المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

هذا التقرير فإنه يلزم أن يكون اختصاص جرم الفلك المعين ، وبهذه الحركة المعينة ، رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح. فعليكم أن تقيموا الدلالة على أن ذات الفلك المعين قابلة لجميع أنواع الحركات المختلفة ، حتى يتوجه النقض. ومعلوم أن هذه المقدمة ليست بينة لذاتها ، لأن الحركة من المشرق إلى المغرب مضادة للحركة من المغرب إلى المشرق ومخالفة لها. ولا يلزم من كون الشيء قابلا لصفة ، كونه قابلا لما يخالف تلك الصفة وتضادها. لأنه لم يثبت في العقل : أن الماهيات المختلفة يجب استواؤها في اللوازم والأحكام، فمن المحتمل أن يقال : جرم هذا الفلك لا يقبل إلا هذا النوع من الحركة ، وبهذا التقدير لم يكن اختصاص هذا الفلك المعين (١)] بهذه الحركة المعينة رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، بخلاف الدليل الذي ذكرناه. لأنا قلنا : العالم لما حدث في ذلك الوقت ، فلو كان حدوثه قبل ذلك ممتنعا لزم أن يقال : إنه انتقل من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي ، وهو محال. أما هاهنا فجرم الفلك لم ينتقل من نوع من الحركة إلى نوع آخر ، بل الحاصل فيه [ليس (٢)] إلا هذا ، فلم [يبعد (٣)] أن يقال : الممكن ليس إلا هذا النوع ، أما سائر الأنواع فهي ممتنعة أبدا. فظهر الفرق بين البابين. فإن قالوا : هذا الفرق الذي ذكرتم إنما يتلخص لو ثبت أن الحركة الواقعة على هذا الوجه الخاص مخالفة بالماهية ، للحركة الواقعة على سائر الوجوه ، فما الدليل على أن الأمر كذلك؟

بل نقول : الدليل على تساوي هذه الحركات في تمام الماهية وجهان :

الأول : إنه لا معنى للحركة إلا الانتقال من جهة إلى جهة ، والحركات بأسرها متساوية في هذا المعنى ، فوجب كونها متساوية في تمام الماهية.

الثاني : إن الأجسام متساوية في تمام الماهية (٤) وكل ما صح على شيء ،

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

(٣) من (س)

(٤) من (س)

٨١

فإنه يصح على مثله. ثم إن الفلك الأعظم متحرك من المشرق إلى المغرب ، وفلك الثوابت متحرك من المغرب إلى المشرق ، وإذا ثبت تماثل الأجسام بأسرها ، وجب أن يصح على كل واحد من هذين الفلكين ، ما حصل للآخر من الحركة. وحينئذ يعود الإلزام. هذا تمام [تقرير (١)] هذا السؤال.

واعلم أن هذا الكلام ضعيف. أما قولهم : ما الدليل على أن هذه الحركات مختلفة بالماهية؟ قلنا : الدليل لا يلزمنا في المقام. وذلك لأنا قلنا : اختصاص حدوث العالم بوقت معين : يقتضي رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح. وأنتم ادعيتم أن مثل هذا الإلزام لازم في صورة الحركة. فما لم تقيموا الدليل على أن قبول الفلك المعين لجميع أنواع الحركة (٢) على السوية ، فإنه لا يتم إلزامكم. فيثبت : أنكم أنتم المطالبون بذكر هذا الدليل. بل نقول : لو كانت الحركتان متساويتين بالنسبة إلى ذلك الفلك المعين ، لكان اختصاصه بتلك الحركة المعينة دون سائر الحركات رجحانا لأحد طرفي الممكن لا لمرجح ، وهو محال.

وأما الذي احتجوا به أولا على تماثل هذه الحركات في تمام الماهية : فضعيف. لأنا نقول : لم لا يجوز أن يقال : [المفهوم (٣)] الذي ذكرتموه من الحركة : مفهوم جنسي. ويدخل تحته أنواع كثيرة ، ويكون كل نوع من أنواع الحركة : ممتازا عن الآخر بفصل (٤) مقوم لماهيته المخصوصة. ألا ترى أن العقلاء اتفقوا على أن الحركة من المركز إلى المحيط ، مخالفة بالماهية للحركة من المحيط إلى المركز ، مع كون كل واحدة منهما مشاركة للأخرى في كونها انتقالا من حيز إلى حيز. فكذا هاهنا.

وأما الذي احتجوا به ثانيا من أن الأجسام متساوية في تمام الماهية ، فوجب ،

__________________

(١) من (ط)

(٢) الحركات (ط)

(٣) من (ت)

(٤) ممتازا عن الحركة (ت).

٨٢

أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر. فنقول : هذا بناء على أن الأجسام متساوية في تمام الماهية. وهذه المقدمة ضعيفة. وأيضا : فلو سلمنا ذلك ، إلا أن مذهب الفلاسفة : أن الجسمية صورة حالة في مادة. ومذهبهم : أن مادة كل فلك مخالفة لمادة الفلك الآخر ، وإذا كان كذلك ، لم يلزم من كون أحد الفلكين قابلا لنوع مخصوص من أنواع الحركة ، كونه قابلا لسائر أنواع الحركة (١) ولأجل هذا الحرف. زعموا : أن الخرق والالتئام ممتنعان على الأفلاك. وأيضا : فبتقدير أن يثبت تماثل الأجسام ، لزم القول بأن كل ما يصح على هذه الأجسام السفلية فإنه يصح أيضا على الأجرام الفلكية ، وحينئذ لا يختص الإلزام المذكور بتعين النقطتين للقطبية ، وتعين تلك الحركة المخصوصة بأن تكون أولى بالوقوع. بل يعود الإلزام في اختصاص جرمية ذلك الفلك ، بذلك الشكل المخصوص [وبذلك الحيز المخصوص (٢)] وبتلك الصفات المخصوصة [والله أعلم (٣)].

وأما النقض الثالث : وهو اختصاص موضع معين من أجزاء الفلك بحصول الكواكب فيه. فهذا الإلزام صعب مشكل. والذي يمكن أن يقال فيه : وجوه :

الأول : إن الذي ذكره الحكماء على كون الفلك بسيطا : مختص بالفلك الأعظم ، الذي هو فلك المحدد للجهات ، أما سائر الأفلاك فلم يحصل لهم دليل على كونها بسيطة. وهذه الكواكب مركوزة في سائر الأفلاك ، وأما الفلك الأعظم فلم يثبت حصول شيء من الكواكب فيه ، فالفلك الذي اختلفت طبائع جوانبه ، بسبب حصول الكواكب (٤) في بعض جوانبه دون البعض ، لم يثبت بالدليل كونه بسيطا ، والفلك [الذي (٥)] ثبت بالدليل كونه بسيطا ، لم

__________________

(١) الأنواع من الحركة (ط)

(٢) من (ط).

(٣) من (ت).

(٤) الكوكب (ط)

(٥) من (ط ، س)

٨٣

يحصل فيه شيء من الكواكب ، فزال السؤال.

الوجه الثاني في الفرق : أن يقال : إن القوم لا يقولون : إن الفلك حصل فيه ذلك التجويف ، ثم حصلت الكواكب (١) فيه ، لأن هذا يقتضي حصول الخرق والالتئام على الفلك ، بل يقولون (٢) : حصول الكوكب مقارن لحصول الفلك ، فما كان الفلك حاصلا قبل حصول ذلك الكوكب حتى يقال ليس حصول الكوكب هاهنا أولى من حصوله في موضع آخر ، ولما ثبت أن حصول الكوكب ، وحصول الفلك معا ، فبعد ذلك يمتنع انتقال الكوكب من ذلك الموضع ، لأن تجويزه يوجب تجويز الخرق والالتئام على الفلك ، وأنه محال. فلهذا السبب بقي ذلك [الكوكب في ذلك (٣)] الوضع المعين من الفلك.

الوجه الثالث : لا يبعد أن يقال (٤) : إن تركيب جرمية الفلك ، إنما صدر عن نفس أو عقل ، ويكون ذلك الشيء قابلا للإرادات المختلفة بحسب الشرائط المختلفة ، أما المبدأ الأول فإنه لا يقبل الصفات المتغيرة (٥) فظهر الفرق.

وأما النقض الرابع : وهو اختلاف جانبي المتمم الواحد في الغلظ والرقة.

فالأجوبة المذكورة في اختصاص الكوكب بالجانب المعين من الفلك عائدة فيه. ثم هاهنا جواب آخر وهو : أن هذا السؤال إنما يتم لو كان كل واحد من جانبي المتمم ، مساويا للجانب الآخر في الشرائط المعتبرة ، في حصول الغلظ والرقة. وهذا ممنوع. وذلك لأن الجانب الرقيق لو فرضناه غليظا لزم تداخل

__________________

(١) حصل الكوكب (ط)

(٢) يقول (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) أن يقال : أن ركب تركيب (ت)

(٥) المعتبرة (ت)

٨٤

الأجسام ، والجانب الغليظ لو فرضناه رقيقا لزم حصول الخلاء ، وكل ذلك محال. فثبت : أن الشرائط المعتبرة في حصول الغلظ والرقة مختلفة بحسب اختلاف الجانبين.

وأما النقض الخامس : وهو قولهم : السطح المحدب مخالف للسطح المقعر في الصفات الكثيرة. فنقول : الطبيعة وإن كانت واحدة إلا أن إيجابها لمعلولها ، يختلف بحسب اختلاف الشرائط. فظاهر الكرة ، لا يقبل إلا السطح [المحدب (١)] الواسع ، وباطنها لا يقبل [إلا (٢)] السطح المقعر ، الصغير. ولما اختلفت الشرائط لم يبعد اختلاف الأثر.

وأما النقض السادس (٣) : وهو قولهم : «الجزء الحاصل في ثخن الفلك ، مشارك للجزء الحاصل في سطحه ، في تمام ماهيته (٤)» فنقول : الجواب [عنه (٥)] أن يقال : هذا السؤال غير لازم ، على مذهب الحكماء. وذلك لأن عندهم جسم الفلك متصل واحد ، وهو غير مركب من الأجزاء أصلا ، بل هو في نفسه شيء واحد ، كما أنه عند الحس شيء واحد ، إلا أنه قد يعرض للجسم المتصل أسباب خارجية فيحصل بسبب تلك الأسباب الخارجية أجزاء بالفعل ، كالوهم واختلاف المجاذبات ، إلا أن على هذا [التقدير (٦)] فالجزء يفترض بعد (٧) حصول الكل ، لكن حصول صورة الكل لذلك الجسم الذي هو الكل ، يمنع من انفصال [بعض (٨)] تلك الأجزاء عن بعض ، لما ثبت أن الخرق على الأفلاك : محال. فلهذا السبب امتنع أن يحصل الجزء المفترض في عمق الفلك في سطحه ، وبالعكس.

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) الثالث (ت)

(٤) الماهية (ط)

(٥) من (س)

(٦) من (ط)

(٧) قبل (ت)

(٨) بعض (ط)

٨٥

واعلم أن هذا الجواب حسن بناء على أصولهم. أما على مذهب من يثبت الأجزاء التي لا تتجزأ ، ويقول : كل ما يقبل الانقسام فهو نفسه مركب من الأجزاء. فهذا الجواب لا يستقيم على قوله. إلا أن لصاحب هذا القول أن يجيب عنه بجواب آخر ؛ فيقول : السماء مكونة من اجتماع هذه الأجزاء ، وكل واحد من تلك الأجزاء إنما اختص بموضعه المعين ، ووضعه المعين [بسبب (١)] أن واضعه (٢) السابق أعده لحصول الوضع اللاحق. وهذا عين ما يقول الفلاسفة المتأخرون ، في اختصاص كل واحد من أجزاء العناصر ، بوصفه الخاص ، وموضعه الخاص.

وأما النقض السابع : وهو القول بإثبات أحياز خالية ، خارج العالم. فالكلام فيه مشهور والبحث فيه طويل. فإن أصحاب أرسطاطاليس ينكرون ذلك. ويقولون : إنه ليس خارج العالم لا خلاء ، ولا ملاء. والكلام فيه سيأتي في كتاب مفرد ، إن شاء الله [تعالى(٣)]

وأما النقض الثامن : وهو تولد الأعضاء المختلفة من النطفة المتشابهة الأجزاء. فنقول: لم لا يجوز أن يقال : إن الله تعالى ملكا يصور من تلك النطفة تلك الأعضاء المختلفة ، بحسب المصلحة [والحكمة (٤)] وذلك الملك فاعل مختار ، وعلى هذا التقدير يسقط السؤال. وأما أصحاب أرسطاطاليس. فقد اتفقوا على إسناد تصوير الأعضاء إلى القوة المصورة الحالة في جرم النطفة ، ولا شك أن القول به في غاية البعد ، على ما قررناه في كتاب «القوى الطبيعية» من علم النفس.

وأما النقض التاسع : وهو قولهم : لو كان المعلول من لوازم العلة ، لكان ارتفاع المعلول يدل على ارتفاع العلة. فجوابه : إنه يدل إما على ارتفاع العلة ،

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) وضعه (ط)

(٣) من (س)

(٤) من (س)

٨٦

أو على ارتفاع ما كان شرطا لتأثير العلة ، في جانب المعلول. وذلك الشرط حادث آخر قبله.

وأما النقض العاشر : وهو النقض بالحوادث اليومية. فجوابه : ما تقدم من أن العلة المؤثرة أزلية ، عامة الفيض. إلا أن صدور كل حادث معين عن تلك العلة الأزلية ، مشروط بذلك الحادث الذي كان سابقا عليه. أما قوله : «إن ذلك القديم ما كان علة لهذا المعلول الحادث ، ثم صار علة له ، فهذه العلة صفة حادثة ، فلا بد لها من مؤثر» فنقول : الذي يمكن أن يذكر في دفع هذا السؤال : إن علية الشيء لغيره ، لا يمكن أن يكون وصفا زائدا على ذات العلة. وذات المعلول ، وإلّا فذلك الزائد ، وصف محتاج إلى الغير ، فيكون ممكنا لذاته ، فيفتقر إلى علة ، فتكون علية العلة لتلك العلية زائدة عليها ، ولزم التسلسل. فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في دفع هذا السؤال. وقد مضى في باب إثبات واجب الوجوب : ابحاث عميقة في أن كون الشيء علة [لغيره (١)] هل هو وصف زائد على ذات العلة [أم لا (٢)

واعلم : أن هذا العذر (٣) الذي ذكره الفلاسفة في الفرق بين تكوين كل العالم الجسماني ، وبين تكوين الحوادث اليومية. لو صح واستقام ، فإنه لا يمكنهم مع ذلك أن يحتجوا بالحجة التي ذكروها على قدم الأجسام ، وقدم السموات والأرضين. فإن لقائل أن يقول : لما جوزتم أن تلك العلة القديمة يصدع عنها المعلولات المحدثة ، لأجل أن كل حادث مسبوق بحادث [آخر (٤)] وكان حصول الحادث المتقدم ، شرطا لفيضان الحادث المتأخر عن تلك العلة القديمة ، فلم لا يجوز أيضا أن يقال : جملة الأجسام حادثة ، ولها أول ومبدأ ، إلا أنه كان قد وجد في الأزل عقل أو نفس ، وكان ذلك الجوهر المجرد محلا للحوادث

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) سقط (ط)

(٣) القدر (ت)

(٤) من (ط ، س)

٨٧

النفسانية (١) والتغيرات الادراكية ، وكان كل واحد منها مسبوقا بآخر ، لا إلى أول ، ثم لما انتهت تلك التصورات المتعاقبة ، والادراكات المتلاحقة (٢) في جانب لا يزال إلى تصور خاص ، وتعقل خاص ، وكان حدوث ذلك التصور شرطا لفيضان وجود العالم الجسماني عن العلة القديمة [فلا جرم حدث العالم الجسماني عن العلة القديمة (٣)] في ذلك الوقت. وإذا كان هذا الاحتمال قائما ، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بالحجة المذكورة على كون العالم الجسماني : قديما؟ فهذا سؤال واقع ولا يكاد يمكن دفعه. وهذا آخر الكلام في تقرير هذه الحجة. ومن الله التوفيق [والإرشاد (٤)]

__________________

(١) الجسمانية (ط).

(٢) المتعاقبة (ط)

(٣) سقط (ط)

(٤) من (ت)

٨٨

الفصل الثاني

في تقرير وجوه أخرى من الدلائل

متفرعة على فاعلية المبدأ الأول

اعلم أن للقوم أن يقولوا : الصانع والفاعل من مقولة المضاف. فالصانع مقول بالقياس إلى المصنوع ، كما أن المصنوع مقول بالقياس إلى الصانع ، والمضافان موجودان معا. فإن كان المصنوع موجودا بالقوة ، كان الصانع صانعا بالقوة ، وإن كان المصنوع موجودا بالفعل ، كان الصانع صانعا بالفعل.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : لو لم يكن العالم أزليا ، لما كان المصنوع موجودا بالفعل في الأزل [بل (١)] بالقوة. ولو كان الأمر كذلك ، لما كان الصانع صانعا بالفعل [في الأزل ، بل بالقوة. ثم إذا وجد فيما (٢) لا يزال المصنوع (٣)] فقد صار الصانع فيما لا يزال صانعا بالفعل. فيثبت : أن العالم لو كان محدثا ، لزم أن يقال : الصانع كان صانعا بالقوة ، ثم صار صانعا بالفعل. وكل ما كان بالقوة ثم صار بالفعل ، فانتقاله من القوة إلى الفعل ، ومن العدم إلى الوجود لا يكون لذاته ، وإلا لكان بالفعل أبدا. بل لا بد وأن يكون ذلك الانتقال لأجل أن غيره نقله من القوة إلى الفعل ، فلو كان العالم محدثا ، لاحتاج الصانع إلى شيء ينقله من كونه صانعا بالقوة إلى كونه صانعا بالفعل ، وكل من كان

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) في لا يزال (ط ، س)

(٣) سقط (ت)

٨٩

كذلك ، كان محتاجا في لوازم ذاته إلى الغير ، وكل من كان كذلك ، كان ممكنا لذاته. وهذا على واجب الوجود : محال. وأيضا : فإن هذا الشيء لا يكون مبدأ أولا ، بل هو يفتقر إلى مبدأ آخر. فيثبت : أن واجب الوجود لذاته ، يجب أن يكون صانعا بالفعل أبدا. ومتى (١) كان الأمر كذلك ، كان الصانع موجودا أبدا ، ضرورة أن المضافين لا بد وأن يوجدا معا [والله أعلم (٢)]

الحجة الثانية للقوم : قالوا : المفهوم من كون واجب الوجود لذاته مبدأ لغيره ، أمر مغاير لذات [واجب الوجود ، ولذات (٣)] العالم ، ومتى كان الأمر كذلك ، لزم دوام الأثر بدوام المؤثر. بيان المقام الأول من وجوه :

الأول : إنه يمكننا أن نعقل ذات واجب الوجود ، وأن نعقل ذات العالم ، مع الشك في أن ذات واجب الوجود مؤثر في العالم ، ومع الشك في أن ذات العالم أثر لواجب الوجود ، والمعلوم (٤) مغاير لما هو غير معلوم ، فمؤثرية واجب الوجود في العالم يجب أن يكون زائدا على ذات واجب الوجود ، وعلى ذات العالم.

الثاني : إن كون إحدى الذاتين مؤثرة في الأخرى نسبة بين الذاتين. والنسبة بين الشيئين موقوفة عليهما ، والموقوف على الشيء ، مغاير له. فهذه المؤثرية والأثرية وصفان مغايران للذات.

الثالث : إنا نصف ذات واجب الوجود ، بأنها مؤثرة في وجود العالم ، والمحكوم به لا بد وأن يكون مغايرا للمحكوم عليه. فالمؤثرية صفة زائدة على ذات واجب الوجود.

__________________

(١) وإذا (ط)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) المعلول (ت)

٩٠

والرابع : إنا نقول : إن ذات واجب الوجود ، أو (١) نقول : إن قدرة واجب الوجود أثر في وجود العالم ، بعد أنه ما كان مؤثرا فيه ، فتجدد صفة المؤثرية مع بقاء الذات في الحالتين ، يدل على أن المؤثرية أمر زائد على ذات المؤثر. لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : المراد من كون الذات مؤثرة في ذلك الأثر [هو (٢)] نفس حصول ذلك الأثر؟ لأنا نقول : هذا باطل. فإنا نقول : إنما وجد هذا الأثر ، لأجل أن هذا المؤثر أثر في وجوده ، فعللنا وجود الأثر بكون المؤثر مؤثرا فيه فلو كان [كون (٣)] المؤثر [مؤثرا فيه (٤)] نفس ذلك الأثر ، لكان هذا تعليلا لوجود ذلك الأثر بنفسه وبعينه ، ولكن وجود الأثر بنفسه ، يمنع من تعليله بغيره. فيثبت : أن القول بأن المؤثرية نفس [الأثر (٥)] يمنع من كون ذلك الأثر ، أثرا لذلك المؤثر ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه ، كان باطلا. وأيضا : كون الله موجدا للعالم ، وخالقا له : صفة لذات الله تعالى ، وذات العالم ليست صفة لذات الله تعالى. فيثبت : أن مؤثرية المؤثر في الأثر : مفهوم زائد على [ذات (٦)] المؤثر ، وعلى ذات الأثر.

أما المقام الثاني : وهو أنه لما ثبت هذا ، لزم من قدم المؤثر قدم الأثر. والذي يدل عليه : هو أن هذه المؤثرية إما أن تكون حادثة أو قديمة ، لا جائز أن تكون حادثة ، وإلا لافتقرت إلى محدث ، فيكون إحداث تلك المؤثرية [من (٧)] مؤثرية أخرى. ولزم التسلسل وهو محال. فيثبت : أن تلك المؤثرية قديمة. لكن كون الشيء مؤثرا في غيره : صفة إضافية ، لا يعقل ثبوتها إلا مع ثبوت المضافين ، لأن المؤثر في الأثر ، كما أن الأثر [أثر (٨)] للمؤثر. فلما ثبت

__________________

(١) أن (ت)

(٢) هو (ت)

(٣) كون (ط)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط ، س)

(٦) من (ت)

(٧) من (ت)

(٨) من (ط ، س)

٩١

أن المؤثرية قديمة ، لزم من قدمها. قدم الأثر. وهو المطلوب.

فإن قيل : السؤال عليه من وجهين :

الأول : إن هذا يشكل بكون [الله (١)] مبدأ للحوادث اليومية.

الثاني : إنه [إن (٢)] كان كون الصانع صانعا بالفعل ، يتوقف على كون المصنوع مصنوعا بالفعل ، فحينئذ يكون الصانع محتاجا إلى الوجود المصنوع.

والجواب عن الأول : ما تقدم ذكره في الحجة الأولى ، حيث ذكرنا : أن حدوث كل حادث ، مشروط بحدوث حادث قبله ، لا إلى أول ، فيكون المبدأ الموجب المؤثر ، وهو المبدأ الأول الأزلي القديم [إلا (٣)] أن التخصيص والحدوث ، إنما حصل بسبب هذه الشرائط المتعاقبة.

والجواب عن السؤال الثاني : إن ذات العلة ، موجدة لذاته المعلول ، ثم إذا حصل هاتان الذاتان [حصلت (٤)] بينهما إضافة العلية والمعلولية ، فذات العلة مؤثرة في ذات المعلول بالاتفاق (٥) ثم إذا وجدت ذات المعلول ، فحينئذ تكون هاتان الذاتان موجبتين للإضافتين المخصوصتين ، أعني العلية والمعلولية. هذا تمام تقرير هذا الوجه.

واعلم أن مدار هذه الحجة على أن مؤثرية المؤثر في الأثر : صفة زائدة على ذات المؤثر ، وذات الأثر. وهذا مشكل لأنه لو كان الأمر كذلك ، لكانت تلك المؤثرية صفة مفتقرة إلى ذات المؤثر. والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، والممكن لذاته محتاج إلى المؤثر ، فكانت مؤثرية المؤثر في حصول تلك المؤثرية زائدة. ولزم التسلسل ، وهو محال [والله علم(٦)]

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط)

(٥) بالاستدلال

(٦) من (ت)

٩٢

وقد يعبر عن هذه الحجة بعبارة أخرى : فيقال : لو كان العالم حادثا ، لامتنع أن يدخل في الوجود إلا بإيجاد الفاعل. فنقول : إيجاد الفاعل. إما أن يكون عبارة عن ذات الفاعل ، أو عن ذات المفعول ، أو عن أمر ثالث. فإن كان الأول ، لزم من دوام ذات الفاعل [دوام (١)] ذات المفعول. وإن كان الثاني كان معناه : أن العالم [إنما (٢)] وجد بنفسه. لأنا لما قلنا : إن العالم وجد بإيجاد الفاعل. ثم قلنا : إن إيجاد الفاعل للعالم هو نفس العالم ، كان معنى هذا الكلام : أن العالم وجد بنفسه ، لكن كونه كذلك ، يمنع من إسناده إلى الفاعل ، وذلك محال. فبقي الثالث. فنقول : لا شك أن الموجدية صفة لذات الفاعل ، فهي إن كانت حادثة افتقرت إلى إيجاد آخر. وهو محال. وإن كانت قديمة ، لزم من قدمها قدم المفعول ، لأن كون الموجد موجدا ، حال بقاء المفعول على عدمه الأصلي : محال. [وبالله التوفيق (٣)]

الحجة الثالثة : لو كان العالم حادثا ، لكان حدوثه في الوقت المعين ، إما أن يكون لمجرد كونه قادرا ، أو ليس كذلك. بل لأجل أن الله تعالى أوجده في ذلك الوقت. والأول باطل. لأنه تعالى كان قادرا قبل حصول هذا الوقت ، فكان يجب أن يحدث هذا الحادث قبل حدوث هذا الوقت. بل كان يجب أن يدوم الأثر بدوام كونه [قادرا (٤)] وكما أن (٥) قادريته أزلية ، لزم أن يكون هذا الأثر أزليا. وهو المطلوب.

وأما القسم الثاني : [وهو (٦)] أن يقال : العالم إنما (٧) حدث في هذا الوقت ، لا لأجل أن الله [تعالى قادر ، بل لأجل أنه تعالى (٨)] خلقه في هذا

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ت)

(٦) من (ت)

(٧) لما (ط)

(٨) من (ت)

٩٣

الوقت المعين. فنقول : صدق هذا النفي والإثبات ، يوجب التغاير لا محالة ، فوجب أن يكون المفهوم من كونه تعالى خالقا للعالم في هذا الوقت [المعين (١)] مغاير للفهوم من كونه تعالى قادرا. وإلّا لصار مورد النفي والإثبات ، أمرا واحدا. وذلك محال. وأيضا : يجب أن يكون المفهوم من كونه تعالى خالقا للعالم ، مغايرا لنفس العالم. وذلك لأن سبب وجود العالم هو خالقية الله تعالى له ، والمؤثر مغاير للأثر. فيثبت : أن المفهوم من الخالقية أمر مغاير للقادرية ، وأمر مغاير لذات المخلوق. وإذا ثبت هذا فنقول : لما كان العالم إنما حدث في هذا الوقت لا قبله ولا بعده ، وجب أن يقال : إن كونه تعالى خالقا له ، إنما حصل في هذا الوقت لا قبله ولا بعده ، لأن قبل حدوث العالم كان العالم باقيا على عدمه الأصلي [ومتى كان الأثر باقيا على عدمه الأصلي (٢)] امتنع أن يصدق على المؤثر كونه مؤثرا فيه. فيثبت: أنه لو كان العالم حادثا ، لكان كونه تعالى خالقا للعالم صفة حادثة في ذات الله تعالى. فنقول : وهذا محال لوجهين :

الأول : إن الحادث إما أن يكون مفتقرا إلى المقتضى ، أو لا يكون كذلك. فإن كان الأول لزم افتقار تلك الخالقية الحادثة إلى خالقية أخرى (٣) ولزم التسلسل. وإن كان الثاني وهو أن لا يفتقر الحادث إلى الخالق ، فحينئذ يلزم أن يستغني حدوث العالم في ذلك الوقت عن الخالق ، وذلك يقتضي نفي الخالق. فيثبت : أن القول بحدوث العالم ، يوجب نفي المؤثر ونفي الخالق ، وذلك محال. فما أدى إليه كان محالا.

الثاني : إن حدوث الصفة في ذات الله تعالى ، يقتضي كون ذاته محلا للحوادث ، وأنه محال. على ما بيناه بالبراهين القاطعة ، فكان هذا القول باطلا [والله أعلم (٤)]

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط ، س)

(٣) إلى حادثية أقوى (ت)

(٤) من (ت)

٩٤

الحجة الرابعة : قالوا : لو كان العالم حادثا ، لكان الفاعل الأول لم يزل (١) غير فاعل، وكل ما لم يكن [فاعلا (٢)] فإنه يصير فاعلا على وجه الحكمة ، إلا عند تغير شيء ، لا يكون ذلك التغير (٣) من قبله. وذلك في حق الله تعالى محال. فكان يجب أن يمتنع أن يصير فاعلا [بعد أن لم يكن فاعلا (٤) ولما كان [هذا (٥)] باطلا ، علمنا أنه كان فاعلا لم يزل. فيفتقر هاهنا إلى تقرير مقامين :

المقام الأول : إن الفاعل الحكيم يمتنع أن يكون فاعلا بعد أن كان غير فاعل ، إلا عند تغير شيء لا يكون ذلك التغير من قبله. والدليل عليه : إنا إذا فرضنا رجلا [كان (٦)] جالسا عندنا مدة طويلة باختياره [ثم إنه قام عنا باختياره (٧)] فهذا التبدل إنما حصل ، لأنه حصل تبدل في حالة من الأحوال ، إلا (٨) باختياره ، مثل إنه قرب وصول الليل ، فقام الرجل عن ذلك المكان ، لذلك السبب. أو تذكر مهما كان [قد (٩)] نسيه ، أو وصل إليه خبر كان غافلا عنه. فإذا لم يحدث البتة حادث ، ينقل هذا الرجل عن الرأي الأول إلى ضده، امتنع أن يتبدل حاله في الفعل والترك. ونقول : هذا إما أن يكون ممتنعا ، أو أن لم يمتنع. لكنه يكون سفها ، فإن الرجل إذا كان جالسا في داره مدة سبعين سنة ، ولم يتحرك ولم يشتغل بمصلحة (١٠) ولا بإصلاح حال ، ثم نفر بعد ذلك دفعة واحدة بجد عظيم ، واجتهاد شديد ، وشرع في الأعمال ، وفي نظم المهمات. فإذا قيل له. وما السبب الذي اقتضى الانتقال من الفراغ المتقدم ، إلى هذا الاشتغال التام؟ فإذا لم يذكر فيه سببا البتة ، كان ذلك إما ممتنعا في نفسه ، أو كان محض العبث والسفه. فيثبت بهذا أن القائل المختار الحكيم لا ينتقل من الترك إلى الفعل إلا بسبب متغير ، ويجب أن يكون ذلك التغير لا من

__________________

(١) يكن (ت)

(٦) من (س)

(٢) من (ط ، س)

(٧) من (ط)

(٣) المتغير (ت)

(٨) لا (ط)

(٤) من (ط)

(٩) من (ط ، س)

(٥) من (ط)

(١٠) بمهم (ط)

٩٥

قبله ، إذ لو كان من قبله ، لعاد السؤال [الأول (١)] فيه. وهو أنه لم غيره في هذا الوقت دون ما قبله وما بعده؟ وأما إذا كان [ذلك (٢)] التغير ليس من قبله ، صح ذلك. مثل : [أنه (٣)] لما انتهى النهار إلى آخره ، قام الرجل من مكانه ، وذهب إلى الدار ، ولما قرب هجوم الشتاء أقدم الرجل على تحصيل مهمات الشتاء ، فيثبت بما ذكرنا : أن كل ما كان غير فاعل لم يزل ، فإنه يصير فاعلا إلا لتغير حصل ، لا من قبله. وهذا في حق الفاعل الأول محال. لأن جميع التغيرات إنما حصل بتكوينه وإيجاده ، فامتنع أن يكون تغيره من ترك الفعل إلى تحصيل الفعل ، لأجل تغير وقع لا من جهته ، فلو كان غير فاعل في الأزل ، وجب أن لا يصير فاعلا في لا يزال [وحيث صار فاعلا في لا يزال (٤)] علمنا : أنه كان أيضا فاعلا في الأزل ، ولا يقال : الغرض من الإيجاد : إيصال النفع إلى الخلق ، لأن هذا الغرض كان مطلوبا قبل ذلك. فلم لم يشرع في الفعل ، قبل ذلك؟ ولا يقال : ذلك الوقت إنما اختص بالإحداث ، لأنه أصلح للمكلفين ، أو لأنه تعين بسبب الإرادة (٥) لأنا نقول : ذلك الوقت الذي هو أصلح لإحداث العالم من سائر الأوقات ، إما أن يحدث بإحداث الله [تعالى (٦)] أو لا بإحداثه. فإن حدث بإحداث الله تعالى ، عاد السؤال في أنه : لم فعله ، ولم يفعل غيره؟ وإن كان لا بإحداث الله تعالى ، فهذا قول بأنه قبل إحداث الله [تعالى (٧)] العالم ، كانت الأوقات موجودة ، والتغيرات حاصلة ، فيصير إحداث الله العالم في ذلك الوقت ، جاريا مجرى ما إذا قصد الواحد منا ، إلى السفر حال اعتدال الحر والبرد ، فإنه كان الداعي [له (٨)] إلى تحصيل الربح موجودا قبل ذلك ، إلا أنه كان ينتظر حضور الوقت

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) سقط (ط)

(٥) لأنه تغير بالإرادة (ت)

(٦) من (ط ، س)

(٧) من (ت)

(٨) من (ط ، س)

٩٦

الموافق لهذا العمل. فلما حضر الوقت الموافق ، أقدم ذلك الفاعل على ذلك العمل. فهذا يقتضي أن تكون الأوقات والتغيرات حاصلة ، لا بإحداث الفاعل الأول. وذلك محال. وتمام الكلام في إبطال هذه السؤالات : قد تقدم ، ولا فائدة في الإعادة.

وهاهنا آخر الوجوه المستنبطة من كونه تعالى فاعلا وموجدا ، وبالله التوفيق.

٩٧
٩٨

المقالة الثالثة

في

الدلائل المستنبطة من صفة القدرة

٩٩
١٠٠