حقائق الأصول - ج ١

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

حقائق الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة بصيرتي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦
الجزء ١ الجزء ٢

ضرورة أن الأمر في : جاء زيد لأمر كذا ، ما استعمل في معنى الغرض بل اللام قد دلت على الغرض. نعم يكون مدخوله مصداقه (فافهم) وهكذا الحال في قوله تعالى : (فلما جاء أمرنا) يكون مصداقا للتعجيب لا مستعملاً في مفهومه وكذا في الحادثة والشأن ، وبذلك ظهر ما في دعوى الفصول من كون لفظ الأمر حقيقة في المعنيين الأولين ولا يبعد دعوى كونه حقيقة

______________________________________________________

لو على قدر ما يحاول قلبي

طلبي لم يقر في الغمد عضبي

ولم يستعمل في الكتاب الجيد الا في ذلك فلا يبعد أن يكون المصحح لاستعماله في الأمر كون الأمر نحواً من السعي نحو المأمور به ، وعليه فعد الطلب من معاني الأمر يكون من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق ، اللهم إلّا أن يكون الاستعمال فيه بلغ حد الحقيقة التعينية فتأمل. ثم انه يشكل جعل الطلب من معاني الأمر من جهة اختلاف المتعلقات الكاشف عن اختلاف المعنى فيقال ـ : طلب منه كذا ؛ ولا يقال ـ : أمر منه كذا ، ويقال : أمرته بكذا ؛ ولا يقال : طلبته بكذا (١) (قوله : ضرورة أن الأمر) تعليل لكون عد المعاني المذكورة من اشتباه المصداق بالمفهوم وحاصل مراده ان عد الشيء معنى للفظ يقتضي كون اللفظ مستعملا فيه ، وليس الحال في المعاني المذكورة كذلك فان لفظ الأمر لم يستعمل في مفهوم الغرض أو الفعل العجيب أو غيرهما وانما هو مستعمل في معنى واحد يكون مصداقا للغرض تارة وللفعل العجيب أخرى ... وهكذا ؛ كما أن معنى زيد تارة يكون مصداقا لمفهوم العالم ، وأخرى مصداقا لمفهوم العادل ... وهكذا ؛ ولا يصح عد العالم والعادل من معاني زيد (٢) (قوله : مصداقه فافهم) يمكن أن يكون إشارة إلى أن اللام قد تدخل على نفس المصداق وقد تدخل على نفس المفهوم المضاف إلى مصداقه كما تقول : جئتك لغرض كذا ، فالأمر في المقام مستعمل استعمال لفظ الغرض بقرينة إضافته إلى (كذا) نعم قولك : جئتك لأمر ، مستعمل في المصداق. فتأمل (٣) (قوله : في الحادثة والشأن) كان الأنسب عطف الفعل عليهما لوحدة الجميع

١٤١

في الطلب في الجملة والشيء. هذا بحسب العرف واللغة ، وأما بحسب الاصطلاح فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص ومجاز في غيره ولا يخفى انه عليه لا يمكن منه الاشتقاق فان معناه حينئذ لا يكون معنى حديثاً ـ مع أن الاشتقاقات منه ظاهراً تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم لا بالمعنى الآخر (فتدبر) ويمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبيراً عنه بما يدل عليه. نعم القول المخصوص أي صيغة الأمر إذا أراد العالي بها الطلب يكون من مصاديق الأمر لكنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص (وكيف كان) فالأمر سهل لو ثبت النقل ولا مشاحة في الاصطلاح ، وإنما المهم بيان ما هو معناه عرفا ولغة ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة ، وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة ولا حجة على أنه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز ، وما ذكر في الترجيح عند تعارض هذه الأحوال ـ لو سلم ولم يعارض بمثله ـ فلا دليل على الترجيح به فلا بد مع التعارض من الرجوع إلى الأصل في مقام العمل. نعم لو علم ظهوره في أحد معانيه ـ ولو احتمل انه كان للانسباق من الإطلاق ـ فليحمل عليه وان لم يعلم انه

______________________________________________________

(١) (قوله : في الطلب في الجملة) يعني المخصوص بالخصوصيات المبحوث عنها في الجهات الآتية (٢) (قوله : لا يمكن منه الاشتقاق) قال في الفصول : لو أرادوا بالقول المخصوص نفس اللفظ أعني الملفوظ كما هو الظاهر من كلماتهم لكان بمنزلة الاسم والفعل والحرف في مصطلح علماء العربية فكان اللازم عدم صحة الاشتقاق منه لعدم دلالته حينئذ على معنى حدثي ... إلخ «أقول» : الظاهر منهم إرادة نفس اللفظ بمعناه المصدري وهو التلفظ بالقول المخصوص فلا إشكال ، ولعله أشار إليه بقوله : فتدبر (٣) (قوله : هو الطلب) كما أصر عليه في الفصول (٤) (قوله : بما هو طلب) يعني لا بما هو قول مخصوص وإلّا رجع إلى المعنى الأول (٥) (قوله : لو ثبت النقل) يعني إلى القول المخصوص (٦) (قوله : فليحمل عليه) عملا

١٤٢

حقيقة فيه بالخصوص أو فيما يعمه كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأول ، (الجهة الثانية) الظاهر اعتبار العلو في معنى الأمر فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمراً ، ولو أطلق عليه كان بنحو من العناية ، كما أن الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء فيكون الطلب من العالي أمرا ولو كان مستخفضاً لجناحه ؛ وأما احتمال اعتبار أحدهما فضعيف وتقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه وتوبيخه بمثل انك لم تأمره؟ إنما هو على استعلائه لا على أمره حقيقة بعد استعلائه وانما يكون إطلاق الأمر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه (وكيف كان) ففي صحة سلب الأمر عن طلب السافل ولو كان مستعلياً كفاية (الجهة الثالثة) لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب لانسباقه عنه عند إطلاقه ، ويؤيده قوله تعالى : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لبريرة بعد قوله :

______________________________________________________

بأصالة الظهور التي استقر عليها بناء العقلاء (١) (قوله : كما لا يبعد ان يكون) قد تقدم منه انه لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الطلب وفي الشيء ، وحينئذ فدعوى ظهوره في الأول غير ظاهرة الوجه ، والّذي يهون الخطب ندرة فرض التردد على نحو يترتب عليه الأثر لاختلاف المعنيين في كيفية الاستعمال من حيث الاشتقاق والجمود والاحتياج إلى المتعلقات وعدمه ، فان الأمر بمعنى الطلب يتعلق به المطلوب والمطلوب منه وليس كذلك ما كان بمعنى الشيء ، وفي الجمع حيث أن جمع الأول أوامر وجمع الثاني أمور فهذا الاختلاف يرفع التردد غالباً (٢) (قوله : اعتبار أحدهما) بحيث يكفي في صدق الأمر أحد الأمرين من كون الطالب عاليا وكونه مستعليا (٣) (قوله : وتقبيح الطالب) يعني تقبيح طلب الطالب. ثم إن التقبيح والتوبيخ انما يتعلقان باستحقاق اللوم والعقاب لا بإثبات كون الأمر حقيقة في طلب المستعلي غير العالي. نعم يثبت ذلك باستعمال الأمر فيه في قوله : لم تأمره ، لو لا أن الاستعمال أعم (٤) (قوله : المستعلي) صفة للطالب (قوله : ويؤيده قوله تعالى)

١٤٣

أتأمرني يا رسول الله؟ : (لا بل إنما أنا شافع) ... إلى غير ذلك ، وصحة الاحتجاج على العبد ، ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره ، وتوبيخه على مجرد مخالفته كما في قوله تعالى : (ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك) وتقسيمه إلى الإيجاب والاستحباب إنما يكون قرينة على إرادة المعنى الأعم منه في مقام تقسيمه ، وصحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو الحقيقة كما لا يخفى (وأما) ما أفيد من أن الاستعمال فيهما ثابت فلو لم يكن موضوعا للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز فهو غير مفيد ، لما مرت الإشارة إليه في الجهة الأولى وفي تعارض الأحوال فراجع ، والاستدلال بأن فعل المندوب طاعة وكل طاعة فهو فعل المأمور به ، فيه ما لا يخفى من منع الكبرى ـ لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي ـ وإلا لا يفيد المدعى (الجهة الرابعة) الظاهر أن الطلب الّذي يكون هو

______________________________________________________

(١) جعل المذكورات مؤيدات لا أدلة لعله من جهة عدم صلاحيتها للإثبات إذ ليس الاستعمال الأمر في الوجوب والاستعمال أعم من الحقيقة ، ولعل فهمه في الأول مستند إلى مادة الحذر ، والثاني إلى المشقة ، وفي الثالث إلى مقابلته بالشفاعة. فتأمل (٢) (قوله : وصحة الاحتجاج) معطوف على الانسباق ، (٣) (قوله : وتقسيمه) هذا دليل للقول بالأعم من الوجوب والاستحباب كما تقدم نظيره في الصحيح والأعم (٤) (قوله : أعم من كونه) إلا أن يكون التقسيم بلا تصرف ولا عناية كما هو الظاهر في المقام فيكون حقيقة في الاستحباب أيضا نعم الوجوب مقتضى إطلاقه من دون ترخيص في خلافه ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى

(الطلب والإرادة)

(٥) (قوله : الظاهر أن الطلب الّذي) يعني ان مفهوم الطلب مقول بالاشتراك بين نوعين (أحدهما) الطلب الّذي يكون صفة قائمة بالنفس (وثانيهما) الطلب الإنشائي المنتزع من مقام إظهار الإرادة بالقول كافعل أو بغيره كالإشارة إلى

١٤٤

معنى الأمر ليس هو الطلب الحقيقي الّذي يكون طلباً بالحمل الشائع الصناعي بل الطلب الإنشائي الّذي لا يكون بهذا الحمل طلباً مطلقاً بل طلباً إنشائياً سواء أنشئ بصيغة افعل أو بمادة الطلب ، أو بمادة الأمر ، أو بغيرهما. ولو أبيت إلا عن كونه موضوعاً للطلب فلا أقل من كونه منصرفاً إلى الإنشائي منه عند إطلاقه كما هو الحال في لفظ الطلب أيضاً ، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائي ، كما أن الأمر في لفظ الإرادة على عكس لفظ الطلب والمنصرف عنها عند إطلاقها هو

______________________________________________________

المخاطب بأن يفعل ، والأول هو الطلب الحقيقي الّذي يكون له وجود عيني في النّفس ، والثاني هو الطلب الإنشائي فقولنا : الأمر معناه الطلب يراد منه ان الأمر معناه الطلب الإنشائي الإيقاعي لا الطلب الحقيقي ، فإذا قال المولى لعبده : افعل ، ولم يكن في نفسه طلب للفعل كما في الأوامر الامتحانية صدق ان المولى آمر ولا يتوقف صدق ذلك على كون المولى طالبا في نفسه للفعل (١) (قوله : معنى الأمر) يعني معنى مادة الأمر (٢) (قوله : الّذي يكون) كان الأولى أن يقول : المعبر عنه بلفظ الطلب مطلقا مقابل الطلب الاعتباري المعبر عنه بلفظ الطلب الإنشائي ، لما عرفت من أن لفظ الطلب مشترك بين نحوي الطلب فالطلب الحقيقي عين الطلب لا انه يحمل عليه بالحمل الشائع وانما الّذي يحمل عليه الطلب بالحمل الشائع هو الطلب الخارجي الحقيقي ، وهكذا الحال في قوله : الّذي لا يكون ... إلخ ؛ إذ الفرق بين الطلب الحقيقي والإنشائي الاعتباري هو الفرق بين الماء المطلق والمضاف ، لكن ظاهر العبارة كون لفظ الطلب موضوعا للجامع بين النحوين فيكون مشتركا معنويا لا لفظياً وهو غير ظاهر. هذا بناء على كون الطلب الإنشائي نحوا آخر من أنحاء الطلب في قبال الطلب الحقيقي أما لو كان هو الطلب الحقيقي إنشاء ادعاء فلفظ الطلب ليس موضوعاً الا للطلب الحقيقي لا غير إذ ليس هناك نحو آخر للطلب سواه ؛ (٣) (قوله : سواء أنشئ) سيأتي أن الظاهر ان صيغة افعل موضوعة لإنشاء المادة لا إنشاء الطلب (٤) (قوله : موضوعا للطلب) يعني الجامع بين الحقيقي

١٤٥

الإرادة الحقيقة ؛ واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والإرادة خلافا لقاطبة أهل الحق والمعتزلة من اتحادهما ، فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام وان حققناه في بعض فوائدنا إلا أن الحوالة لما لم تكن عن المحذور خالية والإعادة بلا فائدة ولا إفادة كان المناسب هو التعرض هاهنا أيضا «فاعلم» أن الحق ـ كما عليه أهله ـ وفاقا للمعتزلة وخلافا للأشاعرة هو اتحاد الطلب والإرادة بمعنى أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائية (وبالجملة) : هما متحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجا لا ان الطلب الإنشائي الّذي هو المنصرف إليه بإطلاقه ـ كما عرفت ـ متحد مع الإرادة الحقيقة التي ينصرف إليها إطلاقها أيضاً ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس ، فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ففي مراجعة

______________________________________________________

والإنشائي (١) (قوله : الإرادة الحقيقة) يعني التي هي صفة قائمة بالنفس ، (٢) (قوله : والإعادة) معطوف بلحاظ المعنى على اسم تكن وبلحاظ قواعد التركيب على الحوالة إلا انه فاسد المعنى (٣) (قوله : هو اتحاد الطلب والإرادة) قد عرفت الإشكال في كون الطلب من الصفات النفسانيّة وان المستفاد من ملاحظة موارد استعماله : انه السعي نحو المطلوب وأن البناء على كونه موضوعا أيضا لغير هذا المعنى يقتضي كونه مفهوما منتزعا عن مقام إظهار الإرادة وإبرازها ولا يرتبط بالإرادة وليس قائما بالنفس قيام الإرادة بها ، فالبناء على مغايرته للإرادة حينئذ لا يشد عضد الأشعري القائل بأنه صفة في النّفس غير الإرادة مدلول للكلام اللفظي ليثبت مدعاه من قدم الكلام النفسيّ الّذي هو مدلول الكلام اللفظي كما لا يخفى ، (٤) (قوله : مفهوم واحد) فهما مترادفان (٥) (قوله : وما بإزاء أحدهما) يعني الفرد الخارجي لأحدهما هو الفرد الخارجي للآخر (٦) (قوله : لا أن الطلب) معطوف على قوله : ان لفظيهما ... إلخ (٧) (قوله : أظهر من الشمس) إذ

١٤٦

الوجدان عند طلب شيء والأمر به حقيقة كفاية فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان ، فان الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب غيرها سوى ما هو مقدمة تحققها عند خطور الشيء ، والميل ، وهيجان الرغبة إليه ، والتصديق بفائدته ، وهو الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لأجلها (وبالجملة) لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة والإرادة هناك صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب فلا محيص عن اتحاد الإرادة والطلب وان يكون ذاك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة ، أو المستتبع لأمره عبيده به فيما لو اراده لا كذلك مسمى بالطلب والإرادة كما يعبر به تارة وبها أخرى كما لا يخفى. وكذا الحال في سائر الصيغ الإنشائية والجمل الخبرية فانه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس من الترجي والتمني والعلم ... إلى غير ذلك صفة أخرى كانت قائمة بالنفس وقد دل اللفظ عليها كما قيل :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جُعل اللسان على الفؤاد دليلا

وقد انقدح مما حققناه

______________________________________________________

الإرادة الحقيقة كما ذكر صفة في النّفس والطلب الإنشائي اعتبار محض منتزع عن مقام إظهار الإرادة فكيف يشتبه أحدهما بالآخر (١) (قوله : فان الإنسان) بيان للوجدان (٢) (قوله : هو الطلب) يعني كما يدعيه الأشاعرة (٣) (قوله : وهو الجزم) بيان لما هو ، يعني ان الجزم بدفع ما يمنع عن طلب الشيء لأجل الفائدة وان كان من صفات النّفس إلّا انه مقدمة للإرادة لا انه الطلب النفسيّ الّذي يدعيه الأشعري «أقول» : كون الجزم مقدمة للإرادة غير ظاهر بل الظاهر كونه معلولا لها. نعم هو مقدمة لطلبه من الغير. فتأمل (٤) (قوله : في إرادة فعله) وهي الإرادة التكوينية (٥) (قوله : لو اراده لا كذلك) وهي الإرادة التشريعية (٦) (قوله : به تارة) قد عرفت انه محل إشكال (٧) (قوله : صفة أخرى) اسم يكون (٨) (قوله : كما قيل) هذا البيت استشهد به الأشاعرة على مدعاهم

١٤٧

ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة بالأمر مع عدم الإرادة كما في صورتي الاختبار والاعتذار : من الخلل ، فانه كما لا إرادة حقيقة في الصورتين لا طلب كذلك فيهما ، والّذي يكون فيهما إنما هو الطلب الإنشائي الإيقاعي الّذي هو مدلول الصيغة أو المادة ، ولم يكن بيِّناً ولا مبيِّناً في الاستدلال مغايرته مع الإرادة الإنشائية ، (وبالجملة) : الّذي يتكفله الدليل ليس إلّا الانفكاك بين الإرادة الحقيقة والطلب المنشأ بالصيغة الكاشف عن مغايرتهما وهو مما لا محيص عن الالتزام به ـ كما عرفت ـ ولكنه لا يضر بدعوى الاتحاد أصلا لمكان هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والإنشائي كما لا يخفى (ثم) إنه يمكن مما حققناه ان يقع الصلح بين الطرفين ولم يكن نزاع في البين بان يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوماً ووجوداً حقيقياً وإنشائياً ويكون المراد بالمغايرة والاثنينية هو اثنينية الإنشائي من الطلب ـ كما هو كثيرا ما يُراد من إطلاق لفظه ـ والحقيقي من الإرادة ـ كما هو المراد غالباً منها حين إطلاقها ـ

______________________________________________________

وحمله القوشجي على اعتقاد الشاعر ثبوت كلام نفسي تقليداً أو على كون المقصود الأصلي من الكلام هو الدلالة على ما في الضمير ، وبهذا الاعتبار يسمى كلاما فأطلق اسم الدال على المدلول وحصره تنبيهاً على انه آلة يتوصل بها إليه فكأنه هو المستحق لاسم تلك الآلة ... إلخ (١) (قوله : ما في استدلال الأشاعرة) يعني أن الأشاعرة ادعوا ان الطلب غير الإرادة واستدلوا عليه بأنه قد يأمر الرّجل بما لا يريده كالمختبر لعبده انه يطيعه أولا وكمن يريد أن يعتذر عن ضرب عبده فانه يأمر عبده فيعصيه العبد فيضربه معتذراً بأنه عصاه إذ الأمر في هذين المقامين ليس عن إرادة نفسية (٢) (قوله : من الخلل) بيان لما في قوله : ما في الاستدلال (٣) (قوله : فانه كما لا إرادة) بيان لوجه الخلل (قال) القوشجي : واعترض عليه بان الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته إذ لا طلب فيهما أصلاً كما لا إرادة قطعا (قوله : بين الطلب)

١٤٨

فيرجع النزاع لفظياً. فافهم (دفع وهم) لا يخفى انه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة من نفي غير الصفات المشهورة وأنه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاماً نفسياً مدلولا للكلام اللفظي كما يقول به الأشاعرة أن هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام «فان قلت» : فما ذا يكون مدلولا عليه عند الأصحاب والمعتزلة «قلت» : أما الجمل الخبرية فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها أو نفيها في نفس الأمر من ذهن أو خارج

______________________________________________________

(١) متعلق بالمغايرة والانفكاك (٢) (قوله : فيرجع النزاع لفظياً فافهم) لعله إشارة إلى امتناع كون النزاع لفظياً وتوضيحه : انه لا خلاف ظاهرا في انه سبحانه متكلم وانما الخلاف في المراد من كلامه وفي انه حادث أو قديم فالمحكي عن المعتزلة والحنابلة والكرامية ان كلامه أصوات وحروف وان اختلفوا في انه قائم بغيره لا بذاته كما يقول المعتزلة أو بذاته كما يقول الحنابلة والكرامية ، وعن الأشاعرة ان كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف بل معنى قائم بذاته يسمى الكلام النفسيّ ، ثم المحكي عن المعتزلة والكرامية أنه حادث وعن الأشاعرة والحنابلة أنه قديم فمذهب الأشاعرة في الكلام انه معنى قائم بذاته تعالى قديم وحيث تعذر عليهم تفسيره بالعلم والإرادة والكراهة ونحوها ضرورة انها ليست كلاما اضطروا إلى تفسيره في الخبر بالنسبة وفي الإنشاء بالطلب والمنع ونحوهما فالطلب عندهم صفة قائمة بذاته سبحانه قديم فلا مجال لأن يريدوا به الطلب الإنشائي إذ ليس هو من صفات النّفس ولا هو قديم (٣) (قوله : المشهورة) وهي العلم والإرادة وأخواتهما مما تقدمت إليه الإشارة (٤) (قوله : ان هذه الصفات) خبر ليس الأولى (٥) (قوله : اما الجمل الخبرية فهي دالة) قد تقدم سابقا انه لا اختلاف بين الخبر والإنشاء في المعنى فالمعنى المدلول عليه بالخبر هو المعنى المدلول عليه بالإنشاء وانما الاختلاف بينهما في كيفية الاستعمال ، فالخبر يستعمل في معناه بقصد حكايته عنه والإنشاء يستعمل في معناه بقصد إيجاده فمعنى زيد حر خبرا وإنشاء واحد فما يدل

١٤٩

كالإنسان نوع أو كاتب. وأما الصيغ الإنشائية فهي ـ على ما حققناه في بعض فوائدنا ـ موجدة لمعانيها في نفس الأمر ، أي (قصد ثبوت معانيها وتحققها بها) وهذا نحو من الوجود وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبارٍ مترتب عليه شرعاً وعرفاً آثار كما هو الحال في صيغ العقود والإيقاعات (نعم) لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني بالدلالة الالتزامية على ثبوت هذه الصفات حقيقة إما لأجل وضعها لإيقاعها فيما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة ، فلو لم تكن هناك قرينة كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتهما لأجل قيام الطلب والاستفهام وغيرهما بالنفس وضعاً أو إطلاقاً (إشكال ودفع) أما الإشكال فهو انه يلزم ـ بناء على اتحاد الطلب والإرادة ـ في تكليف الكفار بالايمان بل مطلق أهل العصيان في العمل بالأركان إما أن لا يكون هناك تكليف.

______________________________________________________

عليه من المعنى حال كونه خبراً هو الّذي يدل عليه حال كونه إنشاء وصدوره في مقام الحكاية دال على كون المتكلم قاصدا به ثبوت النسبة ، كما ان صدوره في مقام الإنشاء دال على كون المتكلم به قاصداً به إيجاد مضمونه ومعناه فالدلالة اللفظية الكلامية للخبر والإنشاء واحدة لاتحاد المعنى والمدلول وانما الاختلاف في الدلالة غير اللفظية ، ومنه يظهر ان الأولى عدم التفصيل بين الجمل الخبرية والصيغ الإنشائية في مدلول الكلام اللفظي (١) (قوله : كالإنسان نوع) مثال لما كان ظرف الحمل هو الذهن لأن النوعية ظرفها الذهن بخلاف الكتابة فان ظرفها الخارج (٢) (قوله : موجدة لمعانيها) قد عرفت ان هذا ليس مدلولا للكلام اللفظي (٣) (قوله : نحو من الوجود) لأنه وجود إنشائي في قبال الوجود الحقيقي في الذهن أو في الخارج (٤) (قوله : يكون هذا) يعني الإنشاء وقصد ثبوت المعنى (٥) (قوله : كما في صيغ العقود) فانها يترتب عليها انتزاع عنوان مثل الملكية والزوجية والحرية وغيرها التي يترتب عليها آثار شرعية وعرفية (٦) (قوله : نعم لا مضايقة) يعني

١٥٠

جدّي إن لم يكن هناك إرادة حيث انه لا يكون حينئذ طلب حقيقي ، واعتباره في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي ، وإن كان هناك إرادة

______________________________________________________

ان ما تقدم كان في بيان المدلول المطابقي للإنشاء وإلّا فيمكن دعوى دلالة الصيغ الإنشائية بالدلالة الالتزامية على الصفات المذكورة ، اما باللزوم العقلي نظير دلالة العمى على البصر بان كانت الصفة مأخوذة قيداً في الموضوع له بأن تكون (لعل) مثلا موضوعة لإنشاء الترجي المقيد بكونه عن ترج نفساني وهكذا حال الباقيات ، واما باللزوم العرفي الناشئ من كثرة الاستعمال المؤدية إلى انصراف الذهن إلى صورة وجود الصفة فتكون الصفات الحقيقية المذكورة مدلولا عليها بالصيغ المستعملة في إنشائها وإيقاعها دلالة التزامية عقلية وضعية أو عرفية إطلاقية

(تنبيه)

حيث عرفت ان الإنشاء مستعمل في معنى الخبر بقصد إيجاده اعتباراً الّذي هو نحو آخر من الوجود يعبر عنه بالوجود الإنشائي كما هو ظاهر المصنف (ره) أو إيجاده ادعاءً بماله من الوجود نقول : تارة يكون المقصود بالإنشاء جعل محض النسبة بين المنتسبين الحاصل بجعل أحدهما للآخر كما في قولك : عبدي حر وهند طالق ، فان المقصود جعل الحرية للعبد والطلاق لهند ، وأخرى يكون المقصود جعل نسبة خاصة مثل : أزيد حر ؛ وهل هند طالق ، فان المتكلم لم يقصد جعل محض النسبة بين الحرية والطلاق لزيد وهند وإنما قصد جعل نسبة خاصة بينهما وخصوصيتها انها نسبة مجهولة الثبوت يراد العلم بتحققها بطرفيها ، وهكذا الحال في مثل لعل زيدا قائم فان المقصود جعل نسبة خاصة بين القيام وزيد وخصوصيتها انها متوقعة عند المتكلم وقس عليه نظائره ، فمفاد الهيئة دائما نسبة قد يتقوم إنشاؤها بإنشاء المادة وقد لا يتقوم بذلك (١) (قوله : جدّي) يعني فيكون التكليف صوريا نظير الأمر الامتحاني (٢) (قوله : واعتباره) يعني الطلب الحقيقي

١٥١

فكيف تتخلف عن المراد؟ ولا يكاد يتخلف (إذا أراد الله شيئاً يقول له كن فيكون) (واما الدفع) فهو ان استحالة التخلف إنما يكون في الإرادة التكوينية

______________________________________________________

الّذي هو عين الإرادة (١) (قوله : تتخلف عن) لكون المفروض عدم تحقق المراد (٢) (قوله : في الإرادة التكوينية) الإرادة التكوينية والتشريعية من سنخ واحد وانما الاختلاف في كيفية التعلق بالمراد (وتوضيح ذلك) : ان الوجود إذا كان له مقدمات يتوقف على كل واحدة منها فكل واحدة من المقدمات لها دخل في جهة من جهات ذلك الوجود ولو كانت دخيلة في جهة واحدة امتنع ان تكون مقدمات متعددة بل كانت مقدمة واحدة ، ثم المصلحة الداعية إلى إرادة الوجود المذكورة قد تكون بحيث تقتضي حفظ الوجود من جميع الجهات وبلحاظ جميع المقدمات وقد تكون بحيث تقتضي حفظه بلحاظ جهة دون جهة ، فان كانت المصلحة على النحو الأول اقتضت تعلق الإرادة به من جميع الجهات بحيث ينشأ من تلك الإرادة النفسيّة إرادة غيرية بعدد المقدمات تتعلق كل واحدة من الإرادات بواحدة من المقدمات ، وان كانت على النحو الثاني اقتضت تعلق الإرادة به من الجهة الخاصة دون غيرها فينشأ من تلك الإرادة النفسيّة إرادة غيرية تتعلق بالمقدمة الحافظة للوجود من تلك الجهة لا غير ، وحيث ان صدور الفعل من المكلف في فرض عدم الداعي النفسيّ إليه يتوقف على أمور : (منها) تشريع الحكم الشرعي وجعله ، (ومنها) علم المكلف به الموجب لحدوث الداعي العقلي إلى فعله ، (ومنها) عدم مزاحمة الداعي العقلي بالدواعي الشهوية إلى خلافه ، كان تشريع الحكم من مقدمات وجود الفعل من المكلف ووجوده حافظ لبعض جهات وجود الفعل وكانت إرادة الشارع المتعلقة بالفعل بلحاظ جهة وجوده من حيث التشريع إرادة له تشريعية ، فالإرادة التشريعية هي إرادة الشيء بلحاظ وجوده من حيث التشريع وتقابلها الإرادة التكوينية وهي المتعلقة بالفعل من جميع جهات وجوده وكونه ، ومنه يظهر أن امتناع تخلف المراد عن الإرادة إنما هو في المراد بالإرادة التكوينية لا التشريعية إذ الثانية لم تتعلق بالمراد من جميع جهات وجوده وإنما تعلقت به من

١٥٢

وهو العلم بالنظام على النحو الكامل التام دون الإرادة التشريعية وهو العلم بالمصلحة في فعل المكلف ، وما لا محيص عنه في التكليف إنما هو هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية فإذا توافقتا فلا بد من الطاعة والإيمان وإذا تخالفتا فلا محيص عن ان يختار الكفر والعصيان (ان قلت) : إذا كان الكفر والعصيان والطاعة والإيمان بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد فلا يصح ان يتعلق بها التكليف لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا (قلت) : إنما يخرج بذلك عن الاختيار لو لم

______________________________________________________

جهة تشريع حكمه فكيف يكون عدم وجود المراد تخلفا له عن الإرادة بل يكون وجوده تخلفا للإرادة عنه وهو ممتنع كتخلف المراد عن الإرادة نعم لو لم يحفظ وجود المراد من قبل التشريع يلزم تخلف المراد عن الإرادة لكن المفروض حفظه كذلك بتحقق التشريع كما هو ظاهر (١) (قوله : وهو العلم بالنظام) سيأتي أن اتحاد الإرادة مع العلم خارجي لا مفهومي (٢) (قوله : بالمصلحة في فعل) يعني الداعية إلى إرادته من حيث تشريع حكمه لا مطلقاً وإلا كانت تكوينية كما عرفت (٣) (قوله : في التكليف) يعني في كون التكليف جديا حقيقيا لا صوريا (٤) (قوله : فإذا توافقتا) يعني إذا توافقت الإرادة التكوينية مع الإرادة التشريعية في المتعلق بأن كان الواجب الشرعي مراداً بالإرادة التكوينية فلا بد من تحقق الواجب لامتناع تخلف المراد عن الإرادة (٥) (قوله : وإذا تخالفتا) يعني بأن تعلقت الإرادة التكوينية بالكفر والعصيان فلا بد من تحققهما لامتناع تخلف المراد بها عنها. ثم ان الكفر والعصيان إذا كانا عدميين لم يتوقف تحققهما على تعلق الإرادة التكوينية بهما بل يكفي فيه عدم إرادة الطاعة والإيمان فالتخالف يكون بمجرد عدم تعلق الإرادة التكوينية بما تتعلق به الإرادة التشريعية لا بتعلقها بغيره (٦) (قوله : خارجة عن الاختيار) لكون الفعل الاختياري ما يكون ناشئا عن إرادة الفاعل والمفروض أنها صادرة عن إرادة الله سبحانه التكوينية (٧) (قوله : قلت : انما يخرج بذلك) يعني أن تعلق الإرادة التكوينية بالعناوين المذكورة

١٥٣

يكن تعلق الإرادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية ، وإلا فلا بد من صدورها بالاختيار وإلّا لزم تخلف إرادته عن مراده تعالى عن ذلك علوا كبيراً (ان قلت): إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما إلّا انهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار كيف وقد سبقهما الإرادة الأزلية والمشية الإلهية؟ ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالاخرة بلا اختيار؟ (قلت) : العقاب إنما يستتبعه الكفر والعصيان التابعان للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتيّة اللازمة لخصوص ذاتهما ، فان السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه

______________________________________________________

يكون على نحوين : (أحدهما) أن تتعلق بها بلا توسط إرادة العبد كتعلقها بسائر الممكنات الموجودة ، (وثانيهما) أن تتعلق بها بتوسط إرادة العبد ، مثلا يكون خصوص الكفر الصادر عن إرادة الكافر متعلقا للإرادة التكوينية الإلهية لا مطلق الكفر ، فان كان التعلق على النحو الأول أوجب كون صدور العناوين المذكورة من العباد بلا اختيار منهم ـ كما ذكر في الإشكال ـ أما لو كان التعلق على النحو الثاني وجب أن يكون صدورها عن إرادة العبد واختياره لئلا يلزم تخلف المراد عن الإرادة وهو ممتنع ، ومنه يظهر فساد ما زعمه الجبري من عدم صدور فعل العبد عن إرادته بعد تسليم وجود الإرادة له (١) (قوله : مسبوقة) حال من الضمير في (بها) (٢) (قوله : بمقدماتها الاختيارية) كان الأولى ان يقول : بمقدماتها الموجبة لكونها اختيارية ؛ إذ مقدمات الفعل ليست اختيارية بل نفس الفعل اختياري (٣) (قوله : منتهيان إلى ما لا بالاختيار كيف) يعني أن إرادة العبد للكفر والعصيان وإن كانت هي المؤثرة فيهما إلا أنها لما كانت من الممكنات كانت بالآخرة مستندة إلى إرادة الواجب سبحانه التي هي واجبة لأنها عين ذاته سبحانه فتكون واجبة بوجوب ذاته ، وإذا كانت إرادة العبد كذلك كانت غير اختيارية ، وحينئذ لا يصح العقاب على الكفر والعصيان لأنه بالآخرة يكون بلا اختيار (٤) (قوله : قلت العقاب إنما يستتبعه) حاصله : ان العقاب في

١٥٤

والناس معادن كمعادن الذهب والفضة ـ كما في الخبر ـ والذاتي لا يُعلل فانقطع سؤال انه لم جعل السعيد سعيداً والشقي شقياً ، فان السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك ، وإنما أوجدهما الله تعالى (قلم اينجا رسيد وسر بشكست) قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الإفهام ومن الله الرشد والهداية وبه الاعتصام (وهم ودفع) لعلك تقول إذا كانت الإرادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل لزم ـ بناءً على أن تكون عين الطلب ـ كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الإلهية هو العلم وهو بمكان من البطلان ، لكنك غفلت

______________________________________________________

الآخرة على المعصية ليس ناشئا عن الاستحقاق حتى يتوجه الإشكال المذكور من عدم الاستحقاق على ما لا يكون بالاختيار بل هو من اللوازم الذاتيّة لها ، وحينئذ فيكون وجودها علة وجوده فيترتب عليها ترتب المعلول على علته (أقول) : الإشكال المذكور ان تم كان مانعاً عن حسن التكليف أيضا ولا يختص منعه بحسن العقاب إذ التكليف والعقاب توأمان لا يحسن أحدهما في ظرف قبح الآخر فإذا كان مجرد كون الفعل اختياريا موجبا لحسن التكليف كان موجبا لحسن العقاب. مضافا إلى ان اندفاع الإشكال بما ذكره (قدس‌سره) يوجب ثبوت الإشكال في حسن العقاب بالنسبة إلى الموالي العرفية إذ لا مجال لدعوى كون عقابهم للعبد كان من جهة الملازمة الذاتيّة بينه وبين المعصية كما هو ظاهر إذ لا ريب في كونه فعلا اختياريا للموالي ناشئا عن ترجيح وجوده على عدمه ، مع ان دعوى كون العقاب في الآخرة كذلك خلاف ظاهر الآيات والروايات بل لعله خلاف المرتكزات الضرورية الإسلامية (فالأولى) ان يقال : إن إرادة العبد لو كانت مخلوقة فيه بلا توسط العقل والقدرة تم الإشكال ، بل لم يحسن التكليف أيضا كما هو الحال في افعال الصبيان والمجانين والحيوانات كافة أما لو كانت بتوسط العقل والقدرة فلا مانع عقلا من حسن التكليف ، ولا من حسن العقاب على مخالفته والرجوع إلى العقلاء أوضح شاهد بما ذكرناه (١) (قوله : هو العلم) لأن المنشأ فيها هو الطلب وهو عين العلم بمقتضى قياس المساواة

١٥٥

عن أن اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح إنما يكون خارجاً لا مفهوماً ، وقد عرفت أن المنشأ ليس إلّا المفهوم لا الطلب الخارجي ولا غرو أصلا في اتحاد الإرادة والعلم عينا وخارجاً ، بل لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة قال (أمير المؤمنين) صلوات الله وسلامه عليه : (وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه)

الفصل الثاني

فيما يتعلق بصيغة الأمر وفيه مباحث (الأول) أنه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها وقد عُدَّ منها الترجي والتمني والتهديد والإنذار والإهانة والاحتقار

______________________________________________________

(١) (قوله : أن اتحاد الإرادة) يعني اتحاد الإرادة والعلم إنما يكون في الخارج لأن صفاته تعالى عين ذاته ، لا ان مفهوم الإرادة عين مفهوم العلم وان كان المحكي عن كثير من المعتزلة ذلك ، بل هو ظاهر المحقق الطوسي (ره) في التجريد حيث قال : ومنها ـ أي الكيفيات النفسانيّة ـ الإرادة والكراهة وهما نوعان من العلم. انتهى ، لكن المحكي عن بعض المعتزلة انها الميل المتعقب لاعتقاد النّفع وهو المراد من الشوق في كلام المصنف (ره) فيما تقدم كما ان المحكي عن بعض الأشاعرة أنها غير العلم والميل ، بل قد تتحقق بدونهما فضلا عن ان تكون عين أحدهما (٢) (قوله : الا المفهوم) يعني وهو غير مفهوم العلم

(صيغة الأمر)

(٣) (قوله : التمني) نحو ألا أيها الليل الطويل ألا انجل (٤) (قوله : التهديد) نحو قوله تعالى : اعملوا ما شئتم (٥) (قوله : الإنذار) نحو قوله تعالى : تمتعوا في داركم (٦) (قوله : الإهانة) نحو قوله تعالى : ذق إنك أنت العزيز الكريم (٧) (قوله : الاحتقار) نحو قوله تعالى : بل ألقوا ما أنتم ملقون

١٥٦

والتعجيز والتسخير ... إلى غير ذلك. وهذا كما ترى ضرورة ان الصيغة ما استعملت في واحد منها ، بل لم تُستعمل إلا في إنشاء الطلب إلا أن الداعي إلى ذلك كما يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي يكون أخرى أحد هذه الأمور كما لا يخفى ، وقصارى ما يمكن أن يُدَّعى أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك لا بداع آخر منها فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة وإنشاؤه بها

______________________________________________________

(١) (قوله : والتعجيز) نحو قوله تعالى : فأتوا بسورة من مثله (٢) (قوله : والتسخير) نحو قوله تعالى : كونوا قردة خاسئين (٣) (قوله : إلى غير ذلك) كالإرشاد ، والتكوين والامتنان ، والتسوية والإباحة (٤) (قوله : إلا في إنشاء الطلب) قد تقدمت الإشارة إلى أن هيئة (افعل) موضوعة وضع الحروف للنسب والإضافات ، فالمراد من كونها موضوعة للطلب مستعملة فيه أنها موضوعة للنسبة الطلبية القائمة بين الطالب والمطلوب ، فهي حاكية عن تلك النسبة ومستعملة فيها ، إلا أن في كونها كذلك تأملاً ، بل الظاهر أنها موضوعة للنسبة التكوينية القائمة بين المكوِّن والمكوَّن فمعنى (اضرب) : كن ضاربا ، ومعنى : كن ضاربا ، جعله ضاربا فهي لإنشاء المادة المنتسبة إلى المتكلم نسبة التكوين ، واستفادة الطلب منها من جهة ملازمة التكوين لتحقق إرادته في نفس المكوِّن فهي تحكي عن الطلب النفسيّ بالالتزام على النحو المذكور وهي في جميع الموارد مستعملة في التكوين حقيقة كما في قوله تعالى : (إن الله إذا أراد شيئاً أن يقوله له كن فيكون) أو ادعاء كما في سائر موارد استعمالها ، لا في إنشاء النسبة الطلبية كما قد يظهر بالتأمل (٥) (قوله : هو البعث والتحريك) يعني الاعتباريين الادعائيين المترتبين على إظهار الإرادة بالصيغة لدلالتها عليها كما عرفت (٦) (قوله : هذه الأمور) يعني التي عُدت معاني للصيغة فان الظاهر أنها دواع إلى تكوين المادة وإنشائها (٧) (قوله : بداعي البحث والتحريك) فيكون الداعي المذكور قيداً في الموضوع

١٥٧

تهديداً مجازاً وهذا غير كونها مستعملة في التهديد وغيره فلا تغفل (إيقاظ) لا يخفى أن ما ذكرناه في صيغة الأمر جار في سائر الصيغ الإنشائية فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام بصيغها (تارة) هو ثبوت هذه الصفات حقيقة يكون الداعي غيرها (أخرى) فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها واستعمالها في غيرها إذا وقعت في كلامه تعالى لاستحالة مثل هذه المعاني في حقه تبارك وتعالى مما لازمه العجز أو الجهل ، وأنه لا وجه له فان المستحيل إنما هو الحقيقي منها لا الإنشائي الإيقاعي الّذي يكون بمجرد قصد حصوله بالصيغة كما عرفت ، ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الإيقاعية الإنشائية أيضا لا لإظهار ثبوتها حقيقة بل لأمر آخر ـ حسبما يقتضيه الحال ـ من إظهار المحبة أو الإنكار أو التقرير ... إلى غير ذلك (ومنه) ظهر أن ما ذُكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضا (المبحث الثاني) في ان الصيغة

______________________________________________________

(١) (قوله : تهديداً مجازاً) لأنه غير الموضوع له (٢) (قوله : في سائر الصيغ) قد عرفت أن سائر الصيغ الإنشائية إنما تكون موضوعة للنسب والإضافات الخاصة أعني النسبة القائمة بين المتمنى والمتمني والمترجي والمستفهم عنه والمستفهم أو غير ذلك فالمراد من إنشائها ينبغي أن يكون إنشاء النسب المخصوصة (٣) (قوله : لاستحالة) متعلق بالالتزام (٤) (قوله : العجز أو الجهل) الأول في الترجي والتمني والثاني في الاستفهام (٥) (قوله : وانه لا وجه له) تأكيد لقوله : لا وجه للالتزام ، (٦) (قوله : فان المستحيل) يعني أن المستحيل عليه تعالى هو الحقيقي من التمني والترجي والاستفهام لا الإنشائي الّذي هو إيجاد النسب الخاصة (٧) (قوله : لا لإظهار ثبوتها) وإن كان إظهار ثبوتها غير ممتنع عليه سبحانه بل الممتنع نفس ثبوتها إلا أن الكلام المشتمل على أدواتها ليس مما قصد منه إظهار ثبوتها بل قصد منه أمر آخر (٨) (قوله : ومنه ظهر) لا يبعد ان يكون مقصودهم ما ذكره المصنف (ره)

١٥٨

حقيقة في الوجوب أو في الندب أو فيهما أو في المشترك بينهما «وجوه» بل «أقوال» لا يبعد تبادر الوجوب عند استعماله بلا قرينة ، ويؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو مقال وكثرة الاستعمال فيه في الكتاب والسنة وغيرهما لا يوجب نقله إليه أو حمله عليه لكثرة استعماله في الوجوب أيضا ـ مع ان الاستعمال وإن كثر فيه إلا أنه كان مع القرينة المصحوبة ، وكثرة الاستعمال

______________________________________________________

وان كانت كلماتهم غير وافية به (١) (قوله : حقيقة في الوجوب) الوجوب الحقيقي (أعني الثبوت) ليس معنى الصيغة ضرورةً وكذا الوجوب الادعائي الاعتباري فالمراد من كون الصيغة حقيقة في الوجوب أنها حقيقة في معنى يكون منشأ لاعتبار الوجوب وادعائه وذلك المعنى هو النسبة الطلبية ـ حسبما هو المشهور ـ أو التكوينية ـ حسبما عرفت ـ وحيث أن الوجوب يُنتزع من مقام إظهار الإرادة مع عدم الترخيص في ترك المراد بشهادة عدم اعتباره من الأمر بالشيء مع الترخيص في تركه مع أن الأمر المذكور لا قصور فيه من حيث كونه مظهراً للإرادة فدعوى كونها حقيقة في الوجوب تتوقف على دلالتها على الإرادة وعلى عدم الترخيص في ترك المراد وحيث ان الصيغة إنما تحكي عن مجرد الإرادة لا عن عدم الترخيص في ترك المراد كان اللازم القول بعدم كونها حقيقة في الوجوب فاستعمالها في موارد الترخيص في ترك المراد لا يكون مجازاً نعم مع الشك في الترخيص يبنى على عدمه عند العقلاء ، فيكفي الشك فيه في اعتبار الوجوب عقلا ولا يحتاج إلى ثبوت عدم الترخيص فهي من حيث هي مشتركة بين الوجوب والاستحباب لكن ما لم يثبت الترخيص يحكم بالوجوب (٢) (قوله : لا يبعد تبادر) قد عرفت أن دعوى تبادر الوجوب مساوقة لدعوى دلالة الصيغة على عدم الترخيص في ترك المادة وهو غير ظاهر بل ممنوع (٣) (قوله : باحتمال إرادة) قد عرفت أن مجرد عدم ثبوت الترخيص كاف في اعتبار الوجوب عند العقل (٤) (قوله : دلالته عليه) يعني على الندب (٥) (قوله : مع القرينة المصحوبة) ولا ينافيه كون

١٥٩

كذلك في المعنى المجازي لا يوجب صيرورته مشهوراً فيه ليرجح أو يتوقف ـ على الخلاف في المجاز المشهور ـ كيف وقد كثر استعمال العام في الخاصّ حتى قيل : ما من عام إلا وقد خُص ، ولم ينثلم به ظهوره في العموم ، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص (المبحث الثالث) هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب والبعث مثل يغتسل ويتوضأ ويُعيد ظاهرة في الوجوب؟ أولا لتعدد المجازات فيها وليس الوجوب بأقواها بعد تعذر حملها

______________________________________________________

أكثر المستحبات قد استفيد استحبابها من الجمع العرفي بين دليلي الالتزام والترخيص كما يظهر بأدنى ملاحظة للكتب الفقهية الاستدلالية ، فان دليل الترخيص يكشف عن ثبوت القرينة الصارفة المتصلة لا أنه بنفسه قرينة حتى تكون القرينة مصحوبة بل هو حجة على القرينة لا أقل من احتمال ذلك فتأمل (١) (قوله : كذلك) يعني مع القرينة المصحوبة (٢) (قوله : صيرورته مشهوراً) لأن المناسبة لا تكون بين اللفظ مطلقا والمعنى بل بين اللفظ المصحوب للقرينة وبين المعنى فلا موجب للانتقال إلى المعنى المجازي من مجرد اللفظ حتى يحصل الإجمال أو الظهور في غير المعنى الحقيقي (٣) (قوله : كيف وقد) استشهاد لما ذكره يعني أن العمومات على اختلافها من المعرَّف باللام ، وكل ، وجميع ؛ وغيرها قد كثر استعمالها في الخصوص حتى قيل : ما مِن عامٍ إلا وقد خُص ، ولم تمنع هذه الكثرة عن حملها على العموم إذا لم تكن قرينة على الخصوص «أقول» : التخصيص في قولهم : ما من عام ... إلخ يراد به التخصيص بالمنفصل بقرينة فرض العام ، ولأجل ذلك أيضا لا مجال لما تقدم من كون الخاصّ حجة على القرينة المصحوبة لأن القرينة مانعة عن كونه عاما ويظهر منه (ره) الاعتراف بذلك في فصل تعيين الظاهر من مبحث التعارض وعليه فلا يكون نظيراً لما نحن فيه بل قد يشكل في الحمل على العموم لأن الاستعمال بالخصوص كان بلا قرينة مصحوبة ـ مضافا إلى أن اقتضاء التخصيص للتجوز بالعامّ محل الكلام كما يأتي فلا يشبه المقام فتأمل (٤) (قوله : قرينة بالخصوص) بل

١٦٠