدما على جريان الأصل مختص بما إذا لم يكن جريان الأصل موجبا لانتفاء موضوع الأثر حقيقة. وان شئت قلت : الآثار العقلية التي لا تترتب على جريان الأصل هي خصوص الآثار الثابتة لمجرى الأصل واقعا ، اما ما كانت ثابتة لما هو أعم من مجراه واقعا وظاهراً فلا ريب في ترتبها على جريان الأصل إذ بجريان الأصل يثبت وجود ظاهري لمجرى الأصل وهو موضوع حقيقة لها فتترتب عليه وقبح العقاب من هذا القبيل إذ كما يترتب على عدم الحكم واقعا يترتب على عدمه ظاهراً ، وكذلك حسن العقاب فانه يترتب على ثبوت التكليف ظاهراً كما يترتب على ثبوته واقعا ، وهذا هو الّذي أشار إليه في حاشيته على المقام ، لكنه جعله

__________________

[١] مع أن ارتفاعها وعدم استحقاقها بمخالفة التكليف المجهول هو المهم في المقام والتحقيق في الجواب ان يقال ـ مضافا إلى ما قلنا ـ : إن الاستحقاق وان كان أثراً عقلياً إلّا ان عدم الاستحقاق عقلا مترتب على عدم التكليف شرعاً ولو ظاهراً تأمل تعرف. منه قدس‌سره

٢٢٦

عدم إيجابه المستتبع لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته (لا يقال) لا يكاد يكون إيجابه مستتبعاً لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول بل على مخالفته نفسه كما هو قضية إيجاب غيره (فانه يقال) : هذا إذا لم يكن إيجابه طريقيا وإلا فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول كما هو الحال في غيره من الإيجاب والتحريم الطريقيين ضرورة أنه كما يصح أن يحتج بهما صح ان يحتج به ويقال : لم أقدمت مع إيجابه؟ ويخرج به عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان كما يخرج بهما ، وقد انقدح بذلك أن رفع التكليف المجهول كان منة على الأمة حيث كان له تعالى وضعه بما هو قضيته من إيجاب الاحتياط فرفعه فافهم. ثم لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية

______________________________________________________

وجها ثانيا مضافا إلى ما في المتن. ولا يخفى أنه ليس على ما ينبغي من جهة أن نفي التكليف ظاهراً عين عدم وجوب الاحتياط ، كما أن ثبوت التكليف ظاهراً عين وجوب الاحتياط. نعم ثبوت التكليف ظاهراً ووجوب الاحتياط من تبعات ثبوته واقعا كما ذكره قدس‌سره هنا وفي آخر المبحث (١) (قوله : عدم إيجابه) يعني إيجاب الاحتياط حقيقة (٢) (قوله : لا يكاد يكون) يعني ان إيجاب الاحتياط لا يوجب المؤاخذة على مخالفة التكليف حتى يكون عدمه موجبا لعدمها ، بل إنما يوجب المؤاخذة على مخالفة نفسه كسائر التكاليف المولوية فعدمه إنما ينفي المؤاخذة على مخالفته فتبقى المؤاخذة على مخالفة التكليف لا دليل على نفيها (٣) (قوله : هذا إذا لم يكن إيجابه) يعني أن ما ذكر إنما يتم لو كان إيجاب الاحتياط حقيقيا واقعيا ، أما لو كان طريقيا ظاهريا فلا يترتب على مخالفته مؤاخذة بل فائدته المؤاخذة على مخالفة الواقع كما هو شأن جميع الأوامر الطريقية (٤) (قوله : بما هو قضيته) قد عرفت أن وضع التكليف في ظرف الجهل به عين إيجاب الاحتياط فتأمل (٥) (قوله : ثم لا يخفى عدم الحاجة) اعلم أن الموصول في (ما لا يعلمون) يحتمل بدوا

٢٢٧

أمورا : (الأول) أن يكون المراد به نفس الحكم الشرعي ، ولا ريب في صحة الاستدلال به على البراءة في الشبهة الحكمية والموضوعية معا بأن يراد من الحكم الأعم من الكلي والجزئي (الثاني) أن يراد به نفس الموضوع للحكم الشرعي ، وحينئذ فان أريد من عدم العلم به عدم العلم بأنه حرام أو حلال صح الاستدلال بالحديث في المقامين أيضا على البراءة ، وان أريد عدم العلم بعنوانه غير المنتزع من الحكم مثل عدم العلم بكون المائع خلا أو خمرا اختص الاستدلال به على البراءة في الشبهة الموضوعية إذ الموضوع في الشبهة الحكمية مما لا يجهل عنوانه (الثالث) ان يراد به الجامع بين الموضوع والحكم ، وحينئذ يصح الاستدلال به على البراءة في الموضعين أيضا ، وظاهر المصنف (ره) اختيار الوجه الأول ، وكأن الوجه فيه أن حمله على الموضوع يلزم منه المجاز في النسبة أو في الحذف لأن الموضوع مما يمتنع رفعه حقيقة فرفعه لا بد أن يحمل إما على التجوز في النسبة وادعاء انه مما يصلح للرفع ، أو في الحذف بتقدير الأثر الظاهر أو جميع الآثار أو خصوص المؤاخذة ، وحيث انه لا داعي إلى هذا التجوز يتعين حمله على الحكم ويكون رفعه حينئذ على الحقيقة (ولكن لا يخفى) أن الرفع منسوب إلى التسعة نسبة واحدة شخصية ، ومن المعلوم امتناع التفكيك عرفا بين اجزاء هذه النسبة فإذا كان المرفوع فيما لا يطيقون وما اضطروا إليه وما أكرهوا عليه والطيرة والحسد وغيرها هو الموضوع ادعاء لا بد ان يحمل في الجميع عليه إذ لا جامع بين الرفع الحقيقي والادعائي بحسب متفاهم العرف. مضافا إلى وحدة سياق الجميع المانع من التفكيك بينها عرفا ، ومنه يظهر امتناع حمله على الجامع بين الموضوع والحكم إذ عليه يلزم التفكيك بين أفراد الموضوع الواحد في كيفية النسبة مضافا إلى لزوم التفكيك في كيفية نسبة العلم إلى الموصول فانه بلحاظ الموضوع يكون متعلق العلم عنوان الموضوع وبالنسبة إلى الموضوع نفسه ، والفرق بينهما هو الفرق بين مفاد كان الناقصة والتامة إذ العلم المتعلق بالحكم بمعنى التصديق بوجوده وبالموضوع بمعنى التصديق بأنه حرام أو حلال ، والفرق بينهما ظاهر. وأيضا يلزم على هذا تطبيق

٢٢٨

فيما لا يعلمون فان ما لا يعلم من التكليف مطلقاً كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعا وان كان في غيره لا بد من تقدير الآثار أو المجاز في اسناد الرفع إليه فانه ليس ما اضطروا وما استكرهوا ... إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة (نعم) لو كان المراد من الموصول في (ما لا يعلمون) ما اشتبه حاله ولم يُعلم عنوانه لكان أحد الأمرين مما لا بد منه أيضا. ثم لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر

______________________________________________________

الحديث في كل شبهة مرتين إحداهما بلحاظ الجهل بنفس الحكم والأخرى بلحاظ الجهل بنفس الموضوع (وبالجملة) : هذا المعنى ساقط جداً ، وقد عرفت سقوط المعنى الأول ، فالمتعين هو الثاني ، ولا بد أن يحمل متعلق العلم فيه على العنوان المنتزع من الحكم كما تقتضيه المناسبات العرفية مضافا إلى أن حمله على العنوان غير المنتزع من الحكم موجب لحمله على ما لا يمكن أن يلتزم به لأن الجهل بعنوان الموضوع مما لا يوجب ارتفاع حكمه ضرورة كيف وكل موضوع معلوم الحكم لا بد أن يكون مجهول العنوان في الجملة فان الإناء المعين من الخمر مما لا يعلم كونه عتيقاً أو حديثاً معمولا ، في صفر أو حديثاً معمولا ، أو حديد من عنب العراق أو غيره الأسود منه أو الأخضر ... وهكذا ، إذ مقتضى الحمل على المعنى المذكور ارتفاع حكم الإناء المزبور ، فيتعين حمله على العنوان المنتزع من الحكم مثل كونه حلالا أو حراما ، كما هو ظاهر بأدنى تأمل. فتأمل (١) (قوله : فيما لا يعلمون) متعلق بتقدير (٢) (قوله : في غيره) يعني غير ما لا يعلمون (٣) (قوله : بمرفوع) هو خبر ليس (٤) (قوله : ما اشتبه حاله) يعني الموضوع الّذي اشتبه حكمه لاشتباه عنوانه فتختص بالشبهة الموضوعية (٥) (قوله : أحد الأمرين) يعني تقدير الآثار والمجاز في اسناد الرفع (٦) (قوله : مما لا بد منه) لما عرفت من امتناع رفع الموضوع حقيقة ، والمراد بهذا الكلام التعريض بشيخنا الأعظم (ره) في رسائله حيث قرب الاستدلال بالحديث بحمل الموصول على الحكم ثم قال : ومعنى

٢٢٩

في غير واحد غيرها فلا محيص عن أن يكون المقدر هو الأثر الظاهر في كل منها أو تمام آثارها التي تقتضي المنة رفعها كما أن ما يكون بلحاظه الإسناد إليها مجازاً هو هذا كما لا يخفى فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي كان في رفعه منة على الأمة كما استشهد الإمام عليه‌السلام بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق والصدقة والعتاق. ثم لا يذهب عليك أن المرفوع فيما اضطر إليه وغيره مما أخذ بعنوانه الثانوي إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الأولي ضرورة أن الظاهر أن هذه العناوين صارت موجبة للرفع والموضوع للأثر مستدع لوضعه فكيف يكون موجباً لرفعه؟ (لا يقال) : كيف وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان

______________________________________________________

الرفع رفع الآثار أو خصوص المؤاخذة (١) (قوله : في غير واحد) يعني من العناوين المذكورة في الحديث (٢) (قوله : غيرها) يعني غير المؤاخذة فان المقدر فيما أكرهوا وما لا يطيقون والخطأ غير المؤاخذة كما يظهر من الرواية التي يشير إليها المصنف «ره» (٣) (قوله : ان المرفوع فيما اضطروا) يعني أن العناوين المذكورة في الحديث مختلفة بعضها أولية كالطيرة والحسد والتفكر وبعضها ثانوية كما عداه والمرفوع في القسم الأول أثر العنوان الأولي المذكور في الحديث ، وأما المرفوع في الثاني فليس أثر العنوان الثانوي المذكور بل المرفوع أثر العنوان الأولي لأن الظاهر من الحديث أن العلة في الرفع هو العنوان الثانوي ، ومن المعلوم أن آثار العنوان الثانوي يكون العنوان الثانوي علة لثبوتها لا لرفعها فيلزم أن يكون العنوان الثانوي علة لثبوتها ورفعها وهو ممتنع «فان قلت» : فكيف جاز ذلك في الحسد وأخواته؟ «قلت» : المنفي فيها فعلية الأثر الاقتضائي يعني الأثر الّذي يكون الحسد مثلا مقتضياً لثبوته منفي فعلا فاختلفت مرتبة النفي والمنفي ، (فان قلت) : فليلتزم في العناوين الثانوية بذلك أيضاً «قلت» : الظاهر من الحديث كون العناوين الثانوية هي المقتضية للرفع فلا تكون مقتضية للثبوت كما

٢٣٠

يكون أثراً هذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها (فانه يقال) : بل إنما تكون باقتضاء الواقع في موردها ضرورة أن الاهتمام به يوجب إيجابهما لئلا يفوت على المكلف كما لا يخفى (ومنها) حديث الحجب وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في حديث الرفع إلّا انه ربما يشكل بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه لعدم أمر رسله بتبليغه حيث انه بدونه لما صح إسناد الحجب إليه تعالى (ومنها) قوله ـ عليه‌السلام ـ : (كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه ... الحديث) حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقاً

______________________________________________________

عرفت وليس كذلك الحال في الحسد وأخواته فانه لا يظهر من الحديث كونها مقتضية للنفي وبذلك افترقت العناوين في هذه الجهة (١) (قوله : يكون أثراً لهذه العناوين) فان مفهوم الاحتياط انما ينتزع متأخراً عن مقام الجهل كما أن عنوان التحفظ يكون منتزعاً متأخراً عن مقام الخطأ والنسيان (٢) (قوله : فانه يقال بل انما) حاصل الجواب أن وجوب الاحتياط والتحفظ انما ينشأ عن المصالح الواقعية الموجبة للأحكام الواقعية فهي في الحقيقة من آثار العناوين الأولية ، غاية الأمر أن مفهوم الاحتياط والتحفظ متأخر رتبة عن الجهل والخطأ وهو مما لا أثر له في كون نفس الوجوب من مقتضيات العناوين الأولية كما لا يخفى (٣) (قوله : ومنها حديث الحجب) وهو قوله عليه‌السلام : ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (٤) (قوله : انقدح تقريب) يعني نقول : الإلزام المجهول مما حجب علمه فهو موضوع (٥) (قوله : بدعوى ظهوره في خصوص) قال في الرسائل : فالرواية مساوقة لما ورد عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : ان الله تعالى حدّ حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تعصوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تتكلفوها رحمة من الله تعالى بكم (٦) (قوله : حيث انه بدونه) يعني أن الوجه في دعوى ظهورها في ذلك هي نسبة الحجب إليه تعالى فان الحكم المجهول

٢٣١

ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته وبعدم الفصل قطعاً بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية يتم المطلوب مع إمكان أن يقال : ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته فهو حلال ، تأمل (ومنها) قوله عليه‌السلام : (الناس في سعة ما لا يعلمون) فهم في سعة ما لم يعلم أو ما دام لم يعلم وجوبه أو حرمته ومن الواضح أنه لو كان الاحتياط واجباً لما كانوا في سعة أصلا فيعارض به ما دل على وجوبه كما لا يخفى (لا يقال) : قد علم به وجوب الاحتياط (فانه يقال) : لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله؟ نعم لو كان الاحتياط واجباً نفسياً كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه لكنه عرفت أن وجوبه كان طريقياً لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحياناً فافهم «ومنها» قوله عليه‌السلام : كل شيء

______________________________________________________

الّذي بيَّنه الرسول انما حجب بمعصية من عصى الله تعالى إذ أخفاه ولا يصدق عليه انه مما حجبه الله بخلاف الحكم الّذي لم يأمر الله رسوله في تبليغه فانه يصدق عليه انه مما حجبه الله ضرورة (١) (قوله : ولو كان من جهة) بيان لوجه الإطلاق يعني سواء كان الجهل بحرمته ناشئاً من الجهل بعنوانه ـ كما في الشبهة الموضوعية كالمائع المردد بين الخمر والخلل ـ أم عدم الدليل على حكمه كما في الشبهة الحكمية مثل حرمة شرب التتن (٢) (قوله : وبعدم الفصل) متعلق بقوله : يتم المطلوب ، يعني أن الرواية موردها التردد بين الحرمة وغير الوجوب ولا تعم صورة التردد بين الوجوب وغير الحرمة فإثبات البراءة في هذه الصورة يكون بواسطة عدم الفصل بين الصورتين في الحكم ، مع إمكان تطبيق الرواية على الصورة المذكورة بلحاظ الترك فان الفعل المردد بين الوجوب وغير الحرمة يكون تركه مردداً بين الحرمة وغير الوجوب فيثبت حل تركه بالرواية ويتم المطلوب. لكن ذلك خلاف الظاهر إذ الظاهر من الرواية النّظر إلى خصوص الفعل لا الجامع بينه وبين الترك. ولعله إلى هذا أشار بقوله : تأمل (٣) (قوله : فهم في سعة ما لم) يعني أن (ما) إما

٢٣٢

مطلق حتى يرد فيه نهي ، ودلالته تتوقف على عدم صدق الورود إلا بعد العلم أو ما بحكمه بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد ـ مع أنه مع أنه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه لا سيما بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره (لا يقال) : نعم ولكن

______________________________________________________

موصولة قد أضيفت إليها السعة أو مصدرية ظرفية متعلق بالسعة وعلى كل تقدير يتم المطلوب لظهورها في كون متعلق العلم هو الحكم الواقعي ، فالحرمة والوجوب الواقعيان المشكوكان حيث لم يعلم بهما يكون المكلف منهما في سعة فلو دل على الاحتياط دليل كان معارضاً لهذه الرواية فان وجوب الاحتياط يقتضي كون المكلف في ضيق منها ، ومن هنا يظهر الإشكال فيما ذكره شيخنا الأعظم «قده» في رسائله حيث أورد على الاستدلال بالرواية بأنها لا تصلح لمعارضة أدلة الأخباريين الدالة على وجوب الاحتياط لأن تلك الأدلة توجب العلم بوجوب الاحتياط فلا يكون المكلف في سعة منه لكونه مما يعلم لا مما لم يعلم. وحاصل الإشكال : أن أدلة وجوب الاحتياط ـ لو تمت ـ لا توجب العلم بالحكم الواقعي فلا يخرج بها عن كونه مما لم يعلم ، وحينئذ فلا تمنع عن تطبيق الرواية بالإضافة إلى الحكم الواقعي وانما تمنع من تطبيقها بالنسبة إلى وجوب الاحتياط حيث أنه صار مما يعلم ، لكن الرواية قاصرة عن شمول الجهل بمثل وجوب الاحتياط لأنه ليس حكما من قبيل الواقعي حتى يكون المكلف بالإضافة إليه في سعة أو في ضيق وانما يوجب كون المكلف بالإضافة إلى الحكم الواقعي في ضيق كما هو شأن جميع الأحكام الظاهرية الطريقية ، بل لو فرض كونه من قبيل الحكم الواقعي يكون المكلف من قبله في ضيق تارة وفي سعة أخرى ، إلا أن العلم به من أدلة الاحتياط إنما يوجب عدم صحة تطبيق رواية : الناس ... إلخ بالإضافة إليه ولا يمنع من تطبيقها بالإضافة إلى الحكم الواقعي بعد كونه مما لا يعلمون فإذا صح تطبيقها بالإضافة إليه كانت معارضة لأدلة الاحتياط لا محكومة لها كما لا يخفى (١) (قوله : ودلالته تتوقف على عدم) الورود المجعول غاية لإطلاق الشيء مما لا ريب في كونه مما يقابل الصدور نحو قوله تعالى : (ولما

٢٣٣

بضميمة أصالة العدم صح الاستدلال به وتم «فانه يقال» : وإن تم الاستدلال به بضميمتها ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه إلا أنه لا بعنوان انه مجهول الحرمة

______________________________________________________

ورد ماء مدين) فاحتمال كونه بمعنى الصدور ـ كما قد يتوهم من العبارة ـ في غاية السقوط. نعم الإطلاق والورود لما كانا إضافيين ، بمعنى أن الإطلاق قد يكون في حق جميع المكلفين ، وقد يكون في حق بعضهم ، وكذلك الورود قد يكون لجميع المكلفين وقد يكون لبعضهم ، فالاحتمالات العقلية في معنى الكلام وان كانت كثيرة إلا أن التردد بين اثنين منها (الأول) أن يكون المراد من الإطلاق ما كان في حق كل واحد من المكلفين ، ومن الورود ما كان ولو إلى واحد منهم ، فكل شيء مطلق بالإضافة إلى كل واحد من العباد إلى أن يرد فيه نهي ولو إلى واحد ، فإذا ورد نهي عنه إلى واحد ارتفع إطلاقه بالنسبة إلى كل واحد «الثاني» أن يكون ورود النهي بالإضافة إلى شخص غاية للإطلاق بالإضافة إليه ولا يكون غاية للإطلاق بالنسبة إلى غير من ورد إليه النهي. فعلى الأول لو شك في ورود النهي إلى أحد فقد شك في تحقق الغاية ، ولا يجوز التمسك بالحكم المغيا مع الشك في تحقق غايته إلا أن يحرز عدم الغاية بالأصل ، وعلى الثاني يجوز التمسك به للعلم بعدم تحقق الغاية بالإضافة إلى الشاك ، والمصنف (ره) استظهر المعنى الأول فأورد على التمسك بها على البراءة بأنه تمسك بما هو خلاف الظاهر ، وكأن الباعث له على هذا الاستظهار كونه مقتضى الإطلاق في الإطلاق والورود ، ولكن الإنصاف يقتضي خلاف ما ذكر ، وكيف يصح أن يدعى أن ظاهر هذا الكلام انه يجب الاحتياط على عامة المكلفين إذا علم بالنهي واحد منهم؟ فان ذلك خلاف الارتكاز العقلائي كما هو ظاهر لمن تأمل (١) (قوله : بضميمة أصالة العدم) يعني يمكن التمسك بالحديث إذا أحرز عدم الورود بأصالة العدم فان أصالة عدم ورود النهي إذا جرت يحرز بها أن الشيء مما لم يرد فيه نهي فيكون مطلقاً (٢) (قوله : إلّا انه لا بعنوان) يعني أن أصالة العدم وان كانت نافعة في إثبات كونه مطلقاً إلا

٢٣٤

شرعاً بل بعنوان انه مما لم يرد عنه النهي واقعاً «لا يقال» : نعم ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم بالإباحة في مجهول الحرمة كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان «فانه يقال» : حيث أنه بذاك العنوان لاختص بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلا ولا يكاد يعم ما إذا ورد النهي عنه في زمان وإباحة في آخر واشتبها من حيث التقدم والتأخر ، «لا يقال» : هذا لو لا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته «فانه يقال» : وإن لم يكن بينها الفصل إلا أنه إنما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل لا الأصل فافهم (وأما الإجماع) فقد نقل على البراءة إلا أنه موهون ولو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة فان تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل ومن واضح النقل عليه دليل

______________________________________________________

أن الإطلاق المحرز بها ليس مما هو محل الكلام هنا إذ الكلام في أن الجهل بالحكم الإلزامي هل هو موضوع لجواز الارتكاب أولا؟ والثابت من الرواية أن ما لم يرد فيه نهي إلى أحد يجوز ارتكابه وهو غير محل الكلام (١) (قوله : بهذا العنوان) يعني عنوان مجهول الحرمة (٢) (قوله : أو بذاك العنوان) يعني عنوان ما لم يرد فيه نهي (٣) (قوله : واشتبها من حيث) ففي هذا الفرض يصدق انه مجهول الحرمة ولا يمكن إحراز انه مما لم يرد فيه نهي بالأصل لامتناع جريان أصالة العدم في المقام للعلم بارتفاع العدم وانتقاضه بالوجود (٤) (قوله : هذا لو لا عدم) يعني ما ذكر من عدم إمكان إثبات الإباحة في الفرض المذكور انما يتم لو لا عدم الفصل أما بالنظر إلى عدم الفصل بين أفراد مشتبه الحكم فيثبت الحكم بالإباحة في الفرض كما ثبت في غيره من أمثاله (٥) (قوله : انما يجدي فيما كان) يعني أن التلازم بين الافراد في الحكم بالإباحة انما ينفع في إثبات الإباحة لبعض الافراد عند ثبوتها في غيره لو كان ثبوتها للغير مما قام عليه دليل لأن الدليل الدال على أحد المتلازمين حجة في إثبات الملازم الآخر ، أما إذا كان المثبت للإباحة هو الأصل فليس الحكم كذلك لأن الأصل المثبت لأحد المتلازمين لا يكون حجة على الملازم الآخر ،

٢٣٥

بعيد جداً (وأما العقل) فانه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجة عليه فانهما بدونها عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان وهما قبيحان بشهادة الوجدان. ولا يخفى انه مع استقلاله بذلك لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته فلا يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل كي يتوهم أنها تكون بياناً كما انه مع احتماله

______________________________________________________

ولذا اشتهر أن الأصل المثبت ليس بحجة ، فأصالة العدم وان كانت تثبت الإباحة في أكثر الموارد لكنها لا تصلح لإثباتها في الفرض المذكور بتوسط الملازمة بين الموارد بالإباحة. هذا ولكن لا يخفى أن أصالة العدم في المقام لا تثبت الإباحة وانما تثبت موضوع الإباحة والإباحة إنما تستفاد من الدليل وهو الحديث المذكور فالأولى أن يقال : إن عدم الفصل انما ينفع في إثبات الإباحة لو كان بين ما لم يرد فيه نهي وما لم يعلم ورود النهي فيه لا ما لو كان بين أفراد مجهول الحكم فان عدم الفصل في الثاني انما يجدي لو قام دليل على الإباحة في بعض أفراد مجهول الحكم والمفروض عدمه ، وانما الدليل قام على الإباحة فيما لم يرد فيه نهي فلا بد من إثبات عدم الفصل بينه وبين مجهول الحكم. فلاحظ وتأمل ، ولعله إلى هذا أشار بقوله : فافهم (١) (قوله : بعيد جداً) يعني ومع بعد صدق الناقل لا يجوز الاعتماد على النقل (٢) (قوله : بما كان) متعلق بالظفر (٣) (قوله : فانهما بدونها) ضمير التثنية راجع إلى العقوبة والمؤاخذة وضمير المؤنث راجع إلى الحجة ، (٤) (قوله : ولا يخفى انه مع استقلاله) يعني أنه حيث استقل العقل بقبح المؤاخذة كانت المؤاخذة معلومة العدم لامتناع صدور القبيح منه تعالى ، ومع العلم بعدم المؤاخذة لا مجال لتطبيق قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لأن تطبيقها يتوقف على احتمال الضرر والمفروض حصول العلم بعدمه فقاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل رافعة لموضوعها تكويناً حقيقة.

ومن هذا يظهر لك اندفاع ما يتوهم من كون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل واردة

٢٣٦

لا حاجة إلى القاعدة بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة ولو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل ، وأما ضرر غير العقوبة فهو وإن كان محتملا إلا أن المتيقن منه فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعاً ولا عقلا ، ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلا وجوازه شرعاً ـ مع أن احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرة وان كان ملازماً لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة لوضوح ان المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الأحكام وقد استقل العقل بحسن الأفعال التي تكون ذات المصالح وقبح ما كان ذات المفاسد

______________________________________________________

على قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأن الأولى تصلح أن تكون بياناً فيرتفع موضوع الثانية حقيقة (توضيح الاندفاع) : أن قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل مما يمتنع أن تكون بياناً على التكليف لأن تطبيقها يتوقف على احتمال الضرر والاحتمال المذكور انما يكون مع وجود البيان على الواقع فالبيان لا بد أن يكون مفروضاً في رتبة سابقة عليها ، ويمتنع حينئذ ان يكون البيان بها ، وان شئت قلت : يلزم من كونها بياناً الدور ، لأن ورودها يتوقف على ثبوت موضوعها وهو احتمال الضرر ، واحتمال الضرر يتوقف على البيان فلو كان البيان موقوفا على ورودها لزم توقف الشيء على ما يتوقف عليه وهو الدور الممتنع (١) (قوله : لا حاجة إلى القاعدة) إنما لا يكون حاجة إليها لو كان النزاع في ثبوت العقاب على تقدير المصادفة حيث أن ثبوت العقاب على ذلك التقدير تابع لوجود مقتضية وهو المعصية أما لو كان النزاع في ثبوت وجوب الاحتياط كما يدعيه الأخباريون فالحاجة إليها أكيدة إذ لولاها لم يكن ما يوجب الاحتياط (٢) (قوله : واما ضرر غير العقوبة) معطوف على قوله : لاحتمال الضرر ... إلخ (٣) (قوله : ضرورة عدم القبح) يشهد به الوجدان الضروري ، كما يظهر بأدنى تأمل (٤) (قوله : وجوازه شرعا) لأن الثابت في الشرع حرمة الوقوع في التهلكة دون عنوان مطلق الضرر فلاحظ مع ان احتمال الضرر الدنيوي من قبيل الشبهة الموضوعية التي لا إشكال عند

٢٣٧

ليست براجعة إلى المنافع والمضار وكثيراً ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر. نعم ربما يكون المنفعة أو المضرة مناطاً للحكم شرعاً وعقلا (ان قلت) : نعم ولكن العقل يستقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن من مفسدته وأنه كالإقدام على ما علم مفسدته كما استدل به شيخ الطائفة ـ قدس‌سره ـ على أن الأشياء على الحضر أو الوقف (قلت) : استقلاله بذلك ممنوع والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان حيث أنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته ولا يعاملون معه معاملة ما علم مفسدته ، كيف وقد أذن الشارع بالإقدام عليه؟ ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح فتأمل (واحتج للقول) بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجة بالأدلة الثلاثة (أما الكتاب) فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم وعن الإلقاء في التهلكة والآمرة بالتقوى ، والجواب أن القول بالإباحة شرعاً وبالأمن من العقوبة عقلا ليس قولا بغير علم لما دل على الإباحة من النقل وعلى البراءة من حكم العقل ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلا ولا فيه مخالفة التقوي كما لا يخفى (واما الأخبار) فبما دل على وجوب التوقف عند الشبهة معللا في بعضها بأن (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة) من الأخبار الكثيرة

______________________________________________________

الأخباريين في جواز الارتكاب فيها ، إلا ان يفرق بين مثل هذه الشبهة الموضوعية وسائر الشبه الموضوعية لاختلافها في أن بيانها وظيفة الشارع دونها كما هو ظاهر (١) (قوله : ليست براجعة) هو خبر أن المصالح ... إلخ ، وقد تقدم ذلك في مبحث حجية الظن (٢) (قوله : وكثيرا ما يكون محتمل) وحينئذ فلو بني على وجوب دفع الضرر المحتمل اختص بغير هذه الموارد (٣) (قوله : كيف وقد أذن) من الواضح أن المصالح والمفاسد الواقعية بعد ما كانت عللا للأحكام الشرعية امتنع إذن الشارع في الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته الا مع وجود المزاحم الأهم أو المساوي كما تقدم في الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، وحينئذ فاذن الشارع

٢٣٨

الدالة عليه مطابقة أو التزاماً وبما دل على وجوب الاحتياط من الاخبار الواردة بألسنة مختلفة (والجواب) أنه لا مهلكة في الشبهة البدوية مع دلالة النقل على الإباحة وحكم العقل بالبراءة كما عرفت وما دل على وجوب الاحتياط لو سلم وان كان وارداً على حكم العقل فانه

______________________________________________________

في الإقدام عليه لا تصلح شاهداً على جواز الإقدام مطلقاً ، إلا أن يكون مقصوده دعوى جواز الإقدام عند العقلاء لبعض الدواعي كما جاز عند الشارع لذلك ، لكن العبارة لا تساعد عليه ، مع أنه قياس مع الفارق لأن الدواعي العقلائية المصححة للإقدام ليست مما تصلح لمزاحمة المفاسد الواقعية ، كما هو ظاهر ، ولعله إليه أشار بقوله : فتأمل (١) (قوله : الدالة عليه مطابقة) أي الدالة على وجوب التوقف مطابقة مثل ما تضمن الأمر بالوقوف والكف أو التزاما مثل ما دل على وجوب التثبت والرد إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام وغير ذلك (٢) (قوله : والجواب انه لا مهلكة) توضيحه : أن وجوب التوقف المستفاد من أخباره قد أخذ في موضوعه الهلكة فيمتنع ان يكون علة لها لأن الموضوع من علل وجود حكمه فلو كان معلولا له لزم الدور ، فلا بد حينئذ من أن يكون منشأ الهلكة شيئاً آخر غير هذا الوجوب فتختص الاخبار المذكورة بما لو كان بيان على الواقع غير نفس الاخبار فيبطل جعلها بيانا على التكليف كما هو غرض المستدل ، ويكون حال هذه الاخبار بالإضافة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان حال قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بالإضافة إليها ، فكل مورد لا بيان فيه على الواقع تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان وتكون واردة على هذه الاخبار ، وكل مورد يكون فيه بيان على الواقع تجري فيه هذه الاخبار ولا تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فالأخبار المذكورة لا تصلح بيانا أصلا كما لا تصلح قاعدة وجوب دفع الضرر بيانا حسبما عرفت ، وهكذا حال الأخبار بالإضافة إلى الأدلة النقليّة الدالة على البراءة فان تلك الأدلة رافعة لموضوعها أيضا بعين التقريب المذكور (٣) (قوله : لو سلم يعني لو سلم وجوده ولم يناقش

٢٣٩

كفى بيانا على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول ، ولا يصغى إلى ما قيل من ان إيجاب الاحتياط ان كان مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح وان كان نفسياً فالعقاب على مخالفته لا على مخالفة الواقع ، وذلك لما عرفت من أن إيجابه يكون طريقياً وهو عقلا مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة كما هو الحال في أوامر الطرق والأمارات والأصول العملية إلا أنها تعارض بما هو أخص أو أظهر ، ضرورة أن ما دل على حلية المشتبه أخص بل هو في الدلالة على الحلية نصّ وما دل على الاحتياط

______________________________________________________

فيه بدعوى القرائن الدالة على أنه للاستحباب أو للإرشاد كما يظهر من ملاحظة الرسائل (١) (قوله : كفى بيانا) فلا مجال معه لتطبيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان (٢) (قوله : ما قيل من ان إيجاب) القائل شيخنا الأعظم (قدس‌سره) في رسائله ذكره في جواب إيراد أورده على نفسه في مقام الجواب عن اخبار التوقف وقد تضمن الإيراد دعوى وجوب الاحتياط شرعا ، وستأتي الإشارة إليه في كلام المصنف (ره) (٣) (قوله : فهو قبيح) يعني ترتب العقاب على التكليف المجهول (٤) (قوله : وذلك لما عرفت من) تعليل لأنه لا يصغى إليه ، وحاصله : أنه لا ينحصر وجه وجوب الاحتياط في أحد الأمرين الباطلين ليكون باطلا بل يمكن أن يكون بنحو آخر بأن يكون طريقيا كسائر الوجوبات التي تضمنتها أدلة الطرق والأمارات والأصول ناشئا عن الاهتمام بمصلحة الواقع ، وحينئذ يكون بيانا على الواقع مصححا للعقاب على مخالفته واردا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ورود جميع الطرق والأمارات والأصول عليها (٥) (قوله : إلّا انها تعارض) استدراك على قوله : وإن كان ، وهو الجواب عن اخبار الاحتياط (٦) (قوله : ضرورة ان ما دل على حلية المشتبه أخص) إن كان المراد به مثل حديث الرفع والسعة ، فيشكل بأنه وان كان مخصصا بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي إجماعا إلا أن تخصيص أدلة الاحتياط بالشبهة الموضوعية يوجب كون النسبة بينه وبين أدلة الاحتياط عموما من وجه وكما يجوز حمل الثانية على الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي يجوز حمله على

٢٤٠