منهاج الأصول - ج ١

محمّد ابراهيم الكرباسي

منهاج الأصول - ج ١

المؤلف:

محمّد ابراهيم الكرباسي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

هذا كله بالنسبة الى مقام الوضع ، وأما بالنسبة الى تشخيص المراد فيحتاج حمل اللفظ عليه الى قرينة إلا اذا كان اللفظ ظاهرا في أحد المعاني. ولو كان للانسباق الى الاطلاق وإلا فلا يحمل على أحدها لعدم ما يوجب الحمل فيرجع في ذلك الى الأصول العملية الجارية في المقام (١) ثم لا يخفى ان وضع الامر للطلب يتصور على نحوين فتارة يراد منه نفس حقيقته واخرى يوضع لما يكون كاشفا عنه من غير فرق بين ان يكون ذلك هو القول أو الفعل أو الكتابة والظاهر ان يراد منه هو النحو الأول بشهادة الذوق السليم فانه يشهد بان القول ونحوه خارج عن الامر وان الطلب المنكشف بالقول ونحوه داخل فى حقيقة الأمر مضافا الى انه لو كان نفس الكاشف دخيلا لما صح الاشتقاق منه. نعم وقع الاشكال في انه لو كان اظهار الطلب بلفظ الأمر بان يقول أمرك بكذا فحينئذ يتوقف تحقق معنى الأمر على استعماله مع ان الاستعمال متوقف على تحقق معناه فيلزم الدور ، واجيب عن

__________________

التكوينية ، وهكذا الطلب يقال له فعل باعتبار انه منتزع من الارادة التشريعية فظهر مما ذكرنا انه لا يبعد القول بالاشتراك المعنوي لامكان اخذ جامع بين جميع المعاني وهو الفعل ، ولا يصلح لأن يكون الشأن هو الجامع لأن الظاهر منه كونه اخص من الفعل فانه يعتبر فيه استدامه الفعل لكي يعد من شئونه ومع عدم الاستدامة لا يعد من الشئون.

(١) إذ لا حاجة الى الاصول العملية فى ذلك لعدم التردد في المراد فان الاستعمال يعينه اذ استعمال الأمر بمعنى الطلب غير استعماله بمعنى الشيء ، فان الأول يحتاج الى المطلوب والمطلوب منه دون الثاني ، وبالجملة ان كان للفظ الأمر ظهور في احدهما فيؤخذ به ، وإلا فلا تردد بينهما في تعيين المراد ، اذ المراد يعين بالاستعمال لكونهما يختلفان فى مقام الاستعمال.

١٦١

عن ذلك بان الاستعمال متوقف على المفهوم ووجوده يتوقف على الاستعمال.

الجهة الثانية : انه لا يبعد اعتبار العلو فى معنى الأمر ، فأمر السافل للعالي وكذا المساوي ليس بأمر حقيقة واطلاق الأمر عليه كان بنحو من العناية ، كما كما لا يعتبر الاستعلاء فاطلاق الأمر عليه أيضا كان بنحو من العناية وتوبيخ الطالب السافل من العالي المستعلى عليه بانه لم تأمره ليس لأمره بل لاستعلائه ومنه يظهر بطلان القول باعتبار احدهما اذ ذلك يلزم ان يكون جامعا بين العلو والاستعلاء ، مع ان الظاهر انه لا جامع بينهما. كما لا يخفى.

الجهة الثالثة : فى أن الأمر هل يدل على الوجوب ، أم يدل على مطلق الطلب وجهان : واختار الاستاذ (قدس‌سره) الأول بدعوى الانسباق من الاطلاق وأيّد ذلك بآية الحذر ، ورواية المشقة فى السواك والتوبيخ على مخالفة الأمر مثل قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) ولكن لا يخفى ان العام انما يكون حجة فيما علم انه مصداق له لا فيما يشك في كونه مصداقا ، مع العلم بخروجه من الحكم كما في المقام. وبعبارة أخرى ان التمسك بالعموم فيما علم كونه مصداقا وشك فى الخروج عن الحكم فيؤخذ بالعام وينفي التخصيص به ، ولا يتمسك فيما لو علم بخروجه عن الحكم وشك فى كونه مصداقا كمثل المقام ، فان الندب خارج عن الحكم لعدم تعلق التحذير والتوبيخ والمشقة به ، ويشك انه من افراد الأمر فلا يتمسك بعموم الأمر لنفي فردية الندب لكي يكون من باب التخصص لعدم انعقاد بناء العقلاء على التمسك به ، فظهر مما ذكرنا ان ما ذكر من الآيات والروايات لا دلالة فيها على كون لفظ الأمر للوجوب فلذا نختار ان الأمر موضوع للأعم لصدقه على الندب مع صدوره من العالي بلا عناية وتجوز على

١٦٢

ان تقسيمه الى الوجوب والندب يقتضي ذلك وان كان المنسبق من الاطلاق هو الوجوب بمعونة مقدمات الحكمة بتقريب : ان حقيقة الوجوب هو الطلب التام الذي ليس له حد ، بخلاف الندب فان طلبه محدود من جهة النقص فحينئذ ارادة الوجوب لا تحتاج الى قرينة فعدمها يدل على الوجوب بخلاف ارادة الندب فانها تحتاج الى بيان حدود النقص ، وبالجملة لو ورد الكلام من دون قرينة يحمل على الوجوب لعدم احتياجه الى مئونة زائدة ولا يحمل على الندب لاحتياجه الى المئونة (١).

الجهة الرابعة : في انه ما المراد من الطلب هل هو الطلب الحقيقي أم الانشائي ، وبيانه يحتاج الى معرفة أقسام الطلب فنقول : الطلب يطلق تارة ويراد به الحقيقي من غير فرق بين ان يكون عين الارادة أو غيرها ، واخرى يطلق ويراد منه الطلب المفهومي ، وهو الذي يفهم من الاستعمال ، وثالثة يطلق ويراد به الطلب الانشائي. وهو عبارة عن الطلب المفهومي المبرز بعالم اللفظ مع قصد الموجدية ، والأستاذ (قدس‌سره) ـ فى الكفاية ـ جعل المراد منه هو الأخير وربما يشكل عليه بانه كيف يجعل الطلب الانشائي متعلقا للقول في مقام تعريفه بانه الطلب بالقول والمفروض ان الانشائية كيفية متصيدة من الاستعمال القولي فحينئذ يكون من شئون الاستعمال وطواريه ، فكيف يجعل من مدلول الأمر. اللهم إلا أن يقال بان هذه الكيفية الحاصلة من الاستعمال لما كانت فانية في المعنى ومتحدة معه

__________________

(١) لا يخفى ان الطلب لا يتصف بالتام والناقص كما ان باعتبار كشفه عن الارادة ، لا يفرق فيها بين الوجوب والندب إذ الارادة في الوجوب بعينها ارادة في الندب ، ولا معنى للفرق بين الارادتين بالشدة والضعف ، وانما الفرق بين الوجوب والاستحباب هو بالنسبة الى الملاك والمصلحة ، ففى الوجوب المصلحة تقتضي المنع عن الترك ، وفي الندب المصلحة تقتضي جواز الترك.

١٦٣

بنحو من الاتحاد ، فكأنه يرى بحسب النظر المسامحي ان المعنى الطلبي انشائي وليس حقيقته هو الطلب الانشائي بل حقيقته هو مفهوم الطلب والانشائية إنما نشأت من بروز القول المقصود به الانشاء والايجاد ، ثم لا يخفى ان حقيقة الأمر لم يحصل فيما لم يكن هناك جد وارادة حقيقية ، لأن الأوامر الامتحانية انما هي اوامر صورية لا حقيقية ، فظهر مما ذكرنا ان المختار ، في ان الأمر عبارة عن : طلب انشائي ناشئ عن جد وارادة حقيقية. ثم لا يخفى كم فرق بين الانشاء في الطلب والانشاء في الأمور الاعتبارية مثل انشاء الملكية بناء على اتحاد الطلب مع الارادة ، فان الانشاء في الامور الاعتبارية كانشاء الملكية هي من قبيل الواسطة في الثبوت ـ أي نفس الانشاء علة لتحقق ذلك الأمر الاعتباري كالملكية ـ وأما بالنسبة الى الانشاء في الطلب فهو من قبيل الواسطة في الاثبات ـ أي انشاء الطلب يكون علة لتحقق العلم بالطلب الحقيقي ، فمع تحققه ينتزع الوجوب والالزام وأما اذا قلنا بتغاير الطلب والارادة ، وبنينا على كون الارادة من الصفات النفسية فحينئذ تكون عبارة عن تلك الصفة النفسية فتعد من مقولة الكيف النفساني والطلب يكون عبارة عن التحريك والبعث فعليه يكون الطلب الانشائي بالنسبة الى التحريك والبعث واسطة في الثبوت إذ لو لا الانشاء لما حصل التحريك ، وأما بالنسبة الى الارادة والطلب الحقيقيتين ، فهو من الواسطة في الاثبات.

اتحاد الطلب والارادة

الجهة الخامسة : في ان الطلب عين الارادة كما عليه المعتزلة ، أم غيرها ، كما عليه الاشاعرة ، ومنشأ التزام الاشاعرة بالتغاير هو انه لما رأوا ذات الباري

١٦٤

جل وعلا قديمة أزلية ، فلا بد وان تكون صفاته كذلك ، اذ هي تابعة للذات بالنسبة الى القدم والحدوث مع ان كتاب الله حادث ففرارا عن ذلك ، التزموا بوجود صفة نفسانية قائمة بالنفس غير الطلب والارادة ، وعبروا عنها بالنسبة الى الاخبار كلاما نفسيا وفي الانشاء طلبا. وقد أجاب الاستاذ (قدس‌سره) بأنا لا تجد فى انفسنا صفة اخرى غير الارادة ومقدماتها قائمة بالنفس تسمى في الانشاء طلبا وفي الاخبار كلاما نفسيا. وعقب ذلك يجعل هذا النزاع لفظيا ، وحاصله ان الطلب تارة يطلق ويراد به الحقيقي وأخرى يطلق ويراد به الانشائي وكذلك الارادة. فتارة تطلق ويراد بها الحقيقي ، وأخرى تطلق ويراد بها الانشائي ، والارادة حين الاطلاق تنصرف الى الحقيقي ، والطلب حين الاطلاق ينصرف الى الانشائي فباعتبار هذا الانصراف حصلت المغايرة بينهما. وإلا هما متحدان مفهوما وانشاء وحقيقة ، فمن يقول بالمغايرة ، قصد من الارادة الحقيقي ومن الطلب الانشائي ، ومن قال بعدمها قصد اتحادهما مفهوما وانشاء وحقيقة. ولكن الانصاف ان جعل هذا النزاع لفظيا في غير محله ، اذ النزاع بين الفريقين نزاع معنوي يرجع الى ان الطلب القائم بالنفس مغاير للارادة الحقيقية ويظهر ذلك مما سنبينه من ادلة الاشاعرة.

والذي ينبغي ان يقال انه يمكن ان نتصور معنى ثالث غير الارادة النفسية وهو عقد القلب الذي يتعرض له الفقهاء فى حرمة التشريع وفى اعتباره فى أصول الدين وفي البناء على الاكثر في مسألة الشك بين الثلاث والاربع ، فمن هذه الاشياء نستكشف وجود صفة اخرى غير العلم والارادة تسمى بعقد القلب وله انحاء فبعض انحائه يسمى بالطلب وحينئذ يمكن ان يكون ذلك مراد القائل بالمغايرة

١٦٥

ولكن لا يخفى انه لا يمكن انكار مثل هذا المعنى لأنه امر متحقق زائد على الارادة ومقدماتها ، إلا انه مع ذلك لا يفيد القائل بالمغايرة لأن هذا المعنى الثالث لا يحكم العقل بموافقته ولا بمخالفته ، إلا وان تقترن به ارادة ، اللهم إلا ان يقال ان الاشاعرة لا يرون العقل هو الحاكم بالموافقة والمخالفة لعدم التزامهم بالتحسين والتقبيح العقليين ، وانما يرون ان الموافقة والمخالفة تتبع ترتب الثواب والعقاب فيحكمون بثبوته فيما لو حكم الشارع بثبوته ويحكمون بعدمه فيما لو نفى الشارع الحكم عنه ، وان كان العقل فى بعض الموارد يقبح ما اثبته الشارع ويحسن ما نفاه ، وكيف كان فقد استدلت الاشاعرة على المغايرة بين الطلب والارادة بامور :

الأول انه لا ريب في تحقق الاوامر الامتحانية مع العلم بعدم تحقق الارادة الجدية فيها فعلى القول بالاتحاد يلزم نفي الطلب عنها ومع عدمه لا معنى لتحقق الاوامر فيها فتحققها يستلزم تحقق الطلب لاخذه في مفهوم الامر مع عدم وجود الارادة فيها. ولازم ذلك تحقق المغايرة.

الثاني : انه لا إشكال في تكليف الكفار والعصاة وانهم معاقبون على عدم الاتيان بمتعلقات التكاليف ولازم ذلك تحقق الطلب فيها إذ لا معنى لتحقق التكليف بلا طلب مع ان الارادة فيها ليست بمتحققة وإلا لزم تخلف المراد عن ارادته تعالى.

الثالث : ان التكاليف الشرعية المتعلقة بالعباد لا يعقل تحقق الارادة فيها لأنها لا بد ان تتعلق بما هو مقدور والمفروض ان المكلف مجبر على اتيان فعله فحينئذ لا ارادة مع تحقق التكليف المشتمل على الطلب اذ مع انتفائه ينتفى التكليف مع انه بالوجدان ان العباد مكلفون بهذه التكاليف. ولكن لا يخفى ما في هذه

١٦٦

الادلة من النظر. أما عن الأول : فالتكاليف تارة تكون لمصلحة موجودة في متعلقاتها واخرى تكون لمصلحة متحققة فى نفس الامر بها. فعلى الأول لا إشكال في تحقق الارادة الجدية الحقيقية فيها ، وعلى الثاني فان التكليف ليس إلا صورة تكليف ، وانما الغرض استكشاف استعداد المكلف للطاعة أو عدمها ففي مثل ذلك لا امر حقيقة ولا ارادة جدية. وعن الثاني ان الارادة المعتبرة في التكاليف هي الارادة التشريعية وهي العلم بمصلحة المكلف ، وهي لا محذور في تخلفها عن المراد وانما لا تتخلف عن المراد فهي الارادة التكوينية وهي العلم بالنظام على النحو الكامل وهي غير مأخوذة في التكاليف كما لا يخفى.

وأما عن الثالث : فهو شبهة في قبال البديهة اذ كل من يتأمل ويفكر بادنى تفكير يجد فرقا بين حركة يد المرتعش وحركة يد الفاعل المختار ، وان اردت الجواب العلمي فبيانه : ان الاوصاف العارضة على الانسان تارة لا تكون من لوازم وجوده ، كالاختيار اللاحق للانسان فعلى الاول يحتاج العارض الى جعل مستقل ولا يكفي ذلك بجعل معروضه ، فان علم الانسان بكون ما يفعله ذا مصلحة يحتاج الى تعلق ارادة أزلية منه ـ تعالى ـ بذلك الفعل ولا تكفي الارادة الازلية التي تعلقت بوجود الانسان وعلى الثاني ، جعل العارض يحصل بجعل المعروض ولا يحتاج الى جعل مستقل ، لأن الاختيار لما كان من لوازم وجود الانسان ولو في بعض مراتبه ففي تلك المرتبة بمجرد وجوده يكون مقهورا بالاتصاف بالاختيار فحينئذ الفعل الصادر عن الانسان الناشئ عن الاختيار يكون له نسبتان نسبة اليه باعتبار صدوره عن اختيار الذي هو من لوازم الوجود المجعول بجعل نفس الانسان لا بجعل مستقل واخرى ينسب اليه تعالى ، باعتبار صدوره عن العلم بالفائدة

١٦٧

والشوق ونحوها المجعولة بجعل مستقل لا انها مجعولة تبعا لعدم كون العلم ونحوه من المجعولات التبعية ، وانما هي مجعولة بجعل مستقل ، فيكون الفعل الصادر من الانسان لا جبر ، باعتبار صدور الفعل عن اختيار الانسان المنتهى الى ذاته ، ولا تفويض ، باعتبار ان بعض مبادئه. كالعلم بالفائدة والشوق المحرك للعضلة مستند الى ذاته تعالى ، وهذا معنى (الامر بين الامرين). لا يقال ان الافعال انما تصدر عن مبادئها. كالعلم بالفائدة والشوق المحرك للعضلة والقدرة والارادة ، وأما صفة الاختيار التي هي من لوازم وجود الانسان المجعولة بجعله لا دخل لها في وجود الفعل ، لأنا نقول : ان هذه الصفة ـ أعني صفة الاختيار فى الانسان ـ قبل صدور الفعل من الفاعل كانت بنحو القوة وبصدوره تكون بنحو الفعلية ، ومما ذكرنا ظهر بطلان ما قاله الأشاعرة من انتفاء الحسن والقبح العقليين لكون الانسان مجبورا على فعله ، بأن الفعل الصادر لما كان عن اختيار بلا قهر وجبر فيحكم العقل باستحقاق الثواب والعقاب على الاطاعة والمعصية وليس للشارع حكم في ذلك ، ولو حكم فانما هو ارشاد الى حكم العقل. ثم انه قد التزم بعض الاعاظم (قدس‌سره) بالمغايرة بين الطلب والارادة فرارا عن شبهة الجبر ، بتقريب : ان الارادة عبارة عن الشوق المؤكد ، الذي هو من مقولة الكيف والطلب عبارة عن التصدي لتحصيل المراد الذي هو من مقولة الفعل ولا اشكال بتغايرهما على ان حركة العضلات المترتبة على الطلب هي من الانفعال ولازمه ان يحصل من الفعل وليس إلا ان الطلب من مقولة الفعل فاذا كان الطلب عبارة عن التصدي لتحصيل المراد وهو من افعال النفس وهو فعل اختياري لها من دون مدخلية شيء لان النفس لها السلطة التامة على التصدي وليست مجبرة عليه وهذا الاختيار للنفس ذاتي والذاتي

١٦٨

لا يعلل ، وبالجملة ان الفاعل المختار لما تحققت فيه الارادة يجد نفسه بالنسبة الى نفس الفعل له ان يفعل وله ان لا يفعل وذلك هو اختيارية النفس وهذه الصفة هي التي تؤثر في الفعل من دون مدخلية شيء. فهو وان كان قد خالفنا بتقدم الارادة على الاختيار لما عرفت منا سابقا من تقدم الاختيار على الارادة لأن النفس لما كانت صفة الاختيار متحققة فيها فلها ان تفعل ولها ان تترك فالارادة هي التي يحصل بها الترجيح للفعل أو الترك فمع تحقق ارادة الفعل يتحقق الفعل ومع ارادة الترك لا يتحقق فالارادة متوسطة بين الاختيار والفعل ولكن وافقنا على كون الافعال مستندة الى الاختيار الذي هو من الصفات القائمة بالنفس ولا يحتاج الى علة اخرى (١) اذا عرفت ما ذكرنا من بطلان دعوى الاشاعرة بالمغايرة

__________________

(١) يرد عليه ان صيرورة ما هو بالقوة فعليا تحتاج الى علة تامة ولو كانت هي النفس الى ان تنتهي الى علة تامة قديمة وإلّا لزم التسلسل الذي هو بديهي البطلان أو لزوم وجود الشيء بلا وجود عليته التامة وبطلانه أوضح من سابقه كما انه يرد على بعض الاعاظم قدس‌سره بان حملة النفس وتصديها للفحص عن الشيء من الامور التي تتجدد على النفس وهي حادثة تحتاج الى علة تامة الى ان تنتهي الى علة قديمة وإلّا لزم التسلسل أو لوجود بلا علة تامة وكلاهما بديهي البطلان ولذا لا تندفع شبهة المجيرة بما ذكراه وحاصلها ان ارادة العبد المستتبعة لتحريك العضلات تحتاج الى علة لحدوثها وتلك العلة لا بد ان تنتهي الى علة لا تكور معلولة للغير وإلّا لزم التسلسل الواضح البطلان ، فمع تحقق علته التامة يكون الفعل ضروري الوجود ومع عدمها يكون ضروري العدم فحينئذ لا اختيار وقد أجاب عنها المتكلمون بما حاصله ان ذلك يتم في الفاعل الطبيعي لا الفاعل الارادي اذ الفاعل الارادي له جهة اختيار فله ان يفعل وله ان يترك فالفعل الصادر عن ارادة واختيار اختياري

١٦٩

فاعلم ان الحق هو القول بالاتحاد مع الارادة التشريعية لأننا لا نجد فى انفسنا غير

__________________

حتى بالنسبة الى ما كان نفس الذات فيه علة تامة لوجوده كما هو بالنسبة الى ذاته تعالى فانها علة تامة للمعلول الاول فانه لم يكن صدوره ضروريا بل هو تعالى مختار في فعله فله اصداره وله تأخيره بعد حين وتأخره لا ينقض عليته التامة كما ان الحكماء أجابوا عن هذه الشبهة بما حاصله ان وجوب الفعل بايجاب الفاعل لا يخرجه عن كونه اختياريا مع كونه مسبوقا بالارادة فهو وان كان ضروريا بالاضافة الى الارادة إلا انه لا ينافى اختيارية ذاته لأنه يصير ضروريا وواجبا بالغير ولا ينافي ذلك امكانيته وإلا لو كان الوجوب الغيرى ينافى اختيارية الفعل لزم ان يكون ضرورية ما هو معلول لذاته جل وعلا كالصادر الاول ضروريا وواجبا بالغير منافيا لكونه تعالى فاعلا مختارا ولا منافاة فى ذلك إذ الوجوب بالاختيار لا ينافى الاختيار كما ان الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار هذا وقد ذكرنا في تعليقتنا على الكفاية جوابا لبعض المحققين قدس‌سره عن الشبهة بتوضيح منا وبيانه يتوقف على بيان أمور :

الأول ان الماهيات الامكانية متمايزة بالذات كالحجرية والشجرية.

الثاني ان المجعول بالاصل وبالذات هو الوجود وان الماهية مجعولة بالعرض.

الثالث ان افاضة الوجود على الماهيات المتباينة بالذات على السوية والاختلاف بينهما من حيث الشدة والضعف ليس من ناحية افاضة الوجود وانما هو من ناحية قبولها للافاضة وان شئت زيادة التوضيح لهذا الأمر فلاحظ النور المنبسط على الزجاجات المختلفة الالوان من السواد والبياض والاحمرار وغيرها وليس هذا الاختلاف من ناحية النور اذ افاضته على الزجاج على نحو واحد وانما هو من ناحية القابل وهو نفس الزجاج فيكون منه يلائم النور فيكتسب شدة النور ومنه لا يلائم النور فلا يكتسب من النور الا القليل.

١٧٠

الارادة صفة اخرى تسمى بالطلب وتكون مدلولا للامر وموضوعا لحكم العقل بوجوب الاطاعة وان امكن تصور صفة اخرى تسمى بالبناء القلبي غير الارادة لأنها من صفات النفس وغير اختيارية والبناء القلبي من افعال القلب وهو اختياري

__________________

الرابع كلما امكن وجوده بالذات يجب وجوده لعدم نقص فى علة العلل فلا بد وان يرجع النقص الى المعلول بان يكون مانع ذاتي يقتضي عدمه.

اذا عرفت ذلك فاعلم ان الاختلاف فى السعادة والشقاوة انما بالهوية والمجعول بالاصالة هو الوجود والماهية مجعولة بالعرض فلا يبقى حينئذ مجال للسؤال بانه لم صار السعيد سعيدا والشقى شقيا لأن السعيد سعيد فى بطن أمه والشقي شقي فى بطن أمه على رواية وفي رواية الشقي من شقى في بطن أمه. وأما بالنسبة الى افاضة الوجود على الماهيات على السوية والاختلاف بينها باعتبار قبول القابل فرب قابل يلائمه الوجود الكامل فيكون كاملا ورب قابل لا يلائمه ذلك فلا يكون وجوده كاملا (فان الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) قال الله تعالى (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ... الآية) وعليه لا يبقى مجال للسؤال انه لم اوجد الشقي الناشئ منه المضار لانك قد عرفت ان الشيء الممكن انما لا يوجد اما لنقصان في علة العلل تعالى الله عما يقول الظالمون أو لعدم امكانه وقد عرفت انه ممكن والجعل انما هو من ناحية المبدأ الفياض ليس إلا الوجود وهو خبر محض فالشقي لم يجعله شقيا بل اوجده فصار شقيا وعلمه بانه يوجد شقيا ليس علة تامة بل هو تابع للمعلوم كما هو شأن كل علم بالنسبة الى كل معلوم.

حقيقة لعلم انكشاف الواقع

له من المعلوم حكم التابع

وبالجملة الصادر من المبدأ الفياض الوجود وهو خير والشرور اعدام والماهيات امور اعتبارية مجعولة بالجعل العرضي فافهم وتأمل.

١٧١

إلا أن تلك الصفة لا تكون موضوعا لحكم العقل بوجوب الاطاعة ولا موافقتها موضوعا لاستحقاق الثواب ولا مخالفتها موضوعا لاستحقاق العقاب وعليه لا تكون تلك الصفة هي الطلب لكي تحصل بها مغايرة الطلب للارادة كما ان جعل الطلب من مقوله الفعل في غير محله فانا لا نتعقل اشياء تحدث في النفس بعد حدوث الارادة يقال له الطلب سواء كان من افعال النفس أو من صفاتها فانها إما ان تكون من مبادي الارادة أو مما يتعلق بها الارادة.

ثم انك قد عرفت ان الاطاعة لا بد وان تكون مسبوقة بالارادة. فالارادة لا تحصل إلا مع ملاحظة مصلحة في المتعلق ولا يمكن ان تكون قائمة بنفسها اذ من مبادئ الارادة المحبوبية ، والمحبوبية لا تحصل إلا بالمتعلق. كما انه يستحيل وصولها الى مرتبة الفعلية إلا وان تنتفي جميع الموانع من تحميل العبد بالتكليف ومن هنا قيل : ان الاحكام الشرعية الطاف في الواجبات العقلية لوضوح ان الارادة لم تنبعث إلا حيث توجد مصلحة في المأمور به ، فاذا حكم الشارع بشيء حكم العقل به لأن حكم الشارع انما يكون لمصلحة أكيدة في المتعلق فالعقل أيضا يحكم باتيانه وحينئذ كلما حكم الشرع بشيء حكم العقل به من دون العكس ، اذ العقل يحكم بوجوب شيء لوجود مصلحة فيه وربما لا يحكم الشرع بذلك لمانع كمثل المشقة المانعة من وجوب السواك نعم لا مانع من دعوى الملازمة من الجانب الآخر ـ أي لو حكم الشارع بالوجوب يستكشف منه وجود مصلحة في المتعلق. وحينئذ يتحقق موضوع حكم العقل هذا بناء على ما قوينا من اتحاد الطلب والارادة التشريعية وأما بناء على القول الآخر وهو القول بالمغايرة فلا ملازمة من الجانبين كما هو واضح ، ان قلت : ان هذه الارادة ان كانت متحققة فى تكليف الكفار يلزم تخلف

١٧٢

الارادة عن المراد ، وان كانت غير متحققة فحينئذ ليسوا بعصاة. قلت : ذكرنا سابقا ان الارادة على قسمين : ارادة تشريعية وارادة تكوينية ، أما الأولى : فعبارة عن العلم بمصلحة المكلف ، والثانية عبارة عن العلم بالنظام التام الكامل ، وتخلف الارادة عن المراد ، انما لا يعقل بالنسبة الى القسم الثاني المعبر عنها (بكن فيكون) لا الاولى ، والتي هي متحققة في حق الكفار هي الاولى لا الثانية وتوضيح الفرق بين الارادتين : ان الاختلاف بينهما باختلاف جهات انعدام الشيء فتارة يكون انعدامه بانعدام مقتضيه ، واخرى انعدامه لوجود المانع وثالثة انعدامه من جهة فوات بعض المقدمات فحينئذ اذا تعلقت ارادة المولى وكان منسدا عنه ابواب الانعدام وهو قادر على الاتيان والايجاد فحينئذ لا بد من حصول الشيء عند تعلق الارادة بالوجود وهذه هي الارادة التكوينية وهي لا تتخلف عن المراد وأما اذا تعلقت ارادة المولى بحفظ الوجود من قبل عدم المقتضي بمعنى ان ارادة المولى إحداث مقتضي الوجود من قبل امره ، لكي يتحقق بذلك مورد حكم العقل بالموافقة ، امكن تخلف مثل هذه الارادة بملاحظة فوات بعض المقدمات أو وجود المزاحمات وهذه هى المسماة بالارادة التشريعية على ان هذا الاشكال اعني تخلف المراد عن الارادة انما يتأتى بناء على اتحاد الطلب والارادة (١) واما بناء على المغايرة

__________________

(١) لا يخفى ان هذا الاشكال لا دخل له بحديث المغايرة والاتحاد كما ان الفرق بين الارادة التشريعية والتكوينية بان المراد يتخلف عن الارادة في الاولى دون الثانية محل نظر اذ لا يعقل تخلف المراد عن الارادة مطلقا بيان ذلك ان هذا التقسيم ليس راجعا الى حقيقة الارادة فان حقيقتها معنى وحداني وهو العلم بالصلاح وانما التقسيم باعتبار ما تقتضيه الارادة من المراد فتارة يكون العلم بالصلاح على النحو الكامل اعني ما يتعلق بنظام العالم كانزال الكتب وارسال الرسل المتوقف

١٧٣

فلا ارادة فى التكاليف مع تحقق الطلب لكي يلزم اشكال تخلف المراد عن الارادة فافهم

__________________

مصلحة العالم ونظامه عليه فحينئذ يقتضي الخلق والتكوين واخرى لا يقتضي ذلك وانما يكون العلم بالصلاح أي بمصلحة المكلف يقتضي الامر والتشريع وفي الصورتين لم تنفك الارادة عن المراد فان المراد في الاول هو انزال الكتب وبعث الرسل وقد حصل كما ان المراد الثاني هو الامر والتشريع فقد حصل أيضا نعم يمكن ان يوجه كلام القوم بان يراد من المراد هو العرضي وهو الفعل في الخارج وأما تسمية الاولى بالتكوينية والثانية بالتشريعية فبملاحظة ما تقتضيها الارادة على انه لو التزمنا بالفرق بين الارادتين إلا ان التكاليف متعلقة للارادة التكوينية التي لا تتخلف عن المراد فلا يكون ما ذكر من الدفع رافعا للاشكال.

بيان ذلك هو ان جميع ما فى الكون من جواهر واعراض انما تكون بالارادة التكوينية ومن جملة الاعراض افعال المكلفين فلا بد من ان يكون وجودها أو عدمها بالارادة التكوينية فاذا تعلقت بايجادها فلا بد من ايجادها واذا تعلقت بعدمها فلا بد من عدمها لاستحالة تخلف المراد بالارادة التكوينية عن الارادة من غير فرق بين ان يتعلق بها ارادة تشريعية أم لا وقد أجيب عنه بان الارادة التكوينية لم تتعلق بمطلق الفعل وانما تعلقت بالفعل الناشئ عن الارادة فلا بد حينئذ ان يصدر الفعل عن الارادة ولو فرض صدوره بلا ارادة يلزم تخلف المراد عن الارادة التكوينية وهو محال واستناد الافعال الى الارادة ليست بنحو العلة والمعلول لكي تأتي شبهة المجبرة بل استنادها الى الارادة بنحو الداعي والمرجح أو المقتضي فان الممكن حسب ما هو مقرر يحتاج الى مرجح يرجح جانب الوجود أو العدم والارادة بالنسبة اليه يرجح أحدهما على الآخر كما انه لا ينسب التفويض المطلق للخلق إلّا بناء على ان العلة المحدثة هي العلة المبقية وان الباقي غير محتاج الى المؤثر وهو باطل فان العبد وان كان مختارا إلّا ان ارادته وقدرته كانت

١٧٤

فيما يتعلق بصيغة الامر

الفصل الثاني فيما يتعلق بصيغة الأمر وفيه مباحث :

__________________

بافاضته جل وعلا ومحتاج في كل آن الى فيضه وحينئذ كيف تكون العلة المحدثة هي المبقية.

ومن ذلك تعرف الحالة الوسطى الثابتة للعبد المعبر عنها بلسان الاخبار (بالامر بين الامرين) فان هذا الخبر الشريف قد فسر بتفاسير عديدة اجودها بنظري القاصر هو ان للشيء نسبتين طوليتين أحدهما حاصل بالمباشرة والآخر بالتسبب الاول ارادة العبد وقدرته الثاني ارادة الواجب التي هي عبارة عن اعطاء هذه الارادة للعبد وافاضة الوجود عليه من ناحيته جل وعلا فان لاحظت قدرة العبد ينسب اليه وان لاحظت ارادة الواجب ينسب اليه فالفعل لا جبر فيه لنسبته الى العبد بالاختيار والارادة ولا تفويض لنسبته الى الواجب بان منه الفيض لا يقال ان فعل العبد لما كان فيه هذان النسبتان فما وجه انتساب الحسنات الى الله تعالى والسيئات الى العبد لانا نقول بان الاخبار تدل على وقوع المشاجرة بين جنود العقل وجنود الجهل فان غلب جنود العقل ارتدع عن القبيح وشملته العناية الرحمانية وقرب من الملائكة وهذه هى المجاهدة للنفس المعبر عنها فى الاخبار بالجهاد الاكبر وان غلب جنود الجهل وقع فى القبيح وبعد عن الرحمة الربانية وصار من حزب الشياطين وحينئذ فما كان سببا لأن تشمله العناية الإلهية كالحسنات فهو احق بالانتساب الى الله تعالى وما يستند الى الجهل الناشئ من جهة ظلمة النفس التى هي أمارة بالسوء كالسيئات فهي الى العبد أولى وهو معنى الخذلان فانه لما تغلب جنود الجهل اخذته النزعة الشيطانية فبعد عن ساحة الرحمة فلا يوفق الى الخيرات فافهم وتأمل فانه دقيق.

١٧٥

الأول : انه قد ذكر للصيغة معان كالترجي والتمني والتهديد والانذار والاهانة والاحتقار والتعجيز والتسخير الى غير ذلك ولا يخفى انها ليست من معانيها اذ لم تستعمل فيها وانما استعملت في معنى واحد وهو نسبة بين الفاعل والمبدأ ، وهى قائمة بالطرفين وهما المادة والذات ، وهذا المعنى له دواع فتارة ينشأ بداعي الطلب الحقيقي فيكون بعثا حقيقيا ، واخرى بداعي الترجي فيكون ترجيا وثالثة بداعي التهديد فيكون تهديديا ، وهكذا ، وهذه الامور هى دواع ليست دخيلة في المعنى المستعمل فيه فلذا اختلافها لا يوجب اختلافا فى ناحية المستعمل فيه لكي يقال ان صيغة الامر بالنسبة الى هذه الامور مشتركا لفظيا ، او انها بنحو الحقيقة والمجاز والاستاذ (قدس‌سره) ذكر ان هذه الامور هي دواع وان صيغة الامر مدلولها حقيقة واحدة إلا ان جعل معناها انشاء الطلب فى غير محله اذ ان انشاء الطلب ان كان عين الارادة فهو من مقولة الكيف ، وان كان غيرها فهو من مقولة الفعل وعلى كلا التقديرين لا يمكن ان يكون مدلولا للصيغة لما عرفت ان الصيغة معنى حرفيا ومعنى ربطيا تدل على النسب والارتباطات ، وكيف كان فمدلول الصيغة الذي هو نسبة قائمة بين الفاعل والمبدأ ترى خارجية ، وان لم يكن لها مطابق في الخارج كسائر المفاهيم التي ترى خارجية ، وان لم يكن لها مطابق في الخارج وهكذا الكلام في بقية الصيغ الانشائية ، كلعلّ للترجي ، وليت للتمني وكأن للتشبيه ونحوها فان لها مفاهيم ترى فانية في الخارج. وان لم يكن لها مطابق فيه كسائر المفاهيم الاسمية مثلا ، لعل يدل على الترجي المرتبط بالذات بنحو يرى فانيا في الخارج ولو لم يكن ترجيا فى الخارج ، وهكذا فى التمني والتشبيه ونحوهما. ويظهر مما ذكرناه ان ما ذكره الاستاذ ما لفظه (وقصارى ما يمكن ان يدعى

١٧٦

ان تكون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب فيما اذا كان بداعي البعث والتحريك لا بداع آخر منها فيكون انشاء الطلب بها بعثا حقيقة وانشاؤه بها تهديدا مجازا وهذا غير كونها مستعملة في التهديد) محل نظر.

أولا ما عرفت من ان الصيغة ليست دالة على انشاء الطلب مضافا الى ان داعي البعث والتحريك لا يكون دخيلا فى المستعمل فيه ولا في الموضوع له فعليه كيف يكون حقيقة فيما اذا كانت بداعي البعث ومجازا فيما اذا كانت بداعي التهديد ، ودعوى ان داعي البعث اخذ قيدا للوضع ففي غير محلها ، اذ ان ذلك لا يوجب كونه في التهديد مجازا لانه يكون حينئذ من مقررات الوضع والاستعمال على خلاف مقررات الوضع على ما بيناه سابقا ، يعد غلطا ومستهجنا. نعم فى مقام تشخيص المراد يمكن ان يدعى ان الصيغة عند اطلاقها تنصرف الى ما كان الداعي فيه بنحو البعث والتحريك لاحتياج غيره الى عناية زائدة فينفي باطلاق الصيغة ولكن لا يخفى انه يمنع الاخذ باطلاقها ، إذ هذه الدواعي ليست دخيلة في المستعمل فيه فلذا لا يتمسك بالاطلاق اللفظي ، نعم لا مانع من الاطلاق المقامي. فان أحرز ان المولى في مقام البيان فينصرف الى الارادة الحقيقية وانه في مقام الجد لا في مقام السخرية والهزل وأما لو شك فى انه أراد ذلك أم لا ، يرجع الى ظاهر حال المتكلم ، فان ظاهر حاله يقتضي الإرادة الحقيقية. وهو أصل يرجع اليه في مقامنا وامثاله ، لاعتبار ذلك عند العقلاء ويرجعون اليه عنه الشك ، كما لا يخفى.

المبحث الثاني في ان الصيغة حقيقة في الوجوب ومجاز في الندب أو حقيقة في الأعم منهما وجوه : وقوّى الاستاذ انه حقيقة في الوجوب بدعوى التبادر عند استعمالها بلا قرينة ، وأيّد ذلك بعدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال الندب ،

١٧٧

ولكن لا يخفى ان التبادر ممنوع وعدم صحة الاعتذار أعم من الوضع للوجوب ولكن دعوى كون صيغة الامر ظاهرة في الوجوب عند عدم القرينة على خلافه غير مجازفة لما نراهم يستدلون على وجوب شيء بظاهر الأمر ، وأما ان هذا الظهور مستند الى الوضع أم الى الاطلاق فليس عندنا ما يعين ذلك ، على انه ليس من شأن الأصولي تنقيح ما هو مستند الظهور إذ لا ثمرة تترتب فيما يهم الاصولي من البحث عن استنباط الاحكام الشرعية. نعم ربما تحصل ثمرة حينما شك في كونه فى مقام البيان ، فاذا كان الظهور مستندا الى الوضع يحمل عليه ولا يحتاج الى مراجعة حال المتكلم ، وظاهر حاله. وأما إذا كان مستند الظهور الى الاطلاق فلا يحمل عليه ، لأن ظهوره انما يبقى اذا صار في مقام البيان ، واما اذا لم يكن فلا ظهور ، ولا يخفى ما فيه. لانك قد عرفت بانا نرجع الى ظهور الاطلاق بمعونة الاصل المقرر في المطلقات وهو ظاهر حال المتكلم فيمكن احراز انه فى مقام البيان حتى يترتب عليه الاخذ بالظهور بالاصل المقرر وهو ظاهر حال المتكلم ، ان قلت ان هذا الظهور ينافي كثرة استعمالها في الندب. قلنا : ان استعمالها فى الوجوب اكثر ولو سلم فلا يجعل ذلك من المجاز المشهور لكي يجب العمل به للشهرة ، ولو سلم فذلك لأجل الشهرة ، وتلك قرينة حالية فمع عدمها يحمل على الوجوب ولا يحمل على الندب ثم لا يخفى انه يشكل التمسك باطلاق الصيغة أي باطلاقها اللفظي لعدم جريان مقدمات الحكمة بالنسبة الى مدلول الصيغة لما عرفت ان مدلولها عبارة عن النسبة القائمة بين الذات والمبدأ وهي لا يفرق بين كونها بنحو الوجوب او الندب كما انها لا تجري بالنسبة الى الارادة التي تتضمنها الصيغة لكونها ارادة شخصية جزئية فلا اطلاق فيها وليست الشدة والضعف من عوارضها بعد وجودها لكي

١٧٨

يكون الاطلاق معينا احدهما بل توجد أما شديدة أو ضعيفة وأما تمسكنا بالاطلاق اللفظي لتعيين الوجوب بالنسبة الى مادة الامر لانها كلية طبيعية فتجري مقدمات الحكمة فاذا جرت دلت على المصلحة اللزومية ومنها تنشأ الارادة التشريعية الشديدة فدلالة مادة الامر على الارادة الشديدة بالدلالة الالتزامية وهذا المعنى لا يتأتى في دلالة الصيغة لعدم جريان مقدمات الحكمة في تعيين اطلاقها نعم لا مانع من جريان مقدمات الحكمة بالنسبة الى الاطلاق المقامي فانه لما كان المتكلم في مقام البيان وكان كلامه صالحا لان ينطبق على أحد امرين أحدهما غير محتاج الى مئونة والآخر في حاجة الى ذكر مئونة فعدم ذكرها يدل على عدم اعتبارها.

بيان ذلك : ان الوجوب عبارة عن الطلب الشديد والندب عبارة عن الطلب الضعيف أي يجوز تركه ، فالوجوب يفترق عن الندب بشدة الطلب ، والشدة من مراتبة ، والندب يفترق عن الوجوب بالضعف أي الاذن في الترك وهو ليس من سنخ الارادة ، وانما هو حد خاص لها ، فيكون الوجوب من قبيل الوجود المطلق ـ أي غير محدود بحد ـ لما عرفت من أن الشدة من سنخ الطلب ، وليس من حدوده ، لأن حد الشيء لا يكون من سنخه والندب من قبيل الوجود المحدود لاشتماله على الضعف ، وهو ليس من سنخ الارادة فالوجوب حينئذ يكون بسيطا والندب يحتاج الى مئونة زائدة ، لكونه مركبا من الطلب مع الاذن في الترك ويترتب على ذلك ان المولى اذا كان بصدد البيان. وقد اتى بكلام يكشف عن مراده وكان صالحا لانطباقه على أحد الامرين ، مع ان احدهما لا يحتاج الى مئونة زائدة فحينئذ يحمل كلامه عليه ولا يحمل على ما يحتاج الى المئونة ، هذا إذا أحرز ان المولى في مقام البيان ومع الشك في انه في مقام البيان يحمل عليه أيضا ،

١٧٩

لما عرفت منا سابقا من وجود أصل مقرر عند العقلاء يحرز ان المولى في مقام البيان فيعمل على طبقه في مقام الشك ، كما لا يخفى.

المبحث الثالث في ان الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب كمثل يغتسل ويتوضأ ، هل هي منسلخة عن معنى الاخبار أو انها تدل على وقوع المخبر به في في المستقبل ، أما لغفلة عن موانعه أو لعدم الاعتناء بها أو انها تدل على ايقاع النسبة بداعي البعث والطلب : احتمالات ، قيل بالأول كما يظهر من بعض كلمات القدماء ، بان استعمال الجملة الخبرية في الطلب مجاز ، ولكن لا يخفى انه لا نجد تجوزا فى ذلك بل استعمالها فى المقامين على نحو واحد من غير فرق بين استعمالها فى مقام الاخبار وبين مقام الطلب ، كما قيل بالثاني بتقريب ان المقام من قبيل اخبار بعض الاطباء بوقوع بعض العوارض لاطلاعهم على تحقق بعض اسباب الوقوع. بيان ذلك : ان المولى اذا اخبر بوقوع الفعل من العبد بقوله : يغتسل ، أو يتوضأ أو يعيد ، تعويلا على تحقق مقتضيه لعلمه ان من مقتضيات فعل العبد هو طلب المولى وارادته ، ولكن لا يخفى ان وجود الارادة واقعا لا تكون مقتضية للفعل ، وانما المقتضى له هو وجودها العلمي ، فلو توقف العلم بها على الاخبار بوقوع الفعل لزم الدور الباطل ، وحاصله ان الاخبار بوقوع الفعل يتوقف على تحقق مقتضيه فى الخارج ، وتحقق مقتضيه يتوقف على الاخبار بوقوعه فلذا قوّينا الوجه الاخير لأن استعمال الجملة الخبرية في مقام الطلب على هذا الوجه لم تكن أخبارا عن الوقوع وانما استعملت في ايقاع النسبة بداعي التوسل والتسبب لوقوعها في الخارج ويكشف ذلك عن طلبه وارادته على ايجاد الفعل من العبد وهذا هو السبب في ايجاد الجملة الخبرية ، وليس الغرض منها علمه بتحقق مقتضيه لكي

١٨٠