منهاج الأصول - ج ١

محمّد ابراهيم الكرباسي

منهاج الأصول - ج ١

المؤلف:

محمّد ابراهيم الكرباسي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

فى تعريف المشهور هو الاستنباط الفعلي فلا يشمل ما يكون له استنباط شأني كاستصحاب المسبب مع استصحاب السبب مع ان ذلك من المسائل الاصولية فهو داخل تحت قوله التي يمكن نعم ترك لفظ الممهدة في غير محله لكونها مانعة من شمول التعريف للعلوم العربية ونحوها لانها تقع في طريق الاستنباط ولكنها لم تمهد لذلك كما أن اتيان لفظة صناعة فى غير محلها للزوم خروج المسائل المشتملة على نفس القواعد من العلم لعدم كونها صناعة وتختص مسائل العلم بما يكون من قبيل الاقيسة على انه يظهر من تعريفه ترتب غرضين على علم الاصول وهما استنباط الاحكام الشرعية والانتهاء فى مقام العمل وعليه ينبغي ان يجعل علم الاصول علمين لتعدد الغرض إذ لا جامع بين الاحكام الواقعية المستنبطة من الادلة وبين الاحكام الظاهرية المنتهى اليها فى مقام العمل ومن هنا عدلنا عن تعريفه لعلم الاصول الى تعريفه بالقواعد الممهدة التي يمكن ان تقع فى طريق تحصيل وظيفة المكلف في مقام العمل ومنه يعلم.

ملاك المسألة الاصولية

وهو ما يمكن ان يقع فى طريق تحصيل الوظيفة الكلية للمكلف في مقام العمل سواء أكان حكما واقعيا كمفاد الامارات أو حكما ظاهريا كمجاري الاصول بناء على جعل المماثل او حكما عقليا كالظن بناء على الحكومة وكالأصول العملية بناء على عدم جعل المماثل ولا يخفى أن جريان نتيجة المسألة الاصولية غير مختصة بباب خاص ولذا تخرج بعض القواعد الفقهية عن الاصول كقاعدة الطهارة وما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده وكل ما لاقى نجسا تنجس وامثال هذه القواعد المختص جريانها بباب خاص نعم قاعدة الضرر والحرج يجريان فى ابواب الفقه إلا

٢١

ان مفادهما الحكم الجزئي ولا ينتجان الحكم الكلي وبالجملة ان ملاك المسألة الاصولية هي الوظيفة الكلية التي تكون ناظرة الى اثبات الحكم بنفسه أو بكيفية تعلقه بموضوعه فما كان متعلقا بنفس الموضوع خارج عن المسائل الاصولية كعلم الرجال والعلوم العربية والمشتق وأمثال ذلك واما المفاهيم والعام والخاص وامثالهما فهي داخلة فى المسائل الاصولية فان البحث فيها ليس في نفس الموضوع وانما هو فى كيفية تعلقه (١) واما جعل الملاك فى المسألة الاصولية هو وظيفة المجتهد فهو غير صالح بان يكون هو الميزان لانتقاضه بشروط الصلح والشروط المخالفة للكتاب أو السنة ونحو ذلك فانها قواعد فقهية مع أن تطبيقها بيد المجتهد وسيأتي له مزيد توضيح في الاستصحاب ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) لا يخفى ان المفاهيم والعموم والخصوص والمطلق والمقيد وأمثالها البحث فيها راجع الى نفس الموضوع لانه يبحث فيها عن سعته وضيقه وذلك راجع اليه ومن هنا التزمنا فى حاشيتنا على الكفاية بان الملاك في المسألة الاصولية هي كبرى لو انضمت الى صغراها لانتجت حكما كليا شرعيا وعليه تخرج القواعد العربية والرجالية وامثالهما فانها لو انضمت الى صغرياتها لا تنتج مسألة كلية شرعية إلا بتوسط علم الاصول ومن ذلك تعرف ان علم الاصول بالنسبة الى علم الفقه كالجزء الأخير من العلة ولذا أضيف الاصول اليه فقالوا أصول الفقه ومنه يعلم تعريفه بالعلم بكبريات لو انضمت الى صغرياتها لانتجت مسألة كلية شرعية كما انه منه يعلم مرتبة علم الاصول من سائر العلوم وتقدمه على علم الفقه.

٢٢

الامر الثاني فى الوضع (١)

الوضع نحو اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما ناش من تخصيصه تارة ومن كثرة الاستعمال اخرى وتعريفه بهذا أصوب من تعريف بعض بتخصيص اللفظ بالمعنى اذ هو يختص بالتعيين ولا يشمل التعيني الناشئ من كثرة

__________________

(١) لا يخفى أن وجه مناسبة ذكر الوضع وأقسامه في مقدمة فن الأصول هو انك قد عرفت أن فن الاصول يبحث عما يترتب عليه الاستنباط ومن جملة ما يترتب عليه الاستنباط مباحث الالفاظ كقولنا الأمر يدل على الوجوب والنهي على الحرمة وصيغة أفعل على الوجوب وامثال تلك المباحث اللفظية وبما ان البحث فيها يتعلق بالدلالة وانها وضعية ناسب ذكر الوضع وأقسامه في المقدمة واما دلالة الالفاظ على المعاني هل هي ذاتية بنحو لا تحتاج الى وساطة شيء آخر فهي دعوى مجازفة اذ لا معنى لدعوى انها من لوازم الذات بل يمكن ان يدعى بان دلالة اللفظ على معناه لمناسبة ذاتية تقتضيها وإلا لزم الترجيح بلا مرجح ولازم هذه الدعوى ان الواضع للالفاظ هو علام الغيوب لانه المطلع على تلك الخصوصيات والمناسبات الذاتية وأوصله الى الخلق اما بالالهام أو بالوحي فالخلق يضع اللفظ للمعنى سواء كان ملتفتا الى المعنى أو لم يكن وأيد ذلك بان المعانى غير متناهية فيلزم ان تكون الالفاظ غير متناهية ولا يقدر على ذلك الاعلام الغيوب ولا يخفى ما فيه فان وضع الالفاظ للمعانى هو السبب لدلالة اللفظ على معناه بحيث لولاه لما دل من غير حاجة الى المناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى فانه ليس إلا من تصادف الاشياء وبواسطة تعدد الاشخاص من زمن آدم الى يومنا هذا حصل تعدد الوضع فان كل طبقة يضعون لفظا خاصا الى المعانى فلم تكن الاوضاع المتعددة بهذه الكثرة صدرت من شخص واحد لكي يقال ان هذه الكثرة لا يمكن حصولها

٢٣

الاستعمال ثم لا يخفى ان معرفة الوضع موقوفة على معرفة خصوصيات تعريفه إذ معرفة المعرف موقوف على معرفة المعرف فاعلم ان الاختصاص الواقع بين شيئين أما خارجية أو ذهنية الأولى كالهيئة الحاصلة لاجزاء السرير فانه هيئته تحصل من ضم جزء الى آخر ومثله التقابل الحاصل من مقابلة شىء لآخر الثانية كنسبة الكلي الى فرده فانه لا وجود له في الخارج بل الذي له حظ من الوجود خارجا هو الفرد الخارجي الذي هو منشأ لانتزاع هذه النسبة التي موطنها الذهن والوضع من قبيل الثاني فان الخارج ليس ظرفا لهذا الاختصاص بل ظرفا لمنشئه وهو اما الجعل أو كثرة الاستعمال نظير الملكية فان الاختصاص فيها ليس الخارج ظرفا له بل لمنشئها وهو الجعل ، ولا يخفى ان اختصاص اللفظ بالمعنى من قبيل المرآة بالنسبة الى المرئي بنحو يكون اللفظ فانيا فى المعنى فبالقاء اللفظ يكون ملقيا للمعنى وانه هو هو ولذا يسري قبح المعنى الى اللفظ وحسنه يسري اليه لما بينهما من الاتحاد والعينية وسببه هو وحدة اللحاظ الواقع بين اللفظ والمعنى لا من قبيل الامارة وذيها او الملكية والمالك اذ الاثنينية بينهما متحققة ولذا لا يسري الحسن والقبح من احدهما الى الآخر فمن هنا عبر الاستاذ بان الوضع نحو اختصاص اللفظ بالمعنى ثم ان هذا الربط والعلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى الناشئة من الجعل هي واقعية لها تقرر فى عالم الاعتبار ولذا يتعلق بها العلم تارة والجهل اخرى فهي كالملازمة الذاتية

__________________

من شخص واحد وبالجملة وضع اللفظ للمعنى ليس للخصوصية الذاتية وانما هو لفظ مخصوص وضع للمعنى من باب الصدقة والاتفاق مع انه لو التزمنا بالمناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى لزم وجود المناسبة بين المتباينين في بعض الالفاظ المشتركة كالقرء للحيض والطهر وذلك باطل قطعا.

٢٤

بين الزوجية والاربعة فانها ذاتية ولو لم تكن هناك أربعة وليست من الامور الانتزاعية التي لا تقرر لها لا في عالم الاعتبار ولا في عالم الاعيان بل لمنشئها تقرر كنفس الزوجية المنتزعة من الاربعة وبالجملة عالم الاعتبار كعالم الاعيان فكما ان عالم الاعيان له تقرر وواقع كذلك عالم الاعتبار فان تقرره ووجوده فى وعاء الاعتبار فهو متأصل في عالمه كما أن التقرر فى عالم الاعيان له تأصل فى عالمه غايته أن تأصله انما يكون بتعلق الارادة التكوينية الالهية وتأصل الأول انما يكون بالاعتبار فهو يوجد بنفس اعتبار من بيده الاعتبار ، هذا وينسب الى المحقق النهاوندي قدس‌سره جعل الوضع منتزعا من تعهد الواضع ارادة المعنى عند ذكر اللفظ فيكون من قبيل الاحكام الوضعية عند القائل بانها منتزعة من الأحكام التكليفية مثل أن يقال الملكية منتزعة من قول الشارع من حاز فلا يجوز لغيره التصرف فيما حازه فمن هذا القول ينتزع اختصاص واقع بين المحاز والمحيز وهو عبارة عن الملكية ولكن لا يخفى انا نمنع كون الأحكام الوضعية تابعة للاحكام التكليفية لان المستفاد من قول الشارع الناس مسلطون على اموالهم ولا يحل مال امرئ إلا بطيب نفسه الجعل المستقل وذلك ان المال المضاف الى الغير هو معنى الملكية قد أخذ موضوعا للتكليف وهو الحرمة ولا شبهة أنه لا يعقل انتزاع الملكية من هذا الحكم لان المفروض أخذه موضوعا للحكم فهو متقدم على الحكم فكيف ينتزع من أمر متأخر عنه فلا بد ان ينتزع من حكم آخر متقدم عليه ولازمه اجتماع المثلين على موضوع واحد واذا بطل ذلك تعين كونه مسبوقا بجعل مستقل على انه لو قلنا بالتبعية فى الأحكام الوضعية لا نقول بها في مقامنا اذ أن ارادة الواضع التعهدية لا تخلو اما ان تكون مسبوقة بجعل وهو الذي نسميه بالوضع فهو المدعى واما ان لا تكون مسبوقة بجعل فاما ان تكون هذه الارادة نفسيه وإما غيرية اما الأول فلا اشكال في بطلانه اذ ليس غرض

٢٥

الواضع من وضع اللفظ سوى فهم المعنى من اللفظ فلا بد وان تكون غيرية واذا صارت الارادة المتعلقة باللفظ ارادة غيرية فلا بد وان تكون ناشئة من كون اللفظ مقدمة الى المعنى وكونه مقدمة لا بد وان يكون مسبوقا بجعل ، اذ ليس دلالة اللفظ على المعنى ذاتية وحينئذ ننقل الكلام الى ذلك الجعل ولا يعقل كونه ناشئا من الارادة الأولى لانها متفرعة فلا بد وان تكون ناشئة من ارادة اخرى وليست تلك الارادة ارادة نفسية بل غيرية وغيريتها لا بد وأن تكون من جهة مقدميتها ومقدميتها لا بد لها من جعل وننقل الكلام الى ذلك الجعل فاما ان ينتهي الى جعل مستقل او يتسلسل فالوضع لا بد وان يكون ناشئا من جعل أو من كثرة الاستعمال فالناشئ من الجعل هو التعيين وبعضهم توهم ان العلاقة الوضعية لا تحصل من كثرة الاستعمال وان الوضع يحصل من أحد الاستعمالات لان الاستعمالات السابقة على حصول العلاقة الوضعية انما هي مع القرينة الموجبة لها ومع فرض وجود القرينة لا تكون موجبة للدلالة الوضعية فلا بد وانها تحصل من استعمال خاص ويظهر ذلك من صاحب الفصول حيث عرف الوضع بتعيين اللفظ بالدلالة على المعنى بنفسه أدعى ان التعيين تارة يكون بالقصد وهو الوضع التعييني كالمرتجل واخرى من غير قصد وهو التعيني كما فى المنقولات بالغلبة ولكن لا يخفى ان الوجدان حاكم بان العلقة الوضعية كما تحصل من الجعل كذلك تحصل من مجموع استعمالات بنحو يكون كل استعمال له الدخل فى تحصيل تلك العلاقة فان الاستعمالات السابقة على العلقة الوضعية وان كانت مع القرينة إلا انها تضعف تلك القرينة بنفس الكثرة ومنها يحصل الانس بين اللفظ والمعنى بنحو يستغنى عن القرينة فهي كما تحصل من كثرة الاستعمال تحصل من الجعل ولذا الاستاذ قدس‌سره ، عرف الوضع بالاختصاص الحاصل من الجعل او من كثرة الاستعمال وجعل الاختصاص هو مجمع للقسمين

٢٦

وقال بهذا صح تقسيمه اليهما ولا يخفى ان هذا التقسيم انما هو باعتبار السبب كالملكية فانها تنقسم باعتبار السبب الى قسمين فتارة تكون اختيارية كالحاصلة من الايجاب والقبول واخرى تحصل من سبب غير اختياري كالحاصلة من الارث ثم لا يخفى ان الوضع تارة يكون بالتصريح كأن يقول الواضع وضعت هذا اللفظ الخاص للمعنى الخاص واخرى يكون حاصلا بالكناية كالحاصل من الاستعمال بداعي الوضع ودعوى انه لا يعقل حصوله من نفس الاستعمال لكونه يلزم الجمع بين اللحاظين وهو اللحاظ الآلي واللحاظ الاستقلالي ممنوعة لأن لحاظ الآلية انما تعلق بشخص اللفظ والمعنى واللحاظ الاستقلالي متعلق بطبيعة اللفظ والمعنى فاللحاظان لم يجتمعا فى محل واحد.

اقسام الوضع (١)

لا يخفى ان الملحوظ حال الوضع اما ان يكون خاصا فيوضع اللفظ له فهو الوضع الخاص والموضوع له خاص كوضع الأعلام واما ان يكون عاما فاما ان يوضع له اللفظ فهو الوضع العام والموضوع له عام كوضع اسماء الاجناس واما ان يلحظ

__________________

(١) قيل ان هذا التقسيم راجع الى الوضع التعيينى دون التعييني لان تصور المعنى الموضوع له ووضع اللفظ له أو لمصاديقه لا يكاد يتأتى إلا بالنسبة الى الوضع التعييني ولكن لا يخفى أنه كما يجري هذا التقسيم بالنسبة الى الوضع التعيينى يمكن جريانه في الوضع التعينى لان الاستعمال بمنزلة الوضع في توقفه على تصور المستعمل فيه قبل الاستعمال فكل من يستعمل يلاحظ قبل الاستعمال معنى خاصا فيستعمل اللفظ فيه لو في مصاديقه ويجري على ذلك بقية المستعملين إلا ان كيفية تصور المعنى بالنسبة الى المستعملين غير منضبطة لكي يدعى ان الوضع تابع للاستعمال.

٢٧

العام ويوضع اللفظ لأفراده ومصاديقه فهو الوضع العام والموضوع له خاص ولم يعقل تصور قسم رابع وهو الوضع الخاص والموضوع له عام لأن الخاص ليس وجها وعنوانا للعام بخلاف العام فانه من وجوه الخاص لأن تصور العام تصور للخاص بوجهه وان اردت توضيح ذلك فلاحظ الحكم اذ ان نسبة الحكم الى موضوعه كنسبة الوضع الى الموضوع له فكما أن في الوضع يحتاج الى تصور الموضوع له كذلك في الحكم لا بد من تصور المحكوم عليه وتصوره اما بحقيقته او بعنوانه فتارة يؤخذ موضوعا كليا من دون نظر الى الأفراد والمصاديق كمثل الانسان نوع واخرى يؤخذ الموضوع شخصيا كمثل اكرم زيدا وثالثة يؤخذ عنوانا مشيرا الى الوجودات الخاصة من دون خصوصية للعنوان مثل اكرم من في الصحن فان عنوان من فى الصحن لم يؤخذ إلا للاشارة الى الاشخاص الموجودين في الصحن فالتقسيم في الحكم انما هو من جهة موضوعه وإلا فالحكم الناشئ من الارادة يكون شخصيا لكونها شخصية وهذه الأقسام الثلاثة المتصورة فى الحكم بعينها متصورة فى الوضع لما عرفت ما بينهما من السنخية واما الصورة الرابعة فلا يعقل جريانها بالنسبة الى الحكم بان يؤخذ الخاص موضوعا للحكم على ما يعمه كذلك لا تجري بالنسبة الى الوضع فلا يعقل ان يجعل الخاص بما هو خاص مرآة للعام لكونه أخفى معرفة نعم يوجب تصوره تصور العام بكنهه فيوضع اللفظ له ودعوى ان العام بما هو عام ايضا لا يعقل ان يكون مرآة للخاص فمقتضى ذلك انكار الوضع العام والموضوع له الخاص ممنوعة فانك قد عرفت ان معرفة العام معرفة للخاص بوجه ونعني بذلك أن يكون معرفته بالعناوين الاجمالية لا المفاهيم العامة بيان ذلك هو انه فرق بين المفاهيم العامة كالانسان والحيوان والحجر والشجر والعناوين الاجمالية كعنوان ما يشار اليه ونحوه فان المفاهيم العامة تكشف عن

٢٨

الحصص الموجودة فى ضمن الافراد المشتركة فى نوع واحد او جنس واحد من دون كشف لخصوصيات تلك الحصص اذ هي تعتبر جهة زائدة عنها فلذا لو أطلق الكلي واريد منه الخصوصية يكون الاستعمال مجازيا بخلاف العناوين الاجمالية كمثل (من في الصحن) (ومن في الدار) او عنوان ما يشار اليه فانها تحكي عن تلك الخصوصيات لانها عناوين اجمالية منتزعة من تلك الخصوصيات المفصلة فتكون نسبة الخصوصيات الى تلك العناوين الاجمالية نسبة تفصيل الى اجمال وان شئت توضيح الفرق بين القسمين فانه يظهر فيما لو وقعت الجهة الجامعة فى حيز الامر فانه على القسم الأول لو اردت التقرب بالخصوصية فهو تشريع محض حيث ان تلك الخصوصية على ذلك التقدير غير متعلقة للامر كما لو قال صلي على الاطلاق فانه لا يصح التقرب بخصوصية المسجدية مثلا لما عرفت من أن الخصوصية لم تدخل في حيز الخطاب بخلاف ما لو وقعت العناوين الاجمالية فى حيز الأمر فانه لك التقرب بتلك الخصوصيات كما لو قال صلي فى احد المساجد فلا شك فى صحة التقرب حينذاك بخصوصية المسجدية لوقوعها في حيز الخطاب اذا عرفت الفرق بين القسمين فاعلم ان ما يجعل مرآة للافراد ويكفي لحاظه عن لحاظ الافراد وهو القسم الثاني الذي هو عنوان اجمالي منطبق على الخصوصيات انطباق المجمل على المفصل لا ما يكون من قبيل الأول فان لحاظه ليس مرآة للافراد لعدم كشفه عن تلك الخصوصيات فاتضح مما ذكرنا ان الاشكال يتم لو كان المراد من العام الكلي لا العنوان المجمل ثم لا يخفى ان الوضع العام والموضوع له عام يتصور على نحوين الأول ان تكون الجهة الجامعة المحفوظة بين الافراد تلحظ في الذهن معراة عن تلك الخصوصيات كالانسانية والحيوانية فانها في الخارج لا توجد إلا مع خصوصية وتوجد في الذهن معراة عن خصوصيات الخارج والتعدد الموجود فى الخارج

٢٩

لا يضر بتلك الوحدة المسماة بالجهة الجامعة الثاني ان تكون الجهة الجامعة المحفوظة بين الحصص والخصوصيات لا توجد معراة عن الخصوصية في الذهن فضلا عن الخارج وتكون تعريتها عين تحليتها كوضع الحروف فانه على القول بكونه من الوضع العام والموضوع له عام يكون من هذا النحو فان المعنى الحرفي لما كان من الامور النسبية والربطية فلا يعقل تحققه فى عالم الذهن إلا مع الخصوصية حتى مع لحاظه مجردا عن الخصوصية وهذا معنى تعريته عين تحليته فان ملاحظته معرى عن الخصوصيات لا بد وان يكون موجودا بالوجود الخاص في الذهن فيكون محلى بالوجود ، ولا يخفى ان ضم الخصوصيات المتكثرة لا تضر بالوحدة الجامعة وبالطبيعة السارية ولو اضر بتلك الوحدة لأضر التكثر الموجود في افراد الانسان خارجا بطبيعة الانسان التي هي وحدة جامعة بين افراد الانسان فالمعنى الحرفي فى عالم الذهن كالانسان فى عالم الخارج من دون تفاوت بينهما هذا كله فى اقسام الوضع بحسب الامكان واما بحسب الوقوع فاعلم انه لا ريب فى وقوع القسم الأول وهو الوضع الخاص والموضوع له خاص كوضع الاعلام وفي وقوع الثاني وهو الوضع العام والموضوع له عام بالمعنى المشهور كوضع أسماء الاجناس واما على النحو الغير المشهور فسيأتي ان شاء الله تعالى ، انه كوضع الحروف واما القسم الثالث : وهو الوضع العام والموضوع له خاص فاختلفوا في وقوعه وعدمه والذي قال بوقوعه مثل له بالحروف وما الحق به من الأسماء.

فى المعنى الحرفى (١)

اما الحروف فقد توهم انها من قبيل الوضع العام والموضوع له خاص كما توهم ان

__________________

(١) اما الحروف فاختلفوا فى وضعه على اقوال احدها ما ينسب الى الحاجب

٣٠

الوضع كالموضوع له عامان والمستعمل فيه فيها خاصا والاستاذ قدس‌سره قال بان الحروف موضوعة للمعنى العام والمستعمل فيه عام والخصوصية انما جاءت من قبل الاستعمال واستدل على ذلك بتوضيح منّا بان الخصوصية التي اوجبت جزئية المعنى الحرفي اما خارجية او ذهنية اما الخارجية كما ينسب الى بعض المحققين فواضح

__________________

والعضدى ان الوضع عام والموضوع له خاص ، ثانيها ما ينسب الى بعض القدماء بان الوضع والموضوع له عامان والمستعمل فيه خاص ثالثها ما ينسب الى الرضي بان الحروف لا معنى لها وانما هي علامات كالرفع علامة للفاعلية والنصب علامة للمفعولية والكسرة علامة للمضاف اليه وقد اوضحه بعض من تأخر بما حاصله ان الحروف انما جعلت علامة لان يراد من المدخول معنى غير ما وضع له مثلا : الدار تلحظ بما انها موجودة بالعين واخرى تلحظ بما انها موجودة بالاين فكلمة (في) في قولنا دخلت في الدار علامة على ان يراد من المدخول اي الدار هو الوجود الايني لا الوجود العيني كما جعلت الضمة علامة للفاعلية والفتحة علامة للمفعولية والكسرة للمضاف اليه ولا يخفى ان هذا القول الاخير مخالف للوجدان فان المستفاد من الدار ليست الظرفية بل نفس الوجود العيني وانما الاينية والظرفية مستفادة من كلمة في ، وبالجملة ان الظرفية اما ان تكون داخلة في مفهوم الدار او تدل عليه كلمة (في) والاول باطل فتعين الثاني واما القول الثاني فهو باطل عند المحققين فانه لا معنى للوضع بخصوص معنى لا يستعمل فيه اللفظ وانما يستعمل فى معنى آخر ويكون مجازا بلا حقيقة كما ان القول الاول لم يعهد من القدماء وانما حدث من بعض من تأخر واول من نسب اليه هذا القول العضدى والحاجبى والسبب فى تنبههما الى ذلك هو انه لما رأيا ان المعنى الحرفي عبارة عن مصداق الابتداء لا مفهومه اذ مفهومه هو المعنى الاسمي ولم يكن من قبيل الوضع الخاص والموضوع له خاص لانه يلزم ان تكون الاوضاع غير متناهية ولا من قبيل الوضع العام والموضوع له العام للزوم كون الاستعمال فى

٣١

البطلان اذ كثير (١) ما يكون المستعمل فيه فيها كليا كما لو كانت الحروف متعلقة للامر كمثل سر من البصرة الى الكوفة فان من والى الواقعتين عقيب الامر لم يستعملا إلا في الكلي اذ لا يعقل تعلق الأمر بما هو موجود خارجي ومن هنا التجأ صاحب هذا القول الى كونه جزئيا اضافيا بان تصور كلى الابتداء ووضعها لخصوصيات الابتداء وان كانت كليا وفيه اولا ان هذا لا يخرج الموضوع له عن كونه عاما سوى انه اقل افرادا وثانيا لزوم استعمال اللفظ في اكثر من معنى في نحو سرت واكلت من البصرة والى هذا اشار الاستاذ قدس‌سره بقوله وهو كما ترى وان كانت الخصوصية ذهنية كما يدعيها في الفصول بتقريب ان الوجود على نحوين وجود فى الخارج ووجود في الذهن والوجود الخارجي على نحوين وجود جوهري وهو

__________________

الخصوصيات مجازا بلا حقيقة فلذا اخترعا هذا النحو من الوضع فقالا ان الواضع لاحظ كلي الابتداء الذي هو المعنى الاسمي وجعل لفظة من والى وعلى بازاء خصوصيات الابتداء والانتهاء والاستعلاء ولا ينافي كون المعنى الاسمي كما هو المعنى الاسمي مرآة ووجها للمعنى الحرفى اذ المرآة مع المرئى لا يلزم توافقهما في ذلك كما انه يمكن ان يكون المرآة امرا كليا والمرئى هو الجزئيات والخصوصيات.

(١) والتعبير بالكثرة لاخراج الادوات الواقعة فى حيز الاخبار كمثل سرت من البصرة الى الكوفة لان الأخبار لا بد وان تكون عن امر واقع محقق خارجي والاستعمالات الكثيرة في الحروف الواقعة تلو الاوامر وفى حيز الانشاءات فلذا عبر بالكثرة ، اللهم إلا ان يقال بان الحروف الواقعة في حيز الاخبار أيضا مستعملة في الكلي والخصوصية استفيدت من دال آخر كاستعمال اسماء الاجناس في حيز الاخبار فانه لا اشكال في كونها مستعملة في المعنى الكلى والخصوصية استفيدت من دال آخر فعليه الاولي ترك لفظة الكثيرة فى عبارة الاستاد.

٣٢

ما يكون فى نفسه لنفسه ووجود عرضي وهو ما يكون في نفسه لغيره والوجود الذهني من هذه الجهة كالوجود الخارجي على نحوين فان الوجود الذهني عين اللحاظ ذاتا وانما يختلفان اعتبارا فهو اما ملحوظ استقلالا واما ملحوظ تبعا اما الملحوظ استقلالا فهي المعاني الاسمية والملحوظ تبعا هي المعاني الحرفية فاللحاظ الذهني الآلي المأخوذ بالمعنى الحرفي يوجب خصوصيته وتشخصه فيكون جزئيا ذهنيا واورد عليه الاستاذ بامور ثلاثة الاول : ان اللحاظ ان أخذ في الموضوع له أو فى المستعمل فيه بنحو يكون جزء من المعنى الحرفي انه يلزم فى استعمال واحد لحاظان لحاظ مقوم للاستعمال ولحاظ هو جزء من المعنى وحينئذ اما ان يتحدا او يتغايرا فان اتحدا فهو دور باطل للزوم تقدم الشيء على نفسه وان تغايرا فهو مخالف للوجدان لانا لا نجد في انفسنا فى استعمال واحد من لحاظين وانما هو لحاظ واحد جاء من قبل الاستعمال والى ذلك أشار بقوله كما ترى. الثاني انه لو قلنا بان من موضوعة للابتداء مع لحاظ الآلية بنحو يكون جزء المعنى فيلزم عدم صحة تعلق الأمر بما هو مقترن بالاداة فانه باقترانه بالاداة يخرج متعلقه أي متعلق الأمر عن المقدورية التي هي شرط فى تعلق الأمر مثلا لو قال المولى سر من البصرة الى الكوفة وقلنا بان من موضوعة للمعنى المقيد باللحاظ الآلي وهذا اللحاظ هو نفس الوجود الذهني فيكون مفاد الأمر ايجاد ما هو موجود بالوجود الذهني فى الخارج ومن الواضح انه لا يعقل انطباق ما هو مقيد فى الذهن على ما فى الخارج إلا بتجريده من اللحاظ الذهني ومعه ينطبق على ما في الخارج والالتزام بذلك في مقام الامتثال بعيد غايته وثالثا هو أنه لو أوجب لحاظ الآلية جزئية المعنى الحرفي لم لا يوجب لحاظ الاستقلال جزئية المعنى الاسمي فيستكشف من عدم دخل لحاظ الاستقلال فى المعنى الاسمي عدم دخل لحاظ الآلية فى المعنى الحرفي فعليه ان

٣٣

المعنى الاسمي والحرفي متفقان بحسب الحقيقة وانما يختلفان بحسب اللحاظ واللحاظ ليس مأخوذا فى كل من المعنيين انتهى ما أوضحنا به كلام الاستاذ قدس‌سره وتحقيق المقال يتوقف على نقل عبارة الفصول لكي يتبين لك ان هذه الايرادات لا تتوجه عليه قال ما لفظه فان التحقيق ان الواضع لاحظ فى وضعها معانيها الكلية ووضعها بازائها باعتبار كونها آلة ومرآة لملاحظة حال متعلقاتها الخاصة فلاحظ فى وضع من مفهوم الابتداء المطلق ووضعها بازائه باعتبار كونها آلة ومرآة لملاحظة متعلقاتها الخاصة من السير والبصرة مثلا فيكون مداليلها خاصة لا محالة انتهى كلامه وبذلك ايضا صرح في موضع آخر وتوضيح كلامه هو ان كل موضوع بالنسبة الى حكمه مثل زيد قائم مثلا لا يعقل أخذ الحكم في موضوعه لان الحكم متأخر عن الموضوع ولو أخذ فيه يلزم ان يكون في رتبة الموضوع والمفروض أنه متأخر عنه مضافا الى انه يلزم انقلاب القضايا الممكنة ضرورية لأن ثبوت المحمول للموضوع بشرط المحمول ضروري كما تأتي الاشارة اليه في بحث المشتق ان شاء الله تعالى ، وايضا لا يعقل أخذ الموضوع مطلقا حتى يشمل حال الاجتماع مع ضد الحكم فان زيدا في (زيد قائم) لم يؤخذ مطلقا حتى يشمل حال اتصافه بالقعود بل يؤخذ الموضوع في القضية مهملا لا مطلقا ولا مقيدا بل حصة مضيقة التي هي توأم مع القيد ومن هنا صح ان يقال ان الفرد المقيد بالتشخص مطلق باعتبار الاحوال اذ الفرد الشخصي له احوال من القيام والقعود والنوم واليقظة وبالجملة ان الوجود الخارجي يحصص الماهية ويجعلها حصصا متعددة مثل ماهية الانسان الموجودة في زيد وعمر وبكر فالحصة فى زيد غير الحصة فى بكر فلذا لا ينطبق احدهما على الآخر فكذلك الوجود الذهني فانه يحصص الماهية ويجعلها جزئيات مختلفة فان لحاظ زيد أول الظهر غير لحاظه اول المغرب ويؤيد ذلك انه لو شككنا ان زيدا الملحوظ لحظته أول الظهر او اول

٣٤

المغرب لكن علمنا اجمالا بوجود زيد في أحد الوقتين فى الذهن فالعلم الاجمالي تعلق بزيد الممكن انطباقه على كل من اللحاظين ولو لم يمكن الانطباق لما حصل ذلك العلم الاجمالي فالابتداء لما لوحظ تبعا صار الابتداء جزئيا اذ نفس تقيده باللحاظ جعله حصة يمتنع الصدق على كثيرين وتقيده باللحاظ الآلي ضيق دائرة الابتداء بحيث لا يشمل الابتداء المستقل ولم يؤخذ اللحاظ في الابتداء لما عرفت ان الموضوع له تقدم على المحمول رتبة فلا يعقل أخذه فيه فلحاظه ليس مأخوذا على نحو الشطرية حتى يمتنع انطباقه على الخارج فلم يمكن الامتثال بل هو بواسطة اللحاظ صيره حصة ضيقة أي لا ينطبق على سائر الحصص الذهنية ولا ينافي كونه كليا ينطبق على كثيرين بحسب الوجود الخارجي اذا عرفت ذلك ظهر لك انه لا مورد للاشكالات الثلاث اما الاشكال الاول فلا مجال له لعدم تعدد اللحاظ اذ لم يؤخذ اللحاظ جزء من المعنى الحرفى نعم ضيق دائرته كما ان الاشكال الثاني من عدم صدق الامتثال على الخارجيات إلا بالتجريد في غير محله لعدم أخذه فى المعنى حتى يحتاج الى تجريد كما ان الاشكال الثالث من النقض بان لحاظ الآلية كلحاظ الاستقلالية غير وارد لما عرفت أن اللحاظ ليس دخيلا وانما ضيق دائرة الموضوع فلحاظ الاستقلالية ضيق دائرة الابتداء بنحو لا يصدق على المعنى الحرفي ولحاظ الآلية ضيق دائرة الابتداء وجعله لا يشمل غيره وبالجملة أن كل مفهوم مقيد باللحاظ الخاص لا يشمل المفهوم الآخر المقيد بغيره نعم يرد على صاحب الفصول انه تخرج مفاهيم الاسماء من متحد المعنى وتدخل فى متكثر المعنى كالحروف ولكن لا يخفى انك قد عرفت مما ذكرنا ان الوضع العام والموضوع له عام على نحوين نحو يلحظ معرى عن الخصوصيات ونحو يلحظ مندكا في ضمن الافراد بحيث يكون وجوده الذهني كالوجود الخارجي والوضع في الحروف على النحو الثاني وحينئذ يرتفع

٣٥

اشكال كون الاسماء من متكثر المعنى لأن الحصص المتكثرات الملحوظة استقلالا مشتركات فى جامع مندك فى الخصوصيات فيوضع اللفظ لذلك الجامع للخصوصيات وهو معنى وحداني وهكذا المعنى الحرفي فهو والمعنى الاسمي وان اشتركا فى وجود جامع مندك وضع اللفظ له ولكن افترقا من حيث اللحاظ فلحاظ الآلية المعتبرة في المعنى الحرفي ضيق دائرة ذلك الجامع كما أن لحاظ الاستقلالية ضيق دائرته بنحو لا يستعمل احدهما فى محل الآخر ومن هنا قال الاستاذ قدس‌سره فى مقام الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي ما لفظه الفرق بينهما انما هو فى اختصاص كل منهما بوضع حيث انه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفى نفسه والحرف ليراد منه معناه لا كذلك بل بما هو حالة لغيره كما مرت الاشارة اليه غير مرة فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجبا لعدم جواز استعمال احدهما في موضع الآخر وان اتفقا فيما له الوضع انتهى ، وقد اورد عليه بعض المعاصرين بان اشتراط الواضع للمعنى الحرفي بلحاظ الآلية وللمعنى الاسمي بلحاظ الاستقلالية ان اوجبا تقييد الموضوع في كل منهما فلا مانع من استعمال احدهما فى موضع الآخر استعمالا مجازيا وان كان هذا الاشتراط لا يوجب تقيد الموضوع وانما هو اشتراط عملي كالشروط في ضمن العقود فلا يجب الالتزام بها بعد أن كان استعمال احدهما في موضع الآخر لا يوجب الخروج عن الموضوع له مضافا الى انه يلزم ارتفاع النقيضين اذ هو فى حد ذاته ليس مستقلا ولا غير مستقل وارتفاع النقيضين باطل ولكن لا يخفى ان شرط الوضع ليس كسائر الشروط بل هو يوجب تضيق الموضوع بيان ذلك ان الاستعمالات المترتبة على الوضع انما هي من قبيل الاغراض فان الغاية من وضع لفظ لمعنى هو استعمال ذلك اللفظ في المعنى فاذا اعتبر الواضع امرا في ناحية الاستعمال يكون الاستعمال مقيدا بشىء خاص فلا بد وان يتقيد

٣٦

الموضوع له مثلا ان لحاظ الآلية لما اعتبره الواضع في ناحية استعمال (من) في الابتداء فحينئذ يتقيد ويتضيق الغرض من وضع (من) فى الابتداء فيتضيق دائرة الموضوع له وبالجملة ان تضيق ناحية الغرض يوجب تضيق ما رتب عليه الغرض كما ان سعته يوجب سعته فاستعمال من في مقام الابتداء يعد غلطا ومستهجنا ولا يكون من المجاز واما اشكال ارتفاع النقيضين فالاستقلالية وعدمها انما هو من شئون الاستعمال لا من شئون المستعمل فيه فاذا لم يكن من شئون المستعمل فيه فلا مانع من ارتفاع النقيضين كالجدار مثلا فانه لا يحكم عليه بالبصر فلا يصح ان يحكم عليه بالعمى لانه ليس من شأنه ذلك فالاستقلالية والآلية من كيفيات اللحاظ وليس لهما دخل فى المعنى الموضوع له والمستعمل فيه نعم يوجب تضيق دائرته لان الاستعمال حسب ما عرفت هو الغرض من الوضع وسعته يوجب سعته كما ان ضيقه يوجب تضييقه فالمعنى الاسمي والحرفي على ما ذكره وان اتحدا بحسب المعنى إلا انه لا يجوز استعمال احدهما فى موضع الآخر والتحقيق حسب ما يؤدي اليه النظر الدقيق ان معاني الحروف مع المعاني الاسمية تغاير بالهوية لان معاني الاسماء معان مستقلة وليست من سنخ النسب والاضافات بخلاف معاني الحروف فانها معان ربطية غير ملتفت اليها ، بيان ذلك هو ان المفاهيم الاسمية انما هي معان مستقلة غير محتاجة في تقومها الى شيء بخلاف المعاني الحرفية فانها معان غير مستقلة في مقام المفهوم وليست معان متحصلة فى مقام اللحاظ وانما هي لحاظها تبعا للغير مثلا زيد قائم النظر الاستقلالي لم يتعلق إلا بالطرفين واما النسبة التي بين الطرفين لم تلحظ إلا تبعا للطرفين فلو لوحظت النسبة استقلالا خرجت النسبة عن المعنى الحرفي وعدت من المعاني الاسمية فان قولنا نسبة القيام الى زيد قضية حمليه موضوعها نفس النسبة قد لوحظت مستقلا لكونها من احد الطرفين وخرجت عن حقيقة

٣٧

النسبة والربط بل هي صارت تحتاج الى ربط يرتبط مع كلمة اخرى والى هذا يرجع من عرف المعنى الحرفي بانه لوحظ حالة لغيره فالمعنى الحرفي ليس إلا الربط الحاصل بين الطرفين الملحوظ اليهما بالنظر الاستقلالي والملحوظ الى المعنى الحرفي الذي هو الربط والنسبة بين الطرفين لحاظا تبعيا والذي يدل على كون معاني الحروف معان ربطية ما تجده انه قبل الاتيان بالادوات معان غير مرتبطة كزيد وقائم والسير والبصرة فبمجيء الادوات ترى ان هذه المعاني غير المرتبطة قد ارتبطت بعضها مع بعض بقولنا سرت من البصرة وارتبطت البصرة والكوفة بقولنا الى الكوفة فيحصل من ذلك جملة واحدة وهي قولنا سرت من البصرة الى الكوفة مضافا الى انا لو قلنا ابتداء سيري من البصرة هل تجد في نفسك ان فى القضية تكرارا ولو كانت من موضوعه لما وضع لفظ الابتداء لزم فى هذا التركيب تكرار وهو مخالف للوجدان وربما اشعر بما قلنا بأن من للابتداء وفى للظرفية ولم يعبر عن ذلك بان من هو الابتداء وفي هو الظرفية وان شئت توضيح ذلك فاعلم ان الموجود اما جوهر او عرض والعرض باقسامه التسعة باعتبار الموضوع على قسمين منها قائمة فى الخارج بشيء واحد كالحمرة فان في وجودها الخارجي لا بد من افتقارها الى جسم تعرض عليه وان كان وجودها الذهني لا يفتقر الى شيء كالاعراض غير النسبية واما ان تكون محتاجة في تحققها الى طرفين كالنسب فانها مفتقرة الى المنسوب والمنسوب اليه والاضافات فانها مفتقرة الى مضاف ومضاف اليه فالفرق بين المعنى الاسمي العرضي والحرفي كالفرق بين النحو الاول من الاعراض وبين النحو الثاني منها فان معاني الاسماء من قبيل الاول لانها تتقوم في الخارج بشىء واحد ومعاني الحروف من قبيل الثاني فانها معان ربطية لها تقوم بشيئين مثل ان يقال ابتداء سيري من البصرة فان الابتداء لما كان معنى

٣٨

اسميا فيتقوم بشيء واحد وهو سيري ومن لما كان معناها ربطا فاحتاجت الى تقومها بشيئين وهما السير والبصرة وتختلف باختلاف أطرافها فان زيدا على السطح غير عمر على السطح وتعدد هذه النسبة في الذهن باختلاف الأطراف ولو كان بحسب الخارج متحدين وينطبقان على شيء واحد مثل زيد على الفرس وانسان على الفرس. والحاصل ان معاني الحروف ومعاني الاسماء بينهما تمام المباينة لما عرفت ان معاني الحروف معاني ربطية ومحتاجة فى تقومها الى طرفين بخلاف معاني الاسماء فانها مستقلة ولا تحتاج فى تقومها الى الطرفين.

واما دلالة المعاني الحرفية على الربط والنسب هل هي ايجادية أو اخطارية أدعى بعض الاعاظم بانه من لوازم كون معان الحروف نسبية أن تكون ايجادية لأنها قبل مجيء الادوات معان غير مرتبطة بعضها مع بعض فبمجيء الادوات حدث الارتباط بين المعاني وادعى ان جميع معاني الحروف ايجادية لا يفرق فيها فما يتراءى من صاحب الحاشية من اختصاص الايجادية ببعض الحروف واخراج النسب عن الايجادية لما لاحظ ان النسبة الكلامية تحكي عن النسبة الخارجية فتارة تطابقه تكون صادقة واخرى لا تطابقه تكون كاذبة فاذا كانت نسبة الكلامية تحكي عن النسبة الخارجية فتخرج عن الايجادية ثم دفع هذا التوهم بان المعنى الحرفى هو النسبة الكلامية والنسبة الخارجية سنخ آخر فمعنى المطابقة بين فردين بل وسنخين من النسب تحصل بينهما المطابقة تارة وعدمها اخرى فالمطابقة لا تخرج النسبة الكلامية عن كونها ايجادية هذا ولكن التحقيق ان معاني الحروف معان اخطارية كالاسماء من دون تفاوت بينهما من هذه الجهة.

بيان ذلك هو أن المعاني حسب ما هو مقرر في محله عبارة عن نفس الطبيعة المهملة المعراة عن كل خصوصية حتى لحاظ كونها معراة وانما الخصوصيات

٣٩

استفيدت من دال آخر كلفظة من وعن وعلى فالقضية المركبة من الأسماء والافعال والحروف لوحظت اولا ثم تكلم المتكلم وبعد تكلمه صارت القضية قضية حملية كسرت من البصرة الى الكوفة كاشفة عما لوحظ اولا فالسير كاشف عن معناه الملحوظ ومن كاشفة عن التقيد الموجود الملحوظ من السير والبصرة وهذا الكشف انما هو اخطاري ولو كان التقيد المستفاد من لفظة من ايجاديا لم لا يكون الاطلاق والارسال المستفاد من مقدمات الحكمة ايضا ايجاديا لان حال التقيد كحال الاطلاق وببيان اوضح انك اذا لاحظت الحجر فوق الحجر تجد فى نفسك هيئة متحققة بين الحجرين فاذا اردت القاء هذه الهيئة بلفظ يحكيها فتقول الحجر على الحجر فليس للهيئة الملقاة ما يحكيها إلا لفظة على وإلا مع تصور نفس الحجرين من دون تصور للهيئة القائمة بينهما لا يوجد بينهما ارتباط فان الروابط الذهنية كالروابط الخارجية فكما انها لا يعقل تحققها بنفس الربط في الكلام مثلا فى الخارج زيد والقيام فلو لم يكن بين زيد والقيام نسبة تربط زيد بالقيام لما حصلت بتحققها فى الجملة الكلامية كذلك الربط فى الذهن فانه لو لم يلحظ ويتصور لا يعقل تحققه من الربط الموجود فى الجملة لان الغاية من الاحتياج الى الوضع هو القاء المعاني بالالفاظ وتلقى تلك المعاني على ما هو عليه من دون زيادة فيها اذ مقتضى المرآتية والحكاية هو هو فمع عدم تصور الربط بين المعاني كيف يحصل ذلك الربط من الاستعمال اذ معنى الاستعمال هو القاء المعنى الموجود بلفظه من غير فرق بين كون المعاني موجودة فى الخارج فتلقيها كما هي فى الخارج وبين كون المعانى موجودة فى عالم الاعتبار فتلقيها على ما هي عليه في عالم الاعتبار وبين كونها موجودة فى الذهن فتلقيها على ما هي عليه في عالم الذهن وبالجملة الالفاظ انما جعلت لالقاء المعاني الموجودة ووجود كل شيء بحسبه فلا توجد ما هو غير

٤٠