المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

إنه عبارة عن نفي (١)] مسبوقية هذا الوجود (٢) بالعدم. فنقول : هذه المسبوقية ، إن كانت صفة وجودية ، كانت أيضا مسبوقة بالعدم ، فيلزم أن تكون مسبوقية هذه المسبوقية ، زائدة عليها. ولزم التسلسل. فيثبت : أن هذه المسبوقية ليست صفة موجودة بل هي أمر عدمي والقديم (٣) نقيضها ورافعها. وعدم العدم ثبوت. فيثبت : أن [المفهوم من (٤)] [القدم (٥)] ثابت. إذا ثبت هذا ، فنقول : لو كان العالم قديما ، لكان مساويا لذات الله تعالى ، في صفة ثابتة ، وهي القدم ، فإما أن تحصل المخالفة بينهما باعتبار آخر ، أو لا تحصل. فإن كان الأول ، فحينئذ تكون ذات الله تعالى وذات العالم مركبة من الأمر (٦) الذي حصلت به المشاركة ، ومن الأمر الآخر الذي حصلت به المخالفة. وإذا كان كذلك ، فنقول : كل واحد من هذين الاعتبارين ، إما أن يكونا قديمين ، أو محدثين. أو أحدهما قديم ، والآخر محدث. فإن كانا قديمين ، فهما أيضا مشتركان في القدم ومختلفان باعتبار آخر ، وإلا لامتنع أن يحكم على أحدهما بكونه مشتركا فيه ، وعلى الآخر بكونه غير مشترك فيه. فيلزم تركب كل واحد منهما عن أمرين آخرين. ويمر الكلام فيه إلى ما لا نهاية له ، فيلزم كون كل واحد منهما مركبا من أمور لا نهاية لها ، لا مرة واحدة ، بل مرارا لا نهاية لها. وهو محال.

وأما إن قلنا : هذان الاعتباران محدثان ، أو إن قلنا : إن أحدهما قديم والآخر محدث. فهذا محال. لأن المحدث لا يكون جزءا من ماهية [القديم (٧)] فيثبت : أن القول بالقدماء، يفضي إلى أقسام باطلة ، فكان القول به باطلا [وأما إن لم يختلفا باعتبار آخر ، فالمساواة ظاهرة. وإنه محال (٨)] فوجب أن

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) الوجود (ت)

(٣) والعدم يقتضيها ومانعها (ت)

(٤) زيادة

(٥) من (ط ، س)

(٦) القدم (ط)

(٧) من (ط)

(٨) من (ط)

٣٢١

يقال : إنه لا قديم إلا الواحد. ولما كان البارئ تعالى قديما ، كان ما سواه محدثا ، وهذه الدلالة إنما يصح التمسك بها على القول بنفي الصفات.

فهذا آخر الكلام في هذه المسألة الهائلة.

وللفلاسفة هاهنا مقام آخر. وهو أنهم قالوا : دلائلنا المأخوذة من باب برهان اللم. وذلك لأنا نظرنا في المؤثر. فقلنا : إنه مستجمع لجميع الجهات المعتبرة في المؤثرية ، وأنه متى يكون الأمر كذلك ، امتنع تخلف الأثر عنه. وأما أصحاب الحدوث فإنهم إنما نظروا في أحوال الجسم ، فعرفوا أنها متغيرة ، فيمتنع صدورها عن المؤثر في الأزل ، فكان هذا الكلام من باب برهان الآن.

[ومعلوم : أن برهان اللم أشرف وأقوى من برهان الآن (١)] وهاهنا آخر الكلام في هذا البحث المهيب ، والمطلوب الهائل.

ونختم الكلام فيه بهذا التضرع. فأقول :

يا من ذكره شرف للذاكرين ، ويا من طاعته فخر للمطيعين.

إن أصبت فيما قلت ، فمنك الفضل والإحسان. وإن أخطأت فمن الجهل والخذلان، وطاعة الشيطان. فيا حنان ويا منان ، وسبحان ، ويا برهان : الغفران ، الغفران ، الغفران.

خلصنا من دركات النيران ، وأوصلنا إلى درجات الجنان [والحمد لله حق حمده ، وصلواته على النبي محمد ، وصحبه وآله (٢)]

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ت)

٣٢٢

المقالة الثالثة

في

تقرير الوجوه الدالة على أن إله العالم ،

فاعل بالاختيار ، لا موجب بالذات

٣٢٣
٣٢٤

مقدمة

اعلم (١) أنا قد ذكرنا وجوها كثيرة في باب إثبات كونه تعالى قادرا ، ونريد أن نذكر هاهنا وجوها أخرى. فنقول : الكلام في هذا الباب مرتب على قسمين :

أحدهما : في الاعتبارات المأخوذة من أصول الحكمة ، الدالة على أن مدبر العالم ، يجب أن يكون فاعلا مختارا. لا علة موجبة.

والثاني : الدلائل المذكورة في هذا الباب ، في القرآن المجيد. فإذا ضمت الدلائل الستة العقلية في باب القادر ، إلى هذه الوجوه ، بلغت مبلغا عظيما في الكثرة والقوة.

أما القسم الأول : وهو الاعتبارات المأخوذة من أصول الحكمة : فاعلم أنه قبل الخوض في شرح تلك الاعتبارات ، يجب تقديم مقدمة. وهي

إن هذه الأجسام المحسوسة : متناهية. وكل متناه ، فهو مشكل ، ينتج : أن هذه الأجسام المحسوسة فهي مشكلة. وهذه الأشكال قسمان :

__________________

(١) عبارة (ت) : «بسم الله الرحمن الرحيم. المقالة الثالثة في تقرير الوجوه الدالة على أن إله العالم فاعلا بالاختيار ... الخ» وعبارة (ط) : «المقالة الثالثة في إعادة الكلام في تقرير ... الخ»

٣٢٥

أحدهما : الأشكال التي حصلت على سبيل الاتفاق من غير أن يحتاج حصولها إلى فعل [فاعل (١)] حكيم.

والثاني : الأشكال التي يشهد صريح العقل ، بأنها لا تحصل إلا بقصد فاعل حكيم.

أما القسم الأول : فمثل الحجر المنكسر ، والكوز المنكسر. فإنه لا بد وأن يكون لتلك القطعة من الحجر والخزف شكل مخصوص معين ، إلا أن صريح العقل شاهد بأن ذلك الشكل ، وقع على سبيل الاتفاق ، ولا يتوقف حصولها على فعل فاعل مختار.

وأما القسم الثاني : فهو مثل الأشكال الواقعة على وفق المصالح والمنافع. ونذكر منها مثالا واحدا : وهو أنا لما نظرنا إلى الإبريق ، رأينا فيه ثلاثة أشياء :

أحدهما : الرأس الواسعة. وثانيها : البلبلة الضيقة. وثالثها : العروة. فلما تأملنا في هذه الأجزاء الثلاثة ، ووجدناها موافقة لمصلحة الخلق ، فإنه لا بد من توسيع رأس الإبريق ، حتى يدخل الماء فيه بالسهولة ، لا بد من ضيق بلبلة الإبريق ، حتى يخرج منها الماء ، بقدر الحاجة. ولا بد لها من العروة ، حتى يقدر الإنسان على أن يأخذها بيده. فلما وجدنا هذه الأجزاء الثلاثة في الإبريق مطابقة للمصلحة : شهد عقل كل أحد بأن فاعل هذا الإبريق ، لا بد وأن يكون قد فعله بناء على الحكمة ، ورعاية للمصلحة. ولو أن قائلا قال : إن هذا الإبريق تكوّن بنفسه من غير قصد قاصد حكيم ولا فعل فاعل عالم. بل اتفق تكونه بنفسه كما اتفق تشكل هذه القطعة من الخزف بهذا الشكل الخاص ، من غير قصد [قاصد (٢)] حكيم ، ولا جعل جاعل عليم ، لشهدت الفطرة السليمة ، بأن هذا القول : قول باطل محال.

إذا عرفت هذه المقدمة ، فنقول : إنا لما شاهدنا في الإبريق هذه الأجزاء الثلاثة مطابقة للمنفعة ، وموافقة للمصلحة ، شهدت الفطرة الأصلية ،

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

٣٢٦

والغريزة الفطرية ، بأنه لا بد لها من فاعل حكيم ، ومقدر عليم.

فإذا تأملنا في السموات وفي الكواكب ، وفي أحوال العناصر الأربعة ، وفي أحوال الآثار العلوية ، والمعادن والنبات والحيوان. ولا سيما الإنسان ، وجدنا من الحكم القاهرة ، والدلائل الباهرة ، ما غرقت العقول فيها ، وحارت الألباب في وصفها. لا جرم كانت هذه الاعتبارات بالدلالة على وجود الفاعل المختار ، الحكيم الرحيم : أولى. ومتى ثبت القول بالفاعل المختار ، فقد ثبت القول بحدوث العالم ، لا محالة [والله أعلم (١)]

__________________

(١) من (ت)

٣٢٧
٣٢٨

القسم الأول من هذه المقالة

في

الاعتبارات المأخوذة من أصول الحكمة ،

الدالة على أن مدبر العالم

يجب أن يكون فاعلا مختارا ،

لا علة موجبة

٣٢٩
٣٣٠

الفصل الأول

في

شرح منافع الشمس

نقول (١) : إن آثار الحكمة في تخليق الشمس ظاهرة من وجوه :

الأول : إنه سبحانه وتعالى قدر تحركات الكواكب الثلاثة العلوية ، على محيطات تداويرها : أن يكون مجموعها مع حركات مراكزها ، على محيطات حواملها ، مساوية لحركة الشمس الوسطى. فلا جرم صارت هذه الكواكب في ذرى تداويرها : مقارنة للشمس. وفي حضيض تداويرها مقابلة لها. وأما السفليات فجعلت حركة مركز تدويرها : مساويا لحركة الشمس الوسطى. فلا جرم قد استوفت الحكمة البالغة : أقسام الحركة في مراكز التداوير التي عليها مدار الأدوار. فإن حركة مركز تدوير السفلين : مساوية لحركة جرم الشمس. وحركات مراكز التداوير الثلاثة العلوية : أنقص من حركة الشمس. وحركة مركز تداوير القمر : أسرع من حركة الشمس. وبهذا الطريق يظهر أن الشمس بالنسبة إليها ، كالسلطان بالنسبة إلى العبيد. وسائر الكواكب يتحركون حولها على نسب مخصوصة ، موافقة للحكمة والمصلحة. بل نقول : إنه تعالى خلق الشمس في الفلك ، كالملك في العالم. فالكواكب كالجنود للملك، والأفلاك كالاقاليم ، والبروج كالبلدان ، والدرجات كالمحلات ، والدقائق كالأزقة. ولما كان الأمر

__________________

(١) قال الله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ. وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ)

٣٣١

كذلك ، لا جرم صار موضعها في الفلك المتوسط. كما أن دار الملك ، يجب أن تكون في وسط المملكة.

وبيانه : أن جملة العالم إحدى عشرة كرة ، خمسة منها فلك الشمس. وهي : فلك المريخ ، والمشتري ، وزحل ، وفلك الثوابت ، والفلك الأعظم. وخمسة أخرى في داخل فلك الشمس. وهي : فلك الزهرة ، وعطارد ، والقمر ، ثم الكرة اللطيفة وهي النار والهواء ، والكرة الكثيفة وهي الماء والأرض. فلما كانت الشمس كالسلطان لعالم الأجسام ، لا جرم جعل مكانها في وسط كرات العالم.

والوجه الثاني : أن القمر يزداد نوره وينتقص ، بسبب قربه من الشمس ، وبعده عنها. وكثيرون من الناس يزعمون : أن أنوار سائر الكواكب مقتبسة من الشمس. ولو لا أن جرم القمر ليس نوره نورا ذاتيا ، بل عرضيا مستفادا من الشمس ، وإلا لما عرض له الخسوف. [ولو لا الخسوف (١)] لتعذر معرفة موضعه الحقيقي من الفلك ، بسبب ما يحصل فيه من اختلاف المنظر ، لأجل قربه من الأرض. ولو لم يعرف الموضع الحقيقي للقمر ، لتعذر معرفة المواضع الحقيقية لسائر الكواكب. فكان حصول الخسوف للقمر ، كالمفتاح لمعرفة مواضع الأجرام النيرة الفلكية.

والوجه الثالث : أن الشمس إذا ظهرت ، اختفت بكمال شعاعها سائر الكواكب ، إلا أنها وإن خفيت ، إلا أن قوتها باقية. ولذلك فإنه يكون يوم من الصيف ، أحرّ من يوم آخر. وما ذاك إلا بسبب أن الشمس إذا قارنت في سيرها (٢) كوكبا حارا ، فإنه يزداد حر الهواء ، وبالضد منه في جانب البرد.

والوجه الرابع : إنا نرى جميع الحيوانات في الليل ، كالميتة. فإذا طلع نور الصبح (٣) ظهرت في أجساد الحيوانات ، نور الحياة. فيجري هذا ، مجرى

__________________

(١) من (ط).

(٢) ممرها (ط).

(٣) الشمس (ط ، س)

٣٣٢

ما إذا قيل : إن طلوع نور الشمس نفخ في أبدان الحيوانات قوة الحياة. وكلما كان طلوع ذلك النور أتم ، كان ظهور قوة الحياة في الأبدان أكمل. ثم كلما طلع قرص الشمس رأيت الناس وسائر الحيوانات يخرجون من مساكنهم (١) ، ويبتدئون الحركة. وما دامت الشمس صاعدة إلى وسط سمائهم ، كانت حركتهم في الزيادة [والقوة (٢)] فإذا انحدرت الشمس من وسط السماء ، فكأنها أخذت في الضعف ، لا جرم أخذت حركات أهل تلك المساكن وقواهم في الضعف. ولا يزال كذلك إلى زمان غيبوبة الشمس. فإذا غابت وظهر الظلام في العالم ، استولى الخوف والفزع ، والفتور والنقصان على الخلق. ورجعت الحيوانات إلى بيوتها وأحجارها. فإذا غاب الشفق ، هدأت الأبدان وسكنت. وصارت كالميتة المعدومة. فإذا طلع الصبح عليهم ، عادت الأحوال المذكورة مرة أخرى. وهذا يدل على أنه تعالى دبر أحوال النّير الأعظم ، بحيث صار كالسلطان لعالم الأجسام في السموات وفي العناصر.

والوجه الخامس من منافع الشمس : أنها متحركة. فإنها لو كانت واقفة في موضع واحد ، لاشتدت السخونة في ذلك الموضع ، ولاشتد البرد في سائر المواضع ، لكنها تطلع في أول النهار من المشرق ، فيقع [نورها (٣)] على ما يحاذيها من جهة المغرب ، ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة ، حتى تنتهي إلى المغرب. فتشرق حينئذ على الجوانب الشرقية ، وحينئذ لا يبقى موضع مكشوف في الشرق والغرب ، إلا ويأخذ حظا من شعاع الشمس. وأما بحسب الجنوب والشمال ، فجعلت حركتها مائلة عن منطقة الفلك الأعظم ، فإنه لو لم يكن للشمس حركة في الميل (٤) ، لكان تأثيرها مخصوصا بمدار واحد ، فكانت سائر المدارات تخلو عن المنافع الحاصلة منه ، وكان يبقى كل واحد من المدارات على كيفية واحدة أبدا. فإن كانت حارة

__________________

(١) أمكنهم (ت)

(٢) من (س)

(٣) من (س)

(٤) الليل (ط)

٣٣٣

أفنت الرطوبات وأحالتها كلها إلى النارية. ولم تتكون المتولدات. فيكون الموضع المحاذي لممر الشمس على كيفية الاحتراق ، والموضع البعيد عنه على كيفية البرد ، والمتوسط بينهما [على كيفية (١)] متوسطة. فيكون في موضع : شتاء دائم ، فيه النهوة والفجاجة. وفي موضع آخر صيف دائم ، يوجب الاحتراق. وفي موضع آخر ربيع ، وآخر خريف. لا يتم فيه النضج. وأيضا : لو لم تكن عودات متتالية للشمس ، بل كانت تتحرك بطيئة ، لكان هذا الميل (٢) قليل النفع ، وكان التأثير شديد الإفراط ، فكان يعرض قريبا ، مما لو لم يكن ميل. ولو كانت حركتها أسرع من هذه ، لما كملت المنافع وما تمت. فأما إذا كان هناك ميل ، يحفظ [الحركة في جهة : ثم تنتقل عنها إلى جهة أخرى ، بمقدار الحاجة ، وتبقى في كل (٣)] جهة برهة من الدهر : تم بذلك تأثيرها وكملت منفعتها.

الوجه السادس من منافع وجود الشمس : إنه تعالى حركها. بحيث يحصل لها في الحركة أوج وحضيض ، فعند حصولها في الأوج تبعد عن الأرض ، وعند حصولها في الحضيض تقرب من الأرض. وبسبب القرب من الأرض ، تعظم السخونة من المواضع التي يحاذيها مدار الحضيض ، والسخونة جاذبة للرطوبات ، فلا جرم تجذب البخار إلى الجانب الذي يسامته حضيض الشمس ، وإذا انجذب البخار إلى ذلك الجانب ، انكشف الجانب الذي يحاذيه الأوج ، ولم يبق البحر على وجهه ، فصار أحد جوانب الأرض ، صالحا لمساكن الحيوانات البرية. لا سيما الإنسان الذي هو أشرف الحيوانات الموجودة في عالم الكون والفساد.

الوجه السابع من منافع الشمس : إن كان موضع تكون الشمس بعيد جدا عن مسامتها ، اشتد البرد فيه. مثل الموضعين اللذين تحت القطبين ، فإنه لا يتكوّن هناك حيوان، ولا ينبت فيه نبات ويكون هناك ستة أشهر نهارا ،

__________________

(١) من (س)

(٢) الليل (ط)

(٣) من (ط ، س)

٣٣٤

وستة أخرى ليلا. ويكون هناك رياح عاصفة ، وتشتد ظلمته. ويدل عليه البحر الأرمني ، فإنه أقرب إلى مدار الشمس من الموضع المذكور بكثير ، مع أنه تشتد فيه الرياح العواصف ، وتشتد ظلمته ، حتى لا يمكن ركوبه لشدة برده وظلمته. ويستدل عليه أيضا بالبحر الشامي، فإنه إذا صارت الشمس في أوائل «العقرب» إلى أن تصير إلى أوائل «الحوت» ففي هذه الأشهر لا يستطيع الناس ركوبه.

والوجه الثامن : أن الاستقراء يدل على أن السبب الظاهر لاختلاف الناس في أجسامهم وألوانهم وأخلاقهم وطبائعهم وسيرهم : [اختلاف (١)] أحوال الشمس في الحركة. وذلك لأن الناس على ثلاثة أقسام. أحدها : الذين يسكنون (٢) خط الإستواء إلى ما يقرب من المواضع التي يحاذيها ممر رأس «السرطان» وهم يسمّون بالاسم العام : «السودان» والسبب فيه أن الشمس تنزل على سمت رءوسهم في السنة. إما مرة أو مرتين ، فتحرقهم وتسود أبدانهم وشعورهم. والذين مساكنهم أقرب إلى خط الإستواء فهم «الزنج» و «الحبشة» فإن الشمس لقوة تأثيرها في مساكنهم تحرق شعورهم وتسودها ، وتجعلها جعدة وكثيفة فحلة ، وجثثهم عظيمة ، وأخلاقهم وحشية ، وأما الذين مساكنهم [أقرب (٣)] إلى محاذاة ممر رأس السرطان ، فالسواد فيهم أقل ، وطبائعهم أعدل ، وأخلاقهم ألين ، وأجسامهم أضعف. وهم أهل «الهند» و «اليمن» وبعض «المغاربة» [وكل العرب (٤)]

وأما القسم الثاني من أهل الأرض : فهم الذين مساكنهم على ممر رأس «السرطان» إلى [محاذاة (٥)] «بنات نعش الكبرى» وهم يسمّون بالاسم العام «البيضان» وهؤلاء لأجل أن الشمس لا تسامت رءوسهم ، ولا تبعد أيضا عنهم بعدا

__________________

(١) من (ت)

(٢) يكونون بخط (ت)

(٣) من (ت)

(٤) من (ت)

(٥) من (س)

٣٣٥

كثيرا ، تعرض لهم شدة من الحر والبرد ، فلا جرم صارت ألوانهم متوسطة ، ومقادير أجسامهم معتدلة ، وأخلاقهم حسنة ، كأهل «الصين» و «الترك» و «خراسان» و «العراق» و «فارس» و «الشام» ثم هؤلاء من كان منهم أميل إلى ناحية الجنوب كان أتم في الذكاء والفهم (١) ، لقربه من منطقة «البروج» و «ممر الكواكب المتحيرة» وتكون حركاتهم أليق بحركات الكواكب في السرعة والخفة. ومن كان منهم أميل إلى ناحية المشرق ، فهو أقوى نفسا وأشد تذكيرا ، لأن المشرق يمين الفلك ، لأن الكواكب منه تطلع ، والأنوار من جانبه تظهر ، واليمين أقوى. ومن كان إلى ناحية المغرب فهو ألين نفسا وأشد تأنسا ، وأكثر كتمانا للأمور. لأن هذه الناحية منسوبة إلى «القمر» ومن شأن «القمر» [أن يكون (٢)] ظهوره بعد الكتمان.

وأما القسم الثالث من أهل الأرض : فهم الذين مساكنهم محاذية لبنات نعش. وهم «الصقالبة (٣)» و «الروس» فإنهم لكثرة بعدهم عن ممر «البروج» وحرارة «الشمس» صار البرد عليهم أبرد (٤) ، والرطوبة الفصلية أكثر. لأنه ليس هناك من الحر ما ينشفها وينضجها ، فلذلك صارت ألوانهم بيضاء ، وشعورهم سبطة شقرة ، وأبدانهم عظيمة رخصة ، وطبائعهم مائلة إلى البرد ، وأخلاقهم وحشية.

واعلم : أن كل واحد من هذين الطرفين. وهما الإقليم الأول والسابع ، فإنه يقل فيه العمران ، وتنقطع بعض العمارات عن بعض ، لغلبة الكيفيتين الفاعلتين ، ثم لا تزال العمارة في الإقليم الثاني والسادس والثالث والخامس تزداد ويقل الخراب فيه وأما الإقليم الرابع فإنه متواصل العمارات ، ويقل الخراب فيه.

__________________

(١) المؤلف يرحمه‌الله تعالى برحمته الواسعة من الريّ.

(٢) من (ت)

(٣) يقال : إن الروس من ولد يافث ، والعرب من ولد سام ، والأفارقة من ولد حام بن نوح عليه‌السلام. ونسي القائلون بهذا القول : أنه خرج مع نوح عليه‌السلام من السفينة : جماعة من المؤمنين ، صار لهم في الأرض نسل بعد الطوفان.

(٤) أغلب (ت)

٣٣٦

وذلك لأجل فضل الوسط على الأطراف باعتدال المزاج.

وكل هذه الأحوال : دالة على أن أحوال هذا العالم مربوط بأحوال الشمس.

فإن قيل : زعمتم : أن الإقليم الرابع أفضل الأقاليم. وعليه سؤالان :

الأول : أن الأدوية النافعة لا يتولد شيء منها في الإقليم الرابع ، وإنما يتولد في سائر الأقاليم.

والثاني : إنه لم يخرج من هذا الإقليم أحد من الأنبياء [والرسل (١)]

والجواب عن الأول : إن الدواء إنما يكون دواء ، إذا كانت إحدى الكيفيات غالبة ، وكانت القوة الشمسية غالبة عليه. وهذا إنما يتولد في الأقاليم الخارجة عن الاعتدال.

أما الإقليم الرابع. فإنه لما كان معتدلا ، لا جرم لا يتولد فيه إلا الأجسام الغذائية المعتدلة. أما الأجسام الدوائية ، فإنها لا بد وأن تكون خارجة عن الاعتدال. فلهذا السبب لا تتولد الأدوية في هذا الإقليم.

والجواب عن السؤال الثاني : إن عقول أهل الإقليم الرابع كاملة ، غزيرتهم (٢) متوافرة، وبعضهم يقرب من البعض في الكمال ، فلا جرم لم يخرج منهم الأنبياء. أما سائر الأقاليم فالنقصان غالب عليهم ، فإذا اتفق خروج إنسان كامل عظيم الكمال ، لا جرم ظهر التفاوت ، منتهيا إلى حد الإعجاز [والله أعلم (٣)]

والوجه التاسع من أحوال الشمس : أن المواضع التي تسامتها الشمس على قسمين :

__________________

(١) من (ت)

(٢) غريزة (ط ، ت)

(٣) من (ت)

٣٣٧

أحدهما : مواضع حضيضية. لغاية (١) قربها من الأرض. وهذا المواضع هي البراري الجنوبية ، وهي محترقة نارية ، لا يتكون فيها حيوان. وأما المواضع (٢) المقارنة لتلك المواضع ، فسكانها كلهم سود الألوان ، لأجل احتراق موادهم وجلودهم ، بسبب ذلك الهواء المحترق بالشمس. وأما المواضع المسامتة الأوجه (٣) في جانب الشمال ، فهي غير محترقة بل معتدلة. ثم قد ثبت في «المجسطي» أن التفاوت الحاصل بسبب قربها وبعدها من الأرض : قليل. وبسبب حصول ذلك القرب القليل ، صار الجانب الجنوبي محترقا. فعلمنا بهذا الطريق : أن الشمس لو حصلت في فلك الثوابت ، لفسدت الطبائع من شدة البرد. ولو أنها انحدرت إلى فلك القمر ، لاحترق هذا العالم بالكلية. فلهذا السبب قدّر الحكيم [الرحيم (٤)] الناظر لعباده : أن جعل الشمس وسط الكواكب السبعة ، لتكون بحركتها الطبيعية المعتدلة ، وقربها المعتدل تبقى الطبائع والمطبوعات في هذا العالم على حد الاعتدال.

فأما أهل الإقليم الأول ، فلأجل قربهم من الموضع لحضيض الشمس ، كانت سخونة هوائهم شديدة ، فلا جرم هم أكثر سوادا ، لأن تأثير الشمس فيهم عظيم. وأما أهل الإقليم الثاني ، فهم سمر الألوان. وأما الإقليم الثالث والرابع فأعدل الأقاليم مزاجا بسبب اعتدال الهواء. وأيضا : فغاية ارتفاع الشمس إنما يكون عند كونها في أبعد بعدها عن الأرض ، فلا جرم صار أهل هذا الإقليم ، موصوفين بالصفات الكريمة ، والصور الجميلة.

وأما الإقليم الخامس ، فإن سخونة الهواء هناك ، أقل من الاعتدال بمقدار يسير ، فلا جرم صار في حيز البرد والثلوج ، وصارت طبائع أهله أقل نضجا من طبائع أهل الإقليم الرابع. إلا أن بعدهم عن الاعتدال قليل. وأما

__________________

(١) وغاية قربه (ت ، ط)

(٢) البلاد (ت)

(٣) لا توجد (ت)

(٤) من (ط ، س)

٣٣٨

[أهل (١)] الإقليم السادس والسابع فأهلهم فجيون ، ولغلبة البرد والرطوبة عليهم ، اشتد بياض ألوانهم ، وزرق (٢) عيونهم ، وعظمت وجوههم ، واستدارت. فقد تبين : أن اختلاف طبائع الناس في صورهم وأشكالهم وألوانهم ، بسبب اختلاف [أحوال (٣)] الشمس في القرب والبعد ، وأما اختلاف الناس في الأخلاق والطبائع ، فهو تابع لاختلاف أمزجتهم. فإن الوهم المؤثر الذي للهند ، لا يكاد يوجد في غيرهم ، وكذلك الشجاعة في الترك ، وسوء الخلق (٤) في المغاربة ، لا يوجد مثله للمشارقة.

الوجه العاشر من تأثيرات الشمس : اختلاف الفصول الأربعة ، بسبب انتقالها في ارباع الفلك. ولا شك : أن السبب في تولد النباتات ونضجها وكمال حالها ، ليس إلا هذه الفصول الأربعة. [فلما كان السبب لحدوث الفصول الأربعة هو الشمس (٥)] والسبب لتولد الحيوانات هو النبات ، صارت الشمس كالأصل لكل حوادث هذا العالم.

الوجه الحادي عشر في تأثير الشمس في النبات : وهو من وجوه :

أحدهما : إن الشمس إذا تباعدت عن سمت الرأس ، اشتد البرد في الهواء ، واستولى البرد على ظاهر الأرض. فيقوى الحر في باطن الأرض ، ويتولد فيه الأبخرة اللطيفة ، الموافقة لتكون المعادن ، وانفلاق الحب في بطن الأرض [فإذا مالت الشمس إلى سمت الرءوس ، وزوال البرد ، واعتدل الهواء ، خرجت تلك الشظايا من بطن الأرض (٦) إلى ظهرها. ثم إن الهواء المسخن بسبب قوة الشمس ، الشمس تؤثر فيه. فيحصل النضج والكمال في الزروع والثمار.

__________________

(١) من (ت)

(٢) ودقة (ت)

(٣) من (س)

(٤) الأخلاق (ط)

(٥) من (س)

(٦) من (س)

٣٣٩

وثانيها : إن تأثير الشمس في النبات ، بسبب الحركة اليومية محسوس. والدليل عليه: أن الريحان الذي يقال له : النيلوفر ، والأذيرون ، وورق الخروع ، وغيرها فإنها تنمو ، وتزداد عند أخذ الشمس في الارتفاع والصعود. فإذا غابت الشمس ضعفت وذبلت.

وثالثها : إن الزروع والنباتات لا تنمو ولا تنشأ ، إلا في المواضع التي تطلع عليها الشمس ، أو يصل إليها قوة حرها.

ورابعها : إن وجود بعض أنواع النبات في بعض البلاد [في الحر والبرد (١)] دون البعض ، لا سبب له [إلا اختلاف البلدان في الحر والبرد ، الذي لا سبب له (٢)] إلا حركة النير الأعظم ، فإن النخيل ينبت في البلاد الحارة ، ولا ينبت في البلاد الباردة. وكذلك [شجر (٣)] الأترج ، والليمون والموز ، لا ينبت في البلاد الباردة. وفي الإقليم الأول تنبت الأفاوية الهندية التي لا تنبت في سائر الأقاليم. وفي البلاد الجنوبية التي وراء خط الإستواء تنبت أشجار وفواكه وحشائش ، لا يعرف شيء منها في بلاد الشمال. وأما الحيوانات فيختلف الحال في توالدها باختلاف حرارة البلاد برودتها ، فإن الفيل والعلقم والببر ، توجد في أرض الهند ، ولا توجد في سائر الأقاليم التي تكون دونها في الحرارة. وكذلك المسك والكركدن. وقد يوجد بعضها في البلاد التي هي أشد حرارة من بلاد الهند ، فإن الفيلة توجد في سائر البلدان. حتى في البلاد الجنوبية التي هي بلاد السودان ، أعظم جسوما وأطول أعمارا. وأما انعقاد الأجسام السبعة ، والأحجار والمعادن. فمعلوم : أن السبب فيها بخارات تتولد في باطن الأرض بسبب تأثير الشمس. فإذا اختفت تلك البخارات في قعور الجبال ، وأثرت الشمس في نضجها ، تولدت المعادن. وأما الأمطار وسائر الآثار العلوية ، فلا شك في أن تكونها من الأبخرة والأدخنة ، ولا شك أن تولدها بقوة الشمس.

فلنكتف بهذا القدر من منافع الشمس.

__________________

(١) من (س)

(٣) من (ت).

(٢) من (ت)

٣٤٠