المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

الفصل الثالث

في

بيان أن الجسم يمتنع أن يكون

ساكنا في الأزل

اعلم أن القائلين بقدم الأجسام فريقان :

الفريق الأول : الذين يقولون : إن الأجسام كانت في الأزل متحركة. وهؤلاء فريقان :

أحدهما : الذين يقولون : العالم قديم بمادته وصورته وشكله ، وأن الأفلاك والكواكب متحركة (١) أزلا وأبدا. وهذا قول «أرسطاطاليس» وأتباعه.

والثاني : الذين يقولون : الموجود في الأزل أجزاء غير متجزئة (٢) وكانت متحركة (٣) حركات مضطربة من الأزل إلى الأبد ، ثم اتفق لها في حركاتها أن تصارمت فتكون منها السموات. وهذا قول : «ديمقراطيس (٤)» وأصحابه. فإذا دللنا على امتناع وجود الحركة الأزلية ، فقد بطل هذان القولان.

وأما الفريق (٥) الثاني : فهم الذين يقولون : العالم (٦) قديم المادة ومحدث الصورة ، وزعموا : أن مادة العالم أجزاء صغيرة ، وكانت ساكنة في الأزل. ثم

__________________

(١) كانت متحركة (ت)

(٤) بقراطيس (ت)

(٢) غير متحيزة (ت)

(٥) الطريق (ت)

(٣) وكانت متفرقة متحركة (ط ، س)

(٦) العالم قديما بالذات (ت)

٢٨١

إنه تعالى حركها وركب العالم منها. وهذا هو قول : أكثر الفلاسفة الذين كانوا قبل «أرسطاطاليس».

ونحن في هذا المقام مشتغلون بإبطال هذا المذهب ، وإذا بطل ذلك ، حينئذ يتم لنا القول بحدوث الأجسام.

واعلم أنا نحتاج في هذا المقام إلى إقامة الدلالة على أنه يمتنع كون السكون أزليا ودليلنا على إثبات هذا المطلوب : أن نقول : لو كان السكون أزليا ، لما جاز زواله. وقد جاز زواله، فيمتنع كون السكون أزليا. واعلم أن بتقدير أن يكون السكون عبارة عن عدم الحركة فإنه لم يصح هذا الدليل. لأن زوال العدم الأزلي جائز بالاتفاق ، إذا لو لم يجز ذلك ، لبطل القول بحدوث الأجسام. وبيانه من وجهين :

الأول : إن الخصم يقول : لو كان العالم حدثا ، لكان عدمه أزليا. ولو كان عدمه أزليا ، لامتنع زواله. فكان يجب أن لا يوجد العالم. وحيث وجد ، علمنا أن عدمه كان أزليا. ولما لم يكن عدمه أزليا ، وجب أن يكون وجوده أزليا.

والثاني : إنه لو كان العالم محدثا ، لما كان البارئ تعالى موجودا له في الأزل ، ولا مؤثرا فيه. ولو كان [عدم (١)] الموجدية والمؤثرية أزليا لما زال هذا العدم. وحيث زال ، علمنا أن علم الموجدية ليس أزليا ، فوجب أن يكون حصول الموجدية أزليا وذلك يقتضي قدم العالم. فيثبت بهذا : أنه لا يمكن أن يقال : إن كل ما كان أزليا ، فإنه يمتنع زواله.

بل يجب تخصيص هذه الدعوى بالأمور الوجودية. فيقال : إن كل ما كان موجودا في الأزل ، فإنه يمتنع زواله ، وإذا ثبت هذا ، فيفتقر في تقرير هذا المطلوب إلى ثلاثة أمور :

فالأول : بيان أن السكون صفة موجودة.

__________________

(١) من (ت)

٢٨٢

والثاني : بيان أن كل سكون ، فإنه جائز الزوال.

والثالث : أن كل ما كان جائز الزوال ، فإنه يمتنع كونه أزليا.

وعند إثبات هذه المطالب [الثلاثة (١)] يظهر : أنه يمتنع كون الجسم ساكنا في الأزل.

فترتب هذا المطلوب على ثلاث مسائل :

المسألة الأولى في إثبات أن السكون يجب أن يكون صفة موجودة : اتفق المتكلمون على أن الأمر كذلك. واتفقت الفلاسفة على أن [معنى (٢)] السكون : لا معنى له إلا عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك.

واحتج المتكلمون على أن السكون صفة موجودة بدلائل ضعيفة :

الحجة الأولى : قالوا : لو كان السكون عبارة عن عدم الحركة ، فالبارئ تعالى غير موصوف بالحركة. فيلزم كونه ساكنا ، وأيضا : الحركة غير موصوفة بالسكون ، فوجب كون الحركة ساكنة. وكذا القول في سائر الأعراض.

ولقائل أن يقول : إنا لا نقول : السكون : عبارة عن عدم الحركة على الاطلاق ، بل السكون عبارة عن عدم الحركة ، عن الشيء الذي يكون قابلا للحركة. وعلى هذا التقرير ، فالكلام المذكور ساقط [والله أعلم (٣)]

الحجة الثانية : قالوا : ليس جعل السكون عبارة عن عدم الحركة ، أولى من جعل الحركة عبارة عن عدم السكون ، فوجب القول ، إما بكون كل واحد منهما عبارة عن عدم [الآخر (٤)] وإما بكون كل واحد منهما صفة وجودية. والأول باطل لأنه إذا كان كل واحد منهما عبارة عن عدم [الآخر ، وكان كل واحد منهما عدما محضا ، كان كل واحد منهما عبارة عن عدم (٥)] العدم ،

__________________

(١) من (س)

(٢) من (س)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط ، س)

٢٨٣

فيكون كل واحد منهما صفة موجودة. مع أنا فرضنا كون كل واحد منهما عدما محضا ، وذلك متناقض. وإذا بطل هذا ، ثبت أن الحق هو كون كل واحد منهما صفة موجودة.

ولقائل أن يقول : إن قول القائل : ليس جعل السكون عبارة عن عدم الحركة ، أولى من العكس : إما أن يكون المراد منه : نفي الأولوية في نفس الأمر ، أو نفيها في أفكارنا وعقولنا. والأول ممنوع. فلم لا يجوز أن يكون أحدهم عدما للآخر ، ويكون الآخر صفة موجودة. والثاني مسلّم ، إلّا أنه [يجب علينا أن (١)] نتوقف في الحكم ، وأن لا نجزم بأحد الطرفين ، إلا لدليل منفصل. وإذا عرفت هذا ، فنقول إذا قلنا : إنا عملنا : أن الذات قد تحركت بعد أن كانت ساكنة ، فقد حصل هذا النوع من التبدل والتغير ، فههنا يحصل بحسب التقسيم العقلي : أقسام أربعة :

أحدهما : أن يكون كلتا (٢) الحالتين أمرا عدميا. أعنى الطارئ والزائل.

والثاني : أن يكون الطارئ عدما ، والزائل وجودا.

والثالث : أن يكون الأمر بالعكس منه.

والرابع : أن يكون كل واحد منهما أمرا موجودا ، مضادا للآخر.

أما الاحتمال الأول فهو باطل على الاطلاق. لأن العدم لا حقيقة له ، ولا تشخص فيه ، ولا ثبوت له بوجه من الوجوه. [امتنع (٣)] تبدل أحد العدمين بالثاني. ومن الناس من قال : هذا الاحتمال غير باطل. ويدل عليه وجوه :

الأول : وهو أن حدوث الحوادث في الأزل ، كان ممتنعا لعينه. [ثم

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) إحدى (ط)

(٣) من (ت)

٢٨٤

انقلب في لا يزال ممكنا لعينه (١)] ثم ثبت بالدليل : أن الامتناع لا يعقل أن يكون صفة موجودة ، وكذلك الإمكان لا يعقل كونه صفة موجودة. أما الامتناع فالدليل عليه : أنه لو كان صفة موجودة ، لكان الموصوف [بتلك الصفة (٢)] أولى أن يكون [شيئا (٣)] موجودا ، لشهادة صريح العقل بأن الصفة الموجودة يمتنع قيامها بالنفي المحض والعدم الصرف. فيلزم أن يكون ممتنع الوجود لذاته ، واجب [الوجود لذاته (٤)] وذلك محال ، وأما الإمكان. فلأنه لو كان موجودا ، لكان إما واجبا لذاته ، وإما ممتنعا لذاته ، وإما ممكنا لذاته. والأول باطل. لأن الإمكان صفة ، [للممكن (٥)] وصفة الشيء مفتقرة إلى الموصوف. والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته. والثاني باطل ، لأن كل ما كان موجودا ، لم يكن ممتنع الوجود. والثالث باطل ، وإلا لكان إمكان الإمكان مغايرا له ، ولزم التسلسل. وهو محال. فيثبت : أن الامتناع قد تبدل بالإمكان ، مع أن كل واحد منهما صفة عدمية.

الثاني : إن العالم حين كان معدوما ، فإنه يصدق على البارئ تعالى أنه ما كان عالما بوجوده. وحين صار موجودا ، فإنه يصدق عليه أنه صار عالما بوجوده. فعلى هذا التقدير : صدق أن البارئ تعالى ما كان عالما بوجود العالم ، ثم صار عالما بوجوده. فيلزم أن تحدث صفة العلم في ذات الله تعالى. وذلك باطل. فعلمنا : أن صدق هذا النفي والإثبات ، لا يدل على حدوث أمر ، ولا على زواله.

الثالث : إن العالم حين كان معدوما ، فإنه صدق على البارئ تعالى : بأنه ما أوجده. ولما دخل في الوجود ، قد صدق عليه : أنه أوجده. فعلى هذا التقدير : صدق على البارئ تعالى : أنه ما كان موجودا للعالم ، ثم صار

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ت)

٢٨٥

موجودا له. فلو كان صدق [هذا (١)] النفي والإثبات يوجب حدوث صفة في الذات ، أو زوالها عنه. لزم حدوث الصفة في ذات الله تعالى ، ثم إن حدوثها يكون بإحداث الله تعالى ، وذلك يوجب التسلسل.

فإن قالوا : لا معنى لكونه موجودا للعالم ، إلا نفس (٢) وجود العالم. فنقول : هذا يوجب نفي الصانع. لأنا لما قلنا : العالم إنما وجد ، بإيجاد الله تعالى ، ثم فسرنا إيجاد الله تعالى للعالم : بنفس وجود العالم : فحينئذ يلزم أن يقال : العالم إنما وجد لنفسه (٣) وصدق هذا الكلام يمنع من صدق قولنا : إنه إنما وجد بإيجاد الله تعالى ، وذلك باطل.

الرابع : وهو أن السكون إذا حصل في المحل ، بعد أنه ما كان حاصلا فيه. فنقول : صارت هذه الذات محلا لهذه السكون ، بعد أنه ما كان محلا له. فصدق هذا النفي والإثبات يوجب أن يقال : كون الذات محلا لهذا السكون : عرض زائد على ذات السكون. ثم إن الذات تصير أيضا محلا لتلك المحلية. وذلك يوجب التسلسل. لا يقال : إنه لا معنى لكون [الذات (٤)] محلا لذلك السكون ، إلا عين ذلك السكون. لأنا نقول : إنه يصح تعقل ذلك السكون ، مع الشك في حصوله في ذلك المحل. والمعلوم : غير ما هو غير معلوم. وذلك يوجب التغاير. وأيضا : فحصول ذلك السكون في ذلك المحل : نسبة مخصوصة بين ذلك السكون وبين ذلك المحل ، فهي مغايرة لهما ، وحينئذ يعود الإلزام.

الخامس : إن مدار كلامهم في أنه لا يجوز أحد العدمين بالآخر على حرف واحد ، وهو أن العدم ليس في نفسه تعين ولا تشخص ولا تميز. وذلك ممنوع. والذي يدل عليه وجوه :

__________________

(١) من (ط).

(٢) إلا أن نفس (ط)

(٣) يوجد بنفسه (ت)

(٤) من (ط)

٢٨٦

الأول : إن عدم اللازم يدل على عدم الملزوم ، وعدم [غير (١)] اللازم ليس كذلك.

[الثاني : إن عدم الضد عن المحل ، يصحح حصول الضد الآخر ، وسائر العدمات ليس كذلك (٢)]

الثالث : إن عدم الواجب لذاته ممتنع لذاته. وعدم الجائز لذاته ليس ممتنعا لذاته. فقد امتاز أحد العدمين عن الآخر.

الرابع : إن عدم العالم واجب في الأزل ، وعدمه غير واجب في لا يزال. فقد امتاز أحد العدمين عن الآخر. وإذا ثبت حصول هذا الامتياز ، وهذا الاختلاف لم يبعد في العقل تبدل أحد العدمين بالآخر.

واعلم : أن هذه السؤالات ، وإن حصل فيها بعض الغموض ، إلا أنا نعلم بالضرورة: أن [عند (٣)] حصول التبدل ، وجب كون أحد ذينك المتبدلين أمرا وجوديا. وهذه السؤالات كأنها قدح في البديهيات.

أما الاحتمالات الثلاثة الباقية : فهي صحيحة :

أن يقال : إنه حصل التبدل ، لأنه حدث في المحل صفة موجودة فقط. مع أنه ما زال [عن المحل (٤)] صفة كانت موجودة قبل ذلك.

الثاني : أن يقال : حصل التبدل ، بمجرد أنه زال عن المحل صفة كانت موجودة ، مع أنه ما حدث في المحل صفة موجودة بعد ذلك.

والثالث : أن يقال : حصل التبدل ، لأنه زال عن المحل صفة كانت موجودة فيه ، وحدثت في المحل صفة ما كانت موجودة فيه. فهذه الأقسام الثلاثة [محتملة (٥)] ظاهرة الاحتمال. والقطع على تعيين واحد منها بغير

__________________

(١) من (س)

(٢) من (س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ت)

(٥) من (ت)

٢٨٧

الدليل ، يكون جهلا محضا. فيثبت بما ذكرنا : أن قول من يقول : ليس القول بأن السكون عبارة عن عدم الحركة ، أولى من العكس : كلام فاسد.

ولما ثبت ضعف هذين الطريقين ، فلنذكر ما هو المعتمد في هذا الباب.

فنقول : لنا : في تقرير أن السكون صفة موجودة [وجوه (١)] من الدلائل :

الحجة الأولى : أن نقول : نرى الجسم صار ساكنا بعد أن كان متحركا. فتبدل هاتين الحالتين مع بقاء الذات في الحالتين يقتضي كون إحدى هاتين الحالتين أمرا وجوديا. وإذا ثبت هذا ، وجب كون كل واحد منهما أمرا وجوديا. وذلك لأن الحركة : عبارة عن الحصول الأول ، في الحيز الثاني. والسكون : عبارة عن الحصول الثاني ، في الحيز الأول. فالحركة والسكون متساويان في تمام الماهية ، لأن كل واحد منهما عبارة عن الحصول في الحيز ، وإنما الاختلاف بينهما في كون الحركة حصولا في الحيز ، بشرط أنه كان مسبوقا بالحصول في حيز آخر. والسكون عبارة عن الحصول في الحيز ، بشرط أنه كان قبل ذلك حاصلا في ذلك الحيز ، وكون الشيء مسبوقا بغيره : وصف عرضي خارج عن الماهية [والأوصاف الخارجة عن الماهية (٢)] لا تقدح في تلك الماهية. فثبت : أن الحركة والسكون متساويان في تمام الماهية. فلما كان أحدهما صفة موجودة ، وجب كون الآخر كذلك. فيثبت بما ذكرنا : أن الحركة والسكون ، كل واحد منهما صفة موجودة.

فإن قيل : هذا الكلام بناء على أن الحركة : عبارة عن الحصول الأول في الحيز الثاني ، وهذا عندنا باطل لأن حاصل الكلام راجع إلى أن الحركة عبارة : عن حصولات متعاقبة [في أحياز متلاصقة ، أو عبارة : عن ممارسات متعاقبة (٣)] لأجزاء متتالية. وكل ذلك باطل. لأن هذا إنما يتقرر ، إذا قلنا :

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ت)

(٣) من (ت)

٢٨٨

المسافة التي تحصل فيها الحركة ، عبارة عن أجزاء متلاصقة متتالية ، وكل واحد منها لا يقبل القسمة. وهذا هو القول بوجود الجزء الذي لا يتجزأ. وهو عندنا باطل للدلائل الكثيرة المذكورة في تلك المسألة.

ومن الدلائل اللائقة بهذا الموضع : أن نقول : إذا تلاصق جوهران ، وكان جوهر ثالث مماسا لأحدهما. فإذا أراد أن ينتقل منه إلى الجوهر الثاني ، فإما أن يصدق عليه كونه متحركا ، حال ما كان مماسا لتمام الجوهر ، [الأول (١)] أو حال ما صار مماسا لتمام الجوهر الثاني ، أو لا يصدق عليه كونه متحركا ، إلا فيما بين الحالتين المذكورتين. والأول باطل. لأنه ما دام بقي مماسا للجوهر الأول. فهو بعد لم يتحرك. والثاني باطل. لأنه إذا صار مماسا لتمام الجوهر الثاني ، فقد تمت الحركة وانتهت وانقطعت. فلم يبق إلا أن يقال : إنه إنما يصدق عليه كونه متحركا في حال متوسطة بين الحالتين المذكورتين. وعلى هذا التقدير ، فإنه يمتنع أن يقال : الحركة عبارة عن الحصول الأول في الحيز الثاني ، بل يجب أن تكون الحركة عبارة عن الانتقال من الحيز الأول إلى الحيز الثاني. وبتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فحينئذ يكون السكون عبارة عن عدم الانتقال من حيز إلى حيز ، وعلى هذا الفرض لا يتم دليلكم على كون السكون صفة موجودة.

والجواب : إن الدليل على أن الحركة عبارة عن الحصولات المتعاقبة في أحياز متلاصقة : وجوه :

الأول : إن الحصول في الحيز الأول لما عدم ، ففي الآن (٢) الذي هو أول زمان ذلك العدم ، لا بد وأن يكون الجسم قد حصل في حيز آخر ، لأن بقاء الجسم من غير أن يكون حاصلا في شيء من الأحياز : محال. وعلى هذا التقدير فإنه يكون حصول الجسم في هذا الحيز الثاني [حاصلا (٣)] عقيب حصوله في الحيز الأول. وحينئذ تكون الحركة : عبارة عن حصولات متعاقبة في أحياز متلاصقة.

__________________

(١) من (س)

(٢) الحال (ط)

(٣) من (ت)

٢٨٩

الثاني : إنكم قلتم : الحركة عبارة عن كون الجسم متنقلا من الحيز [الأول (١)] إلى الحيز الثاني. فنقول : حال ما صدق عليه : أنه خرج من الحيز الأول ، ولم يصل إلى الحيز الثاني. هل هو حاصل في حيز أم لا

والثاني : باطل. لأن ذلك يقتضي أن يكون الجسم حال وجوده غير حاصل في حيز أصلا ، وهو محال. والأول يقتضي أنه كان حاصلا في حيز ، فحال ما صدق عليه ، أنه خرج عن الحيز الأول ، فقد صدق عليه أنه حصل في حيز آخر. وكنا قد فرضنا : أنه في هذه الحالة غير حاصل (٢) في حيز آخر. هذا خلف.

الثالث : إن كلامكم يوجب حصول واسطة بين العدم والوجود. فإنه يقال : إنه حال ما يخرج من العدم إلى الوجود ، وجب أن لا يكون معدوما. إذ لو كان معدوما ، فهو بعد باق على عدمه الأصلي ، فلم يكن منتقلا من ذلك العدم. ولو كان موجودا ، لكان قد تم ذلك الخروج [وانتهى (٣)] وانقطع. فوجب أن يقال : إنه حال خروجه من العدم إلى الوجود ، لا يكون موجودا ولا معدوما. ولما كان هذا خيالا كاذبا ، ووهما فاسدا ، لأجل أن العقل قاطع بأنه لا توسط بين العدم وبين الوجود ، فكذا هاهنا : المتحيز ، إما أن يكون حاصلا في الحيز الأول ، أو في الثاني. وأما كونه منتقلا من الحيز الأول إلى الحيز الثاني ، فهو أمر خيالي وهمي. وهو كاذب فاسد ، لا التفات إليه [والله أعلم (٤)].

الحجة الثانية على أن السكون صفة موجودة : هي : أن السكون عبارة عن كون الجسم حاصلا في حيز معين ، أكثر من زمان واحد. والمعقول من كونه جسما ، غير المعقول من كونه حاصلا في ذلك الحيز المعين ، وذلك المغاير

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) لم يحصل (ت)

(٣) من (س)

(٤) من (ت)

٢٩٠

أمر ثابت. فيفتقر هاهنا إلى بيان مقامين :

المقام الأول : إثبات المغايرة. والدليل عليه وجوه :

الأول : إنه يمكننا تعقل ذات ذلك الجسم ، مع الذهول عن كونه حاصلا في ذلك الحيز. والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم.

والثاني : إن ذات الجسم قائمة بنفسها ، والمعقول من كونه حاصلا في ذلك الحيز المعين : نسبة مخصوصة ، وإضافة [مخصوصة (١)] فتكون إحداهما مغايرة للأخرى.

والثالث : إنا إذا قلنا : الجسم جسم. كان كلامنا مكررا غير مفيد. وإذا قلنا : الجسم حاصل في هذا الحيز. كان كلامنا مفيدا وذلك يوجب المغايرة.

والرابع : إن الجسم إذا خرج عن ذلك الحيز الذي كان ساكنا فيه ، فإنه يصح أن يقال : إن تلك الذات باقية ، إلا أن حصولها في ذلك الحيز غير باق. والباقي مغاير لما هو غير باق.

والخامس : إن الحركة منافية للسكون ، وغير منافية لذات الجسم. وذلك يوجب التغاير ، وفي هذه الدلائل مباحثات عميقة. ذكرناها في كتاب «أحكام الوجود» في باب «أن الوجود ، هل هو زائد على الماهية أم لا؟»

وأما المقام الثاني : فهو بيان أن هذا المفهوم المغاير أمر ثابت. والدليل عليه : أن صريح العقل ، حكم بأن كونه حاصلا في الحيز ، مناقض لكونه غير حاصل في الحيز ، والمعقول من كونه غير حاصل في الحيز : عدم محض ، فوجب أن يكون المفهوم من كونه حاصلا في الحيز أمرا موجودا.

__________________

(١) من (ط)

٢٩١

فثبت بهذه الوجوه : أن السكون صفة موجودة. وهذا تمام الكلام في إثبات هذا المطلوب [والله أعلم (١)]

المسألة الثانية : في بيان أن كل جسم ، فإنه يصح خروجه عن حيزه المعين.

ولنا في تقريره دلائل كثيرة :

الحجة الأولى : إن كل جسم اختص بحيز معين ، فذلك الجسم : مساو لسائر الأجسام في تمام الماهية. ومتى كان الأمر كذلك ، لزم إمكان خروج كل جسم عن حيزه المعين.

إنما قلنا : الأجسام كلها متساوية في تمام الماهية. وذلك لأن الأجسام متساوية في كونها حجما ومتحيز (٢) فلو فرضنا اختلافها في أمر آخر وراء هذا المعنى ، فذلك إما أن يكون من صفات الحجمية ، أو من موصوفاتها ، أو لا صفة لها ولا موصوفا بها. والأول باطل. لأن على هذا التقدير : ذوات الأجسام متساوية في تمام الماهية ، ومتى كان الأمر كذلك ، فكل صفة أمكن حصولها لبعض تلك الأشياء ، وجب إمكان حصولها لسائرها. ضرورة أن المتماثلات يجب استواؤها في كل اللوازم.

والثاني : [باطل (٣)] وإلا لكان الجسم المتحيز : صفة [حالة (٤)] في محل. وسنبين (٥) في مسألة «نفي الهيولى» : أن هذا القول باطل محال.

والثالث : أيضا باطل لأن ما [لا (٦)] يكون صفة للجسم ، ولا موصوفا به ، كان مباينا عن ذات الجسم. وما كان كذلك ، لم يكن سببا لاختلاف

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) أحجام متحيزة (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط ، س)

(٥) وقد بينا (ط ، ت)

(٦) من (ط)

٢٩٢

ماهيات الذوات. فيثبت : أن الأجسام كلها متساوية في تمام الماهية. وإذا ثبت هذا وجب أن يصح على كل واحد ، ما صح على الآخر. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يصح على كل واحد منها : أن يخرج عن حيزه ، ويحصل في حيز الجسم الآخر. وكذا القول في الجسم الآخر ، وذلك يدل : على أن كل جسم ، فإنه يصح خروجه عن حيزه المعين.

الحجة الثانية : الأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية ومتى كان الأمر كذلك ، كانت الأجسام بأسرها قابلة للحركة. بيان الأول : أن الفضاء والجهة والحيز : لا معنى له إلا وهذا الخلاء الممتد. وهذا المفهوم قدر مشترك بين جميع الأحياز. فلو فرضنا اختلافها ، لكان الأمر الذي به حصل ذلك الاختلاف ، مغايرا لهذا المفهوم ، الذي به حصل الاشتراك. وإذا ثبت هذا ، فنقول : ذلك الأمر الذي به حصلت هذه المخالفة ، إما أن يكون حالا في هذا الفضاء ، أو محلا له ، أو لا حال فيه ، ولا محلا له. والأول باطل. لأن أجزاء الفضاء لما كانت في أنفسها متساوية ، فكل ما صح حلوله في أحد تلك الجوانب ، صح حلوله في الجانب الآخر منه. والثاني أيضا باطل. وإلا لكان هذا الفضاء حاصلا في مادة ، وكل بعد حال في مادة ، فهو جسم عند من يثبت للجسم مادة. فأما عند من ينكر هذه المادة ، فالقول بحلول هذا البعد في المادة : محال. والثالث [أيضا (١)] باطل لأن ما لا يكون حالا في شيء ، ولا محلا له ، امتنع أن يصير سببا لاختلاف أحوال ذلك الشيء. فيثبت : أن الأجزاء المفترضة في هذا الخلاء ، وفي هذا الفضاء متساوية. فوجب أن يصح على كل واحد منها ، ما صح على الآخر. فكما صح على هذا الحيز ، أن يحصل فيه هذا الجوهر ، فكذلك وجب أن يصح عليه : أن يحصل فيه الجوهر الآخر. ومتى ثبت هذا ، لزم صحة الحركة على كل الأجسام.

فإن قالوا : أليس أن الأحياز مختلفة ، لأجل أن بعضها فوقنا ، وبعضها تحتنا. فإذا حصل هذا النوع من الاختلاف ، فلم لا يجوز أن يقال : بعض

__________________

(١) من (ط)

٢٩٣

[الأجسام (١)] يجب حصولها في الأحياز الفوقانية ، والبعض الآخر يجب حصولها في الأحياز التحتانية؟ فنقول : هذا في غاية البعد. وذلك لأنا قد دللنا على أن (٢) الفضاء خارج العالم ، لا نهاية له. فلما حصل هذا العالم (٣) صار بعض الأحياز بالنسبة إلى الواقفين على وجه الأرض فوقا وبعضها تحتا. فأما خارج العالم فليس هناك فوق وتحت بل ليس هناك إلا الفضاء المتشابه الآخر في تمام الطبيعة والماهية. وذلك هو المطلوب.

الحجة الثالثة على صحة الحركة على جميع الأجسام : أن نقول : [الجسم (٤)] إما أن يكون بسيطا أو مركبا. فإن كان مركبا فكل مركب لا بد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى البسائط ، فوجب أن يكون ذلك المركب مركبا من الأشياء ، كل واحد منها [في نفسه (٥)] يكون بسيطا. وإذا ثبت هذا ، فنقول : كل واحد من تلك البسائط ، فإنه يجب أن يحصل له جانبان : أحدهما : يمينه. والآخر يساره. وطبيعة يمينه : لا بد وأن تكون مساوية لطبيعة يساره في تمام الماهية. وإلا لكان أحد هذين الجانبين مخالفا للجانب الآخر في تمام الماهية. وحينئذ يكون ذلك الجسم مركبا ، مع أنا فرضناه بسيطا. هذا خلف. وإذا ثبت استواء جانبي ذلك الجزء في تمام الماهية ، فكل ما يصح على أحد ذينك الجانبين ، وجب أن يصح على الجانب الآخر. ضرورة أن المتساويات في تمام الماهية ، يجب استواؤها في جميع [اللوازم (٦)] وإذا ثبت هذا فنقول : الجسم الذي هو ممسوس يمينه ، وجب أن يصح كونه ممسوسا يساره، وبالعكس. ولا يمكن حصول هذا المعنى ، إلا بحركة تلك الأجزاء. فلما كان التبدل في المماسة ممكنا ، ولا يحصل ذلك التبدل إلا عند حصول حركة الأجزاء ، وجب القول بأن تلك الحركة (٧) أيضا : ممكنة وهو المطلوب.

__________________

(١) من (س)

(٢) أن هذا الفضاء (ت)

(٣) العالم ، فليست حصول هذا العالم صار بعض ... الخ (ت)

(٤) من (ت)

(٥) من (ط)

(٦) من (ت)

(٧) الحركة ليست ممكنة (ت)

٢٩٤

الحجة الرابعة : وهي إلزامية. وهي أن الأجسام ، إما فلكية ، وإما عنصرية. أما الفلكيات فإنه يجب كونها متحركة ، على مذهب الفلاسفة. وأما العنصريات فإن كل واحد من أجزاء العنصر الواحد ، يمكن كونه متحركا. وذلك يدل على أن جميع الأجسام قابلة للحركة.

الحجة الخامسة : أن نقول : لا شك أن هذه الأجسام المحسوسة ، تخرج عن أحيازها ، وإذا خرجت عن أحيازها ، وزالت من إخراجها عن تلك الأحياز ، فإنها لا تعتد بطابعها إلى الأحياز المتقدمة ، وذلك يدل على أن هذه الأجزاء لا يجب حصولها في أحياز معينة ، وأنه يمكن خروجها عن تلك الأحياز المعينة ، وذلك كاف في إقامة الدليل على حدوث هذه الأجسام.

ثم إذا ثبت هذا المطلوب في هذه الأجسام ، ثبت أيضا في سائر الأجسام بالبناء على وجوب تماثل الأجسام.

واعلم أن المجسمة والكرّامية ، وكل من زعم أن الله مختص بحيز معين ، وحاصل في جهة معينة ، فإنه لا يمكنه تقرير هذه الدلائل البتة. لأنها بأسرها تصير منقوضة على قوله بذات الله تعالى.

المسألة الثالثة في بيان أن السكون محدث : فنقول : الدليل عليه : أن السكون جائز الزوال ، وكل ما كان كذلك ، فإنه يمتنع أن يكون أزليا. إنما قلنا : إن كل سكون جائز الزوال ، لأن كل جسم فإنه يصح خروجه عن حيزه ، وإذا خرج [عن حيزه (١)] فإنه لا بد وأن يعدم حال كونه حاصلا في ذلك الحيز ، وذلك يقتضي أن كل سكون فإنه جائز الزوال. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن الجسم إذا خرج عن ذلك الحيز ، فإن ذلك السكون لا يصير معدوما ، بل نقول : إنه يصير كامنا بعد أن كان ذلك ظاهرا ، أو يقال : إن ذلك السكون ينتقل من ذلك الجسم إلى جسم آخر ، أو يقال : إنه ينتقل إلى لا في محل؟

__________________

(١) مرادنا (ت)

٢٩٥

الجواب من وجهين :

الأول : إن المراد من السكون : هو مجرد حصول الجسم في ذلك الحيز ، وهذا الحصول لا معنى له إلّا هذه النسبة المخصوصة ، وهذه الإضافة المخصوصة. فإذا خرج الجسم عن ذلك الحيز ، فقد بطل كونه حاصلا فيه. لأن الإضافات إذا لم تبق ، فقد عدمت وفنيت ، وزالت. والعلم به ضروري. بل لو ادعينا : إثبات معنى يستقل بنفسه ، يوجب كون الجسم حاصلا في الحيز ، فهذا السؤال متوجه عليه.

والوجه [الثاني (١)] في الجواب : إنا لو سلمنا صحة الكمون والظهور ، وصحة الانتقال على الأعراض. إلا أنا نقول : لو كان الجسم أزليا ، لكان في الأزل. إما أن يكون حالة واحدة من هذه الأحوال من غير تغير وتبدل. وإما أن تكون موصوفة بالتبدل والتغير ، ويسمى بقاء الجسم على (٢) حالة واحدة بالسكون ، ويسمى انتقاله من حالة إلى حالة أخرى بالحركة. وحينئذ يتمشى الدليل المذكور.

فيثبت : أن هذا السؤال ساقط بسبب هذين الوجهين :

والعجب : أن المتكلمين طولوا في هذا الباب ، وتكلموا في أربع مسائل :

إحداها : في إبطال الكمون والظهور.

وثانيها : في إبطال انتقال الأعراض من محل إلى محل [آخر (٣)] وثالثها : في انتقال الأعراض من محلها ، إلى لا في محل.

رابعها : بيان أن العرض لا يقوم بالعرض.

وإنما خاضوا في تقرير هذه المسائل الأربع ، لدفع السؤال المذكور. وقد ظهر بالتقرير الذي ذكرناه : أنه لا حاجة البتة في دفع ذلك السؤال إلى شيء

__________________

(١) من (ت)

(٢) الحالة الواحدة (ت)

(٣) من (ط)

٢٩٦

من هذه المسائل : فظهر : أن الخوض فيها فضول من غير فائدة.

وإنما قلنا : إن كل ما كان جائز الزوال ، فإنه يمتنع كونه أزليا. لوجوه من الدلائل :

الحجة الأولى : وهي التي عوّل عليها الأشعرية. أن قالوا : القديم لو عدم ، لكان عدمه إما أن يكون بإعدام معدم ، أو بطريان ضد ، أو بانتفاء شرط. والأقسام الثلاثة باطلة ، فالقول بعدم القديم باطل.

واعلم أنا بالغنا في تقرير هذه الحجة ، في تقرير قول من يقول : الأجسام يمتنع أن تصير معدومة ، بعد أن كانت موجودة. ولما ذكرنا هذه الحجة هناك مع الزوائد الكثيرة ، والتقريرات اللطيفة ، فلا فائدة في الإعادة.

الحجة الثانية : وهي التي عولنا عليها في الكتب الكلامية : أن يقال : القديم إما [أن يكون (١)] واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته. فإن كان واجبا لذاته ، امتنع عليه العدم. لأن المراد من الواجب لذاته ما تكون حقيقته غير قابلة للعدم. وما كان كذلك ، امتنع العدم عليه. وأما إن كان ممكنا لذاته ، فنقول : كل (٢) ما كان ممكنا لذاته ، فله مؤثر. وذلك المؤثر ، إما أن يكون فاعلا مختارا ، وإما أن يكون موجبا بالذات. والأول باطل. لأن الفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القصد. والقصد إلى تكوين الشيء حال بقائه محال. بل القصد إلى التكوين : إنما يمكن (٣) إما حال عدمه ، وإما حال حدوثه. وعلى التقديرين ، فكل ما يقع بالفاعل المختار ، فهو حادث. والقديم ليس بحادث. فامتنع إسناد القديم إلى الفاعل المختار. والقسم الثاني : وهو أن يقال : ذلك القديم معلل بعلة قديمة. فنقول : تلك العلة القديمة ، إن كانت ممكنة عاد التقسيم فيه ، وإن كانت واجبة لذاتها ، فإما أن يكون تأثيرها في وجود ذلك القديم غير موقوف على شرط ، أو كان موقوفا على شرط. فإن

__________________

(١) من (ط)

(٢) كل ممكن لذاته (ت)

(٣) يكون (ت)

٢٩٧

كان الأول ، لزم من امتناع العدم على تلك العلة القديمة ، امتناع العدم على ذلك المعلول القديم ، وذلك يفيد صحة قولنا : إن الأزلي لا يزول.

وأما الثاني : وهو أن يقال : إن تأثير تلك العلة القديمة ، في ذلك المعلول القديم ، يتوقف على شرط. فنقول : ذلك الشرط ، إن كان ممكنا عاد التقسيم الأول فيه ، وإن كان واجبا ، فحينئذ تكون العلة المؤثرة في وجود ذلك القديم ، واجبة لذاتها ، ويكون شرط ذلك التأثير أيضا : واجبا لذاته. وعلى هذا التقدير فإن ذات العلة : واجبة لذاتها. وشرط تأثيرها في ذلك القديم : واجب لذاته. ويلزم من وجوب وجود هذين الأمرين : وجوب دوام ذلك المعلول ، وامتناع عدمه. فيثبت بما ذكرنا : أن كل ما كان قديما ، فإنه يمتنع عدمه. فلما دللنا على أن كل سكون فهو جائز الزوال [ثبت (١)] أن السكون يمتنع أن يكون أزليا [والله أعلم (٢)]

فإن قيل : الكلام على هذه الحجة. من وجوه :

الأول : أن نقول : البارئ تعالى ، إما أن يكون عالما بالجزئيات ، أو ليس كذلك. فإن كان الحق هو القسم الثاني ، وهو أن العلم بالجزئيات والتغيرات على الله تعالى محال. فعلى هذا التقدير يمتنع كون العالم محدثا ، لأنه لو كان محدثا ، لما حدث إلا لأجل أنه تعالى قصد إلى إيجاده وتكوينه ، لكن على تقدير بأن لا يكون عالما بالجزئيات ، فإنه يمتنع كونه قاصدا إلى إيجاد العالم ، لأن القصد إلى إيجاد الشيء ، مشروط بكونه عالما ، بأن العالم معدوم ، وأنه سيوجد. فإذا كان العلم بالجزئيات محالا ، لكان هذا القصد محالا. وإما إن كان الحق هو القسم الأول ، وهو أنه تعالى عالم بالجزئيات. فنقول : فعلى هذا التقدير صدق على الله تعالى : أنه ما كان عالما في الأزل بوجود العالم ، ثم صدق عليه : أنه صار عالما بوجود العالم عند دخوله في الوجود ، فصدق هذا

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ت)

٢٩٨

النفي. والإثبات هل يقتضي زوال أمر كان ، وحصول أمر (١) حدث ، أو لا يقتضي؟

فإن كان الأول. فنقول : ذلك الذي زال. إن كان قديما فقد اعترفتم بأن القديم قد زال. وإن كان حادثا فالكلام في ذلك الحادث ، كالكلام في الأول ، ولزم أن يكون كل علم مسبوقا بعلم آخر إلى أول. وإذا جاز هذا ، فقد بطل دليلكم في إفساد القول بحوادث لا أول لها.

وأما إن قلنا : إن صدق قولنا [ما كان عالما بوجوده لا يقتضي حدوث شيء ولا زوال شيء. فلم لا يجوز أن يقال : إن صدق قولنا (٢)] بتحرك الجسم بعد أن كان ساكنا ، لا يقتضي أيضا زوال شيء ، ولا حدوث شيء. وحينئذ يبطل الدليل المذكور؟ فهذا سؤال قاهر ، قوي على هذا الدليل.

السؤال الثاني : أن نقول : البارئ تعالى إما أن يقال : إنه كان في الأزل قادرا على إحداث هذا العلم ، أو ما كان قادرا عليه. والثاني باطل. وإلا فتلك القادرية لا تحدث [إلا (٣)] لأجل قادر آخر. ولزم التسلسل وهو محال. فيثبت : أن الحق هو الأول. وهو أنه تعالى كان في الأزل قادرا على إحداث هذا العالم. وإذا أحدث هذا العالم ، فبعد حدوثه. هل بقي قادرا على إحداثه ، أو ما بقي كذلك؟ [والأول باطل (٤)] لأن القدرة على إحداث الشيء بعد وجوده محال. فيثبت : أنه تعالى كان قادرا على إحداث [هذا (٥)] العالم في الأزل. فيثبت أن بعد دخول هذا العالم في الوجود ، ما بقي كونه قادرا على إحداث هذا العالم. فكونه قادرا على إحداث هذا العالم : صفة أزلية ، وقد زالت وفنيت. وذلك قول بأن الأزلي قد زال. فإن قالوا : كونه تعالى قادرا على الإحداث والإيجاد : صفة أزلية. وأنها لا تزول ولا تبطل. فأما كونه قادرا على إيجاد هذا

__________________

(١) حادث (ط)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط)

(٤) من (ط)

(٥) من (س)

٢٩٩

العالم فلا معنى له إلا إضافة قدرته إلى هذا الايجاد المعين المخصوص ، فالزائل ليس إلا هذه الإضافة ، وذلك غير ممتنع. فنقول : هذا العذر مدفوع من وجهين :

الأول : إن الدليل الذي ذكرتموه ، يتناول كل ما كان أزليا ، سواء كان صفة حقيقية، أو أمرا إضافيا. ولما كان الدليل عالما ، وقد توجه النقض عليه ، فقد لزم الإشكال.

الثاني : وهو أن غاية كلامكم : أن هذا الذي زال ، ليس إلا مجرد إضافة ونسبة ، وكذلك السكون الذي زال ، لا حقيقة له إلا مجرد إضافة ونسبة. لأنكم فسرتم السكون بمجرد (١) كونه حاصلا في الحيز المعين على سبيل الدوام. والحصول في الحيز المعين لا معنى له إلا إضافة مخصوصة ، ونسبة مخصوصة. عرضت فذات الجسم بالنسبة إلى ذلك الحيز. فيثبت : أن هذا السكون لا حقيقة له إلّا محض الإضافة والنسبة. وتعلق قدرة الله [تعالى (٢)] بإيجاد هذا العالم أيضا : نسبة مخصوصة ، وإضافة مخصوصة. فإن امتنع العدم على النسبة الأزلية ، والإضافة الأزلية ، وجب أن يكون الكل كذلك. وإن لم يمتنع ذلك في بعض الصور ، وجب أن يكون في الكل كذلك. فأما تجويزه في بعض الصور دون البعض ففاسد.

السؤال الثالث : وهو أنه تعالى مؤثر في وجود هذا العالم ، فتأثيره فيه ، إما أن يكون على سبيل الإيجاد الذاتي ، وإما أن يكون على سبيل الصحة. فإن كان الأول ، لزم من دوام ذات الله تعالى ، دوام العالم. وإن كان الثاني فنقول : المؤثر على سبيل الصحة هو الذي يكون قادرا على الفعل والترك. لأنه لو صح منه الفعل ، ولم يصح منه الترك ، فحينئذ يخرج عن كونه قادرا ، ويصير موجبا بالذات. وكل من كان قادرا على الفعل والترك ، وجب أن يكون الترك

__________________

(١) المجرد (ت)

(٢) من (ت)

٣٠٠