المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

المقالة الرابعة

في

ضبط مذاهب أهل العلم

في

الفعل والفاعل

٣٦١
٣٦٢

الفصل الأول

في

ضبط تلك المذاهب بحسب التقسيم

اعلم : أنا نشاهد بأبصارنا هذا العالم العنصري ، ونشاهد أيضا : أن أحوال هذا العالم تتغير عند تغير أحوال الشمس في القرب من سمت الرأس ، وفي البعد منه. فإن بسبب حركة الشمس تحدث الفصول الأربعة. وبسبب حدوثها تتغير أحوال هذا العالم. فهذا المقدار محسوس. ثم عند هذا ترقى العقل واعتبر أحوالا غائبة عن الحس ، وذلك الاعتبار هو أنه يقال : هذا العالم الجسماني. إما أن لا يكون له مؤثر. أو يقال : له مؤثر موجب بالذات. أو يقال له : مؤثر فاعل بالاختيار ، ولا يفعل إلا ما يوافق مصالح الناس ، أو يقال : له مؤثر فاعل مختار ، ولا يبالي بمصالح الناس. فهذه أقسام أربعة. لا مزيد عليها. لأن هذا العالم ، إما أن لا يكون له مؤثر وهو القسم الأول. أو يكون له مؤثر وذلك المؤثر إما موجب وهو القسم الثاني. أو مختار ، وذلك المختار إما أن يراعي مصالح الخلق وهو القسم الثالث. أو لا يلتفت إليها وهو القسم الرابع. فهذا مذهب أهل العلم (١) في معرفة الفعل والفاعل ولا مزيد على هذه الأربعة.

أما القسم الأول : وهو قول من ينفي المؤثر أصلا ، فلا أعرف في الدنيا

__________________

(١) من (ت)

٣٦٣

طائفة قالوا بهذا القول إلا القليل. وهؤلاء على فساد قولهم وقلة عددهم فإنهم ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى : الذين قالوا هذه الأفلاك والكواكب واجبة الوجود بحسب ذواتها [وبحسب صفاتها (١)] وأن طبائعها المخصوصة توجب كونها مستديرة الحركة ، ثم إن حركتها المستديرة أوجبت تولد العناصر ، وأوجبت أيضا امتزاج بعض تلك العناصر بالبعض ، حتى حدثت المواليد الثلاثة. وهؤلاء هم الدهرية الخالصة.

الطائفة الثانية : الذين قالوا : إن هذه الأفلاك والعناصر مركبة من أجزاء كرية الشكل ، صلبة. لا تقبل الانفصال في الوجود ، فإنها متحركة لذواتها من الأزل إلى الأبد ، واتفق [كونها (٢)] في حركاتها المختلفة ، أن تصادمت على وجه خاص ، فتولد هذا الفلك من تلك المصادمات ، ثم تولد من حركات الفلك هذه العناصر المختلفة ، ثم بسبب حركات الفلك ، امتزجت هذه العناصر [المختلفة ، ثم بسبب حركات الفلك ، امتزجت هذه العناصر (٣)] الأربعة ، فحدثت المواليد الثلاثة. وهذا قول : «ديمقراطيس» من القدماء.

والطائفة الثالثة : الذين جوزوا حدوث الحادث ، لا عن سبب أصلا. قالوا : فعلى هذا التقدير ، لا يبعد أن يقال : الأجسام الفلكية حادثة ، إلا أنها حدثت لا لمؤثر أصلا ، ثم تحركت على وجه خاص ، لا لمؤثر أصلا. ثم إن حركاتها صارت أسبابا ، لحدوث الحوادث، في هذا العالم العنصري. ويحتمل أن يقال : إن هذه الحوادث الحادثة في هذا العالم العنصري ، حدثت لا لمؤثر أيضا. فهذه الأقوال الثلاثة متشبعة من قول من ينكر المؤثر أصلا.

وأما القسم الثاني : وهم الذين يثبتون [المؤثر (٤)] الموجب بالذات ،

__________________

(١) من (س ، ط).

(٢) من (ت).

(٣) من (ت).

(٤) من (ط ، س)

٣٦٤

فهؤلاء هم الذين قالوا : هذا العالم جسم ، وكل جسم فإنه ممكن لذاته ، بحسب ذاته ، وبحسب جميع أجزاء ماهيته. وكل ممكن فلا بد له مؤثر. والمؤثر في جميع الأجسام ، يمتنع أن يكون جسما. ثم قالوا : المؤثر على سبيل الاختيار : غير معقول ، بناء على الشبهات التي ذكرناها. فثبت : أن ذلك المؤثر موجب بالذات ، فهذا العالم ممكن الوجود لذاته ، واجب الوجود بوجوب سببه وعلته. وهذا مذهب جمهور الفلاسفة ، الذين هم أتباع «أرسطاطاليس» فإن هذا القول هو الذي اختاره هذا الرجل ، ونصره [أصحابه (١)] وأتباعه من المتقدمين والمتأخرين ثم هاهنا موضعان للبحث :

الموضع الأول : أن يقال : المبدأ الأول. هل يعقل أن يكون مبدأ لجميع الممكنات ، أو يقال: إنه مبدأ لشيء واحد ، ثم ذلك الشيء الواحد يكون مبدأ للكثرة؟.

أما القول الأول : وهو أن المبدأ الأول لجميع الممكنات ابتداء. فما رأيت قوما من الفلاسفة قالوا به. بل اتفقوا على القول الثاني ، وهو أنه تعالى واحد. والواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، فهو تعالى علة للعقل الأول. ثم إن العقل الأول علة لثلاثة أشياء : العقل الثاني ، والنفس ، والفلك. وسيأتي تفصيل قولهم في هذا الباب.

والموضع الثاني من البحث : هو أن يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن واجب الوجود يؤثر في وجود الأجسام ، تأثير على سبيل الإيجاب الذاتي ، ثم إنه يركبها على الصفات المختلفة بحسب اختيارها؟ فعلى هذا التقدير : إنه موجب بالنسبة إلى الذوات ، ومختار بالنسبة إلى الصفات.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقرّ بإثبات [إله (٢)] فاعل بالاختيار لهذا العالم ، ويعترف بأنه لا يفعل إلا ما يوافق مصالح الخلق. وهؤلاء هم الذين أطبقوا على أنه إله العالم ، يجب أن يكون عادلا ناظرا لعباده ، رحيما بهم ،

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (ط) ويقال (ط) ويقر (ت)

٣٦٥

محسنا إليهم. وأنه [تعالى (١)] لا يريد الإضرار والإيلام. ثم إن هؤلاء لما قرروا هذا المذهب ، ثم رأوا هذا العالم مملوءا من الآفات والأسقام والآلام ، والحرق والغرق ، والفقر والموت ، [والزمانة (٢)] والعمى والجنون. فعند هذا أرادوا أن يجمعوا بين ما اعتقدوا من كون الإله منزها عن الإيلام والإضرار والقسوة ، وبين ما شاهدوه من هذه الآفات والمحن. فلهذا السبب اضطربت العقول ، واختلفت الأقوال.

وضبط تلك المذاهب. أن يقال : من الناس من قال : إن هذه الآلام [والآفات (٣)] لم تحصل بخلق الله [تعالى (٤)] ومنهم من قال : إنما تحصل بخلق الله [تعالى (٥)]

أما الأولون : ففريقان : منهم من أثبت للعالم إلهين :

أحدهما : الإله المحسن الرحيم.

والثاني : الإله الشرير [المؤذي (٦)] الضار. وهم الثنوية.

ومنهم من لم يقل بذلك ، بل قال : النفس قديمة ، والهيولى قديمة. فاتفق للنفس التفات إلى الهيولى ، فعشقتها ، فحصل التركيب الذي يوجب الآلام. ثم إن الإله تعالى أوقع ذلك التركيب على الوجه الأصلح ، وكل ما حصل في العالم من الشرور والآفات ، فذاك بسبب أن الهيولى لا يقبل الصلاح ، وكل ما حصل من الرحمة والخير فذاك بسبب إحسان الله ورحمته.

وأما الذين قالوا : إن هذه الآلام حصلت بخلق الله تعالى. فهم فريقان : منهم من قال: إن هذه الآلام حسن خلقها من الله تعالى ، لأن هذه الأرواح كانت في أجساد أخرى فأذنبت وعصت ، فالله تعالى نقلها من تلك

__________________

(١) ٢.

(٤) من (ط).

(٢) من (ط).

(٥) من (ط).

(٣) من (ت).

(٦) من (ط).

٣٦٦

الأبدان ، [إلى هذه الأبدان (١)] وأوصل إليها أنواع العذاب ، مجازاة لها على ذنوبها السابقة، وهم أهل التناسخ. ومنهم من قال : إنها [حسنت (٢)] لأجل أعواض يوصلها إليهم في المدار الآخرة ، وهم المعتزلة. ثم هؤلاء. منهم من اكتفى من حسن الآلام بالعوض. ومنهم من قال : لا بد فيها من العوض ، ومن الاعتبار. أما العوض فيوجب خروج هذه المضار عن أن تكون ظلما ، وأما الاعتبار فيوجب خروجها عن أن تكون عبثا. وهذا قول المحققين منهم.

وأما القسم الرابع : وهم الذين أثبتوا للعالم فاعلا مختارا. وزعموا : أنه يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وأنه لا يلتفت إلى مصالح المكلفين ، ولا إلى مفاسدهم. فهؤلاء هم المجبرة. وهم فريقان :

منهم : من فرع هذه القاعدة على إنكار التكليف وبعثة الأنبياء والرسل ، وأنكر الوعد والوعيد ، والحشر والنشر والقيامة.

وأما أرباب الملل والأديان من المجبرة : فقد أقروا بالتكليف والنبوة. فقد حصل لنا من هذا التقسيم في الفعل والفاعل : أنواع من المقالات :

فالأول : قول الدهرية القائلين بوجوب السموات في ذواتها وفي صفاتها.

والقول الثاني : قول «ديمقراطيس متحركة بذواتها.» الذي قال : أصل العالم أجزاء كرية صلبة

والقول الثالث : قول من يقول : إنه لا يمتنع في العقل حدوث الحوادث لا لمؤثر أصلا.

والقول الرابع : قول من أثبت لهذا العالم مؤثرا موجبا بالذات ، وزعم : أن الصادر الأول منه يجب أن يكون واحدا فقط.

والقول الخامس : قول من يقول : مؤثر العالم موجب بالذات ، إلا أنه علة لجميع الممكنات دفعة واحدة على الترتيب الممكن منها.

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

٣٦٧

والقول السادس : قول من يقول : إله العالم فاعل مختار ، إلا أنه يثبت للعالم إلهين : أحدهما خير ، والثاني (١) شرير.

والقول السابع : قول من يقول : سبب حدوث العالم : تعلق النفس بالهيولى.

والقول الثامن : قول من يقول : إله العالم إنما يخلق هذه الآلام عقوبة للخلق على الذنوب السابقة.

والقول التاسع : قول من يقول : هذه الآلام إنما حسنت من الله [تعالى (٢)] للأعواض التي يوصلها الله إلى الخلق في الدار الآخرة.

والقول العاشر : قول من يثبت الإله القادر المختار ، وينكر التكليف والبعثة.

والقول الحادي العشر : قول المجبرة الذين يثبتون التكليف والثواب والعقاب.

والقول الثاني عشر : قول أهل الحيرة والدهشة ، وعدم القطع بشيء من المذاهب ، والتوقف في كلها.

فهذا ضبط مذاهب الخلق في هذا الباب ونحن نريد أن نشير في كل قسم من هذه الأقسام [المذكورة (٣)] إلى ما فيه من البينات ، وإلى ما فيه من السؤالات [والإشكالات] [ومن الله التوفيق والرحمة والمعونة (٤)]

__________________

(١) والآخرة (ط).

(٢) من (ت).

(٣) من (ت).

(٤) من (ط ، س).

٣٦٨

الفصل الثاني

في

الرد على الدهرية

أما القائلون منهم بأن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها. فاعلم أن [الفلاسفة (١)] الإلهيين أبطلوا قولهم بطريق. والمتكلمون أبطلوا قولهم بطريق آخر.

أما الفلاسفة الإلهيون فقد أبطلوا هذا المذهب من وجوه :

الأول : قالوا : ثبت بالدليل أنه يمتنع وجود شيئين ، يكون كل واحد منهما واجب الوجود لذاته. والأجسام فيها كثرة ، فيمتنع كونها واجبة (٢) الوجود لذواتها.

الثاني : إن هذه الأجسام ، وجودها يغاير ماهياتها. وكل ما وجوده مغاير لماهيته ، فإنه يكون ممكنا لذاته ، لا واجبا لذاته. على ما قررنا هذا الدليل ، في بيان أن وجوده [تعالى (٣)] لا يجوز أن يكون غير ماهيته.

الثالث : إن كل متحيز منقسم ، وكل منقسم فإنه محتاج إلى جزئه (٤)

__________________

(١) من (ت)

(٢) واجب الوجود (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) الجزء (ط)

٣٦٩

الذي هو غيره ، وكل متحيز يحتاج إلى غيره ، فيكون ممكنا.

الرابع : إن كل جسم فهو مركب من الهيولى والصورة ، وكل مركب ممكن. وقد دللنا أيضا : على أنه لا يجوز أن تكون الهيولى والصورة واجبة [لذاتها (١)]

الخامس : إن كل جسم فإنه لا ينفك عن وضع معين ، وعن شكل معين. والمقتضي لذلك الوضع والشكل ، ليس هو ذاته بل غيره. وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته.

فهذه الوجوه الخمسة هي التي عليها تعويل الفلاسفة في بيان أن كل جسم فهو ممكن لذاته.

وأما المتكلمون : فقالوا : دللنا على أن كل جسم محدث [وكل محدث (٢)] فهو ممكن لذاته.

وأما المذهب الثاني : وهو قول (٣) «ديمقراطيس» بأن الأجزاء واجبة الوجود لذواتها ، وهي متحركة لذواتها ، فحصل من حركاتها المضطربة هذه الأفلاك.

فاعلم أن الفلاسفة أبطلوا هذا المذهب من وجوه :

الأول : ما سبق أن الجسم لا يكون واجب الوجود لذاته.

والثاني : إن الجسم يمتنع أن يكون متحركا لذاته.

واحتجوا عليه بوجوه : الأول : إن الجسم غير متغير ، والحركة عبارة عن نفس التغير. والباقي لا يكون علة للمتغير.

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) قول من يقول (ت)

٣٧٠

والثاني : إن الأجسام متساوية في الجسمية. فلو كانت الجسمية علة للحركة ، لوجب أن يكون كل جسم متحركا بالذات.

والثالث : إن الجسمية لما كانت علة للحركة ، وجب أن تكون جميع حركات الأجسام إلى حيز واحد [فيلزم اجتماع الأجسام الكثيرة في الحيز الواحد (١)]

والرابع : إن الجسم قابل للحركة ، فيمتنع أن يكون مؤثرا فيها ، لأن الواحد بالنسبة [إلى الواحد (٢)] لا يكون قابلا وفاعلا معا.

الخامس : إن حركة الجسم ، موقوفة على حركة كل واحد من أجزائه. وما كان موقوفا على الغير ، لا يكون واجبا [بالذات (٣)]

فهذه هي الوجوه التي عولوا عليها في بيان أن الجسم يمتنع أن يكون متحركا لذاته (٤)

والوجه الثالث في إبطال هذا المذهب : إن هذه الأفلاك مع كونها موصوفة بأكمل الصفات ، وأحسن النعوت اللائقة بالأجسام ، يبعد في العقل حدوثها ووقوعها ، على سبيل الاتفاق. وأما المتكلمون فقد أبطلوا هذا القول أيضا بالبناء على حدوث الأجسام.

وأما المذهب الثالث وهو قول من يقول : الحوادث تحدث لا لمؤثر. فالكلام المستقصى فيه ، قد تقدم في مسألة إثبات [الصانع (٥)] واجب الوجود لذاته. وأيضا : فكل ما كان اتفاقيا ، فإنه لا يكون دائما ولا أكثريا. ونحن نشاهد أحوال العالم الأعلى والعالم الأسفل واقعة على ترتيب لازم ، ونظم غير

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط)

(٤) بالذات (ط)

(٥) من (ت)

٣٧١

متغير ، فيمتنع وقوعها (١) على سبيل الاتفاق.

فهذا هو الإشارة إلى معاقد الدلائل في إبطال أقوال الطوائف الدهرية [وبالله التوفيق(٢)]

__________________

(١) وجودها (ط)

(٢) من (ت)

٣٧٢

الفصل الثالث

في

الكلام على القائلين بالموجب

أما الوجوه المذكورة في أن الحق هو القادر المختار ، لا الموجب بالذات. فقد تقدم ذكرها مع شبهات القائلين بالموجب. فلا فائدة في الإعادة. ثم إن القائلين بالموجب الذين يقولون : إنه يمتنع أن يصدر عنه أكثر من معلول (١) واحد. فقد احتجوا بوجوه :

الأول : إن مفهوم كونه مصدرا للألف ، مغاير للمفهوم من كونه مصدرا للباء. فهذان المفهومان إن كانا داخلين في تقويم ماهية العلة ، لزم (٢) أن تكون العلة مركبة. وذلك محال. وإن كانا خارجين عن تقويم الماهية ، كانا لاحقين للماهية ، فكانا مفتقرين إليها ، فكانا ممكنين ومعللين بتلك الماهية. فيعود البحث المذكور من أن المفهوم من كون تلك الماهية علة لأحدهما ، غير المفهوم من كونها علة للثاني. ويلزم التسلسل. وإن كان أحدهما داخلا في الماهية ، والآخر خارجا عنها ، لزم تركب تلك الماهية ، ولزم كون المعلول واحدا. أما تركب تلك الماهية فهو أن كل ماله (٣) جزء فهو مركب. وأما كون المعلول واحدا ، فلأن الداخل في الماهية لا يكون معلولا لها. لأن الداخل في الماهيّة

__________________

(١) معلوم (ت).

(٢) لزم كونها مركبة (ط ، س)

(٣) ما به أخرى (ت)

٣٧٣

متقدم عليها بالرتبة. والمعلول متأخر ، والمتقدم غير المتأخر.

الحجة الثانية : إنه لو صدر عنه الألف ، وصدر عنه الباء أيضا. والباء ليس نفس الألف ، فحينئذ يصدق أن من الاعتبار الذي صدر عنه الألف [لم يصدر عنه الألف (١)] لأن بذلك الاعتبار صدر عنه الباء ، مع أن الباء ليس بالألف. فيلزم أن يقال : إنه بالاعتبار الواحد ، صدر عنه [الألف (٢)] ولم يصدر عنه الألف. وذلك محال :

الحجة الثالثة : إنا لما علمنا : أن طبيعة الماء توجب البرودة ، وأن طبيعة النار توجب تسخين ، لا جرم استدللنا باختلاف هذين الأثرين ، على أن طبيعة الماء ، مخالفة لطبيعة النار. فلما دل اختلاف [الآثار على اختلاف (٣)] طبائع المؤثرات فبأن تدل على تغايرها [أولى (٤)].

الحجة الرابعة : إن العلة لا بد وأن تكون بينها وبين المعلول مشابهة ومناسبة. فإن العلم لا يكون علة للمتحركية ، والحركة لا تكون علة للعالمية. لأنه ليس بين العلم وبين المتحركية [مناسبة (٥)] وأما العلم فإنه يوجب العالمية ، لأنه حصل بينهما مناسبة ومشابهة. إذا ثبت هذا فنقول : لو اقتضت العلة الواحدة معلولين مختلفين ، لزم كون تلك العلة الواحدة متشابهة بالوجه الواحد ، لشيئين مختلفين ، والمشابه للمختلفين ، مختلف. فيلزم كون ذلك الواحد مخالفا لنفسه. وإنه محال.

الحجة الخامسة : إن الموجب الواحد ، إذا تعدى عن إيجاب المعلول الواحد ، لم يكن بأن يوجب عددا ، أولى من أن يوجب عددا آخر. فيلزم أن توجب تلك العلة الواحدة ، معلولات لا نهاية لها. وذلك محال.

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (ت).

(٣) فلما دل اختلاف الطبائع ، فبأن يدل ... الخ (ت).

(٤) من (ت).

(٥) من (ط ، س).

٣٧٤

فهذه جملة دلائل القائلين بأن العلة الواحدة لا توجب إلا معلولا واحدا.

واعلم أن الحجة الأولى منقوضة بصور كثيرة :

فالنقض الأول : إن النقطة التي هي مركز الدائرة ، محاذية لجميع النقط المفترضة [في الدائرة. فنقول (١)] المفهوم من كون ذلك المركز محاذيا لهذه النقطة [المفترضة في الدائرة (٢)] غير المفهوم من كون ذلك المركز محاذيا للنقطة الأخرى. فهذان المفهومان ، إن كانا مقومين لماهية النقطة لزم كونها مركبة ، وإن كانا خارجين كانا لاحقين وممكنين ومعلولين ، فيعود البحث في أن المفهوم من كون تلك النقطة مصدرا لأحدهما ، غير المفهوم من كونها مصدرا للثاني. ويعود الكلام بتمامه.

والنقض الثاني : إن الوحدة إذا ضم إليها وحدة ، صارت مبدأ لهذين الاثنين. وإذا ضم إليهما وحدة أخرى صارت مبدأ للاثنين الثاني.

فنقول : مفهوم كونها مبدأ لهذين الاثنين [غير مفهوم كونها مبدأ للاثنين الثاني (٣)] ويعود التقسيم بتمامه فيه. فيلزم كون الوحدة منقسمة مركبة.

النقض الثالث : لا شك أن كل ماهية بسيطة ، فإنه يسلب كل ما عداها (٤) عنها ، فالمفهوم من كونها بحيث يسلب عنها الألف مثلا ، مغاير للمفهوم من كونها بحيث يسلب عنها الباء. ويعود التقسيم المذكور فيه ، فيلزم : أن لا يسلب عن الواحد إلا الواحد. وإنه باطل.

النقض الرابع : المفهوم من كون الهيولى قابلة لهذه الصورة ، مغاير للمفهوم من كونها قابلة للصورة الثانية ، ويعود التقسيم بتمامه فيه. فيلزم : أن يقال : الهيولى لا يقبل إلا صورة واحدة.

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (ط ، س).

(٣) من (ط ، س).

(٤) ما سواها (ط)

٣٧٥

النقض الخامس : إنا نشاهد أن الجسم الواحد ، قد يكون ساكنا. ثم يزول عنه السكون ، وتحدث فيه الحركة. وكذا القول في تبدل السواد بالبياض ، والظلمة بالنور ، والحموضة بالحلاوة. فنقول : المفهوم من كونه قابلا [للحركة ، غير المفهوم الذي به قابلا (١)] للسكون. فهذان المفهومان. إما أن يكونا داخلين في الماهية ، أو خارجين عنها ، أو أحدهما داخلا ، والآخر خارجا. ونسوق التقسيم إلى آخره. فيلزم أن يقال : الجسم الواحد لا يقبل إلا عرضا واحدا : وهو محال.

النقض السادس : إن العلة التي توجب معلولا واحدا فقط. نقول : المفهوم من [ذات (٢)] تلك العلة غير المفهوم من كونها موجبة لذلك المعلول. بدليل : أنه يصح تعقل كل واحد منهما مع الذهول عن الآخر ، فيلزم أن يكون كونها موجبة لذلك المعلول ، مغايرا لذات العلة. ثم إن كونها موجبة لذلك المعلول ، صفة من صفات تلك الذات ، ولاحق من لواحقها ، فيكون ممكنا. وموجبة : هو تلك الذات. فيلزم التسلسل. فثبت : أن الإلزام الذي ذكرتموه على تقدير كون العلة الواحدة موجبة لمعلولين ، فهو بعينه قائم إذا لم يوجب إلا معلولا واحدا. وإذا كان المحذور المذكور قائما على التقديرين ، امتنع الاستدلال به على إبطال أحد التقديرين.

النقض السابع : المفهوم من كون السواد سوادا ، غير المفهوم من كونه حالا في ذلك المحل فوجب أن يكون حلوله في المحل زائدا عليه. وذلك الزائد أيضا حال فيه. فيلزم التسلسل.

النقض الثامن : المفهوم من كون السواد سوادا ، مغاير (٣) للمفهوم من كونه حادثا في هذا الوقت [فلو كان المفهوم من كونه حادثا : نفس السواد (٤)]

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط)

(٣) غير مغاير (ت).

(٤) من (ت)

٣٧٦

وجب أن يكون حدوثه في ذلك الوقت زائدا عليه. ثم ذلك الزائد أيضا حادث في ذلك الوقت. فيلزم التسلسل.

النقض التاسع : العلة إذا أوجبت معلولا ، وذلك المعلول أوجب معلولا آخر (١) وهكذا إلى آخر المراتب. فنقول : العلة الأولى يصدق عليها أنها علة للمعلول الأول ، وأنها علة المعلول الثاني. وهكذا إلى آخر المراتب. ولا شك أن هذه اللواحق الكثيرة ، لاحقة لذات العلة الأولى. فنقول : المفهوم من كونها علة للألف ، مغاير للمفهوم من كونها (٢) علة لعلة الباء ، ومن كونها علة [لعلة (٣)] علة الجيم. فهذه المفهومات المتغايرة. إما أن تكون مفهومة أو خارجة ، ويعود التقسيم إلى آخره.

النقض العاشر : المفهوم من قولنا : إنه تعالى موجود [مع العقل الأول ، مغاير للمفهوم من قولنا : إنه موجود مع العقل الثاني ، ومع الفلك الأول ، ومع الفلك الثاني. وهكذا الكلام في كونه تعالى موجودا (٤)] مع كل واحد من العقول والنفوس والأفلاك والأعراض والصور. ثم نذكر ذلك التقسيم [إلى آخره (٥)] أو نقول : إنه تعالى قبل كل واحد من هذه العقول والأفلاك ، إما بالعلة أو بالرتبة. ولا شك (٦) أن المفهوم من كونه قبل هذا مغاير للمفهوم من كونه قبل ذلك. فيثبت : أن الاعتبار الذي ذكروه لو صح لزم البسائط بأسرها مركبة ، ولزم كون البارئ [تعالى (٧)] مركبا ، ولزم نفي التأثير والمؤثر على الاطلاق. ولما كانت هذه الأشياء باطلة ، علمنا : أن ما ذكروه باطل [والله أعلم (٨)]

__________________

(١) ثانيا (ط).

(٢) من كونها علة التاء (ط).

(٣) من (ط ، س).

(٤) من (ط ، س).

(٥) من (ط ، س).

(٦) والاتفاق (ت).

(٧) من (ط ، س).

(٨) من (ط ، س).

٣٧٧

والجواب عن الحجة الثانية : أن نقول : العلة الواحدة إذا صدر عنها الألف ، وصدر عنها الباء ـ ولا شك أن الباء غير الألف ـ فههنا يصدق أن يقال : إنه صدر عنه الألف. وصدر عنه ما ليس بالألف. ولا يلزم أن يقال : صدر عنه الألف ، ولم يصدر عنه الألف. [لأنه لا فرق بين أن يقال : صدر عنه ما ليس بألف ، وبين أن يقال : لم يصدر عنه الألف (١)] ألا ترى أنهم قالوا : فرق بين قولنا بالإمكان ليس ، وبين قولنا : ليس بالإمكان. وفرق بين قولنا : بالضرورة ليس ، وبين قولنا : ليس بالضرورة. فكذا هاهنا : فرق بين قولنا : لم يصدر عنه الألف ، وبين قولنا : صدر عنه ما ليس بالألف. والدليل القاطع على هذا الفرق : أنه لولاه لوجب أن لا يقبل الجسم الواحد ، إلا صفة واحدة. لأنه لو قبل صفتين مختلفتين ، لزم أن يصدق عليه : أنه قبل تلك الصفة ، وأنه ما قبلها. وذلك محال (٢) وأيضا : لو صح ما قالوه ، لزم أن لا تحصل الذات الواحدة إلا وقتا واحدا ، إلا أنه لو حصل في هذا الوقت ، وحصل أيضا في الوقت الثاني ، لوجب أن يصدق عليه : أنه حصل في هذا الوقت ، وأنه لم يحصل في هذا الوقت. ولما كان ذلك باطلا ، فكذا ما قالوه.

والجواب عن الحجة الثالثة : إنه لما حصلت الطبيعة النارية ، ولم يوجد التبريد ، وحصلت الطبيعة المائية ، ولم يوجد التسخين ، استدللنا بتخلف هذا الأثر عن ذلك المؤثر ، على اختلاف ماهية المؤثرين [فأما لو لم يوجد هذا التخلف ، فلا نسلم أن مجرد اختلاف الأثرين يدل على تغاير المؤثرين (٣)] وهل النزاع إلا فيه؟

والجواب عن الحجة الرابعة : إن العلة يمتنع كونها متساوية للمعلول في الماهية ، لأنه ثبت في العقل : أن المتماثلات في تمام الماهية ، يجب استواؤها في جميع اللوازم ، فلو كانت العلة مماثلة للمعلول في تمام الماهية ، لم يكن أحدهما

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) باطل (ط ، س).

(٣) من (ط ، س)

٣٧٨

بالعلية ، والآخر بالمعلولية أولى من العكس. فيثبت : أن قول من يقول : العلة مماثلة للمعلول : (١) كلام باطل.

والجواب عن الحجة الخامسة : إنا بينا في علم المنطق : «إن قول القائل : إنه ليس عدد أولى من عدد» : إذا أريد به عدم الأولوية في نفس الأمر ، فهذا ممنوع. وإن أريد به عدم الأولوية في الذهن والخاطر ، فهذا لا يفيد إلا التوقف وعدم الجزم» [والله أعلم (٢)].

__________________

(١) قول (ط).

(٢) من (ت).

٣٧٩
٣٨٠