منهاج الأصول - ج ٢

محمّد ابراهيم الكرباسي

منهاج الأصول - ج ٢

المؤلف:

محمّد ابراهيم الكرباسي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

المقدمة الاولى خارجة عن حيز الارادة مع مبادئها قطعا ضرورة ان الارادة مع مبادئها لا تتعلق بالمرض ولا يكون محبوبا إلا إذا كان طريقا الى تحصيل أمر اهم نعم ربما كان طلبه محبوبا لأجل الاعتذار عن شيء يصده المرض عنه فحينئذ يكون المرض محبوبا فلا تكون المقدمة مطلوبة بنفسها كحب الإنسان للمولود فانه يحب أن يولد له مولود مع انه اذا ولد له مولود لا بد له من القيام بوظائف التكليف المتوجهة الى الآباء من الاتفاق وغيره مما يحتاج في تعيشه وتربيته ولكن مثل هذه المقدمة قد تتفق وبالجملة ان هذه المقدمات التي ذكرناها هو حصولها من باب الاتفاق بخلاف المقدمة الثانية فان تحصيلها دائمي فان من ابتلى من باب الاتفاق بالمرض فلا ينفك منه ارادة السقمونيا فبهذا الذي ذكرناه اتضح منه تثليث الاقسام وبيانه ان القيود ان كانت من قيود الاحتياج كانت خارجة من حيز الارادة ومبادئها وكانت من الواجب المشروط وان كانت تلك القيود قيودا لوجود المحتاج اليه فان كانت تلك القيود التي هي المحتاج اليه سابقة على الفعل فمعلق وإلا فمنجز وظهر مما ذكرناه خروج قيود الاحتياج عن الارادة ومبادئها من الشوق والرغبة والحب والميل وظهر لك ايضا ان هذه القيود لا يعقل أخذها في موضوع الحكم ومتعلقه لان موضوع الحكم ما تعلقت به تلك الارادة وقد عرفت عدم أخذه في متعلقات الارادة فالحكم قد تعلق بالذات التي هي توأم مع القيد على نحو خروج القيد والتقييد.

المقدمة الثانية : ان الطبيعة لها اعتباران من اللحاظ فتارة تلاحظ الطبيعة مقيدة باللحاظ الذهني وهو المعبر عنه عند الحكماء بالتحلية وتارة تلاحظ الطبيعة معراة عن كل شيء حتى عن ذلك اللحاظ الذهني وان كانت ملحوظة بالذهن

٢١

وهو المعبر عنه بالتخلية وتكون تحليتها عين تخليتها وبهذا الاعتبار تارة تكون بالنسبة لما في الخارج ترى غير الخارج بنحو يكون بينهما اثنينية وأخرى ترى عين الخارج بأن يكون لحاظها آلة لما فى الخارج وعلى النحو الثاني تتعلق بها الاوامر على ما سيأتي إنشاء الله تعالى بيانه فى مبحث تعلق الاوامر بالطبائع وبالافراد لان الوجود الخارجي لا يكون هو المطلوب اذ هو ظرف للسقوط ولا يعقل تعلق الاوامر به وإلا لزم تحصيل الحاصل ولازم ذلك أن يكون الذي هو فى حيز الامر هو الطبيعة الحاكية عما في الخارج وتتحد معه بنحو من الاتحاد

ان قلت تعلق الاوامر بشيء يتبع وجود المصلحة فيه التي لا مزاحم لها ومع تعلق الامر بالطبيعة التي هي المقصود لا مصلحة فيها وانما المصلحة في الوجود الخارجي لا في الوجود الذهني قلت ان متعلق الامر لما كان متحدا مع ما فى الخارج بنحو المرآة مع المرئي فحينئذ بسري وصف أحدهما للآخر لما بينهما من الاتحاد فالمصلحة وإن كانت قائمة بما في الخارج إلا انه لما كان ما في الذهن يحكي عما فى الخارج ومتحد معه بنحو من الاتحاد سرى وصف ما فى الخارج الى ما في الذهن فالطبيعة ايضا تكون موصوفة بذلك من غير فرق بين تعلق الحكم بنفس الطبيعة أو تكون شرطا لمتعلق الحكم كالاستطاعة فانها تعتبر شرطا بلحاظ الوجود الذهني المتحد مع ما في الخارج الذي له الدخل في اتصاف الحكم بالمصلحة ولذا صح تعلق الارادة فعلا بها من غير حاجة الى تحقق الاستطاعة الخارجية اذا عرفت ذلك فاعلم ان الواجب لما كانت مقدماته مقدمة للاحتياج وكانت خارجة عن حيز الارادة مع مبادئها إلا اذا كانت من باب الاتفاق محبوبة لغرض من الأغراض إلا ان القوم لما بنوا على حصر المقدمات في ترتب المحتاج اليه اشكل عليهم الحال

٢٢

في بعض المقدمات التي هي غير مقدورة وان كانت خارجة عن حيز الارادة إلا انها باقية تحت مبادئها ومنشأ ذلك هو اعتبار القدرة في صحة توجه الخطاب وبما ان الخطاب معلق على أمر غير مقدور كالوقت مثلا فى وجوب الصلاة لا يصح توجه الخطاب قبل الوقت ولكنك قد عرفت ان المعتبر في صحة توجه التكليف هو القدرة عليه في ظرف الايجاب وهذه القدرة متحققة فى المطلق والمنجز وحينئذ فبما ان المقدمات لها الدخل في وجود الواجب فتكون كل واحدة منها لها نصيب في وجوبه فمع كونها مقدورة تجب ويكون وجوبها من ناحية تلك المقدمة بأن يسد باب من ابواب انعدامه فيصح التثليث بالامر الذي يكون بعض مقدماته مقدورا وان كان بعضها غير مقدور لان المكلف يتمكن من بعض التحصيل وبالاتيان بتلك المقدمات المقدورة فيتمكن من امتثال خطاب المعلق قبل تحقق قيده بإتيان بعض المقدمات المفوتة وغيرها كما ان في المنجز لو كان له مقدمات ففي كل مقدمة يتوقف عليها وجوده فتتصف بالوجوب لوجود ملاكه الذي هو بإتيان كل واحد منها ينسد باب انعدام الواجب المنجز وبالجملة حال المعلق من هذه الجهة حال المنجز من غير فرق بينهما ولذا قلنا بأن المقدمات المفوتة بالواجب المشروط يجب الاتيان بها مع تقدمها على شرط الوجوب لتحقق الارادة التي هي منوطة بحصول المعلق وهي تقتضي وجوب تحصيل المقدمات المطلقة بالاضافة الى الواجب المشروط فان العقل انما يمنع السراية فى المقدمات الوجوبية فى الواجب المشروط دون المقدمات الوجودية فان من علم بحصول الاستطاعة فيما بعد مع ان حجه يتوقف وجودا على تحصيل مقدمات متقدمة على شرط الوجوب الذي هو الاستطاعة فانه يجب تحصيل تلك المقدمات ان قلت ان تلك المقدمات انما يترشح الوجوب اليها بعد وجوب

٢٣

ذيها ومع فرض عدم تحقق المقدمة الوجوبية لذيها فلا يتصف ذوها بالوجوب فكيف تتصف المقدمات الوجودية لذيها حينئذ بالوجوب قلت هذا مسلم لو كان الوجوب فى الحج مثلا موقوفا على وجود الاستطاعة الخارجية ولكنك قد عرفت ان الوجوب فيه متوقف على الوجود اللحاظي الذي هو مرآة لما في الخارج فالحاكم اذا علم انطباق الصور الذهنية على ما فى الخارج تكون على نحوين نحو بعبارة التعليق كقولك حج ان استطعت ونحو بعبارة التنجيز كما لو قال حج ولا اشكال فى مثل هذه الصورة ان حكمه سابق على حصول الاستطاعة الخارجية فيترشح على المقدمات الحاصلة قبل الاستطاعة وجوب واما اذا علم بعدم انطباقها على ما في الخارج بأن علم عدم تحقق الاستطاعة الخارجية فلا اشكال في عدم السراية الى تلك المقدمات لأن المقصود فيها التوصل الى حصول المطلوب النفسي وبعد العلم بارتفاع المطلوب النفسي فكيف تسري المطلوبية الى تلك المقدمات إلا أن يكون الموضوع اخذ على نحو الشرط الفرضي لا على نحو كونه آليا الى ما فى الخارج ومرآتا بإزائه فى الخارج مثلا ان كنت مولاك فافعل كذا والمقصود افرضني مولاك وافعل كذلك ففى هذه الصورة يسري الوجوب الى المقدمات مطلقا أي سواء علم بالانطباق ام لم يعلم لان الشرط فى الحقيقة لم يعتبر له واقعية بل على نحو الفرضية وفرضيته قد حصلت فيترتب الحكم عليه فقد اتضح مما ذكرنا ان الارادة الفعلية تكون باعثة على الترشح الى مقدمات الوجود سواء أكانت قبل شرط الوجوب ام متأخرة عنه غاية الامر ان كان الشرط فرضيا يكون الترشح عليها مطلقا وان كانت على نحو الآلية والطريقية يكون الترشح فى صورة العلم بالانطباق فلا وجه لما التزمه بعض من انكر الواجب المعلق كما انه على ما اخترناه فى الواجب

٢٤

المشروط لا يرد الاشكال بالنسبة الى المقدمات المفوتة التي يجب تحصيلها قبل شرط الوجوب كما ان بعضهم أراد الفرار عن الاشكال بالنسبة الى بعض ما تسالموا على تحصيل مقدماته السابقة على زمان الوجوب كالغسل بالليل لصيام الغد مع ان الواجب كالوجوب فى الغد بتقريب ان الغسل مقدمة للصيام في زمان سابق عليه ولم يجب الا في زمان متأخر فكيف يجب الغسل الذي هو سابق على الصيام لذلك التجأ الى تأسيس واجب معلق وفسره بما كان زمان الوجوب مقدما على زمان الواجب لكي تجب مقدماته الوجودية كالغسل مثلا لو لم يأت به المكلف لفات الواجب المسمى ذلك بالمقدمات المفوتة كما ان المنكرين المواجب المعلق يدفعون الاشكال المذكور بالالتزام بالوجوب العقلي من باب قبح تفويت الغرض أو من باب الوجوب النفسي التهيئي وسيأتي إن شاء الله ان في كلا الامرين نظرا وأما نحن ففى سعة من ذلك لما عرفته من ان الارادة المقرونة بالمحبة والشوق فعلية وان لم تكن الارادة الفاعلية متحققة فلذا تجب تلك المقدمات الوجودية من جهة فعلية الارادة المستتبعة لفعلية الوجوب من غير فرق في أقسام الواجب من المشروط والمعلق والمنجز فتجب جميع المقدمات الوجودية واما فيما لو علق عليه الواجب أو شرط به الوجوب فلا يجب تحصيل تلك المقدمات من غير فرق بين أن تكون مقدورة أو غير مقدورة كما لا يفرق بالنسبة الى الآثار والثمرة بين المختار والمشهور.

إن قلت على ما اخترته يلزم انه لو علم المكلف قبل الوقت بعدم تحصيل الماء بعد الوقت يجب عليه الطهارة قبل الوقت لأنه من المقدمة الواجبة المفوتة وعلى ما ذكرت يجب تحصيلها والحال انه من المتسالم عند الاصحاب عدم تحصيل مثل هذه الطهارة.

٢٥

قلت مقتضى قوله (ع) : (اذا دخل الوقت وجبت الصلاة والطهور) هو أن ابتداء الاتيان بالطهارة من دخول الوقت وقد عرفت انه يجب الاتيان بالمقدمات فيما اذا لم يتعلق على امر متوقع كما فى المقام على انه لو سلم ففى مثل هذه المقدمة لا يجب الاتيان بها لورودها بالنص على خلاف القاعدة المستفادة من القضية الشرطية فيجب العمل بها تعبدا.

ان قلت على هذا ان الطهارة المأتي بها قبل الوقت لا تتصف بالمقدمية فلا يستباح بها الدخول فى الصلاة من غير فرق بين قصد التوصل بهذه الطهارة الى الصلاة او لغاية اخرى كمس كتابة القرآن مع انه لا يلتزم به أحد من الفقهاء رضوان الله عليهم وقد أجاب بعض أهل العصر بما حاصله ان الرواية المذكورة لم تدل الا على ان زمان الوجوب بعد دخول الوقت ولم تدل على ان ابتداء المقدمية من ذلك الحين ولكن لا يخفى ان دلالتها على كون زمان الوجوب بعد دخول الوقت ولازمه ان يكون ابتداء المقدمية من ذلك الحين إذ لو لم يكن كذلك لكان يكتفى بمطلق الطهارة ليسري اليه الوجوب على ما عرفت منا سابقا ان المقدمات الوجودية تجب قبل زمان الواجب فلا تقتضي الاعادة وبالجملة دلالة الرواية على ان ابتداء المقدمية من دخول الوقت بالدلالة الالتزامية فلذا يجب الخروج عما ذكرنا من القاعدة المستفادة من القضايا الشرطية فالحق في الجواب عن ذلك ان يقال بأن الطهارة في ذلك الحين لا تتصف بالمقدمية لأن الطهارة المأتي بها لغاية اخرى ليست مقدمة للصلاة بل المقدمة لها هي الطهارة الباقية بعد الوقت المقارنة لزمان الصلاة ودعوى انه يجب حفظ تلك الطهارة بعد حصولها قبل الوقت ممنوعة لأن مقدميتها لم تؤخذ على سبيل الاطلاق بل اخذت على نحو لو حصلت من باب الاتفاق فلذا تسالم

٢٦

الأصحاب على عدم وجوب حفظ الطهارة المائية قبل الوقت وبالجملة ان لوحظ ما تسالم عليه الأصحاب من جواز تفويت الطهارة المائية قبل الوقت ولوحظ قوله (ع) : (اذا دخل الوقت وجبت الصلاة والطهور وقوله (ع) (لا صلاة إلا بطهور) يفهم أن للصلاة مقدمتين طهارة حادثة بعد الوقت وطهارة باقية من الوضوء الحاصل قبل الوقت وهذه ليست متصفة بالمقدمة ولا يجب تحصيلها قبل دخول الوقت كما لا يجب المحافظة عليها بل ربما يقال أن مفهوم قوله (ع) (اذا دخل الوقت وجبت الصلاة والطهور عدم مقدمية الطهارة قبل الوقت اللهم إلا أن يقال بأن دعوى ذلك على الاطلاق ممنوعة اذ ذلك يسلم لو قصد الاتيان بها قبل الوقت بداع الصلاة واما لو لم يأت بها بذلك الداعي فنمنع دلالة المفهوم بمقتضى قوله (ع) (لا صلاة إلا بطهور) نعم قد يقال بمنع الاطلاق لعدم دلالة القضية الشرطية على المفهوم إذ مفادها توقف الصلاة على الطهارة فقط من دون تعرض لكون وجوب الصلاة على جميع التقادير أو على تقدير خاص ، وبعبارة أخرى إن الاشكال على المختار من لزوم وجوب الوضوء قبل الوقت بالوجوب التعييني فيما لو علم المكلف بعجزه عنه فى الوقت أو بالوجوب التخييري فيما لو علم باستمرار تمكنه منه في الوقت مع ان الاجماع منعقد على عدم وجوب الوضوء قبل الوقت للصلاة الواجبة فيه بل على عدم مشروعيته لها فى غير محله لما عرفت من ان المستفاد من قوله : (ع) (إذا دخل الوقت وجبت الصلاة والطهور) المؤيد بالاتفاق المذكور هو عدم تحقق المصلحة الغيرية في الوضوء السابق على الوقت الذي هو ملاك المقدمية. نعم يستكشف من تسالم الأصحاب على تحقق المصلحة الغيرية فيما لو أتى بالوضوء لغاية اخرى مشروطة واستمر الى ما بعد الوقت وحينئذ

٢٧

تتصف بالمقدمية وأما بالنسبة الى ما قبل الوقت فهو كسائر الوضوءات يجوز نقضه كما يجوز نقض غيره ولو لا ذلك لقلنا بوجوبه قبل الوقت نظير سائر المقدمات الوجودية من غير فرق بين كونها من المقدمات المفوتة وبين غيرها. غاية الامر فى المفوتة تجب تعيينا وفي غيرها تجب تخييرا كما انه لا يفرق بين كون المقدمات من قبيل وجوب التعلم وبين غيره فيجب تعيينا ان كان ترك التعلم يوجب تفويت الواجب بعجزه عن امتثاله. واما اذا لم يوجب العجز عن الامتثال بل كان ممكنا ولو بطريق الاحتياط فيجب التعلم تخييرا هذا على المختار واما على المشهور فيجب التعلم من باب الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فما عن بعض الاعاظم (قدس‌سره) من أن وجوب التعلم ليس من المقدمات المفوتة ولذا تمسك في وجوبه بقاعدة وجوب رفع الضرر المحتمل ولم يتمسك بقاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار محل نظر لما عرفت من ان ترك التعلم تارة يوجب العجز عن الامتثال ويكون من المقدمات المفوتة فعلى المختار تجب تعيينا وعلى المشهور تجب من باب الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار ، واخرى لا يوجب تركه العجز عن الامتثال بل يمكن امتثالها ولو بطريق الاحتياط فلا تكون حينئذ من المقدمات المفوتة فعلى المختار تجب تخييرا وعلى المشهور لا تجب أصلا.

وينبغي التنبيه على أمور (الأول) ان ظاهر القضية الشرطية هو رجوع القيد الى الهيئة ولذا التزم المشهور بهذا الظهور وجعل القيد من قيود الهيئة إلا أن من يرجع الواجب المشروط الى المعلق كما هو المنسوب الى الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) أو من ينكر الواجب المعلق كما يدعيه بعض من تأخر لا بد له من صرف الظهور الى إرجاع القيد الى المادة على الاول والمادة المنتسبة على الثاني لجهتين : الاولى أن مفاد الهيئة معنى حرفي وهو جزئي غير قابل لارجاع القيد

٢٨

اليه لعدم اطلاق فيه لكي يصلح للتقييد. الثانية ان معاني الحروف معان مغفول عنها لكونها ملحوظة باللحاظ الآلي ولا يصح ارجاع القيد الى ما هو كذلك اذ لازمه ملاحظته باللحاظ الاستقلالي ولكن لا يخفى ما فيهما.

أما عن الاولى فلأن معاني الحروف على ما عرفت منا سابقا انها موضوعة بالوضع العام والموضوع له عام فهي كلية صالحة للتقييد ولو سلم بأنها جزئيات فحينئذ يمنع تقييدها من حيث الافراد وأما بالنسبة الى الاحوال فلا مانع من تقييدها من تلك الحيثية ، كما انه لا مانع من إطلاقها من تلك الجهة ، واما عن الثانية فقد عرفت منا سابقا بأن معاني الحروف من خصوصيات المعنى الاسمي ومع كونها كذلك كيف تكون مما يغفل عنها مع انها معان مقصودة بالافادة ولذا صححنا إرجاع القيد الى الهيئة التي هي من المعاني الحرفية من دون حاجة الى ارجاعها الى المادة فرارا عن ذلك أو إرجاعها الى المادة المنتسبة فرارا من الالتزام بالواجب المعلق مع انه يرد على الاخير ان الانتساب معنى حرفي وارجاع القيد الى المادة المقيدة بالمعنى الحرفي في الحقيقة تقييد للمعنى الحرفى ان جعل المقيد نفس الانتساب ، وان جعل المقيد نفس المادة التي هي توأم مع القيد فيكون من الواجب المعلق الذي لا يقول به هذا القائل وكيف يلتزم بعدم تحقق الواجب المعلق مع تحققه بالتكليف بالاجزاء التدريجية فإن الجزء الثاني منها يكون التكليف به فعليا عند امتثال الجزء الاول مع كون الواجب وهو الجزء الثاني مستقبلا والالتزام بالفعلية التدريجية في مقام الامتثال التدريجي فى غير محله إذ لازم ذلك انا لو شككنا في جزء غير الجزء الأخير يكون من الشك في التكليف مثلا لو شككنا فى اعتبار جلسة الاستراحة في الركعة الاولى او الثالثة فمع جريان البراءة عن وجوبها ترتفع

٢٩

فعلية التكليف بها وحينئذ نشك فى فعلية باقي الاجزاء للشك فى توجه الخطاب بالباقي مع انه من الواضح فساده.

ودعوى ان الجزء الواقع بعد الجزء المشكوك يكون منجزا بمجرد جريان البراءة السابقة وتنجزه مساوق لفعليته ففي غير محلها ، إذ ذلك يلزم ان تكون مثبتاتها حجة على ان التنجيز انما يتأتى بعد الفراغ من الجزء السابق فمع الشك في اعتباره يوجب الشك في توجه الخطاب للجزء اللاحق مع انه من الواضح ان التكليف بالاجزاء التي يحصل امتثالها بالتدريج يكون فعليا قبل تحقق الاجزاء وعليه فلا بد من الالتزام بالواجب المعلق أو بالشرط المتأخر كما لا يخفى.

التنبيه الثاني انك قد عرفت ان الارادة التشريعية على نهج الارادة التكوينية تتحقق مع ان موضوعها لم يتحقق فلذا تكون فعلية قبله فتجب المقدمات الوجودية باسرها من غير فرق بين كونها مفوتة أو غير مفوتة غاية الامر ان كانت مفوتة تجب تعيينا وان كانت غير مفوتة تجب تخييرا فعليه لو جاء نص من الشارع على وجوب بعض المقدمات يحمل على الوجوب الغيري ويستكشف من ذلك وجود مصلحة غيرية بمتعلقه ، وحينئذ يكون نص الشارع على طبق القاعدة إلا ان بعضهم أراد الفرار عن ذلك بتأسيس واجب نفسي تهيئي وجعله عبارة عما تكون الارادة نفسية متحققة فى متعلقه من دون تحقق مبادئها فقال في مقام التقسيم ان الواجب أما غيري أو نفسي ، والنفسي أما تهيئي وأما غير تهيئي ، لان الارادة ان كانت مع مبادئها غيرية فالواجب غيري ، وان كانت الارادة نفسية مع مبادئها فنفسي ، وان كانت الارادة نفسية دون مبادئها فهو نفسي تهيئي وجعل المقدمات التي تجب قبل ذيها من الواجب النفسي التهيئي ، ولكن لا يخفى

٣٠

ما فيه لأن الارادة ان اعتبرت مقارنة للعمل فالمقدمات تكون خارجة عن حيز الارادة لاعتبار مقارنتها له سواء كانت المقدمات قبل وقت العمل او بعده ، فلذا لا تتصف المقدمات حينئذ بالوجوب الغيري ، وان اعتبرت غير مقارنة للعمل فالمقدمات كلها تتصف بالوجوب الغيري من غير فرق بينما كان منها قبل الوقت او بعده.

فعليه الواجب النفسي هو القسم الأول وحينئذ ينحصر في الواجب النفسي غير التهيئي على ان المصلحة المتحققة في المقدمات التي صارت ملاكا للوجوب التهيئي انما هي عبارة عن التهيؤ للواجب النفسي وهذه المصلحة ليست ملاكا للوجوب الغيري الذي هو عبارة عن التهيؤ لفعل الواجب النفسي ، فلا معنى لجعل الوجوب الغيري وجوبا نفسيا تهيئيا. وبالجملة الواجب اما غيري أو نفسي وليس لنا قسم ثالث يقال له واجب تهيئي.

هذا بناء على ما هو المختار من ان المراد من الارادة الانقداح نحو الشيء ولو كان مع الواسطة ، واما بناء على غير المختار من عدم جواز تفكيك الارادة عن المراد فلا معنى لهذا التقسيم ايضا كما انه لا معنى لهذا التقسيم لو رجع الى مرتبة الارادة أو مرتبة الاشتياق إذ لا معنى للاشتياق الى الشيء مقدمة للغير اللهم إلا ان يقال انه يمكن هذا التقسيم أي تقسيم الواجب الى النفسي غير التهيئي والتهيئي والغيري بالنسبة الى مرتبة التحميل والابراز لأن ابراز الارادة اما ان يكون بالتهيؤ الى توجه خطاب آخر فتهيئي وان كان ابراز الارادة للتوصل الى وجود واجب آخر فغيري وإلا فنفسي ولكن لا يخفى ان التقسيم لو رجع الى مقام التحميل والابراز ينبغي التفصيل بين المقدمات الشرعية والمقدمات العقلية حيث

٣١

ان المقدمات العقلية ليس فيها بعث وخطاب بخلاف الشرعية إلّا ان يدعى ان في العقلية منها بعثا حيث ان البعث لا يختص بالدلالة المطابقية بل يشمل حتى الدلالة الالتزامية فيتحقق الانبعاث نحو الشيء ولكن يمكن منع هذه الدعوى بعدم تحقق الدلالة الالتزامية للبعث نحو الشيء وكيف كان فالمشهور جعلوا التقسيم راجعا الى واقع الارادة فلذا لا معنى لتثليث الاقسام عندهم ولذا دفعوا الاشكال المذكور بقاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار وبهذه القاعدة أوجبوا الاتيان بالمقدمات المفوتة وحاصلها ان المكلف اذا علم بتحقق شرط الواجب فى المستقبل وبتعلق التكليف بالفعل الواجب المشتمل على مصلحة في ظرف متأخر فالعقل يحكم بالاحتفاظ بالقدرة عليه لامتثال ذلك التكليف فى ظرفه كما هو شأن العقلاء في معاملاتهم الراجعة لانفسهم كما لو علموا بأن في الزمان المستقبل تكون لهم مصلحة تتعلق ببعض الأمور فلذا يلزمون انفسهم بالاحتفاظ بما يتمكنون من ايجاد تلك الامور ومع عدم وجدانهم لبعض ما يحصل لهم التمكن من السعي الى ايجاده قبل مجيء زمان ذلك الفعل وهكذا بالنسبة الى بعض الامور المشتملة على مفسدة يعلم ابتلائهم بها بعد برهة من الزمن فتجدهم يحصلون على اشياء لمكافحة تلك المفاسد لكي لا يبتلوا بها واذا كان هذا شأن العقلاء في تحصيل مصالحهم المترقبة ودفع تلك المفاسد المتأخرة فليكن كذلك بالنسبة الى مصالح الشارع فيجب على من علم بتوجه الخطاب اليه في الزمن المتأخر الاحتفاظ بتلك القدرة على اتيان تلك الافعال المشتملة على المصالح ولذا يحكم العقل بإتيان المقدمات المفوتة قبل حصول شرط الواجب احتفاظا بالقدرة على اتيان الواجب في ظرفه ولازم ذلك استحقاق العقاب عند تركها لتقصيره بعدم اتيان ما يوجب تفويت الواجب ولكن لا يخفى

٣٢

أن ذلك مسلم لو كان التكليف بالواجب متحققا لكي يوجب عدم الاتيان بالمقدمة تفويت الواجب ويكون مقصرا باعتبار عدم الاتيان بالمقدمات ويعاقب على عدم اتيان الواجب بتقصيره ولا ينافي ذلك ان يكون ممتنعا إذ امتناعه بالاختيار ، واما اذا لم يكن التكليف بالواجب متحققا وكان مشروطا بأمر متأخر فمن عدم اتيان المكلف بما يوجب التفويت لا يعد مقصرا اذ عند حصول الشرط فى الزمان المتأخر لا يتوجه الخطاب اليه لعدم قدرته عليه ولا يكون من الممتنع بالاختيار على ان المستفاد من القاعدة أن يكون التفويت عن تقصير فلو كان ذلك يثبت بهذه القاعدة لزم الدور الواضح البطلان مضافا الى ان هذه القاعدة لا تشمل صورة الجهل لعدم توجه الخطاب حينئذ عند حصول الشرط فلو عوقب معه لزم قبح العقاب من دون بيان وبهذا الملاك يجري في صورة العلم اذ علم المكلف بأنه سيخاطب لا يصير بيانا فعليا لكي يجب حفظ القدرة.

وعليه فليس فى البين ما يوجب تحصيل المقدمات المفوتة سوى ما قلنا بأن الارادة بالنسبة الى الاحكام الشرعية فعلية قبل حصول الشرط بمعنى ان البعث نحو المقدمة هو حفظ وجود الواجب من ناحية تلك المقدمة على ما عرفت منا سابقا

التنبيه الثالث انه لو تردد الواجب بين كونه معلقا او منجزا بمعنى انه قد علم بتقييد الواجب وشك فى اعتباره بنحو يكون اعتباره لو حصل من باب الاتفاق فيكون من المعلق او يعتبر قيدا للواجب بنحو يجب تحصيله فلا اشكال فى عدم جواز التمسك بالاطلاق للعلم بتقييد الواجب إلا انه وقع الشك في كيفية تقييده هل هو على نحو يجب تحصيله أم لا فحينئذ يرجع الشك في وجوب التحصيل الى الشك فى التكليف فيكون ذلك من موارد جريان البراءة.

٣٣

(النفى والغيرى)

المبحث الثالث ينقسم الواجب الى الواجب النفسي والواجب الغيري وعرف الاول بما كان ايجابه لنفسه لا للتوصل به الى غيره وعرف الثاني بما كان ايجابه للغير لا لنفسه واورد على ذلك طردا وعكسا لخروج اكثر الواجبات ان لم نقل كلها كالصيام والصيام وغيرهما من الواجبات النفسية ودخولها فى الواجبات الغيرية لأن الواجبات النفسية بأسرها شرعية كانت ام عرفية ليس المقصود منها والمطلوب حقيقة إلا التوصل بها الى شيء آخر.

أما الواجبات الشرعية ، فالمطلوب الحقيقى هو المعرفة كما دلت على ذلك الآية الشريفة) (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) والمراد بالعبادة هي المعرفة على ما ذكرت التفاسير ، واما فى العرفيات فالمقصود الحقيقي فيها في استراحة النفس والحق فى الجواب عن هذا الاشكال يتوقف على معرفة الوجوب فنقول الوجوب بمعنى اللزوم واللابدية وهذا هو معنى الوجوب في التكوينيات فى مقابل الامتناع فيها لأن الشيء اذا وجب وجوده في الخارج بمعنى انه حصلت علته التامة فلذا يلزم وجوده هذا فى التكوينيات وفى الشرعيات المراد من الوجوب هو ذلك الوجوب ولكن يفترق عنه بأن ذلك وجوب حقيقى وهذا بنحو من الادعاء لوجود مقتضيه مثلا نفس خطاب الشارع مقتضى الوجود ويحتاج الى ضم ارادة العبد واختياره بالطاعة فاذا حكم العقل بلزوم الطاعة وحرمة المخالفة فكأن ذلك

٣٤

الشيء قد وجدت تمام علته ولكن بنحو من الادعاء وبنحو من التنزيل فينتزع من ذلك الوجوب أي من مقام ابراز الارادة وظهورها الوجوب لان العقل يحكم بوجوب الشيء بعد ابراز تلك الارادة.

وبالجملة الوجوب منتزع من مقام التحميل ومقام الابراز والظهور لتلك الارادة لا من مقام واقع الارادة وإلا فظاهر ان واقع الارادة غيري وحينئذ فان كان ابراز الطلب بنحو التوصل به الى واجب فغيري وإلا فنفسي والى ما ذكرنا يرجع ما ذكره الاستاذ (قدس‌سره) فى الكفاية ما لفظه (وحيث كان طلب شيء وايجابه لا يكاد يكون بلا داع فان كان الداعي فيه هو التوصل به الى واجب لا يكاد يمكن التوصل بدونه اليه لتوقفه عليه فالواجب غيري وإلا فهو نفسي سواء كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه كالمعرفة بالله تعالى او محبوبيته بما له من فائدة مترتبة عليه كاكثر الواجبات من العباديات والتوصليات) إلّا ان الاستاد قد أورد على هذا بقوله (ولكن لا يخفى أن لداعي لو كان محبوبا .. الخ) ولكنك قد عرفت ان اندفاع هذا الايراد مبني على واقع الارادة في حين ان التقسيم راجع الى بروز الارادة وليس راجعا الى واقعها وحيث تخيل رجوع التقسيم الى واقع الارادة توجه عليه ذلك الايراد ولذا تصدى الاستاد لدفعه فقال (فالاولى ان يقال ان الاثر المترتب عليه وان كان لازما. الخ) ما ملخصه ان ترتب الفائدة على الواجب يجعله متعنونا بعنوان حسن ويستقل العقل بالمدح على الموافقة والذم على المخالفة وكان بهذا العنوان الحسن متعلقا للايجاب وتعلقه بما هو كذلك لا ينافي كونه واقعا مطلوبا غيريا بخلاف الواجب الغيري فانه متمحض للايجاب بالغير وكونه على نحو المقدمية

فعلى هذا يندفع ذلك الايراد ولكن لا يخفى ما فيه اولا انه منقوض

٣٥

بالواجبات النفسية العرفية مثل اسقني فانه لم يكن فيه عنوان حسن ومصلحة إلا للتوصل به الى استراحة النفس والحال انه لا اشكال في كونه واجبا نفسيا.

وثانيا ان الاوامر الشرعية المتعلقة بالعبادات النفسية مثل الصلاة والصيام والحج ونحو ذلك مما هو عبادة فعلى مختار الاستاد (قدس‌سره) ان القربة معتبرة فى الغرض وغير معتبرة في المأمور به فيكون في هذه العبادات جهة توصلية الى الغرض المشتمل على قصد القربة فترتب الغرض على الواجب يجعله حسنا فيوجب تعلق الوجوب بها فعليه يكون في مقام الترك العقاب على ترك الغرض المشتمل على قصد القربة وعقابه على ترك الصلاة المعنونة بعنوان حسن حيث لا اشكال انه لا عقوبة الا واحدة مترتبة على ترك الصلاة فقط.

إن قلت الفوائد لا تتسع العقوبات (قلت) هذا مسلم في الفوائد التى لم تكن لازمة التحصيل لا مثل ما نحن فيه فانه لما اخذ قصد التقرب فى الغرض صارت الفائدة واجبة التحصيل فبتركها يترتب العقاب. نعم لو لم يؤخذ قصد القربة فى الغرض وجوزنا اخذه فى المأمور به ترتب عقاب واحد لانه حينئذ تكون الفائدة غير لازمة التحصيل لعدم اخذ قصد القربة فيها. واما لو شك في ذلك فيرجع الشك الى كونها لازمة التحصيل فلا يجب مراعاتها لحصول الشك فى ذلك فلا يستحق العقوبة على التفويت. هذا كله لو علم كون الواجبات نفسية او غيرية واما لو شك فى واجب انه نفسي او غيري فان كان هناك اطلاق يقتضي كونه نفسيا لما هو معلوم ان الوجوب الغيري يحتاج الى مئونة زائدة فبدليل الاطلاق ينفى تلك المئونة. ودعوى انه لا يصح التمسك بالاطلاق لأن الوجوب النفسي او الغيري من مفاد الهيئة ولا اطلاق فيها لكونها معنى حرفيا وهو جزئي غير

٣٦

قابل للاطلاق على انه مما يغفل عنه وهو غير صالح للتقييد ممنوعة لما عرفت منا سابقا بأن المعاني الحرفية كلية ومن خصوصيات المعانى الاسمية المقصودة بالافادة وبذلك يصلح للاطلاق والتقييد وان لم يكن هناك اطلاق فالمرجع هو الاشتغال فيما لو علم بفعلية التكليف النفسي كالتكليف بالصلاة والشك في وجوب الطهارة انه لنفسه أو لغيره فيجب الاتيان بالطهارة فى وقت الصلاة للعلم بوجوبها اما نفسيا أو غيريا وجريان البراءة فيما اذا لم يعلم بفعلية الخطاب كما لو شك في الطهارة قبل وقت الصلاة انها واجبة بالوجوب الغيري أو بالوجوب النفسي ، وأما لو شك فى كون ما يأتى به نفسيا او غيريا وعلى تقدير كونه غيريا يكون المقيد واجبا فعليا فالظاهر انه يجب الاتيان به ويكون من قبيل الاقل والاكثر فان الاقل يجب الاتيان به وان كان مرددا بين كونه نفسيا أو غيريا ، وتجرى البراءة في الاكثر ثم لا يخفى ان الداعى الى ارتكاب هذا التقسيم هو ابطال الثمرة التي رتبوها على القول بوجوب المقدمة وعدم وجوبها فعلى القول بوجوبها يحصل بتركها عقوبتان وعلى الثاني عقوبة واحدة صرح بذلك اكثر المحققين وزاد المتأخرون ابطال تلك الثمرة فقسموا الواجب الى قسمين فكأنهم يقولون لا ملازمة بين وجوب شيء وبين استحقاق العقوبة وانما ذلك فى الواجبات النفسية دون الغيرية ولكن لا يخفى ان ذلك على خلاف التحقيق عند من له النظر الدقيق لان مناط الاستحقاق في العقوبات على الطغيان واظهار المعصية وذلك ان ما يحصل من العصيان من حين ترك المقدمة فان من رمى رجلا وبعد ساعة يصل له السهم ويقتل فهل ترى العقلاء ينتظرون الوصول لكي يذموه بل بمجرد رميه يذمونه ويقبحونه وللمولى ان يعاقبه لأنه اظهر المعصية واظهر الطغيان على المولى وسيأتي بيان ذلك فى مسئلة

٣٧

التجري إن شاء الله تعالى.

ان قلت اذا كان حين ترك المقدمة يعاقب فيقتضي ان يكون هناك عقوبتان عقوبة على ترك المقدمة وعقوبة على ترك ذيها ولازم ذلك ان تتعدد العقوبات على المقدمات المتعددة ولا اشكال في بطلان ذلك.

قلت ان مرحلة تعدد العقوبة واتحادها تابعة لتعدد الغرض واتحاده ، واذا كانت المقدمات متعددة والغرض واحد يعاقب عقوبة واحدة لانه فوت غرضا واحدا ، ولو كانت مقدمة واحدة ولها غرضان يعاقب عقوبتين لانه فوت غرضين

ان قلت اذا كانت وحدة العقوبة وتعددها تابعة لتعدد الغرض ووحدته فيلزم ان يكون التارك للشريعة كلها يقتضي ان يعاقب عقوبة واحدة لأن الغرض من كل الشريعة واحد وهو المعرفة بمقتضى الآية.

قلت ان المعرفة لم تجعل غرضا للاوامر الشرعية بل جعلت لخلق الجن والانس ، ولو سلم فيمكن ان تكون المعرفة جعلت غرضا في الجملة للتكاليف ولكن كل مرتبة من المعرفة تكون غرضا واحدا من التكاليف. مثلا يكون الغرض من الوضوء مرتبة من المعرفة غير المرتبة التي هي غرض من التكاليف بالصلاة

وبالجملة ان الوجدان شاهد على ان استحقاق العقاب على من اظهر المعصية واظهر التجري على المولى وان التعدد والاتحاد ملاكهما وحدة الغرض وتعدده كما تجد ان المولى لو أمر باتيان الماء لرفع العطش والعبد يعلم ان هذا الماء فيه سم ، فلو جاء العبد به الى المولى استحق العقوبة بتفويت الغرض فالحق في المسألة أن يقال ان الواجبات الغيرية كالواجبات النفسية ، فكما ان الواجبات النفسية يستحق على فعلها الثواب وعلى تركها العقاب فكذلك الواجبات الغيرية لأن

٣٨

الواجبات الغيرية ينطبق عليها بالاتيان عنوان الانقياد ، وعلى الترك من حينه ينطبق عليه انه اظهر المعصية على المولى واظهر الطغيان فتجرى وعصى كما لا يخفى

ينبغى التنبيه على امرين

الأول لا ريب في ترتب الثواب على امتثال الواجبات النفسية وموافقتها سواء قلنا بأنه من باب التفضل كما ينسب الى المقيد (قدس‌سره) أو أنه بالاستحقاق كما هو المعروف بين المتكلمين وانما الكلام في ترتب ذلك على الواجبات الغيرية والظاهر عدم ترتب الثواب على امتثال الواجبات الغيرية حيث انه يترتب على موافقة التكاليف المحصلة للاغراض النفسية الموجبة للتكاليف النفسية ، ومن الواضح ان الواجب الغيري لا يترتب على موافقته الغرض النفسي لكي تكون موافقته موجبة لترتب الثواب. نعم لا مانع من ترتبه على الواجب النفسي في ظرف الإتيان بالمقدمة بقصد التوصل الى ذيها فان العقلاء يرون الآتي بالمقدمات الموصلة متشاغلا بامتثال الاوامر النفسية ويعدونه متلبسا بامتثالها ولذا استحق الآتي بالمقدمات لغاية الاتيان بالواجب النفسي المدح ، وليس ذلك إلا من رشحات الواجب النفسي لا انه شيء آخر يترتب على اتيان الواجبات الغيرية كما عرفت منا سابقا بالنسبة الى العقاب ، فان من لم يات بمقدمات الواجب النفسي في الوقت الذي يجب امتثاله يرونه متلبسا بعصيان الواجب النفسي ولو كان ذلك قبل وقته

ان قلت ما ذكرت ينافي ما ورد عن الشارع المقدس بترتب الثواب مطلقا أو على خصوص بعض المقدمات.

قلت ان الأوامر المطلقة كمثل من اطاع الله ورسوله فله أجر عظيم فقد

٣٩

عرفت مما ذكرنا سابقا انها تحمل على الاوامر الارشادية لحكم العقل باستحقاق الثواب والعقاب فى مقام الاطاعة والعصيان ، نعم الاخبار المصرحة بترتب الثواب على خصوص بعض المقدمات فلا مانع من حملها على كونه ما تترتب عليه مستحبا نفسيا إذ ليس فى الخبر تصريح باستحقاق الثواب على الاطاعة الغيرية كما هو واضح.

التنبيه الثاني : انه قد استشكل في الطهارات الثلاث بانها امور عبادية مع ان الامر المتوجه اليها امرا غيريا غير صالح للتقرب به لكونه امرا توصليا ، وقد اجاب الاستاذ (قدس‌سره) ما لفظه : (ان المقدمة فيها بنفسها مستحبة وعبادة وغاياتها انما تكون متوقفة على احدى هذه العبادات فلا بد ان يؤتى بها عبادة وإلّا فلم يؤت بما هو مقدمة لها) ولكن لا يخفى انه لا يمكن الالتزام بذلك لأن عامة المتشرعين لا يمتثلون بمثل هذه الطهارات إلا امتثال الامر الغيري ولا يجعل مقاصدهم عنوانا مشيرا الى المقدمة ولا الى محبوبيتها النفسية. فعليه لا بد من الالتزام ببطلان عبادتهم ولا يلتزم به أحد ، على ان قصد الامر الغيري لو كان لتضمنه قصد الامر النفسي الموجب لعباديته فحينئذ يحتاج القصد الى ذلك الى الالتفات اليه ، ومن الواضح انه يمكن ايقاع الطهارات الثلاث بصرف داعي الأمر الغيري مع الغفلة عن عباديتها وقد اجيب عن ذلك بجوابين آخرين أحدهما ما حاصله ان عبادية الطهارات ليست لأجل امتثال امرها الغيري بل لتعنونها بعنوان تصير به عبادة ، وقد تعلق بها الأمر الغيري بما انها معنونة بذلك العنوان. وحيث ان ذلك العنوان مجهول وقد امكن تحصيله بقصد امرها الغيري لذا احتجنا الى قصده للاشارة الى ذلك العنوان ، ولكن لا يخفى ان ذلك لا يجري فيما إذا كانت

٤٠