حقائق الأصول - ج ١

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

حقائق الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة بصيرتي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

تقديم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هذه صحف لم يُقدَّر لها أن تُنشر قبل اليوم «والأمور مرهونة بأوقاتها» أملاها سيدي الوالد ـ مد ظله العالي ـ منذ عهد بعيد لا يقل عن ستة وعشرين عاما يوم كان يدرّس طلابه كتاب أستاذه الأعظم «كفاية الأصول» ذلك الكتاب الّذي توفق كل التوفيق والّذي عكف عليه طلاب أصول الفقه قراءة وتفهما ، وكل ما كان يريده ـ مد ظله ـ يومئذ أن يشرح كلمات أستاذه ، ويكشف القناع عن معمياتها ، ولم يشأ أن يعرض لآراء أساتذته الآخرين وغيرهم ومناقشتها الحساب على أنّه ـ مد ظله ـ لم يظن على قرّائه من إبداء ملاحظاته ومآخذه على الكتاب المذكور وتحقيق ما يراه حقا لا محيد عنه.

أما اليوم وقد آن لهذه الصحف أن تُنشر ، فلم يكن في مقدور سيدنا أن ينظر فيها مجددا ، نظرا للظروف والملابسات التي تحيط به من كل جانب وفي كل وقت ، ولم يكن منه تجاهها سوى الإذن في نشرها ، تقريبا لها من الانتفاع ، وتبعيداً لها من الضياع. على انها ـ مع اختصارها ـ والاختصار عادة لسيدي ـ مد ظله العالي ـ في جميع مؤلفاته ـ حاوية لحقائق الأصول ، خالية من كل فضول ، والله سبحانه ولي العصمة والسداد وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٧ محرم الحرام ١٣٧٢ ه‍

يوسف الطباطبائي

الحكيم

٣

بسم الله الرحمن الرّحيم

نحمدك اللهم يا من أضاء على مطالع العقول والألباب وأنار عليها بسواطع السنّة والكتاب فأحكم الفروع بأصولها في كل باب ونصلي على أفضل من أوتي الحكمة وفصل الخطاب وعلى آله الطاهرين الأطياب لا سيما المخصوص بالأخوة سيد أولى الألباب ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول وآل الرسول فاغفر لنا ذنوبنا وقنا سوء الحساب واللعنة على أعدائهم من اليوم إلى يوم الحساب (وبعد) فالعلم على تشعب شئونه وتفنن غصونه مفتقر إلى علم الأصول افتقار الرعية إلى السلطان ونافذ حكمه عليها بالوجدان ولا سيما العلوم الدينية وخصوصاً الأحكام الشرعية فلو لا الأصول لم تقع في علم الفقه على محصول فبه استقرت قواعد الدين وبه صار الفقه كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين فلذا بادر علماء الأمصار وفضلاء الأعصار في كل دور من الأدوار إلى تمهيد قواعده وتقييد شوارده وتبيين ضوابطه وتوضيح روابطه وتهذيب أصوله وأحكام قوانينه وترتيب فصوله لكنه لما فيه من محاسن النكت والفقر ولطائف معان تدق دونها الفِكر جل عن ان يكون شرعة لكل وارد أو ان يطلع على حقائقه إلا واحد بعد واحد فنهض به من أولى البصائر كابر بعد كابر فلله درهم من عصاته تلقوا

______________________________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمد للهِ ربِّ العالمين ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى خير خلقه محمد وآله الطاهرين ، ولَعنة الله على أعدائهم أجمعينَ إلى يَومِ الدِّين.

٤

وأذعنوا وبرعوا فأتقنوا وأجادوا فجادوا وصنفوا وأفادوا أثابهم الله برضوانه وبوأهم بحبوحات جنانه حتى انتهى الأمر إلى أوحد علماء العصر قطب فلك الفقاهة والاجتهاد ومركز دائرة البحث والانتقاد الطود الشامخ والعلم الراسخ محي الشريعة وحامي الشيعة النحرير الأواه والمجاهد في سبيل الله خاتم الفقهاء والمجتهدين وحجة الإسلام والمسلمين الوفي الصفي مولانا الآخوند ملا محمد كاظم الهروي الطوسي النجفي مد الله أطناب ظلاله على رءوس الأنام وعمر بوجوده دوارس شرع الإسلام فقد فاز دام ظله منه بالقدح المعلى وجل عن قول أين وانى وجرى بفكر صائب تقف دونه الأفكار ونظر ثاقب يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار فلذا أذعن بفضله الفحول وتلقوه بأنعم القبول وأظهر صحفا هي المنتهى في التبيان ذوات نكت لم يطمثهن قبله أنس ولا جان ويغنيك العيان عن البيان والوجدان عن البرهان فما قدمته لك إحدى مقالاته الشافية ورسائله الكافية فقد أخذت بجزأيها على شطري الأصول الأصلية من مباحث الألفاظ والأدلة العقلية وأغنت بالإشارة عن المطولات فهي النهاية والمحصول فحري بان يسمى بكفاية الأصول فأين من يعرف قدرها ولا يرخص مهرها وعلى الله قصد السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل قال ـ أدام الله ظله ـ بعد التسمية والتحميد والتصلية : وبعد فقد رتبته على مقدمة ومقاصد وخاتمة اما المقدمة ففي بيان أمور (الأول) ان موضوع كل علم

______________________________________________________

(قوله قدس‌سره : الأول أن موضوع كل علم) جرت عادة المصنفين على ذكر أمور تسمى بالمبادئ ، وهي القول الشارح لموضوع العلم ، وأجزائه وجزئياته ، وأعراضها التي هي موضوعات مسائله ، والمقدمات التي تبتني عليها قياسات العلم ، وأدلته ، وتسمى الأول بالمبادئ التصورية ، والثانية بالمبادئ التصديقية فجرى المصنف (ره) على ذلك أيضا ، فساق الأمر الأول لبيان موضوع علم الأصول ، ولما كان نوعا من مطلق الموضوع ناسب تعرضه لبيان

٥

وهو الّذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة أي بلا واسطة في العروض

______________________________________________________

مطلق موضوع العلم فقال : إن موضوع ... إلخ (قوله : وهو الّذي يبحث) هذا تعريف المشهور لموضوع العلم (قوله : عن عوارضه الذاتيّة) العوارض جمع العارض وهو ـ كما ذكر بعض المحققين ـ مطلق الخارج عن الشيء المحمول عليه ، فيشمل العرض المعبَّر عنه في لسان أهل المعقول بالعَرَضي المقابل في باب الكليات بالذاتي ، المنقسم إلى الخاصة والعرض العام ، ويشمل غيره مثل كل من الجنس والفصل بالإضافة إلى الآخر والنوع بالإضافة إليهما ، وقيل : العرض المبحوث عنه في الفنون هو الأول بشرط كونه ذاتيا بالمعنى الآتي بيانه (قوله : بلا واسطة في العروض) أشار بهذا إلى انقسام الواسطة إلى اقسامها الثلاثة أعني (الواسطة في العروض) وهي التي يقوم بها العرض حقيقة ، وينسب إلى ذيها عناية ومسامحة من قبيل وصف الشيء بحال متعلقه ، وهي قد تكون جلية على نحو تكون نسبة العرض إلى ذيها مجازاً عرفا مثل الحركة والبياض الواسطتين في نسبة السرعة والشدة إلى الجسم ، وقد تكون خفية بحيث لا يخرج التوصيف عن كونه حقيقة في نظر العرف وان كان مجازاً بتعمل من العقل مثل السطح الّذي هو واسطة في نسبة البياض إلى الجسم ، فان البياض إنما يقوم حقيقة بالسطح لا بالجسم لكنه ينسب إلى الجسم حقيقة بنظر العرف وان كان مجازا بالنظر الدّقيق (والواسطة في الثبوت) وهي علة ثبوت العرض حقيقة لمعروضه سواء أكان العرض قائما بها أيضا كالنار والشمس العلتين لثبوت الحرارة للماء أم لا كالحركة التي هي علة لعروض الحرارة على الجسم (والواسطة في الإثبات) وهي التي يكون العلم بها علة للعلم بالثبوت كالوسط في القياس ؛ والأوَّلتان بالنسبة إلى عَرض واحد متباينتان لاعتبار القيام حقيقة في الثانية وعدمه في الأولى ، ويتصادقان بالنسبة إلى عرضين ، إذ لا مانع من ان تكون الواسطة في العروض علة لثبوت عرض آخر لمعروض آخر غير ذيها ، واما الثالثة فتتحد مع كل واحدة منهما بالإضافة إلى خصوص ذلك العرض بعينه ، وتفترق عن الأخرى ، إذ قد يكون الوسط في القياس علة لثبوت الأكبر

٦

للأصغر ، وقد يكون واسطة في عروضه له ، وقد تفترق عنهما معاً ، كما إذا كان الوسط لازما لثبوت الأكبر للأصغر أو ملازماً له. ثم إن العرض قسمان ذاتي وغريب ، لأنه إما ان يلحق الشيء لذاته ، أو لجزئه المساوي ، أو للخارج المساوي ، أو لجزئه الأعم ، أو للخارج الأعم ، أو للخارج الأخص ، والثلاثة الأول أعراض ذاتية على المشهور ، بل ادعي عليه الاتفاق ، ولذا اشتهر تعريف العرض الذاتي بأنه ما يلحق الشيء لذاته أو لما يساويه ، والأخيران عرضان غريبان بالاتفاق أيضا ، وأما الرابع فالمنسوب إلى مشهور المتأخرين أنه من الأعراض الذاتيّة ، وهو ظاهر الشمسية وصريح شرحيها للرازي والتفتازاني ، وعن جماعة من المتأخرين ـ تبعا للقدماء ـ أنه من الأعراض الغريبة ، بل نسبه في الفصول إلى المشهور ، وظاهر المصنف (ره) حيث عدل عن تعريف المشهور المتقدم للعرض الذاتي فعرفه ـ تبعا للفصول ـ بما يلحق الشيء بلا واسطة في العروض خلاف ذلك ، إذ عليه يكون القسم الثالث من الأعراض الغريبة كالأخيرين لكون الأقسام الثلاثة عندهم كلها مما يكون بواسطة في العروض ، كما صرَّح به بعض الأجلة ، ويظهر من كلماتهم وأمثلتهم ، وكأن الوجه فيه ما أشار إليه في الفصول وغيره من أن ما يلحق الشيء بواسطة الخارج المساوي ينبغي أن يبحث عنه في فن يكون موضوعه تلك الواسطة ولا ينبغي ان يبحث عنه في فن يكون موضوعه غيرها ، وفيه ـ مع انه قد لا تكون لتلك الأعراض أهمية صالحة لتدوينها في فن مستقل ـ وانه ينافي ما ذكره من كون الجامع بين شتات المسائل اشتراكها في الغرض ، إذ قد يكون البحث عن العارض بواسطة المساوي دخيلا في الغرض المقصود من العلم ـ أنه إنما يتم لو فرض انحصار العرض المبحوث عنه في الفنون بما ذكر ، إلا أن دعوى الانحصار لا بيّنة ولا عليها بيّنة ؛ بل ظاهر كلام غير واحد المفروغية عن أنه قد يكون موضوع بعض مسائل الفنون عوارض نفس الموضوع فيكون محمولها من قبيل عرض الموضوع بواسطة في العروض ، فلاحظ كلماتهم في تعريف موضوع العلم وفي الخاتمة ، والالتزام بالاستطراد في البحث

٧

هو نفس موضوعات مسائله عيناً وما يتحد معها خارجاً وان كان يغايرها مفهوما تغاير الكلي ومصاديقه والطبيعي وافراده والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتتة جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الّذي لأجله دوّن هذا العلم

______________________________________________________

عن تلك المسائل لا ملزم به (قوله : هو نفس) هذا خبر (إن) يعني أن موضوع العلم هو الجامع بين موضوعات ... إلخ وهذا راجع إلى تعريف المشهور ، والعدول إليه بقصد الإيضاح. هذا ولا يخفى ان مقتضى ما صرحوا به من انَّ موضوع المسألة إما نفس موضوع العلم أو جزؤه أو جزئيه أو عرضه الذاتي عدم تمامية التعريفين كليهما إذ ليس هناك امر واحد يُبحث عن عوارضه ، ولا جامع مطرد بين موضوعات تلك المسائل إلا بنحو من الاعتبار مثل : أحد الموضوعات ، ونحوه ، ولذا التجأ المحقق الدواني ـ على ما حكي عنه ـ إلى دعوى طي في العبارة ، وأن المراد ما يبحث في العلم عن عوارضه ، أو عوارض أجزائه أو عوارض جزئياته أو عوارض أعراضه ، وما حكي عن الشيخ الرئيس من إرجاعها إلى كل واحد موقوف على فرض الجامع بين تلك الموضوعات المختلفة ولا سيما في خصوص بعض الفنون كفن الفقه الّذي يكون موضوع مسائله أحد النقيضين من الفعل والترك على أنه لا يرتفع به التنافي بين تعريف الموضوع وما ذكروه هناك كما هو ظاهر بملاحظة الضمائر المجرورة في قولهم : أو جزئه أو جزئيه أو عرضه ، إذ لا يعقل ان يكون الشيء جامعاً بين نفسه وغيره هذا ـ مضافا إلى أن عوارض جزئيات الموضوع أعراض غريبة بالاتفاق فكيف تصح دعوى كون الموضوع هو الجامع بين الموضوعات ، وأنه يبحث في العلم عن عوارضه الذاتيّة ، وإرجاع عوارض الجزئيات إلى عوارض الكلي بعيد جداً إذ البحث في تلك المسائل كان عن نفس الجزئيات بخصوصيتها لا بما هي كلي والأمر سهل في أمثال المقام (قوله : وما يتحد) عطف تفسير (قوله : والطبيعي) عطف تفسير أيضا (قوله : في الدخل في الغرض) ليس المراد من الدخل دخل العلية إذ ليس نفس المسائل مما له مقدمية لحصول الغرض وانما العلم بها له دخل في حصول العلم بحصول الغرض ، بل الدخيل

٨

فلذا قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل مما كان له دخل في مهمين لأجل كل منهما دون علم على حدة فيصير من مسائل العلمين (لا يقال) : على هذا يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما فيما كان هناك مهمان متلازمان في الترتب على جملة من القضايا لا يكاد يمكن انفكاكهما (فانه يقال) : مضافا إلى بُعد ذلك بل امتناعه عادة لا يكاد يصح لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين بل تدوين علم واحد يبحث فيه تارة لكلا المهمين وأخرى لأحدهما وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل فان حسن تدوين علمين كانا مشتركين في مسألة أو أزيد في جملة مسائلهما المختلفة لأجل مهمين مما لا يخفى ، وقد انقدح

______________________________________________________

في حصول الغرض إرادة تطبيق العمل على المسائل المعلومة ، مثلا علمنا بأن الفاعل مرفوع له نحو دخل في علمنا بمطابقة كلامنا لكلام العرب أما نفس المطابقة فانما تكون ناشئة عن إرادة المتكلم لها ، فإثبات الدخل لها بهذا الاعتبار فتأمل (١) (قوله : فلذا قد يتداخل) هذا تفريع على قوله : جمعها اشتراكها ... إلخ لكنه انما يتفرع عليه بخصوصه لو لم يكن جامع آخر بين المسائل غير وحدة الغرض أما لو كان جامع آخر إما لكونه جامعا بين موضوعاتها ـ كما فرضه ـ أو بين محمولاتها بنحو الجامع بين الموضوعات فيمكن التداخل أيضا ، وليس الجامع الغرضي بأولى من غيره في ترتب التداخل عليه إذ من المعلوم ان كل واحدة من المسائل انما يترتب عليها شخص خاص من الغرض لا يترتب على غيرها فاعتبار جامع بين تلك الأغراض كما يكون جامعاً لشتات المسائل ويترتب عليه التداخل في العلوم يصح مثله في لموضوعات والمحمولات ، ويكون كذلك في كونه جامعاً لشتات المسائل وترتب التداخل (٢) (قوله : مما كان) بيان لبعض المسائل يعني : إذا كان بعض المسائل يترتب عليه غرضان لعلمين يدخل ذلك البعض في كل من العلمين فيشترك العلمان فيه (٣) (قوله : وهذا بخلاف) إذ ليس المدعى ان تعدد العلوم بتعدد الأغراض حتى يلزم كون المسائل التي يترتب عليها غرضان متلازمان علمين ، بل المدعى ان

٩

بما ذكرنا أن تمايز العلوم انما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين لا الموضوعات ولا المحمولات وإلا كان كل باب بل كل مسألة من كل علم علماً على حدة كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمل فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدد كما لا يكون وحدتهما سبباً لأن يكون من الواحد (ثم) انه ربما لا يكون لموضوع العلم وهو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل عنوان خاص واسم مخصوص فيصح أن يعبَّر عنه بكل ما دل عليه بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيته أصلا. وقد انقدح بذلك أن موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة

______________________________________________________

المميز للعلوم بعضها عن بعض هو الأغراض وفي الفرض لا اثنينية حتى يرجع إلى المميز بل أمر واحد يترتب عليه غرضان طوليان أو عرضيان بخلاف ما إذا اشتركت ببعض المسائل فانه يكفي في الاثنينية الاختلاف في بعض المسائل الأخر (١) (قوله : بما ذكرنا) يعني في تعريف المسائل من أن الجامع بينها اشتراكها في الدخل في الغرض (٢) (قوله : باختلاف الأغراض) قد أشرنا إلى انه يمكن التمييز بالموضوعات بالمعنى المتقدم في كلام الدواني ، أو بالمعنى المتقدم في كلام المشهور ، والمصنف. نعم قد يُشكل حيث لا يكون الجامع له مفهوم محصَّل واضح بعد إمكان فرضه فيكون التمييز حينئذ بالمحمولات أو بالأغراض ، وقد يكون الأمر بالعكس ، وقد يكون التمييز عن طائفة من العلوم بالموضوع وعن طائفة أخرى بالمحمول كما في العلوم العربية فان امتياز بعضها عن بعض بالمحمولات وامتيازها أجمع بالموضوعات أمر ممكن (٣) (قوله : لا الموضوعات) قد اشتهر أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات فأشكل بأنه قد يكون الأمر الواحد موضوعا لعلوم متعددة مثل العلوم العربية لكنهم دفعوا هذا الإشكال بقولهم : ان تمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات ، يعنون بها الإضافات إلى محمولاتها مثل كون الكلمة من حيث الإعراب والبناء موضوعا لعلم النحو وهي من حيث المعنى موضوع لعلم اللغة ، وهكذا لكنه راجع إلى التمييز بالمحمولات كما عرفت (١) (قوله : وإلّا كان كل باب ... إلخ)

١٠

هذا انما يترتب لو قيل بالتمييز بالموضوعات أو المحمولات بعناوينها الخاصة في المسائل فان موضوع مسائل باب الفاعل غير موضوع مسائل باب المفعول كما ان محمول مسائل باب المرفوعات غير محمول مسائل باب المنصوبات مثلا ، أما لو أريد الجامع بين موضوعات المسائل فلا يرد عليه ذلك ، وإنما يرد عليه ما عرفت مما تنبهوا له وأجابوا عنه. ثم ان ترتب هذا اللازم على ما ذكر ليس على الإطلاق بل يختلف باختلاف كيفية التبويب فان كان من قبيل (باب الفاعل) (باب المفعول) مما تشترك فيه المسائل موضوعا وتختلف محمولاً لزم أن يكون كل باب علماً لو كان التمييز بالموضوعات اما لو كان بالمحمولات لزم أن يكون كل مسألة من باب مع ما يتحد معها محمولا من مسائل الأبواب الأخر علما ، وان كان التبويب من قبيل (باب المرفوع) (باب المنصوب) ترتب على القولين ما ذكر على العكس ، ومنه يظهر أن ترتب ان يكون كل مسألة علماً على كل من القولين لا يكون إلا مع اختلاف جميع المسائل في الموضوع والمحمول معاً بحيث تكون كل مسألة بابا مستقلاً فلاحظ. ثم انك قد عرفت الإشارة إلى أن كل مسألة يترتب عليها غرض خاص لا تشاركها فيه أختها من المسائل وإنما الاشتراك بملاحظة جامع بين الأغراض وهذا الجامع يختلف سعة وضيقاً باختلاف المناسبات التي يلحظها واضعو الفن فقد يلحظ الواضع جامعاً واسع الدائرة فتكثر مسائل الفن المسمى باسم كذا وقد يلحظه ضيّق الدائرة فتقلّ مسائله ، مثلا قد يلحظ الجامع بين الأغراض المترتبة على مسائل باب الفاعل فقط فيسمي مسائل باب الفاعل فنّاً كذائياً في قبال مسائل باب المفعول ، وهكذا ، وقد يكون أوسع كالغرض المترتب على مسائل باب المرفوعات أو مسائل النحو أو مع الصرف أو هما مع سائر مسائل العلوم العربية فيسمّيه الفن العربي وتكون مسائل النحو كباب من أبوابه أو فصل من فصوله فالتحديد بالغرض انما هو يتبع اعتباره ضيِّقاً أو واسعاً حسب الاعتبارات والجهات المقتضية لذلك في نظر مدوني الفنون.

١١

لا خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة بل ولا بما هي هي ضرورة أن البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها وهو واضح لو كان المراد بالسنة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره كما هو المصطلح فيها لوضوح عدم البحث في كثير من مباحثها المهمة

______________________________________________________

(موضوع علم الأصول)

(١) (قوله : لا خصوص الأدلة) يعني كما هو المشهور يعنون بها الكتاب والسنة والإجماع والعقل (٢) (قوله : ولا بما هي هي) كما ذكر في الفصول فراراً عما قيل على ما هو ظاهر المشهور : من أن البحث في كثير من مسائل الأصول عن كون الشيء دليلاً مثل مسألة حجية الخبر وظاهر الكتاب ونحوهما ليس هو بحثاً عن عارض الأدلة بل بحث عن نفس دليليّتها فلا يكون من مسائل الفن بل من مباديه التصديقية فتأمل ، وطريق فرار الفصول ان الموضوع المبحوث عن أحواله في علم الأصول ذوات الأدلة أعني نفس الكتاب وإخوته معراة عن صفة الدليليّة وتكون هي حينئذ من العوارض المبحوث عنها فيه كغيرها من العوارض (٣) (قوله : ضرورة ان البحث في غير) هذا شروع في بيان بطلان ما هو المشهور وما هو صريح الفصول وحاصله أن السنة التي هي أحد الأدلة إما أن يراد منها ما هو المصطلح فيها أعني نفس قول المعصوم وفعله وتقريره أو ما هو أعم منها ومن الطريق الحاكي عنها كالخبر وغيره من الطرق ، فان كان المراد منها الأول توجه الإشكال بأن مسألة حجية الخبر ونحوها وجملة من مسائل مبحث باب التعارض لا يبحث فيها عن عوارض الأدلة لا بما هي أدلة ولا بما هي هي بل انما يبحث فيها عن عوارض الخبر الحاكي عنها وليس هو أحد الأدلة الأربعة ـ كما هو ظاهر ـ لا بما هي أدلة ولا

١٢

كعمدة مباحث التعادل والتراجيح بل ومسألة حجية خبر الواحد لا عنها ولا عن سائر الأدلة (ورجوع) البحث فيهما في الحقيقة إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد في مسألة حجية الخبر كما أفيد وبأي الخبرين في باب التعارض فانه أيضا بحث في الحقيقة عن حجية الخبر في هذا الحال (غير مفيد) فان البحث عن ثبوت الموضوع وما هو مفاد كان التامة ليس بحثا عن عوارضه فانها مفاد.

______________________________________________________

بما هي هي ومثله البحث عن حجية الشهرة ومطلق الظن ، وكأن الاقتصار في كلام المصنف على هاتين المسألتين لمزيد الاهتمام بهما ؛ وان كان المراد منها الثاني فسيأتي ما فيه (١) (قوله : كعمدة مباحث ... إلخ) مثل البحث عن حجية أحدهما وعدمها وانها على التخيير أو الترجيح والبحث عن المرجحات. نعم في مسائلها ما كان بحثاً عن حال الدليل مثل البحث عن تعيين الظاهر والأظهر ونحوه. (٢) (قوله : ورجوع البحث فيهما ... إلخ) إشارة إلى ما أجاب به شيخنا الأعظم «قده» عن هذا الإشكال وحاصله انه يمكن إرجاع البحث في هاتين المسألتين وما يشبههما إلى البحث عن أحوال السنة بالمعنى المتقدم لأن مرجع البحث عن الحجية إلى البحث عن ثبوت قول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره بالخبر في مسألة حجية الخبر ، أو بأحد الخبرين في باب التعارض وعدمه فيكون الموضوع حينئذ نفس السنة وجعل (ره) ذلك مغنيا عن تجشم الفصول في دفع الإشكال (٣) (قوله : مفاد كان التامة .. إلخ) يراد به معنى : كان زيد ، أي وجد ؛ وهو نسبة الوجود إلى الماهية ومفاد : كان الناقصة ، يراد به نسبة بقية العوارض الزائدة على الوجود إلى الماهية مثل : كان زيد قائماً ، وكذا ما يقال : مفاد ليس التامة ، وليس الناقصة ، يعنون بهما نفي الوجود ونفي ما عداه من العوارض وإن كانت ليس لا تستعمل في لغة العرب إلا ناقصة وتوضيح الإشكال على شيخنا الأعظم (ره) أن المراد من الثبوت الّذي هو مرجع البحث في مسألة حجية الخبر ونحوها إن كان هو الثبوت الحقيقي فهو ـ مع انه ليس محلا للنزاع ضرورةً ـ أنه ليس

١٣

كان الناقصة (لا يقال) : هذا في الثبوت الواقعي (وأما) الثبوت التعبدي كما هو المهم في هذه المباحث فهو في الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة (فانه يقال) : نعم لكنه مما لا يعرض السنة بل الخبر الحاكي لها فان الثبوت التعبدي يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر كالسنة المحكية به وهذا من عوارضه لا عوارضها كما لا يخفى (وبالجملة) الثبوت الواقعي ليس من العوارض والتعبدي وان كان منها إلا انه ليس للسنة بل للخبر فتأمل جيداً ، واما إذا كان المراد من السنة ما يعم حكايتها فلان البحث في تلك المباحث وان كان عن أحوال السنة بهذا المعنى إلّا ان البحث في غير واحد

______________________________________________________

من العوارض التي يبحث عنها في العلوم ، وان كان هو الثبوت التعبدي الظاهري فهو راجع في الحقيقة إلى جعل أحكام ثبوت السنة الحقيقي لما هو مشكوك الثبوت ومن المعلوم ان هذا ليس من عوارض السنة بل من عوارض الخبر الحاكي عنها فيرجع الإشكال بحاله. هذا ويمكن الخدش فيه أولا من جهة حصر العوارض بغير الوجود وهو لا يساعده التعريف المتقدم للعارض ، ولا ما صرَّح به بعض المحققين من علماء المعقول من عموم العوارض المبحوث عنها له ، وثانياً من جهة إرجاع البحث إلى البحث عن عوارض الخبر الحاكي فانه غير ظاهر بل هي حينئذ من عوارض مؤداه إلا أن يكون الخبر ملحوظا طريقا إليه. ثم ان بعض الأعيان من مشايخنا المعاصرين دفع الإشكال من أصله بأن مرجع النزاع في الحجية إلى النزاع في أن السنة هل تُعلم بالخبر أولا؟ لأن مرجع حجية شيء بعنوان الطريقية إلى انه علم بالمؤدى تنزيلا ـ كما سيأتي في محله إن شاء الله ـ ولكن لا يخفى انه لا يدفع الإشكال في كلام المصنف (ره) إذ يقال حينئذ : ليس النزاع في انها تعلم حقيقة بالخبر قطعاً بل النزاع في أنها تعلم تعبداً أولا ، وهو راجع إلى جعل أحكام العلم بالسنة للخبر الحاكي عنها ، فهو أولى بالإشكال من جواب شيخنا الأعظم «ره» (١) (قوله : كان الناقصة) لأن الثبوت التعبدي زائد على ثبوت السنة الحقيقي فيكون من عوارضها (٢) (قوله : بل الخبر) قد عرفت انه لمؤدّاه (٣) (قوله : واما إذا كان المراد ... إلخ) هذا هو مراد الفصول (١) (قوله : إلّا ان البحث في غير)

١٤

من مسائلها كمباحث الألفاظ وجملة من غيرها لا يخص الأدلة بل يعم غيرها وان كان المهم معرفة أحوال خصوصها كما لا يخفى ويؤيد ذلك تعريف الأصول بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية وان كان الأولى تعريفه بأنه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن ان تقع في طريق استنباط الأحكام

______________________________________________________

يعني فيكون البحث عن العارض بواسطة الخارج الأعم لكنه تنبّه لذلك في الفصول وأجاب عنه بأن البحث عنها باعتبار وقوعها في الكتاب والسنة ولا يقدح في ذلك بيانهم لوضعه اللغوي أو العرفي ، إذ المقصود بيان مداليل تلك الألفاظ بأي وجه كان .. إلخ كما أشار إليه المصنف (ره) بقوله : وان كان المهم ... إلخ إذ من المعلوم أن عموم النزاع وخصوصه تابع لعموم الغرض وخصوصه (٢) (قوله : وجملة من مباحث) أي من غير مباحث الألفاظ كما يذكر في المباحث العقلية من حسن العقاب وقبحه فانه لا يخص الأدلة بل يعم المباحث الكلامية (٣) (قوله : ويؤيد ذلك) أي كون البحث في الأصول ليس عن خصوص الأدلة ووجه التأييد عدم تقييد القواعد بأن موضوعها الأدلة.

(تعريف الأصول)

(٤) (قوله : تعريفه بأنه صناعة ... إلخ) هذا التعريف يخالف التعريف المشهور من وجوه (الأول) خلوّه من ذكر العلم وهو في محله لما عرفت من ان الفنَّ نفس المسائل التي تكون موضوعا للعلم تارة وللجهل أخرى ، وقد صرح بما ذكرنا جماعة منهم التفتازاني في بعض كلماته ، ولعلَّ الباعث على ذكره في التعريف كونه منشأ الأثر في الفنون دون نفس المعلوم ، والمصحّح لهذا الاستعمال وحدة العلم والمعلوم حقيقة وان اختلفا اعتباراً (الثاني) جعله نفس الصناعة التي يُعرف بها القواعد ، وهذا شيء تفرد به المصنف (ره) فيما أعلم ولازمه كون

١٥

أو التي يُنتهى إليها في مقام العمل

______________________________________________________

المتون المشتملة على نفس القواعد ليست من الأصول مع ان الأقيسة ليست من الفن بل من مباديه التصديقية (الثالث) خلوّه عن اعتبار التمهيد للاستنباط ، ولازمه دخول أكثر مسائل الفنون التي يتوقف عليها الاستنباط كالعلوم العربية في علم الأصول ، وهو كما ترى ، إلا ان يراد من طريق الاستنباط خصوص القياس المنتج للوظيفة العملية لكنه يلزم منه خروج جملة من مسائل الأصول أيضا ، إذ ليست هي في رتبة واحدة وكيف كان فيعم الممهدة وغيرها ، أما تعريف المشهور فأبعد عن الإشكال المتقدم لأن مسائل تلك الفنون لم تمهد للاستنباط وانما مهدت لغايات أخر فيختص الأصول بالمسائل التي لم تمهد لغاية أخرى بحيث يلزم الأصولي تمهيدها للاستنباط. هذا ولكنه لا ينطبق على ما لم يمهّد أصلا إلا ان يراد من الممهدة الأعم من الشأنية والفعلية ، لكن عليه يرجع الإشكال الأول ، إلا ان يراد شأنية نفس التمهيد لا شأنية كونه للاستنباط ، وكيف كان فذكر الممهدة أولى فتأمل جيداً (الرابع) خلوّه عن تقييد الأحكام بقيد الشرعية كما في تعريف المشهور ولا بد منه ، ولعله اكتفى بتعريفها بلام العهد (الخامس) إضافة (١) قوله : أو التي ينتهى ... إلخ وقد أشار إلى وجهه ، وتوضيحه انهم اختلفوا في تقرير مقدمات الانسداد من حيث أن مقتضاها الكشف أو الحكومة على قولين (أحدهما) الكشف بمعنى ان مقدمات الانسداد تكشف عن حكم الشارع الأقدس بحجية الظن فيكون كسائر الحجج الشرعية غاية الأمر انه يفارقها في طريق إثبات الحجية فان طريق ثبوت حجيته هو المقدمات المذكورة وطريق حجيتها هو غيرها من الكتاب والسنة وغيرهما (ثانيهما) الحكومة بمعنى انها تكون منشأ لحكم العقل بوجوب العمل على طبق الظن ويكون حال الظن حال العلم في كون حجيته عقلية ، ويترتب على الأول ان مؤداه حكما شرعيا ظاهرياً كسائر الحجج الشرعية وليس كذلك على الثاني وحينئذ فمسألة حجية الظن لا تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي على الحكومة فتخرج عن الأصول بمقتضى

١٦

بناء على أن مسألة حجية الظن على الحكومة ومسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية من الأصول ـ كما هو كذلك ـ ضرورة أنه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمات

______________________________________________________

تعريف المشهور ، وكذا الحال في مسائل الأصول العملية العقلية كالبراءة والاشتغال والتخيير في الشبهات الحكمية فانه لا يتوصل بها إلى حكم شرعي ، بل وبعض الأصول الشرعية كحديث الرفع بناء على اقتضائه مجرّد نفي الإلزام بلا جعل للإباحة فان نفي الإلزام وان كان شرعياً إلّا انه ليس حكما شرعياً وإلا كانت الأحكام عشرة لا خمسة إلا ان يراد من الحكم هنا ما يعمّه ، وهذه كلّها تدخل في علم الأصول على تعريف المصنف (ره) لأنها ينتهي إليها المكلف في مقام العمل (١) (قوله : بناء) متعلق بقوله : أو التي ينتهى ... إلخ (٢) (قوله : على الحكومة) قيد للحجية (٣) (قوله : مسائل الأصول) معطوف على مسألة حجية الظن اما الأصول الشرعية مثل كل شيء لك حلال ... إلخ ونحوه فتقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية (٤) (قوله : في الشبهات الحكمية) وهي الشبهات في الحكم الكلي أما الجارية في الشبهات الموضوعية كالشك في ان المائع خمر أو خلّ فليست من الأصول لأنها لا يستفاد منها حكم كلي بل جزئي ، ولذا لا يختص إجراؤها بالمجتهد (٥) (قوله : من الأصول) خبر (إن) في قوله : على أن (٦) (قوله : الوضع) الإضافة على نحوين منها ما يكون فيها للمتضايفين هيئة خاصة كالفوقية والتحتية ونحوهما فان لزيد مع السقف الّذي يكون فوقه هيئة خاصة مباينة لهيئته مع الأرض التي تكون تحته ومنها ما لا يكون كذلك كالملكية والزوجية ونحوهما فان الهيئة الحاصلة لزيد مع فرسه قبل ان تكون ملكاً له هي هيئته معها بعد ما صارت ملكاً له ، وفي كون النحو الأول مما له حظ من الخارج بحيث لا يتوقف على وجود لاحظ أولا؟ خلاف كما قيل ، أما الثاني فلا إشكال في انه لا حظّ له من الخارج بل يكون بمحض الاعتبار ، وانما يكون الخارج

١٧

ظرفا لمنشإ اعتباره ونسبته إلى منشإ اعتباره ليست نسبة المتأثر إلى المؤثر. هذا ولا ريب في أن الوضع من النحو الثاني إذ ليس للفظ مع معناه هيئة خاصة بل هو معه بعده كحاله معه قبله ، كما لا ريب في انه ليس من الإضافات الناشئة عن خصوصية في المتضايفين كإضافة التلازم بين المتلازمين بل له منشأ آخر وانما الإشكال في انه مجعول قصداً بحيث يعتبر من مجرّد جعله أو منتزع من إرادة ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، وهذا الخلاف فيه ربما يأتي في مثله من الأحكام الوضعيّة (المختار) لبعض الأكابر هو الثاني وقد يستدل له (تارة) بالوجدان ، فان الإنسان لا يجد من نفسه عند إرادة تسمية ولده أو كتابه إلا إرادة ذكر الاسم عند إرادة تفهيم المعنى (وأخرى) بان تفهيم المعنى باللفظ انما يكون بتوسط الملازمة الذهنية بينهما وحيث أنه لا ملازمة ذاتية ذهنية كما هو المفروض ، ولا يمكن جعلها أيضا لأنها خارجة عن الاختيار فلم يبق إلا تحقيق ما يؤدي إليها من الملازمة بين ذكر اللفظ وإرادة المعنى ، فإذا تحققت هذه الملازمة بإرادة ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى حصلت الملازمة الذهنية بتوسط العلم بالإرادة ، وإلا فلا طريق إلى حصولها أصلا ، وهذه الإرادة هي منشأ اعتبار الوضع (وأورد) عليه بعض الأعيان بما توضيحه أن الإرادة المتعلقة باللفظ إرادة غيرية ناشئة عن إرادة تفهيم المعنى ، والإرادة الغيرية تابعة للمقدمية ، إذ لو لم يكن الشيء مقدمة لم يكن مراداً بإرادة غيرية فلا بد من ثبوت المقدمية للفظ في رتبة سابقة على الإرادة وهذه المقدمية يمتنع نشوؤها من هذه الإرادة للزوم الدور ؛ ولا من غيرها لأنه خلاف الوجدان (أولا) وللزوم اجتماع المثلين في محل واحد وهو ممتنع (ثانياً) فان قلت : لا مانع من اجتماعهما على أن تكون إحداهما مؤكدة للأخرى (قلت) : يمتنع التأكد في المقام لاختلاف الرتبة إذ الوجود المتأكد في رتبة واحدة ، ولأنه يقال في الإرادة الأخرى التي تنشأ عنها المقدمية هي إما نفسية ، ـ وهو خلاف الوجدان ـ وإما غيرية فلا بد من ثبوت مقدميتها في رتبة سابقة عليها فيجري فيها ذلك أيضا وهكذا فتأمل ، فيتعين الالتزام بأن المقدمية مجعولة

١٨

هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما ناشئ من تخصيصه به (تارة) ومن كثرة استعماله فيه (أخرى) وبهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني والتعيني كما لا يخفى. ثم

______________________________________________________

مع قطع النّظر عن الإرادة وذلك بجعل اللفظ للمعنى (ودعوى) امتناع ذلك لأن ما ليس بينهما العلاقة يمتنع جعل العلاقة بينهما (مدفوعة) بأن ذلك يتم في الأمور الحقيقية لا الاعتبارية التي منها ما نحن فيه وهي وان لم توجب اللزوم بين اللفظ والمعنى ذهنا مستقلة إلا أنها بضميمة الاعلام بها توجب ذلك والمفروض انه لا بد منه على كل من القولين. هذا ويمكن ان يقال : مقدمية ذكر اللفظ لتفهيم المعنى ذاتية لأن المقدمية كما سيأتي منتزعة من صدق قولنا : لو لا كذا لم يكن كذا ، ويصدق في المقام : لو لا اللفظ لم يفهم المعنى ، غاية الأمر ليس هو تمام المقدمة بل يتوقف على مقدمة أخرى مثل العلم بالإرادة فلا مجال للإشكالات المذكورة نعم المانع عن كونه نفس الإرادة كونه خلاف المرتكز من معناه فيقال : أردت أن أضع لفظ كذا ، كما يقال : أردت أن افعل كذا ، وذلك مما يأبى عن كونه نفس الإرادة (فالتحقيق) انه منتزع من الالتزام النفسيّ بذكر اللفظ عند إرادة التفهيم ، وهذا الالتزام فعل اختياري للنفس كغيره من أفعالها ، فان تحقق صح اعتبار الإضافة المذكورة عند العقلاء ، وإن لم يُجعل شيء أصلا ؛ وان لم يتحقق امتنع اعتبارها عندهم وإن جُعل اللفظ للمعنى. وهذا الدوران شاهد ما ذكرنا. هذا كله في الوضع التعييني وسيأتي إن شاء الله في الأحكام الوضعيّة ما له نفع تام في المقام والله سبحانه أعلم (١) (قوله : هو نحو اختصاص) الأنسب تعريفه بتخصيص اللفظ بالمعنى لأنه من مقولة الفعل والاختصاص من مقولة الانفعال ، والباعث له على ذلك تقسيمه إلى التعييني والتعيني كما سيأتي (٢) (قوله : من تخصيصه به) سواء أكان بالقول كسميت ولدي علياً ، أم بالفعل باستعماله فيه بقصد جعله له ، إذ الإنشاء يكون بالفعل كالقول عند المشهور على تأمل ذكرناه في محله (قوله : وبهذا المعنى صحَّ)

١٩

إن الملحوظ حال الوضع إما يكون معنى عاماً فيوضع اللفظ له تارة ولافراده ومصاديقه أخرى ، وإما يكون معنى خاصاً لا يكاد يصح إلا وضع اللفظ له دون العام فتكون الأقسام ثلاثة ، وذلك لأن العالم يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك ، فانه من وجوهها ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجهٍ ، بخلاف الخاصّ فانه ـ بما هو خاص ـ لا يكون وجهاً للعام ولا لسائر الافراد فلا يكون معرفته وتصوره

______________________________________________________

أقول : يمكن تقسيمه إلى القسمين بناء على كونه التخصيص أيضا بأن يراد منه ما هو أعم مما كان عن قصد كما في التعييني أولا كما في التعيني (٢) (قوله : ان الملحوظ حال) الظاهر عدم الفرق في مجيء الأقسام بين الوضع التعييني والوضع التعيني ، غاية الأمر لحاظ العام والخاصّ يكون في الثاني لأجل الاستعمال الّذي هو المصحح لاعتبار الوضع. ثم إن لحاظ الموضوع له «تارة» يكون تفصيلياً «وأخرى» يكون إجماليا ببعض وجوه الملحوظة والمراد بوجه الشيء ما يكون لحاظه مميزاً للموجَّه عما عداه ويكون النّظر إليه نظر إليه في الجملة (٣) (قوله : فيوضع اللفظ) وحينئذ يكون الوضع عاماً والموضوع له عاماً (٤) (قوله : أخرى) فيكون الوضع عاماً والموضوع له خاصاً (٥) (قوله : إلا وضع) فيكون الوضع خاصاً والموضوع له خاصاً (٦) (قوله : وذلك لأن) بيان لوجه انحصار الأقسام في الثلاثة (٧) (قوله : بما هو كذلك) أي بما هو عام (٨) (قوله : فانه من وجوهها) العام بما هو عام لا يكون وجها للخاص ، وإنما يصلح لذلك بتوسط تحديده وتضييق دائرته ، كما أن دلالته على الخاصّ إنما تكون بذلك أيضا ، لأن العام صالح لأن يكون وجها لكل واحد من أفراده فكونه وجها لواحد منها بخصوصه إنما يكون بتقييده بنحو لا ينطبق إلا عليه ، فالعام الحاكي عن تمام أفراده بخصوصيتها ليس عاما في الحقيقة بل يكون خاصا مرادفا لقولنا : تمام الافراد فتأمل (٩) (قوله : معرفته) أي معرفة الشيء ذي الوجه (١٠) (قوله : فانه بما هو خاص) يعني أن الخاصّ بما أنه خاص يمتنع أن يكون حاكيا عن العام ، لأن العام صالح للانطباق على

٢٠