منهاج الأصول - ج ١

محمّد ابراهيم الكرباسي

منهاج الأصول - ج ١

المؤلف:

محمّد ابراهيم الكرباسي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

وجود جامع بين الافراد الصحيحة ، إذ الفاسدة فاقدة لمراتب الكمالات.

الثاني : ان الظاهر من قوله (ع) : الصلاة قربان كل تقي ، العموم الاستغراقي وحينئذ يعم كل ما سمي بالصلاة فالفاسدة لو كانت من مصاديق الصلاة لكانت خارجة عن العموم حكما ، وهو معنى التخصيص ، وذلك منفي بحكم العام ولازمه خروجها موضوعا. وهو معنى التخصص.

الثالث : ان هذه القضية موجبة كلية تنعكس بعكس النقيض الى موجبة كلية ، فقولنا : الصلاة قربان كل تقي ، ومعراج المؤمن ، وتتهى عن الفحشاء والمنكر تنعكس بعكس النقيض الى قولنا : ما ليس بقربان كل تقى ليس بصلاة ، وما ليس بمعراج المؤمن ليس بصلاة ، وما لم تنه عن الفحشاء والمنكر ليس بصلاة ومن الواضح ان هذه الآثار لا تترتب على الفاسدة لفقدها تلك الكمالات.

الرابع : قوله (ع) : لا صلاة إلا بطهور ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فان الظاهر من النفي نفي الحقيقة ، كما هو مقتضى وضع (لا) لها واستعمالها في نفي الكمال في بعض الموارد من باب نفي الحقيقة ادعاء. ولكن لا يخفى ما في هذه الادلة من النظر.

أما عن الاول : فقد عرفت مما تقدم ان قاعدة وحدة الاثر يستكشف منها وحدة المؤثر ، لو سلمت فانما هي في الواحد بالشخص لا الواحد بالنوع. وأما عن الثاني ، فلأن اصالة العموم على ما سيأتي ان شاء الله انما تجري فيما اذا كان الشك في الحكم مع العلم بانه من مصاديق الموضوع مثلا نعلم بان زيدا عالم ولكن

__________________

فالشك في اعتبار شيء فيها شك في التكليف وان اخذ من آثار المركب فالشك فى اعتبار شيء فيها شك في المحصل وهو مجرى الاشتغال.

١٠١

شككنا في ان زيدا هل خرج من عموم اكرم العلماء ام لا؟ فاصالة العموم تدل بان زيدا داخل تحت العام ولا تجري اصالة العموم فيما اذا دار الامر بين التخصيص والتخصص مثلا اذا علم بأن زيدا خرج من حكم العام ولكن شك في ان خروجه من الحكم مع تلبسه بالموضوع فيخرج حكما ويكون من التخصيص أو خروجه من الحكم لعدم انطباق الموضوع عليه فيكون خروجه موضوعا فيكون من التخصص فلا يتمسك باصالة العموم ليحكم بانه خرج من الموضوع والمقام من هذا القبيل إذ الفاسدة علم بانها غير ناهية عن الفحشاء فخرجت من الحكم ولم يدل دليل على انها ليست بصلاة ليكون خروجها خروجا موضوعيا.

واما عن الثالث فان القضية الكلية اذا كانت بصورة الخبر احتملت الصدق والكذب فيجب تصديق ظهورها في العموم بدليل التعبد اذا كان هناك اثر عملي يترتب على مطابقتها للواقع كما هو كذلك في مفروض البحث فاذا كان دليل التعبد غير واف في الدلالة إلا بالنسبة الى ما هو معلوم الفردية فلا تحكم بصدق القضية إلا بالنسبة الى الافراد المعلومة الاندراج دون المشكوكة الذي وقع الكلام فيها بين الفريقين ، فاذا عكست بعكس النقيض كان العكس اللازم الصدق ليس إلا بالنسبة الى تلك الافراد المعلومة الاندراج دون غيرها التي هي مشكوكة الاندراج. وبالجملة الذي يتحصل في القضية الكلية بمعونة دليل التعبد ليس إلا كلما علم اندراجه في مسمى الصلاة تكون ناهية عن الفحشاء والمنكر فالمستفاد من عكسها ان الذي ليس ناهيا عن الفحشاء والمنكر لم يكن من الافراد المعلومة الاندراج وهذا المعنى المستفاد من العكس لا يجدي الخصم فيما يرومه من اثبات مدعاه بالنسبة الى خروج الفاسد عن الصلاة إذ لا يقتضي إلا الخروج عن الافراد المعلومة

١٠٢

الاندراج وهذا مما لا يتحاشاه كلا الفريقين.

وأما عن الرابع فقد أجاب المحقق القمي عنه بما حاصله ان الظاهر من هذه الجمل هو نفي الصفة أي الكمال لغلبة استعمال (لا) في نفي الصفة وبذلك يرتفع ظهور (لا) في نفي الحقيقة. ومنه يعلم عدم صحة الاستدلال على الصحيح بمثل لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب الظاهرة في نفي الصفة كما انه لا وجه للاستدلال على الصحيح بالتبادر وعدم صحة السلب فان ذلك يحتاج الى اثبات اذ من المحتمل أن يكون التبادر اطلاقي ينشأ من إطلاق اللفظ على انه يصح اطلاقها على الصلاة الفاسدة كما تجدهم يقولون : الجماعة يشتغلون بالصلاة مع العلم بفساد صلاتهم وظاهر الاطلاق ان يكون على نحو الحقيقة فلا يصح السلب كما لا يخفى.

ادلة القول بالاعم

استدل للقول بالاعم بامور : منها التبادر وصحة السلب ولا يخفى ما فيهما ، ومنها ما ورد من اخبار الأئمة عليهم‌السلام كقوله تعالى : (بني الاسلام على خمس الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ولم يناد أحد كما نودي بالولاية فاخذ الناس باربع وتركوا هذه فلو ان أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صومه ولا صلاته) بتقريب ان الظاهر من (الاربع) في الرواية الصلاة والصوم والزكاة والحج هو الاعم من الصحيح والفاسد إذ لو لم يكن للاعم بل كان لخصوص الصحيح لا معنى لاطلاقها حينئذ إذ هي فاسدة مع عدم الاخذ بالولاية ودعوى انه لا دلالة لذلك فان الاطلاق انما هو من جهة اعتقادهم بالصحة ممنوعة إذ ذلك ينافي سوق الرواية فانها في مقام اطلاق الاربع على تلك المذكورات على

١٠٣

ان ذلك لا يلائم قوله بني الاسلام فان البناء يلائم الصحة الواقعية. وبالجملة لو أريد بالاخذ بالأربع ما هو صحيح باعتقادهم حصل الاختلاف بين المشار والمشار اليه مع انه ينافي ما بني الاسلام عليه ، وان اريد الاعم لم يحصل ذلك إذ من الجائز ان يكون المراد من تلك الالفاظ خصوص الصحيح بدالين بنحو يكون الجامع مستفادا من اللفظ وقيد الصحة مستفادا من دال آخر والاربع خصوص الفاسد بان تكون الماهية مستفادة من حاق اللفظ وقيده من دال آخر ، ولكن لا يخفى ان الاستدلال بهذه الرواية على القول بالاعم محل للمنع لانه يلزم على ارادة الاعم ان يكون الأخذ بالاربع غير ما بني عليه الاسلام لأنه انما يبنى على الصحيح الواقعي لا الاعتقادي فحينئذ لو بني على الأعم فلا بد من التجوز في الرواية على أن الاستعمال أعم من الحقيقة مضافا الى ان الاستدلال بهذه الرواية يظهر منها ان الشرط غير معتبر في المسمى ولا يكون ردا للقول بالصحيح بمعنى كونه جامعا للاجزاء دون الشرائط. نعم يصلح ان يكون ردا لمن يقول بالصحيح بمعنى كونه جامعا للاجزاء والشرائط ودعوى ان الولاية شرط في القبول في غير محلها إذ الظاهر من الاخير ان المقرب هو نفس العبادة واما مع عدم الولاية لا تقرب بها اصلا مضافا الى انها مشتملة على التكتف في الصلاة وعدم المتعة في الحج والافطار قبل الغروب في الصيام مع انها يطلق عليها انها عبادة فلو كانت أساميها موضوعة لخصوص الصحيح لما صح ذلك الاطلاق.

ومنها قوله (ع) : دع الصلاة أيام اقرائك الظاهر أن هذا النهي مولويا وهو يقتضي ان يكون التحريم ذاتيا لا تشريعيا. فعليه المتحصل من الرواية ان الحائض يحرم عليها إتيان الصلاة في حال حيضها. وحينئذ لا بد ان تحمل الصلاة

١٠٤

على الأعم في هذه الرواية إذ لو لم تكن للأعم لحصل التباين بين الاتيان بها في حال الحيض وبين اتيانها فى حال عدمه لأن اتيانها في حال الحيض فاسدة وفي غير حال الحيض صحيحة وظاهر هذا التعبير هو الاتحاد بين اتيانها فى حال الحيض وعدمه ولكن لا يخفى ان ذلك لا يثبت إلا استعمالها فيه وهو أعم من الحقيقة. ومنها لا اشكال انه يتعلق النذر وشبهه بالصلاة بالحمام ويحصل الحنث لو أتيت الصلاة فيه وليس إلا ان الصلاة اسم للاعم إذ لو كانت اسم للصحيح لما حصل الحنث باتيانها فى الحمام مع ان الحنث فرع التمكن منه ولو كانت الصلاة اسم للصحيح لما أمكن اتيانها لعدم القدرة عليها بل يلزم من وجود النذر عدمه وقد أجاب الأستاذ قدس‌سره بما حاصله ان متعلق النذر هو الاعم ولا يصح تعلقه بالصحيح وذلك لا ينافى وضع اللفظ له على أنه يمكن القول بان متعلق النذر خصوص الصحيح والمراد به الصحة اللولائية أي صحيح لو لا النذر. فعليه يحنث لو أتي بمتعلق النذر مضافا الى ان الفساد الحاصل من طرو النذر ليس مأخوذا فى متعلقه لاستحالة أخذ ما يتأتى من قبل الحكم فى متعلقه فليس متعلق النذر إلا الصلاة الصحيحة في نفسها والحق في الجواب ان الصلاة المتعلق بها النذر تكون مكروهة وقد اختلفوا في معنى الكراهة فى العبادة فقيل معناها المرجوحية وقيل اقلية الثواب ومنشأ الاختلاف ان المرجوحية راجعة الى نفس الكينونية في الحمام لا الى ذات العبادة او ان النهي تعلق بنفس العبادة المتكيفة بالخصوصية الكذائية إذ لا معنى لمرجوحية العبادة فلذا يئول الى اقلية الثواب فعلى القول الأول النذر يتعلق بالخصوصية إذ في تركها رجحان وأما نفس العبادة لم يتعلق النذر بها لرجحانها فليس في تركها رجحان فحينئذ لا دلالة لصحة تعلق النذر على ارادة الاعم منها

١٠٥

بل لو قلنا بارادة الصحيح منها لأمكن القول بصحة تعلق النذر بها. وأما بناء على القول الثاني فالعبادة راجحة وهو مانع من تعلق النذر سواء قلنا بالصحيح أو بالأعم إذا عرفت ذلك فاعلم ان الحق هو القول بالاعم لامكان تصوير الجامع له من وجوه :

الأول ما ذكرناه سابقا من تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة يمكن تصويره للاعم من الصحيح والفاسد فان المرتبة الخاصة من الوجود السارية فى وجودات الافراد تكون لها سعة بنحو تنطبق على الافراد الصحيحة والفاسدة

الثاني ان كل مصداق من الصلاة الجامع للاجزاء والشرائط يتحقق فيه فعلية التأثير المترتب عليه الاثر فمع انعدام جزء أو شرط لا يتحقق ذلك التأثير الفعلي لأنه منوط بالاجتماع فمع فقد بعضها تحصل شأنية التأثير مثلا ان القوة القائمة بعشرة رجال فى رفع حجر ثقيل من الارض فبالنسبة الى قوة كل رجل منهم لها دخل شأني بمعنى انه لو انضم اليه سائر القوى لحصل التأثير الفعلي وهو معنى القوة الفعلية الحاصلة بالاجتماع فتكون لنا حينئذ قوة فعلية وشأنية ولا بد من ان يكون لهما قدر جامع وهو القوة المعراة عن ملاحظة كل منهما.

اذا عرفت المثال الخارجي فمقامنا نظيره فان الصلاة لما كانت مركبة من عشرة اجزاء مثلا فمع تحققها تحصل المرتبة الفعلية من التأثير وتطلق على التسعة المرتبة الشأنية أي لو انضمت الى الجزء العاشر لحصل فعلية التأثير وهكذا بالنسبة الى ثمانية أجزاء أو سبعة أجزاء أو ستة أجزاء حتى لو بقي جزء واحد من العشرة اطلق عليه المرتبة الشأنية فان كلها قابلة لانطباق لفظ الصلاة عليها وليس ذلك إلا لأجل جامع بين المرتبتين الفعلية والشأنية بنحو يكون انطباقه على القليل كانطباقه على الكثير.

١٠٦

الثالث ما نسب الى المشهور ان الموضوع له هو معظم الاجزاء فانه على ظاهره لا يمكن الاخذ به إلا بتقريب ان الموضوع له هو مصداق هذا المفهوم بنحو الكلي في المعين كالصلاة مثلا المركبة من عشرة أجزاء فالستة أو السبعة أو الثمانية من هذه الاجزاء العشرة كلي في المعين بمعنى انه ينطبق على أي ستة مثلا من هذه العشرة مثل ما لو بعث صاعا من هذه الصيعان فلك ان تختار صاعا ينطبق على أي صاع اردته من الصيعان فى الخارج. هذا كله في تصوير الجامع للاعم وقد عرفت منا سابقا انه يمكن تصوير جامع للصحيح إلا ان الظاهر من الأدلة هو ان المراد من العبادة هو المعنى الأعم مثل قوله (ع) : لا تعاد الصلاة إلا من خمس بتقريب ان معنى الاعادة في النفي والاثبات هو المعنى الاعم الشامل للصحيحة والفاسدة إذ لو كان معناها خصوص الصحيح لما كان معنى لاعادتها إذ لا معنى لاعادة الفاسدة وظاهر هذا الاستعمال هو الاستعمال في المعنى الحقيقي ، ودعوى ان أداة الاستثناء كالعطف توجب اعادة الفعل فان قوله : لا تعاد الصلاة إلا من خمس في قوة قوله وتعاد الصلاة من خمسة فحينئذ تكون الصلاة مستعملة في النفي غير استعمالها في الاثبات مدفوعة لأن أداة الاستثناء كالعطف توجب تقدير المعنى المستثنى منه لا تقدير اللفظ لكي يتكرر استعماله على انه يحتل التركيب إذ يكون معناه ان الصلاة المذكورة في القضية المنفية لا تعاد من اجل أمور خمسة ، وتعاد صلاة اخرى من اجل تلك الامور الخمسة ، وحينئذ يخرج الاستثناء عن وضعه وشأنه لأنه وضع لاثبات ما نفى عن الأول لا لاثبات أمر آخر غير المنفى ومثل قوله من زاد في صلاته فليستقبل فان الظاهر ان لفظ الصلاة قد استعملت فيما زاد المصلي سواء كانت الزيادة حقيقية أو تشريعية وظاهر هذا الاستعمال انه بنحو

١٠٧

الحقيقة بلا عناية وتجوز. ويؤيد ما ذكرنا ان عادة الشارع في تكاليفه المتعلقة فى الموضوعات على حسب عادة اهل العرف ولا اشكال ان عادة الواضعين من أهل العرف فيما لو وضعوا لفظا لمركب ذى أجزاء لا يقدح فيه لو اختل بعض الشرائط والاجزاء فكذلك وضع الشارع للالفاظ فقد جرى على حسب عادة الواضعين بالنسبة الى وضعهم من ان اخلال شيء من الشرائط والاجزاء لا ينافي ذلك في وضعهم هذا اذا قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية ، واما لو قلنا بعدم ثبوتها فالامر اوضح لأنها تكون حينئذ معان عرفية وتجري مجرى سائر الحقائق العرفية التي لا يقدح نقصان بعض الاجزاء والشرائط فيها. ودعوى ان الغرض من الوضع تعيين المسميات الذي هو محل الحاجة وليس إلا المسمى بالصحيح إذ لا يترتب على الفاسد حاجة لكي يوضع للاعم منه ممنوعة بانه قد تمس الحاجة بالوضع للاعم كمثل التمسك بالاطلاق في الفاظ العبادات إذ لو كانت لخصوص الصحيح لما أمكن التمسك بالاطلاق فيها لصيرورتها حينئذ مجملة ويلزم الرجوع الى الاصول ان قلت ان القائل بالصحيح يرجع الى البراءة في الشك بالجزئية فالقائل بالصحيح والاعم متوافقان بالنتيجة لأنا نقول كفى فارقا بينهما انه على القول بالاعم يتمسك في مقام الشك بالجزئية يرفعها بالدليل الاجتهادي ، والقائل بالأعم يتمسك في رفعها بالدليل الفقاهتي ويشهد لما ذكرنا تقسيم الصلاة الى الصحيحة والفاسدة ولو لم يكن بينهما قدر جامع لما صح التقسيم. ودعوى كون التقسيم راجع الى التسمية ممنوعة لأن الصحة والفساد ليستا من أوصاف التسمية وانما هما من اوصاف المعاني فلا بد ان يكون بينهما قدر جامع ليصح التقسيم.

١٠٨

ثمرة النزاع

الأمر الرابع فى بيان الثمرة بين القولين أما الثمرة بين القول بالوضع لخصوص الفرد الكامل كصلاة المختار وما عداها ابدال وبين الوضع للاعم منها ومن ابدالها كصلاة المضطر هو جريان الاشتغال على الاول والبراءة على الثاني ، لأنه على الأول تكون معنى الصلاة هي صلاة المختار وافراد صلاة المضطر معتبرة بنحو البدلية بمعنى ان الايماء جعل بدلا عن الركوع أو السجود ، فاذا شك بجزئية شيء أو شرطية شيء للبدل المفرغ للذمة يلزم الاحتياط بفعله ولا يصح جريان البراءة لكونه من الشك في الفراغ ، وأما على الثاني بان يكون معنى الصلاة هو الجامع بين جميع افرادها الصحيحة فالشك بجزئية شيء أو شرطيته سواء كانت فى حال الاختيار أم الاضطرار يرجع الى الشك في التكليف وهو مجرى للبراءة ولكن لا يخفى ان ذلك يتم فى الاحكام الوضعية غير المشروطة بالقدرة على تنفيذها مثلا تشتغل الذمة بمال الغير بعد وضع اليد مع عدم الاذن من المالك أو تشتغل الذمة بالافتراض منه ونحو ذلك فمع تحقق هذه الاسباب تشتغل الذمة ويخاطب بالاداء ولو لم يقدر على ادائه فمع الشك باعتبار شيء وهو مجرى الاشتغال بخلاف الاحكام التكليفية فانها مشروطة بالقدرة فمع عدم القدرة لا خطاب ، فلو شك فى اعتبار شيء أو شرطيته للبدل المخاطب به في حال الاضطرار يكون من الشك فى التكليف وهو مجرى البراءة كما لو شك في اعتبار شيء فى صلاة المختار كما هو واضح.

فعليه لا ثمرة مهمة بين جعل المراتب الناقصة المجعولة بدلا لصلاة المختار وبين جعلها من مصاديقها. وأما الثمرة بناء على انها من المصاديق وان لفظ للعبادة موضوعة

١٠٩

للقدر الجامع فقيل على الصحيح يرجع الى الاشتغال فيما لو شك في اعتبار شيء في المأتي به. لرجوع الشك فيه الى الشك في السقوط بعد العلم بتوجه التكليف ، وعلى الأعم يرجع الى البراءة لرجوع الشك فيه الى ثبوت التكليف فيما لم يكن شكا فيما له الدخل في المسمى. ولكن لا يخفى ان متعلق التكليف وإن كان هو الجامع إلا أنه قد أخذ باعتبار انطباقه على المركب الخارجي فالشك في الحقيقة متعلق بما ينطبق عليه ذلك الجامع فيرجع الى الشك في التكليف. وانه تعلق بالأقل أو بالأكثر ، فالاقل هو القدر المتيقن لتعلق التكليف ، والاكثر هو المشكوك فيه وهذا الانحلال هو ملاك الرجوع الى البراءة فلذا اكثر القائلين بالصحيح يجرون البراءة ومن هنا شيخنا الأنصاري قدس‌سره جعل الثمرة راجعة الى الاصول اللفظية لتقدمها على الاصول العملية فقال على الصحيح لا يرجع الى الاطلاق ، لاجمال متعلق الخطاب ، وعلى الاعم يمكن الرجوع الى الاطلاق فيما اذا تمت مقدمات الحكمة ولم يكن الشك فيما له الدخل فى المسمى وقد أورد عليه بأن التمسك بالاطلاق انما هو في متعلق الأمر والأمر لا يتعلق إلا بالصحيح ففي الحقيقة الشك فيما يعتبر في المسمى على الأعم راجع الى الشك فيما له الدخل فى المأمور به الصحيح إذ الأعم انما يقول بالتعميم بالتسمية لا بالمأمور به فلا يجوز التمسك بالاطلاق حينئذ مطلقا حتى على القول بالأعم ، ولكن لا يخفى ان ذلك خلط بين مقام الثبوت ومقام الاثبات.

بيان ذلك أن الطلب يتوقف على صحة المطلوب وانه وافيا بتمام المصلحة هذا بحسب الثبوت وأما إحراز المطلوبية والعلم به فغير متوقف على احراز صحته وانما يتوقف على انطباق العنوان الواقع عقيب الأمر على ما يتفاهم عرفا ، فاذا

١١٠

انطبق عرفا كان من ثمراته استكشاف الصحة ، فالصحة عند الأعم ليست عنوانا مأخوذا فى متعلق امر حتى يلزم الاجمال بل الأعم يقتفي الموارد التي يصح اطلاق لفظ الصلاة عرفا فان وجد المورد مما يصح فيه اطلاق لفظ الصلاة عليه بنى على صحته واقعا وإلا فلا.

وبالجملة الفرق بين القولين أن الصحيحي يتخذ الصحة عنوانا للمأمور به والأعمي يتخذها ثمرة له. فالصلاة التي هي بنظر العرف اخذت متعلقة للأمر وهي تصدق على كل صلاة لم تفقد من مقومات التسمية. فحينئذ يتمسك بالاطلاق المستتبع ذلك للحكم بالصحة شرعا. اللهم إلا أن يقال أن الصحة على القول بالصحيح لم تؤخذ في التسمية لا قيدا ولا تقييدا وإنما اللفظ وضع للحصة المقارنة للصحة التي هي توأم معها كما انه على الأعم الامر تعلق بالحصة التي هي توأم مع الصحة.

فبالنسبة الى متعلق الأمر لا يفرق بين القولين إلا في وضع اللفظ للحصة المقارنة على الصحيح ولمطلق الحصة على الأعم وهو غير فارق بالنسبة الى متعلق الأمر فانه متعلق بالحصة المقارنة للصحة على ان هذه الخطابات لا يمكن التمسك باطلاقها على القولين لكونها واردة في مقام التشريع وليست واردة في مقام البيان الذي هو شرط التمسك بالاطلاق مضافا الى أنه على الصحيح وان لم يمكن التمسك بالاطلاق اللفظي فى نفي احتمال جزئية شيء أو شرطيته إلا أنه يمكن التمسك بالاطلاق المقامي المستفاد من رواية حماد المتعرضة لأجزاء الصلاة وشرائطها ، فانها لما كانت واردة في مقام البيان فيمكن التمسك باطلاقها في رفع ما يحمل جزئية شيء أو شرطيته غير المذكورة فيها. وبالجملة عدم ذكر ما يحتمل الاعتبار في الرواية التي هي فى مقام البيان دليل على عدم اعتباره وحينئذ لا ثمرة بين القولين كما لا يخفى.

١١١

الامر الخامس فى المعاملات

المعاملة تارة تطلق ويراد منها المسبب كالملكية الحاصلة من الايجاب والقبول وأخرى تطلق ويراد منها نفس السبب كنفس الايجاب والقبول. فعلى الأول لا مجال للنزاع في أن ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح أو للأعم لما عرفت من أن المتصف بالصحة والفساد عبارة عن مركب ذى اجزاء وشرائط فمع اجتماعها يكون صحيحا ومع فقدان بعضها يكون فاسدا ، ولذا يكون التقابل بين الصحة والفساد تقابل العدم والملكة. وأما البسيط الذي لا جزء له ولا شرط فلا يتصور فيه صحة وفسادا بل يتصف بالوجود تارة وبالعدم أخرى. اللهم إلا أن يقال أن المسبب لو كان أمرا حقيقيا واقعيا يتحقق في الواقع عند تحقق بعض أسبابه ، ونهي الشارع عنه يرجع الى تخطئة العرف لما يرونه سببا يتم ما ذكر. وأما بناء على أن البيع أمر واقعي يتحقق فى الواقع بنحوين من الأسباب وأن اشتراط الشارع في تحقق أحكام البيع من وجوب التسليم وحرمة التصرف في المبيع يرجع الى تحقق البيع بسبب مخصوص. فالسببان وإن اشتركا في إيجاده وتحققه إلا أن الشارع خصص تحققها بسبب دون سبب أو أن مفهوم البيع فى نظر العرف والشرع شيء واحد إلا أن مصاديقه بما انها أمور اعتبارية تختلف باختلاف الاعتبار فيرجع نهي الشارع الى تخطئة العرف في المحققات. فحينئذ النزاع ـ في أن الفاظ المعاملات موضوعة للصحيح أو للاعم له ـ مجال واسع إذ القائل بالصحيح يدعي أن اسماء المعاملات موضوعة للمعاملة التي تترتب عليها آثار الملكية وأحكامها. أما للاشتراط أو للاختلاف بالاعتبار. وبعبارة أخرى أن لفظ البيع مثلا موضوع للاثر

١١٢

المتسبب من السبب المقترن بالشرط ، أو ان لفظ البيع موضوع للبيع الذي يكون مصداقه في نظر الشارع ، والقائل بالأعم يدعي ان اسماء المعاملات موضوعة للمسببات المتحققة في الواقع عند تحقق اسبابها مطلقا ولو مع عدم اقترانها بالشرط أو انها موضوعة لنفس المفهوم مع قطع النظر عن المصاديق إلا أن تحقق الوجه الأول محل إشكال. والاستاذ قدس‌سره جعل النزاع في الاسباب دون المسببات واختار ان وضع الفاظ المعاملات للصحيح من الاسباب وادعى بانها موضوعة للعقد المؤثر لأثر كذا شرعا وعرفا ولكن لا يخفى ما فيه أولا انك قد عرفت انه يمكن جريان النزاع بالنسبة للمسببات أيضا ، وثانيا ان القول بوضعها للاعم هو الحق. وثالثا ان الموضوع له هو العقد المؤثر شرعا وعرفا مبني على ان التأثير والتأثر من الامور الواقعية ولذا ارجع التخطئة الى المصداق مع ان الظاهر انها أمور اعتبارية تترتب عليها آثار شرعا وعرفا وفاقا لما علقه على مكاسب الشيخ قدس‌سره.

اذا عرفت ذلك فاعلم ان الظاهر ان الفاظ المعاملات موضوعة للمسببات لما هو معلوم أن الشارع فى المعاملات ليس له اختراع وانما هو أمضى هذه العناوين بما لها من المعاني العرفية ، ومن الواضح أن معاني الالفاظ عند اهل العرف هي نفس المسببات فان قول القائل باع داره أو بعت داري ليس المراد منه إلا نفس المبادلة ، وعلى ذلك تحمل الاطلاقات والعمومات الواردة في الكتاب والسنة مثل قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) فالعموم فيها محمول على البيع بما له من المعنى العرفي فيكون الشارع قد حكم بصحة كل ما هو بيع عرفا من أي سبب حصل ولازم ذلك إمضاء لسببية كل ما هو سبب عند العرف ، ولذا يمكن التمسك بالاطلاق لرفع احتمال مدخلية شيء فيه عند الشارع نعم لا يمكن التمسك بالاطلاق فيما لو شك في

١١٣

اعتبار شيء عند العرف ، لأن التمسك بالاطلاق انما هو مع تحقق الموضوع له ومع الشك في مدخلية شيء عند العرف يوجب شكا في تحققه فهو من قبيل الشبهة المصداقية التي لا يجوز التمسك بالاطلاق وبالجملة ان الشارع لما أمضى طريقة العرف فيكون ما هو مؤثر عرفا هو مؤثر شرعا فتنزل المؤثرات الشرعية على المؤثرات العرفية ، فلو شك في اعتبار شيء عند الشارع يرجع الى الاطلاق ويتمسك به حتى على القول بالصحيح إذ لا إجمال فيه لحمله على المعاني العرفية. فالمعاني العرفية لما كانت معلومة وليس للشارع اختراع كالمعاني العبادية وانما هي موضوعات امضائية فلو شك في اعتباره شرعا يرجع الى تلك المعاني العرفية.

وبما ذكرنا تعرف أن امضاء المسبب لازم لامضاء سببه ودعوى أن امضاء المسبب لا يلزم منه امضاء السبب لكون كل واحد منهما له وجود مستقل ولذا التجأ بعض الأعاظم قده الى ان العقود والايقاعات بالنسبة الى معانيها آلات لايجاد تلك المعاني عند العرف ، فامضاء تلك المعاني الموجودة بتلك الآلات بنحو العموم امضاء لآلية تلك الآلات وبهذا المعنى صحح التمسك بالاطلاق ولكن لا يخفى ان ذلك لا يرفع الاشكال ، فان العقود والايقاعات مع معانيها تغاير بالوجود فلكل واحد منها وجود غير الآخر ، فان العقود والايقاعات لها وجود تكويني أي أفعال تصدر من الاشخاص وهذه المعاني لها وجود في عالم الاعتبار فكيف يكون امضاء احدهما موجب لامضاء الآخر ، إلا انك قد عرفت ان تعدد الوجود لا يمنع الامضاء بتقريب ان الحكم بنفوذ كل فرد من أفراد المعاملة العرفية الخاصة يلازم امضاء سببية كل ما هو سبب عند العرف وإلا يلزم التخصيص في ناحية العموم والتقييد في ناحية الاطلاق والحاصل ان امضاء المسبب انما هو إمضاء لسببه وإلا

١١٤

كان اطلاق دليل الدال على المسبب مقيدا بغير ذلك السبب المدعى عدم امضائه أو لا يكون له إطلاق وهكذا الحال لو قلنا بأن الفاظ المعاملات موضوعة للاسباب فانه لا مانع من التمسك بالاطلاق على القول بالصحيح لما هو معلوم ان المراد من الصحيح هو الصحيح عند العرف وليس للشارع اختراع فى مقابل العرف. نعم لو قلنا بأن للشارع اختراع في المعاملات وان الفاظها موضوعة للصحيح عنده فحينئذ يكون اللفظ مجملا فلا يتمسك بالاطلاق اللفظي. نعم لا مانع من التمسك بالاطلاق المقامي كما هو واضح.

الاشتراك

الأمر الحادي عشر في المشترك فقد وقع الكلام فيه بين قائل بامكانه أو بامتناعه أو بوجوبه والحق هو الأول لوقوعه ، والوقوع اقوى دليل على الامكان ودعوى امتناعه لأن الاشتراك ينافي حكمة الوضع وهي التفهيم مدفوعة ، اذ ربما تكون الحكمة تحصل بالاجمال واقوى ما يستدل للقائلين بالامتناع بان الوضع عبارة عن اختصاص اللفظ بالمعنى وحقيقة الاختصاص نفي الأغيار ، فاللفظ بازاء المعنى يكون دالا على نفيها ، وحينئذ كيف يوضع اللفظ بوضع آخر الى معنى آخر فوضعه كذلك ينافي الاختصاص ، وبعبارة أخرى وضع اللفظ للمعنى عبارة عن جعل اللفظ مرآة للمعنى وحاكيا له بحيث يكون اللفظ فانيا في المعنى فمع وضعه لمعنى آخر يلزم ان يكون للفظ الواحد فانيا في معنيين وهذا يكون من قبيل وجود ماهيتين لشيء واحد وهو واضح البطلان لان اللفظ لما كان وجودا للمعنى فمع وضعه لمعنى آخر يلزم ان يكون لفظ واحد وجودا لمعنيين ولكن لا يخفى ان وضع اللفظ

١١٥

للمعنى لم يؤخذ بنحو المرآتية وانما هو ايجاد علقة بين اللفظ والمعنى بمعنى انه يوجب استعدادا لأن يكون اللفظ حاكيا للمعنى ولا مانع من ان يكون اللفظ حاكيا لمعنى في آن وحاكيا لمعنى آخر في آن آخر ، فالمشترك عبارة عن ان يكون اللفظ قابلا لأن يكون حاكيا لمعنيين في آنين لا انه يكون حاكيا لمعنيين في آن واحدا ، مضافا الى انك قد عرفت ان الاشتراك واقع في لغة العرب وأدل شيء على الامكان وقوعه وأما الاستدلال للوجوب بتناهي الالفاظ وتناهي المعاني فيجب الالتزام بالاشتراك ففي غير محله لعدم الحاجة الماسة الى تفهيم جميع المعاني بل الحاجة ماسة الى تفهيم ما يتعلق به اغراض كل امة وهي متناهية مضافا الى ان معاني الجزئية غير متناهية واما كلياتها فمتناهية فيمكن الوضع لكلياتها وبذلك يستغنى عن جزئياتها كما لا يخفى.

استعمال اللفظ فى اكثر من معنى واحد

الأمر الثاني عشر في استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد على سبيل الانفراد والاستقلال فقد وقع الكلام فيه على اقوال : ثالثها عدم جوازه في المفرد وجوازه في التثنية والجمع ، وبيان ذلك يتوقف على بيان امرين :

الأول ان المعنى الواحد تارة ينتزع من امور متعددة كالاثنين والثلاث ، وكاسماء الجموع مثل قوم ورهط مما كان وحدة المعنى منتزعا ومؤلفا من وحدات متعددة ، واخرى يكون اللفظ الواحد مستعملا في معنيين او اكثر ، سواء أكان هذا الاستعمال بتصور واحد او بتصور كل واحد من المعنيين ولا إشكال ان النحو الأول خارج عن حريم النزاع.

١١٦

الثاني : ان الاستقلال تارة يعتبر بالنسبة الى اللحاظ فيكون كل واحد من المعنى مستقلا باللحاظ ، وفي قباله لحاظ واحد متعلق بالمتكثرات ، واخرى يعتبر بالنسبة الى ارادة التفهيم مع قطع النظر عن اللحاظ إذ قد يكون لحاظ واحد يتعلق بالمتكثرات مع ان ارادة التفهيم تتعلق بكل واحد منها بنحو الاستقلال ، وثالثة تعتبر بالنسبة الى الحكم الواقعي فقد يكون كل واحد من المتكثرات قد تعلق به حكم مستقل مع لحاظ واحد تعلق بالمتكثرات كقوله (ص) : «رفع عن امتي تسعة أشياء» ومحل النزاع بالاستقلال هو المعنى الأول. لا الاخيرين إذ لا إشكال في جوازه عليهما ، نعم يظهر من صاحب المعالم (قده) ان المراد بالاستقلال فى محل النزاع هو الاخير حيث قال بما ملخصه : «على ان كلا من المعنيين مناط للنفي والاثبات» فان النفي والاثبات من متعلقات الحكم الواقعي فما ذكره (قده) عبارة اخرى عن الاستقلال في الحكم ، ولكن لا يخفى ان مراد صاحب المعالم قدس‌سره من الحكم النسبة الكلامية لا الحكم الواقعي فان الحكم الواقعي كما عرفت لا يلازم الاستقلال في اللحاظ بخلاف الاستقلال في الحكم بمعنى النسبة الكلامية فانها تلازم الارادة الاستعمالية وهي لا تحصل إلا بالاستقلال في اللحاظ الذي هو محل النزاع وغير هذا المعنى سواء أكان استقلالا فى الحكم أو استقلالا في ارادة التفهيم خارج عن حريم النزاع. وكيف كان فقد تخيل بعض بانه يستغنى عن قيد الانفراد والاستقلال في العنوان بذكر لفظة (باكثر من معنى واحد) إذ لو كانت المتكثرات بلحاظ واحد لا يكون من الاستعمال في اكثر من معنى واحد بل يكون من الاستعمال فى معنى واحد ولا يخفى انه تخيل فاسد ، إذ الاستعمال عبارة عن جعل اللفظ قالبا للمعنى ومرآة له ولحاظه كذلك إنما يتأتى من قبل

١١٧

الاستعمال فلا يعقل ان يؤخذ في المعنى المستعمل فيه لتأخره عنه تأخر الحكم عن موضوعه فمع لحاظ واحد يتعلق بالمتكثرات تكون جهة الكثرة ملحوظة بلحاظ واحد وبالجملة اللحاظ والملحوظ لا تلازم بينهما من حيث التعدد والوحدة فربما يكون اللحاظ واحدا والملحوظ متعددا كلحاظ النقاط المتعددة الملحوظة بلحاظ واحد.

إذا عرفت ان محل النزاع هو الاستقلال في اللحاظ الاستعمالي ، فاعلم ان الحق عدم جواز استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد مفردا كان أو مثنى أو جمعا. لأن الاستعمال لما كان عبارة عن جعل اللفظ مرآة وحاكيا للمعنى والنظر اليه نظرا آليا فلو استعمل اللفظ في اكثر من معنى واحد يلزم ان يلحظ اللفظ الواحد بلحاظين آليين فى آن واحد وذلك غير معقول. بل قد يدعى عدم معقولية ذلك بناء على كون الالفاظ بالنسبة الى معانيها بنحو الامارة والعلامة ، غاية الامر ان جهة الاستحالة تختلف فبالنسبة الى كونها بنحو المرآتية لمعانيها تستند الاستحالة الى قيام اللحاظين باللفظ في آن واحد لجعله في هذه الصورة مرآة وحاكيا فيتوجه اللحاظان الى نفس اللفظ الذي اخذ طريقا وحاكيا للمعنى ، وأما بالنسبة الى كونها اخذت بنحو الامارية لمعانيها فالاستحالة لم تستند الى اللفظ لعدم كونه حاكيا بل اخذ علامة ويمكن ان يكون الشيء الواحد علامة لأمور متعددة ، وإنما الاستحالة حينئذ تستند الى قيام اللحاظين بملاحظ واحد في آن واحد ، ولكن الانصاف انه لا استحالة فى تعدد اللحاظ فى آن واحد بملاحظ واحد ، حيث ان النفس لما كانت من الجوهر البسيط وهو يقبل اجتماع الامثال والاضداد في آن واحد ، ولذا تجد في النفس انك في حال حبك لشيء تكره شيئا آخر وفي حال ارادتك لعمل تريد عملا آخر مع انه لا اشكال فى ان صدور الارادة عن تصور

١١٨

ولحاظ ولازم ذلك صدور كل ارادة لعمل خاص عن لحاظ وتصور ، وذلك جمع بين اللحاظين في آن واحد بملاحظ واحد ويظهر لك ذلك جليا انك تجد في نفسك في آن واحد حكمك على أمر وهو يستدعي تصور الموضوع والمحمول والنسبة بتصورات عديدة في آن واحد ، وحيث بنينا علي ان الالفاظ بالنسبة الى معانيها على نحو المرآتية والحكاية فيكون النظر الى اللفظ في مقام الاستعمال نظرا آليا ، وحينئذ لا يعقل ان يلاحظ نفس اللفظ في آن واحد بلحاظين آليين وهو لازم لاستعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد وهو الموجب للقول بعدم جوازه ولو لا ذلك لكان القول بالجواز هو الحق لعدم صلاحية ما ذكر لعدم الجواز من وجه فان دعوى ان الالفاظ بالنسبة الى معانيها في مقام الاستعمال تعد من الوجودات التنزيلية والوجود التنزيلي كالوجود الحقيقي فكما لا يعقل ان يكون له ماهيتان كذلك بالنسبة الى الوجود التنزيلي لا يعقل ان يكون الوجود الواحد وجودين تنزيليين ، فمع استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد يلزم ان يكون الوجود الواحد وجودين تنزيليين. وهو باطل بالضرورة في غير محلها ، لأن ذلك فى الوجود بالذات أمر مسلم حيث ان الوجود الواحد الحقيقي لا بد وان تكون له ماهية واحدة ولا يعقل ان يكون الوجود الواحد له ماهيتان سواء قلنا باصالة الماهية أو باصالة الوجود ، وأما في الوجود التنزيلي كما فى المقام فلا نسلّم ذلك لأنه لما كان من الامور الاعتبارية فهو تابع لنظر المعتبر فيجوز له ان ينزل أمرا واحدا منزلة أمرين كما ان الاستدلال على عدم الجواز بان العلم بوضع اللفظ للمعنى وسماعه علة لتصور المعنى ، فمع استعماله في أكثر من معنى واحد يلزم ان يكون الشيء الواحد علة لاكثر من معنى واحد ولازمه صدور الكثير من الواحد وهو

١١٩

محال في غير محله ، فان سماع اللفظ بعد العلم بالوضع ليس علة تامة لتصور المعنى ولذا سماع لفظ المشترك لا يكون علة تامة لتشخيص أحد المعنيين إلا مع القرينة وكما استدل على عدم الجواز حقيقة وجوازه مجازا بتقريب ان لفظ المشترك موضوع للمعنى مع قيد الوحدة فاذا استعمل اللفظ في اكثر من معنى واحد زال قيد الوحدة ويكون الاستعمال مجازا من حيث ان اللفظ الموضوع للكل استعمل في الجزء واستعماله كذلك يكون مجازا ، وبه قال صاحب المعالم (قده) في غير محله لما عرفت ان الموجب لعدم الجواز كون اللفظ مجمعا للحاظين آليين في آن واحد والمجازية لا ترفع المحالية مضافا الى ان الوحدة التي اخذت في المعنى الموضوع له ان اريد بها الوحدة الذاتية التي هي قائمة في الموجودات الخارجية فهي لا تزال مع انضمام المعنى الى شيء آخر في مقام الاستعمال اذ كل واحد من المعنيين واحد بالذات وان اريد منها الوحدة في الوجود فهو أوضح فسادا من سابقه اذ الانضمام لا يجعل المعينين الموجودين وجودا واحدا ، وان اريد بها الوحدة في الاستعمال فهو صحيح إلا انها ليست مأخوذة في الموضوع له او المستعمل فيه لأنها جاءت من قبل الاستعمال فهي متأخرة عنه فكيف تؤخذ فيه ولذا صاحب القوانين (قده) لم يأخذ الوحدة في الموضوع له مع انه قائل بعدم جواز استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد وحاصل ما ذكره (قدس‌سره) هو ان الواضع وضع اللفظ في حال الانفراد والوضع أمر توقيفي لا يجوز التعدي الى غيره فلو انضم الى معنى آخر في مقام الاستعمال فقد خالف نهج الواضع ومقرراته فهو على ظاهره يمنع أشد المنع إذ حالات الواضع وصفاته لا تكون ملحوظة في مقام الاستعمال ، وإلا لكان لحاظ كونه ضاحكا أو قائما أو غير ذلك من الحالات الحاصلة حين الوضع

١٢٠