المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

الفصل الثاني

في

منافع القمر

اعلم : أن القمر لا نسبة له إلى الشمس في كبر الجسم ، وقوة التأثير البتة. إلا أن له [أيضا (١)] قوة عظيمة في التأثير في هذا العالم.

قال أهل التحقيق : تأثير الشمس في الحر والبرد أظهر. وتأثير القمر في الرطوبة والجفاف أقوى. وقولنا : «الشمس تؤثر في الحرارة والبرودة» : نعني به : أنها عند القرب تفيد الحرارة ، وعند البعد تفيد البرودة. وكذا حال القمر مع الرطوبة والجفاف.

والذي يدل على ما ذكرناه أنواع (٢) :

[النوع الأول (٣)] : أن أصحاب التجارب : [قالوا (٤)] : إن من البحار ما يأخذ في الازدياد من حين يفارق القمر الشمس ، إلى وقت الامتلاء. ثم إنها تأخذ في الانتقاص بعد الامتلاء ، ولا يزال يستمر ذلك الانتقاص بحسب نقصان نور القمر ، حتى ينتهي إلى غاية نقصانه عند حصول المحاق ، ثم يأخذ في الازدياد مرة أخرى كما في الدور [الأول (٥)] ومن البحار ما يحصل

__________________

(١) من (ط)

(٢) من وجوه (ت ، ط)

(٣) زيادة

(٤) من (س)

(٥) من (ط ، س)

٣٤١

فيه المد والجزر في كل يوم وليلة ، مع طلوع القمر وغروبه. وذلك موجود في بحر فارس وبحر الهند. وكذلك أيضا في بحر الصين. وكيفيته : أنه إذا بلغ القمر مشرقا من مشارق البحر ، ابتدأ البحر بالمد ، ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر إلى وسط سماء ذلك الموضع ، فعند ذلك يبلغ المد منتهاه. فإذا انحط القمر من وسط ذلك الموضع ، جزر الماء ورجع إلى البحر. ولا يزال كذلك راجعا إلى أن يبلغ مغربه (١) ، فعند ذلك ينتهي الجزر منتهاه. فإذا زال القمر من مغرب ذلك الموضع ، ابتدأ المد هناك في المرة الثانية ، ولا يزال زائدا إلى أن يصل القمر إلى وتد الأرض ، فحينئذ ينتهي المد منتهاه في المرة الثانية. ثم يبتدئ الجزر ثانيا ويرجع الماء إلى البحر ، حتى يبلغ القمر أفق ذلك الموضع ، فتعود الحالة المذكورة مرة أخرى. ولأن الأرض مستديرة ، والبحر محيط بها على استدارتها ، والقمر يطلع [عليها (٢)] كلها في مقدار اليوم والليلة. فكلما تحرك القمر قوسا ، صار موضع القمر أفقا لموضع آخر ، من مواضع البحر. [وصار (٣)] ذلك الموضع وسط سماء لموضع آخر ومغربا لموضع آخر ، ووتد الأرض لموضع آخر. وفيما بين كل وتد من هذه الأوتاد ، تحصل أحوال اخرى. فلا جرم يحصل لأجل هذه الأسباب ، أحوال مختلفة مضطربة في البحر.

واعلم : أن سكان البحر كلما رأوا في البحر انتفاخا وهيجان رياح عاصفة ، وأمواج شديدة : علموا : أنه ابتدأ المد. وإذا ذهب الانتفاخ ، وقلت الأمواج والرياح : علموا : أنه وقت الجزر. وأما أصحاب الشطوط والسواحل ، فإنهم يجدون عندهم في وقت المد للماء : حركة من أسفله إلى أعلاه. فإذا رجع الماء ، ونزل فهناك وقت الجزر.

النوع الثاني من آثار القمر : إن [أبدان (٤)] الحيوانات في وقت زيادة ضوء القمر ، تكون أقوى وأسخن ، وبعد الامتلاء تكون أضعف [وأبرد (٥)]

__________________

(١) مبلغة (ت)

(٢) من (ت)

(٣) من (ت)

(٤) من (س)

(٥) من (س)

٣٤٢

وتكون الأخلاط التي في بدن الإنسان ما دام القمر زائدا في ضوئه ، فإنها تكون أزيد. ويكون ظاهر البدن أكثر رطوبة وحسنا ، فإذا أنقص [ضوء (١)] القمر ، صارت هذه الأخلاط في غور البدن والعروق ، وازداد ظاهر البدن يبسا.

والنوع الثالث : اختلاف أحوال البحرانات ، وتفاوت أيامها ، وكل ذلك مبني على زيادة نور القمر ونقصانه.

والنوع الرابع : شعر الحيوان. فإنه ما دام القمر زائدا في ضوئه ، يسرع نباته ويغلظ ويكثر. فإذا أخذ ضوء القمر في الانتقاص ، أبطأ نباته ولم يغلظ. وأيضا : ألبان الحيوانات في أول الشهر إلى نصفه ، ما دام القمر زائدا في الضوء ، فإذا نقص [ضوء (٢)] القمر نقصت غزارتها (٣)]. وكذلك أيضا : أدمغة الحيوانات ، تكون زائدة في أول الشهر ، عما في آخره. وكذا القول في بياض البيض. ثم قالوا : بل هذه الأحوال تختلف بسبب اختلاف حال القمر في اليوم الواحد. فإن القمر إذا كان فوق الأرض في الربع الشرقي ، فإنه تكثر ألبان الضروع ، وتزداد أدمغة الحيوانات. فإذا زال القمر وغاب عنهم ، نقص نقصانا ظاهرا.

وهذه الاعتبارات تظهر عند الاستقراء ، ظهورا بينا. ومما يقوي : ذلك : أن الإنسان، إذا قعد أو نام في ضوء القمر ، حدث (٤) في بدنه الاسترخاء والكسل ، وتهيج عليه الزكام والصداع ، وإذا وضعت لحوم الحيوانات مكشوفة تحت ضوء القمر ، تغيرت طعومها وروائحها.

والنوع الخامس : إنه يوجد السمك في البحار والآجام والمياه الجارية. وإذا كان من أول الشهر إلى الامتلاء. فإنها تخرج من قعور الآجام والبحار ،

__________________

(١) من (س)

(٢) من (س)

(٣) زيادتها (ت)

(٤) ظهر (ت)

٣٤٣

ويكون سمنها أزيد. وأما من بعد الامتلاء [إلى الاجتماع (١)] فإنها تدخل في القعور [وينقص سمنها (٢)] وأما في اليوم بليلته ، فما دام القمر مقبلا [من المشرق (٣)] إلى وسط السماء ، فإنها تخرج سمينة ، فإذا زال القمر عادت في أجحرتها ، ولا تكون في غاية السمن. وكذلك أيضا هوام (٤) الأرض [يكون (٥)] خروجها من أجحرتها في النصف الأول من الشهر ، أكثر من خروجها في النصف الثاني.

النوع السادس : إن الأشجار والغروس إذا غرست. والقمر زائد الضوء [ومقبل (٦)] إلى وسط السماء : قويت وكثرت [ونشأت (٧)] وحملت النبات. وإن كان ناقصا في الضوء زائلا عن وسط السماء ، كان بالضد ، وكذا القول في الرياحين والبقول والأعشاب ، فإنها تكون أزيد نشوءا ونموا إذا كان القمر من الاجتماع إلى الامتلاء. وأما في النصف الثاني (٨) من الشهر ، فالحال بالضد من ذلك. والقرع والقثاء والخيار والبطيخ ينمو نموا بالغا عند ازدياد الضوء ، فأما وسط الشهر عند فصول الامتلاء ، فهناك يعظم النمو ، حتى أنه يظهر التفاوت في الحس في الليلة الواحدة. وكذلك المعادن والينابيع. فإنها تزداد في النصف الأول من الشهر ، وتنقص في النصف الثاني منه. وذلك معروف عند أصحاب المعادن.

واعلم : أن القمر إنما كان قوي التأثير [في هذا العالم (٩)] لثلاثة أوجه :

__________________

(١) من (س)

(٢) من (س)

(٣) من (س)

(٤) حرشة (ط)

(٥) من (ط)

(٦) من (ت)

(٧) من (ط)

(٨) الأخير (ط)

(٩) من (س)

٣٤٤

أحدها : إن حركات القمر سريعة ، وتغيرات [هذا العالم (١)] كثيرة ، [وأما سائر الكواكب فحركتها بطيئة ، وتغيرات هذا العالم كثيرة (٢)] فكان إسناد تغيرات هذا العالم ، مع كثرتها [إلى حركات (٣)] القمر أولى.

والثاني : إنه أقرب الكواكب من هذا العالم ، فكان بالتأثير فيه أولى.

الثالث : إن القمر بسرعة حركاته ، يمزج أنوار بعض الكواكب بأنوار الباقي. ولا شك أن امتزاجاتها ، مبادي لحدوث الحوادث في هذا العالم. فكان القمر هو المبدأ القريب.

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط)

٣٤٥
٣٤٦

الفصل الثالث

في

أحوال سائر الكواكب

واعلم أن منافع الكواكب كثيرة. ومن العجائب : أن الكرات السبعة التي هي منازل السيارات السبعة : قدرها الحكيم الرحيم بحيث يحصل للكواكب فيها صعود إلى الأوج ، ونزول إلى الحضيض. فأحاط بهذه الكرات السبعة : كرتان عظيمتان. أدونهما كرة الكواكب الثابتة ، وأعلاهما الفلك الأعظم. وحصل في داخل الكرات السبعة : كرتان :

إحداهما : كرة الجسم اللطيف ، وهي كرة الهواء والنار. والأخرى : كرة الجسم الكثيف، وهي كرة الماء والأرض. فالكرتان العاليتان ـ أعني كرتي الثوابت والفلك الأعظم ـ هما : الفاعلتان والكرتان الداخلتان ـ أعني كرتي اللطيف والكثيف ـ هما : المنفعلتان ، والكواكب السبعة المركوزة في الكرات السبعة ، كالآلة والأداة فهذه الكواكب إذا تصاعدت إلى أوجاتها ، فكأنها تأخذ القوى من الكرتين العاليتين ، وإذا هبطت حضيضاتها ، وقربت من العالم الأسفل ، فكأنها تؤدي تلك الآثار إلى هذا العالم الأسفل ومن الأحوال العجيبة : أن هذه الكواكب السبعة ، لكل واحد منها حركات ست ، فهي تتحرك بطباعها من المغرب إلى المشرق ، بسبب تحريك الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب. وأيضا : فهي تميل تارة إلى الشمال ، وأخرى إلى الجنوب. وأيضا : فهي تتحرك تارة إلى فوق ، وذلك عند صعودها إلى أوجاتها ، وأخرى إلى أسفل ، وذلك عند هبوطها إلى حضيضاتها. فهذه حركات ست ، حاصلة لكل

٣٤٧

واحد من تلك السبعة. فهي اثنان وأربعون حركة ، وينضم إليها حركة فلك الثوابت. بطبعه من المشرق إلى المغرب ، وبالقسر على الضد. فالمجموع : أربعة وأربعون ، وتنضم إليها الحركة البسيطة الحاصلة للفلك الأعظم ، فيكون المجموع : خمسة وأربعون نوعا من الحركة. ثم إذا اعتبرنا أنواع الحركات الحاصلة ، بسبب حركات الأفلاك الممثلة (١) والحاملة والتدويرات ، كثرت الحركات جدا ، فإذا امتزجت واختلطت بلغت تلك الكثرة إلى اللانهاية ، وكلها واقعة على وجه يحصل بسببها نظام هذا العالم ، على الوجه الأصوب الأكمل.

ومن عجائب أحوال هذه الحركات : أن في حركات الأفلاك قولان :

فالقول الأول : وهو المشهور : أن أسرع الكرات حركة ، هو الفلك الأعظم. فإنه يتحرك في اليوم والليلة على التقريب : دورة تامة من المشرق إلى المغرب ، وأما الفلك الذي حصل مماسا له في داخله ، وهو فلك الثوابت. فإنه يتحرك على مذهب المتقدمين ، في كل مائة سنة : درجة واحدة. وعلى مذهب المتأخرين في كل ست وستين سنة : درجة واحدة. ثم اختلفوا ، فمنهم من قال : هذا التفاوت إنما كان ، لأن المتقدمين غلطوا في الرصد ، وأما المتأخرون فقد تنبهوا لذلك الغلط.

ومن المحققين [من قال (٢)] نسبة هذا الغلط إلى المتقدمين ، كالبعيد جدا ، وذلك لأن [رصد (٣)] عطارد ، كالمتعذر عند العقل. وذلك لأنه ليس له بعد كثير من الشمس البتة. وإنما يظهر أياما قلائل. وفي تلك الأيام فهو كوكب صغير الجرم ، وليس (٤) له نور قاهر ، حتى يسهل ضبطه في آلات الرصد ، فمع هذه الصعوبة التامة ، صارت أرصاد المتقدمين وافية بضبط

__________________

(١) المهملة (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ت)

(٤) وليس كونه ظاهرا (ت)

٣٤٨

حركاته ، ومعرفة أفلاكه ، فلما لم يتفق لهم الغلط البتة في هذا المقام الصعب ، فكيف يتفق لهم الغلط في حركات الكواكب الثابتة ، مع عظم أجرامها ، وقوة أنوارها؟ بل السبب في حصول هذا التفاوت : أنه حصل فوق كرة الثوابت وتحت الفلك الأعظم : كرة أخرى ، وقطب فلك الثوابت منطبق على نقطة من تلك الكرة التي ذكرناها انطباقا ، ليلزم من حركة هذه الكرات : وصول قطب فلك الثوابت إلى حيث يصير منطبقا على (١) قطب الفلك الأعظم ، فلأجل هذه الحالة ، يصير مقدار الميل الأعظم متناقضا أبدا ، وتصير حركات الثوابت أسرع في النظر والحس.

والقول الثاني : إن الحركات الفلكية كلها آخذة من المشرق إلى المغرب. وأسرعها هو الفلك الأعظم ، ويليه في السرعة حركة فلك الثوابت. فإنا إذا فرضنا أن الفلك الأعظم ، وفلك الثوابت أخذا في الحركة من نقطة معينة ، فإذا وصل الفلك الأعظم في اليوم الثاني [إلى (٢)] عين تلك النقطة ، فإن فلك الثوابت لا يصل في ذلك المقدار إلى عين تلك النقطة بل يتخلف عنها بشيء قليل. فإذا اجتمعت تلك المقادير ، وقع في الحس ، كأن الكواكب الثابتة تتحرك من المغرب إلى المشرق ، وليس الأمر كذلك. وإنما وقع الأمر على هذا الوجه في الحس ، للسبب الذي ذكرناه. وأصحاب هذا القول ، قالوا : إن هذا القول ، قالوا : إن هذا القول أولى من القول [الأول (٣)] ويدل عليه وجهان :

الأول : إن هذا القول أقرب إلى العقل. فإن المحيط الأصلي هو الفلك الأعظم. فأسرع الحركات له. ثم الذي يليه أبطأ منه ، وأسرع داخله. وعلى هذا التقدير فأبطأ الحركات الفلكية : فلك القمر ، وبعده كرة النار ، ثم كرة الهواء. وأما حركات الماء والبحر (٤) ففي غاية البطء ، وأما الأرض ففي غاية

__________________

(١) على القطب الأعظم (ت)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) والشجر (ت)

٣٤٩

السكون. فالمحيط له الحركة ، والمركز له السكون. وكل ما كان أقرب إلى المحيط ، كان أسرع حركة. وكل ما كان أقرب إلى المركز ، كان أبطأ ، حتى انتهى الأمر إلى غاية السكون. فهذا أمر معقول مناسب.

والثاني : إن فلك الثوابت حال حركتها بطبعه إلى المشرق ، هل يتحرك بتحويل الفلك الأعظم إلى المغرب؟ أو يقال : إنه في أحد الزمانين يتحرك بطبعه إلى أحد الجانبين ، وفي الزمان الثاني يتحرك بالقسر إلى الجانب الثاني ، فلا تحصل الحركتان معا ، في ذلك الجسم؟ والأول باطل. لأنه إذا تحرك بطبعه إلى هذا الجانب ، فقد حصل في هذا الجانب. وإذا تحرك بسبب القسر إلى ذلك الجانب ، فقد حصل في ذلك الجانب. فلو اجتمع هاتان الحركتان ، لزم حصول الجسم الواحد دفعة واحدة في مكانين ، وذلك محال. والعلم بامتناعه بديهي. سواء قلنا : إنه حصلت الحركتان طبيعيتين أو قسريتين ، أو إحداهما طبيعية ، والأخرى قسرية.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إنه يحصل إحدى الحركتين في زمان ، والحركة الثانية في زمان آخر ، فحينئذ يلزم انقطاع الحركات الفلكية وعدم بقائها. وذلك محال. وهؤلاء الناس رجحوا هذا القول على القول الأول بهذين الوجهين. وأما أصحاب القول الأول ، فقالوا : لو كان الأمر على هذا التقدير ، فحينئذ قد دارت الشمس دورة واحدة بالتمام في اليوم الواحد ، وإنما حصول التخلف بمقدار وسط الشمس ، ولو كان الأمر كذلك ، لوجب أن تتخلف أحوال الأظلال ، كما تتخلف عند كون الشمس في أول السرطان ، وفي أول الجدى. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، علمنا هذا القول.

واعلم : أن العجائب حكمة الله [تعالى (١)] في تخليق السموات والكواكب ، لا تصير معلولة ، إلا عند معرفة الأفلاك والكواكب بالتمام. ولما كان ذلك [الأمر (٢)] كالمعتذر ، لا جرم كانت معرفة القليل من أحوال الأفلاك والكواكب : كثيرة بالنسبة إلى العقول البشرية [والله أعلم (٣)]

__________________

(١) من (ت)

(٣) من (ت)

(٢) من (ت)

٣٥٠

الفصل الرابع

في

آثار حكمة الله في العالم الأسفل

اعلم : أن المعتبر في العالم الأسفل : إما الأمهات ، أو المواليد. فمراتبها ستة :

الأول : اعتبار أحوال الآثار العلوية.

والثاني : اعتبار أحوال المعادن.

والثالث : اعتبار أحوال النبات.

والرابع : اعتبار أحوال الحيوان.

والخامس : اعتبار تشريح أبدان الناس.

والسادس : اعتبار تشريح نفس الإنسان.

وتشتمل على هذه المراتب (١) الستة : كتب ستة على الاستيفاء والاستقصاء. وسنستوفي القول (٢) فيها في هذا الكتاب (٣) إن قدر الله ذلك :

فأما اعتبار أحوال الأمهات الأربعة : فنقول : أما الأرض. فقد ثبت في العلوم الرياضية (٤) : أن المعمور منها سدسها.

__________________

(١) الأبواب (ط)

(٣) الباب (ت)

(٢) القول في الكلام فيها (ت)

(٤) علم الرياضة (ت)

٣٥١

وأما الباقي فمغمور في الماء. ثم إن هذا السدس على أربعة أقسام :

أحدها : البحار السبعة. وثانيها : الجبال. وثالثها : المفاوز. ورابعها : العمرانات ، فإذا قسنا أحوال العمرانات ، وجدتها بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة الباقية ، كالقطرة في البحر ، ومع ذلك فإن تلك الأقسام الثلاثة : كأنها مخلوقة لمصالح هذا القسم الرابع.

أما البحار فلأجل أن يقدر الإنسان بواسطة ركوب البحر من نقل الأمتعة من بعض جوانب الأرض إلى الجانب الآخر. وأما المفاوز (١). فلأجل أن الأهوية تتعفن بسبب نفس الحيوانات ، والأبخرة المنفصلة منهم. فلما كان أكثر أهوية العالم هو أهوية المفاوز الخالية ، لا جرم اندفعت العفونات عن الأهوية ، وصلحت لمعيشة الحيوانات. وأما الجبال فإنها تحتقن تحتها البخارات ، وتنفجر منها الأدوية والعيون ، وتنصب إلى المواضع القابلة للعمارات. فهذه الأقسام الثلاثة ، وإن كانت أوسع وأكبر إلا أنها مخلوقة لمصالح هذا القسم الرابع وهو العمرانات.

واعلم أنه كلما كان وقوف الإنسان على آثار حكمة الله تعالى في العالم الأعلى والعالم الأسفل : أكثر ، كان إقراره بأنه الإله الحكيم الرحيم : أتم [وبالله التوفيق (٢)]

__________________

(١) المعادن (ت)

(٢) من (ط)

٣٥٢

القسم الثاني من هذه المقالة

في

الدلائل المستنبطة من القرآن المجيد

في اثبات أن إله العالم

قادر حكيم مختار رحيم

٣٥٣
٣٥٤

أنواع الدلائل على أن إله

العالم قادر حكيم ، مختار رحيم

اعلم (١) : أنا قد بالغنا في شرح هذا الباب في «التفسير الكبير (٢) ونحن نذكر هاهنا جملا وأصولا [فنقول :

النوع الأول (٣)] :

اعلم : أن الاستدلال بخلق السموات والأرض على وجود الإله القادر الحكيم : كثير الورود في القرآن. وقد علمت : أن الخلق عبارة عن التقدير. فوجب علينا أن نبين أقسام التقدير والتدبير في أجرام السموات ، وجميع هذه الوجوه مبنية على تماثل الأجسام [فنقول (٤)] :

أما الوجه الأول : فهو أن الأجسام الفلكية والعنصرية متشاركة (٥) في تمام

__________________

(١) اعلم أن سبب تحقيقي لكتاب «المطالب العالية من العلم الإلهي» : هو أن الاستاذ الدكتور عبد الغني عوض الراجحي ، كان يدرس لنا مادة التفسير في السنة الأولى والثانية في كلية اللغة العربية جامعة الأزهر ١٩٦٤ ـ ١٩٦٥ وكان يكثر من الثناء والمدح على الإمام فخر الدين. ويقول أحيانا : وهذا الكلام الذي أقوله لكم : من كتاب المطالب العالية. ومن ذلك الحين تعلّق خاطري بقراءة المطالب إذا شاء الله تعالى. ولما شاء الله لي قراءته ، وأخبرت الأستاذ الدكتور عبد الغني بأنني قرأته. طلب مني أن أحققه وأنشره ، فاستجبت له. وبدأت التحقيق في غرة رمضان سنة اثنتين وأربعمائة وألف من الهجرة في مدينة «الكويت»

(٢) سقط (ت ، ط)

(٣) من (ت)

(٤) متساوية (ط ، س)

٣٥٥

الماهية. ولا شك أن الفلكيات مخالفة [للعنصريات (١)] بالصفات ، التي باعتبارها صارت الأفلاك : أفلاكا. والعناصر [عناصرا (٢)] فوجب أن يكون ذلك الاختصاص ليس لتلك الذوات ، ولا لشيء من لوازمها. فوجب أن يكون لأجل الفاعل المختار.

وأما الوجه الثاني : فهو أن كل واحد من الأفلاك مخالف للآخر في الصفات والمقادير. فوجب أن يكون ذلك لأجل الفاعل المختار.

وأما الوجه الثالث : فهو أن أجرام الأفلاك مخالفة لأجرام الكواكب في الصفات. ووجه الدلالة ما ذكرناه.

وأما الوجه الرابع : فهو أن أجرام الكواكب متساوية في الذوات ، ومختلفة في الصفات. فيعود الدليل المذكور.

أما الوجه الخامس : فهو أن العناصر متساوية في الجرمية ، ومختلفة في الصفات والأحياز.

وأما الوجه السادس : فهو أن المواليد الثلاثة متساوية في الجرمية ، ومختلفة في الصفات.

وأما الوجه السابع : فهو أن العناصر متساوية المواليد في الجرمية ، ومختلفة في الصفات.

وأما الوجه الثامن : فهو أن الأجرام الفلكية مختلفة في المقادير. لأن بعضها أعظم من بعض ، مع استوائها في الذوات.

وأما الوجه التاسع : فهو اختلاف مواقع أجزائها. فإن الفلك المعين وقع بعض أجزائه في عمقه ، وداخل ثخنه ، وبعضها في خارج سطحه.

وأما الوجه العاشر : فهو اختلافها في كيفية الحركات. فبعضها سريعة ،

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، س)

٣٥٦

وبعضها بطيئة. بل نقول : هذا المعنى حاصل في الفلك الواحد ، فإنه إذا استدار الفلك ، فكل نقطة تفرض في سطحه فقد استدارت أيضا. إذا عرفت هذا ، فنقول : أما قطبا الكرة، فهما ساكنان. وأما منطقتهما فهي متحركة على أسرع الوجوه ، وكل نقطة هي أقرب إلى المنطقة ، فحركتها أسرع من حركة النقطة ، [التي هي أبعد من المنطقة (١)] وإذا كانت تلك النقط غير متناهية ، وجب أن يقال : إنه لا نهاية لمراتب الحركات الواقعة في الكرة الواحدة ، بسبب [السرعة (٢)] والبطء. فحركة فلك الثوابت ، وإن كانت بطيئة جدا ، إلا أن الدائرة الصغيرة جدا ، المستديرة حول قطبها ، إنما تتم حركتها في مدة ستة وثلاثين ألف سنة ، ومدار تلك الدائرة أصغر من مدار قشر الجاورسة الواحدة. والكرة الواحدة افترض فيها هذه الحركات المختلفة ، بسبب البطء والسرعة ، وتلك النقط والأجزاء بأسرها متشابهة. فاختصاص كل واحد منها بحركته الخاصة ، وبمقداره الخاص في البطء والسرعة ، لا بد وأن يكون بتقدير العزيز العليم.

النوع الثاني من الدلائل القرآنية : أن إبراهيم [عليه‌السلام (٣)] استدل بالحياة والموت في أجساد الحيوانات فقال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) (٤).

فقال السائل : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ).

وتفسير هذا السؤال (٥) : كأنه قال : كيف تدعي صدور الإحياء والإماتة من الإله (٦)؟ أتدعي بأنه يفعل الإحياء والإماتة بدون واسطة الأفلاك والكواكب ، والطبائع ، أو [بواسطة (٧)] هذه الأشياء؟ فإن ادعيت الأول لم تجد إلى إثباته سبيلا ، وإن ادعيت الثاني فكل واحد منا يقدر على الإحياء

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط)

(٤) البقرة ٢٥٨

(٥) الكلام (ت)

(٦) الله (ط)

(٧) من (ط)

٣٥٧

والإماتة بواسطة حركات الأفلاك والكواكب والطبائع. ألا ترى أن الرجل يطأ زوجته فيتولد منه حيوان بعدد الطبائع ، وقد يقتل الإنسان حيوانا آخر بالآلات والأدوات. فالأحياء والإماتة بهذا الطريق لا يدل على وجود الإله.

فأجاب إبراهيم عليه‌السلام وقال : هب أن إله العالم يخلق الموت والحياة في هذا العالم ، بواسطة تحريك الأفلاك وتمزيج الطبائع ، إلا أن محرك الأفلاك والطبائع هو الله [تعالى (١)] لأنه لا يمكن أن يقال : إنها متحركة لذواتها. لأن الذات باقية مصونة عن التغير. والحركة نفس التغير. والباقي لا يكون علة للمتغير. ولا يجوز أن يقال : إن محرك هذه الأفلاك : أفلاك أخرى. وإلا لزم التسلسل. فيثبت : أن محرك هذه الأفلاك هو الله تعالى. فإذا كان يحيي ويميت بواسطة حركات الأفلاك ، كان الإحياء والإماتة من الله [تعالى (٢)] بخلاف الواحد منا ، فإنا إذا أحييا وأمتنا بواسطة الطبائع ، لم تكن الحياة والموت منا. لأنا لا نقدر على تحريك الأفلاك. فظهر (٣) الفرق.

وهذا الجواب هو الذي قاله إبراهيم حيث قال : «فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب» (٤) والمراد كأنه قال : هب أنه تعالى أتى بها بواسطة حركات الشمس إلا أن محرك الشمس هو الله [تعالى (٥)] وأنت لا تقدر على تحريك الشمس. وكل فعل يفعله الله بواسطة حركة الشمس [كان ذلك الأثر فعلا له. وأما كل فعل تفعله أنت بواسطة حركة الشمس (٦)] لم يكن ذلك الفعل فعلا لك البتة. فظهر الفرق.

واعلم : أنا فسرنا هذه المناهدة على هذا الوجه ، ليظهر منها وجه التحقيق في ذكر هذه الحجة.

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ت)

(٣) فهذا (ت)

(٤) البقرة ٢٥٨

(٥) من (ت)

(٦) من (ط)

٣٥٨

والنوع الثالث من الدلائل القرآنية : أنه تعالى شرع في تقرير الدلائل في سورة النحل فابتدأ فيها بذكر الأفلاك ، فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ. تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١).

ثم في المرتبة الثانية ذكر الإنسان فقال :«خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ«٢»» فقوله :«خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ»إشارة إلى عجائب بدنه ، وقوله :«فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ»إشارة إلى [عجائب (٣)] نفسه. ثم في المرتبة الثالثة : ذكر عجائب الحيوان. فقال : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها. لَكُمْ فِيها : دِفْءٌ) (٤) فذكر عجائب (٥) أحوال الحيوانات. ثم إنه في المرتبة الرابعة : ذكر عجائب النبات ، فقال :(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، لَكُمْ مِنْهُ : شَرابٌ. وَمِنْهُ : شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ : يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ : الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[فجعل مقطع هذه الآية : قوله : (يَتَفَكَّرُونَ) (٦)] وذلك لأنه استدل بحدوث الأنواع المختلفة من النبات على وجود الإله القادر [المختار (٧)]

وللسائل (٨) أن يسأل فيقول : لم لا يجوز أن يكون المؤثر فيه : طبائع الفصول ، وحركات الشمس والقمر؟ ولما كان الدليل لا يتم إلا بالجواب عن هذا السؤال ، لا جرم كان مجال الفكر والنظر والتأمل باقيا. فلهذا جعل مقطع هذه الآية : قوله :يَتَفَكَّرُونَثم إنه تعالى : أجاب عن هذا السؤال من وجهين :

الأول : هب أن تغيرات العالم الأسفل ، مربوطة بأحوال حركات

__________________

(١) النحل ٣

(٢) النحل ٤

(٣) من (ط)

(٤) النحل ٥

(٥) عجائب الحيوان (ط)

(٦) من (ط) والآيتين في سورة النحل ٩ ـ ١١

(٧) من (ط)

(٨) ولقائل (ط)

٣٥٩

الكواكب والأفلاك. فتلك الحركات كيف حصلت؟ فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى لزم التسلسل ، وإن كان من الخالق الحكيم ، فذلك يوجب الإقرار بوجود الإله [تعالى (١)] وهذا هو المراد بقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ : مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢) فجعل مقطع هذه الآية قوله (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) والتقدير : كأنه قيل : إن كنت عاقلا فاعلم أن التسلسل باطل. فوجب انتهاء الحركات إلى حركة يكون موجدها غير متحرك. وذلك هو الإله القادر المختار. ولما تم الدليل في هذا المقام ، لا جرم جعل مقطعه قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

والوجه الثاني من الجواب : هو أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة ، والحبة الواحدة : واحدة. ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد : أحد وجهيها في غاية الحمرة ، والوجه الثاني في غاية السواد. فلو كان المؤثر موجبا بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت ، لأنه تقرر في العقول : أن تأثير الموجب بالذات لا يختلف. وحيث حصل التفاوت في الآثار ، أن المؤثر قادر مختار. وهذا هو المراد من قوله : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (٣) كأنه قيل له : تذكر ما ترسخ في عقلك من أن الموجب (٤) بالذات والطبع ، لا يختلف تأثيره. فلما رأيت بعينك حصول هذا الاختلاف ، فاعرف أن المؤثر فيه ليس هو الطبائع الموجبة بالذات ، بل المؤثر فيه هو الفاعل المختار. فلهذا السبب جعل مقطع هذه الآية : قوله : (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) ولنكتف من هذا الجنس بهذا القدر ، فإنه بحر واسع. وقد ذكرناه على سبيل الاستقصاء في «التفسير الكبير» فمن أراد هذا النوع فعليه بذلك الكتاب. والله أعلم [بالصواب (٥)]

__________________

(١) من (ت)

(٢) النحل ١٢

(٣) النحل ١٣

(٤) كأنه قيل له : مذكور ينتج في عقلك من أن الواجب بالذات ... الخ (ت)

(٥) من (ت)

٣٦٠