المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

القسم الثاني من الجزء الرابع

في

مباحث القائلين بالحدوث

٢٤١
٢٤٢

المقالة الأولى

في

تقرير الدلالة المبنية

على الحركة والسكون

٢٤٣
٢٤٤

الفصل الأول

في

تقرير هذه الحجة

نقول : لو كان الجسم أزليا ، لكان في الأزل. إما أن يكون متحركا ، أو ساكنا. والقسمان باطلان ، فيمتنع كونه أزليا.

واعلم : أنا نفتقر في تقرير هذا الدليل ، إلى إثبات مقدمات ثلاثة :

أولها : إن الجسم متى كان موجودا ، وجب أن يكون إما متحركا ، وإما (١) ساكنا.

وثانيها : [بيان (٢)] أن الجسم يمتنع أن يكون [في الأزل (٣)] متحركا.

وثالثها : بيان أنه يمتنع كونه ساكنا.

وحينئذ يتم الدليل. أما بيان المقدمة الأولى (٤) : فهو أنا نقول : لا شك أن كل ما كان متحيزا ، وجب أن يكون حاصلا في حيز معين. وإذا ثبت هذا ، فنقول : إما أن يكون مستقرا في ذلك الحيز ، وإما أن لا يكون كذلك ، بل يكون متنقلا من حيز إلى حيز آخر. والأول هو الساكن ، والثاني هو

__________________

(١) أو (ط)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط ، ت)

(٤) المقام الأول (ت)

٢٤٥

المتحرك. فيثبت : أن الجسم متى كان موجودا ، وجب أن يكون ، إما متحركا ، وإما ساكنا.

فإن قيل : لا نسلم أن الجسم كلما (١) كان موجودا ، وجب أن يكون متحيزا. وذلك لأن من الناس [من قال (٢)] :

الحجمية والتحيز صفة قائمة بمحل ، وذلك المحل في نفسه ، ليس بحجم ولا بمتحيز. ويسمون ذلك المحل : بالهيولى. وهذه الحجمية : بالصورة. فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك؟ وبتقدير أن تكون تلك الذات خالية عن الحجمية ، لم يجب كونها حاصلة في حيز أصلا؟ وحينئذ يبطل كلامهم.

سلمنا (٣) أن الجسم كلما كان موجودا ، كان متحيزا. لكن قولكم : «وكل ما كان كذلك ، وجب أن يكون حاصلا في حيز معين» كلام مبني على تصور أصل الحيز ، فما المراد من هذا الحيز ، الذي جعلتموه ظرفا لهذا الجسم؟ وتقريره أن نقول : هذا الشيء المسمى بالحيز ، إما أن يقال : إنه عدم محض ، ونفي صرف. وإما أن يكون موجودا.

فإن كان الحق هو الأول ، امتنع كون الجسم واجب الحصول فيه. لأن جعل المعدوم ظرفا للموجود محال. وأما إن كان موجودا ، فإما أن يكون مشارا إليه بحسب الحس ، أو غير مشار إليه. والأول باطل. لأن المشار إليه ، بحسب الحس إما أن يكون [كذلك (٤)] بحسب الاستقلال ، أو بحسب التبعية. فإن كان الأول فهو الجسم (٥) فالقول بأن الجسم حاصل في الحيز يكون معناه : أن الجسم حاصل في الجسم. فإن كان المراد من هذه الظرفية : الزمان فحينئذ يلزم تداخل الأجسام ، وإن كان المراد منها المماسة ، لزم أن يكون كل جسم متصلا بجسم آخر ، إلى غير النهاية. وهو محال.

__________________

(١) متى كان (ط)

(٢) من (ط ، ت)

(٣) سلمت (ط ، ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) المتحيز (ط ، س)

٢٤٦

وإن كان الثاني : وهو أن يكون [الحيز (١)] مشار إليه بحسب التبعية ، فهذا هو العرض والعرض حاصل في الجسم ، فلو كان الجسم حاصلا في العرض ، لزم كون كل واحد منهما ظرفا للآخر ومظروفا له ، وهو محال. وأما إن كان المسمى بالحيز موجودا ، غير مشار إليه بحسب الحس ، امتنع حصول الجسم فيه ، بمعنى كونه مظروفا لذلك الشيء ، وكون ذلك الشيء ظرفا للجسم ، لأن الجسم موجود مشار إليه بحسب الحس ، وإذا كان المسمى [بالحيز (٢)] موجودا ، غير مشار إليه ، كان كل واحد منهما مباينا عن الآخر. وحينئذ يمتنع كونه ظرفا له. فهذا هو الكلام في الحيز.

سلمنا : أن الحيز معقول الماهية. فلم قلتم : إن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون؟ قوله : «لأن الجسم إما أن يبقى مستقرا في حيزه المعين ، أو ينتقل منه إلى غيره» قلنا : هذا الدليل معارض بدليل آخر ، وهو أن يقال : لو كان الجسم مستلزما للحركة والسكون ، لكان إما أن يستلزمها معا ، أو يستلزم أحدهما بعينه ، أو يستلزم أحدهما لا بعينه. والكل باطل. فبطل القول بهذا الاستلزام. أما إنه لا يمكن أن يستلزمهما معا ، فلأنه يقتضي كون الجسم الواحد متحركا ساكنا معا. وهو محال. وأما إنه لا يمكن أن يستلزم أحدهما بعينه ، فلأنه يلزم أن لا يصير المتحرك ساكنا. وبالعكس. وذلك محال. وإما إنه لا يمكن أن يستلزم أحدهما لا بعينه ، فلأن كل ما كان موجودا في الأعيان ، فهو في نفسه معين ، فإنه من المحال أن يحصل في الوجود : موجود ، لا يكون هو في نفسه معينا ، بل يكون هو في نفسه ، إما هذا ، وإما ذاك.

وإذا امتنع وجود موجود غير معين في نفسه ، امتنع كون غير المعين لازم للجسم ، لأن كون الشيء لازما [لغيره (٣)] في الأعيان [فرع على كونه موجودا في الأعيان ، فما لا وجود له في الأعيان ، امتنع كونه لازما (٤)] للجسم الذي هو

__________________

(١) من (ط)

(٢) سقط (ط)

(٣) من (ط)

(٤) من (ط ، س)

٢٤٧

موجود في الأعيان. فيثبت : أنه من المحال : أن يقال : الجسم يستلزم إما الحركة أو السكون لا بعينه. فهذا هو البحث عن الحيز في هذا المقام.

والجواب عن السؤال الأول : [من وجهين :

الأول (١)] : إنا بينا في مسألة الهيولى والصورة : أن ذات الجسم لا يمكن أن تكون مركبة من الهيولى والصورة ، وأن القول : بإثبات هذه الهيولى : قول باطل.

والثاني : إن بتقدير أن يثبت ذلك ، إلا أن الهيولى الخالية عن الجسمية (٢) لا تكون جسما. [ونحن (٣)] إنما حاولنا بهذا الدليل : إثبات حدوث الأجسام ، فلم يكن هذا السؤال (٤) واردا علينا.

والجواب عن السؤال الثاني : إن المكان عندنا عبارة عن البعد. والكلام فيه سيأتي بالاستقصاء إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الثالث : إنا نعلم بالضرورة : أن الممكن ماهية لا تنفك عن مجموع الوجود والعدم ، وإن كان قد يعقل انفكاكها عن كل واحد منهما [بدلا (٥)] عن الآخر. فكل ما يقال هناك : فهو قولنا هاهنا. وكذلك [طبيعة (٦)] العدد لا تنفك عن الفردية والزوجية ، مع أن طبيعته لا تقتضي أحد هذين الوصفين [بعينه (٧)] فكذا القول : في هذا الموضع [والله أعلم (٨)].

__________________

(١) من (ط)

(٢) الجسم (ت)

(٣) من (ط)

(٤) الدليل (ط)

(٥) من (ط ، س)

(٦) من (ط ، س)

(٧) من (ط ، س)

(٨) من (ط ، س)

٢٤٨

الفصل الثاني

في

إقامة الدلالة على أن الجسم يمتنع

أن يكون متحركا في الأزل

مجموع ما حصلناه من الدلائل المذكورة في هذا الباب عشرة :

الحجة الأولى : إن الحركات الماضية قابلة للزيادة والنقصان. وكل ما كان كذلك فهو متناه. فالحركات الماضية متناهية.

أما بيان المقدمة الأولى : وهي قولنا : الحركات الماضية قابلة للزيادة والنقصان. فتقريره من عشرة أوجه :

الأول : إنه كلما يدور «زحل» دورة واحدة ، فقد دارت الشمس ثلاثين دورة. فوجب القطع بأن عدد دوران (١) الشمس أكثر من [عدد (٢)] دوران زحل بثلاثين مرة (٣)

الثاني : لا شك أن السنة الواحدة تكون اثني عشر شهرا ، والشهر الواحد يكون ثلاثين يوما. فعدد الأيام أكثر من عدد الشهور ، وهو أكثر من عدد السنين. فيثبت : أن الأحوال الماضية قد دخل فيها الزيادة والنقصان.

الثالث : إنا إذا أخذنا اليوم مع ليلته شيئا واحدا. فلا شك أنه ينقسم

__________________

(١) أدوار (ط)

(٢) من (ط)

(٣) دوره (ط)

٢٤٩

إلى ليل ونهار ، فيكون عدد المجموع : نصف عدد مجموع الشهر والليالي. وذلك هو المطلوب.

الرابع : إنه كلما حدث (١) يوم ، فإنه تزاد الجملة الماضية بيوم واحد ، فكان المجموع الحاصل [قبل هذا اليوم ، أنقص من المجموع الحاصل (٢)] بعد حصول هذا اليوم. وهذه الزيادات والنقصانات حاصلة أبدا.

الخامس : إنا إذا أخذنا الحوادث الماضية من هذا اليوم الحاضر إلى الأزل ، جملة واحدة. وأخذناها من أول وقت الطوفان إلى الأزل جملة أخرى. فلا شك أن الجملة الأولى أزيد من الجملة الثانية ، بالمقدار الذي حصل من زمان الطوفان إلى هذا اليوم. فإذا أطبقنا هاتين الجملتين من الجانب الذي يلينا ، فإما أن يمتد (٣) من الجانب الأول أبدا من غير حصول التفاوت ، أو لا بد وأن يظهر التفاوت. والأول يقتضي أن يكون الزائد مساويا للناقص. وهو محال. والثاني يقتضي [أن تكون (٤)] إحدى الجملتين ناقصة عن الأخرى.

السادس : إنّا لو قدرنا أنه حدث في كل دورة من الدورات (٥) الماضية شيء ، وبقي بحيث لا يفنى البتة. فعلى هذا التقدير لو كانت الدورات الماضية غير متناهية ، لكان مجموع تلك الأشياء المجتمعة في زماننا عددا غير متناهي. ومثاله : أن عند الفلاسفة حدث في كل دورة من الأدوار الماضية أعداد من النفوس الناطقة. ثم قالوا : «النفوس الناطقة لا تقبل العدم» فعلى هذا التقدير ، يلزم أن يقال : إن مجموع النفوس الناطقة الموجودة في هذا اليوم: عدد غير متناه. ثم لا شك أن هذا المجموع قابل للزيادة والنقصان. لأن من المعلوم بالضرورة : أن العدد الذي كان حاصلا في زمان الطوفان ، أقل من العدد الذي حصل الآن.

__________________

(١) جد (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) مبتدئ (ط ، ت)

(٤) من (ط)

(٥) الأدوار (ط ، ت)

٢٥٠

السابع : لو قدرنا أنه حصل في كل دورة من الدورات الماضية ، الغير المتناهية : نفس واحدة. وبقيت. لكان قد حصل الآن أعداد لا نهاية لها من النفوس. فإذا علمنا : أن الحاصل في كل واحد من الأدوار الماضية أعداد كثيرة من النفوس ، فحينئذ يلزم أن يكون العدد الموجود الآن من النفوس أضعافا غير متناهية مرارا كثيرة. يدل على أن عدد الأدوار الماضية قابل للزيادة والنقصان. فإنا بينا أن عدد الأدوار الماضية ، أقل من عدد النفوس الناطقة.

والثامن : وهو أن عدد الأدوار الماضية. إما أن يكون شفعا أو وترا. فإن كان شفعا فهو أنقص من الوتر ، الذي فوقه بواحد. وإن كان وترا ، فهو أنقص من الشفع الذي فوقه بواحد. وعلى جميع الأحوال ، فالأمور الماضية قابلة للزيادة والنقصان.

التاسع : إن الأدوار الماضية لها عدد. فنصف ذلك العدد : أقل من كله. فنصفه متناه. فضعفه : ضعف للمتناهي. وضعف المتناهي : متناهي.

العاشر : لا شك أنه حصل لكل واحد من الأفلاك : أدوار مخصوصة على حدة. فلو كانت أدوار الفلك الأعظم غير متناهية ، وكذلك أدوار فلك «الثوابت» غير متناهية ، وكذلك أدوار فلك «زحل» غير متناهية. وكذا القول في البواقي. فنقول : لا شك أن عدد مجموع هذه الأدوار : أكثر من عدد أدوار الفلك «الأعظم» وحده. ومن عدد أدوار فلك «الثوابت» وحده. وهذا يدل على أن عدد الأحوال الماضية يقبل الزيادة والنقصان.

[وأما المقدمة الثانية : وهي قولنا : أن كل ما يقبل الزيادة والنقصان (١)] فله عدد متناه. فتقريره : أن الشيء إنما يكون أنقص من غيره ، لو انتهى ذلك الشيء إلى حيث لا يبقى منه شيء. مع أنه بقي من ذلك الزائد شيء ، وكل ما انتهى عدده إلى حيث لا يبقى منه شيء ، كان متناهيا. وينتج : أن كل عدد ناقص فهو متناه. ثم إن الزائد إنما زاد على ذلك الناقص المتناهي : بعدد

__________________

(١) من (ط ، س)

٢٥١

متناه. والزائد على العدد المتناهي ، بعدد متناهي يجب أن يكون متناهيا. فهذا الزائد أيضا يجب أن يكون متناهيا. فالأحوال الماضية ، والأدوار الماضية : يجب أن تكون متناهية.

هذا تمام تقرير هذه الحجة [والله أعلم (١)]

فإن قيل : مدار هذا الدليل على أن الحركة الفلكية لها أعداد وأجزاء. وذلك ممنوع. وهذا السؤال لا يتم إلا بتقرير مقدمة :

وهي أنا نقول : الجسم إذا تحرك من أول المسافة إلى آخرها ، فتلك الحركة : حركة واحدة في نفسها ، ولا يمكن أن يقال : إنها مركبة من آنات متلاصقة ، وأجزاء متعاقبة. إذ لو كان الأمر كذلك ، لكانت تلك المسافة مركبة من أجزاء لا تتجزأ ، وذلك باطل بالدلائل الدالة على نفي الجوهر الفرد. فيثبت : أن الحركة من أول المسافة إلى آخرها : حركة واحدة في الحقيقة ، وليست مركبة من أقسام وأجزاء. إذا عرفت هذا ، فنقول : إنما حصل الأول والآخر لهذه الحركات التي نشاهدها في عالمنا هذا : لأن ذلك المتحرك ابتدأ بالحركة بعد أن كان ساكنا ، وانتهى (٢) في آخر الأمر إلى السكون. ولو فرضنا عدم هذا السكون في أول هذه الحركة وآخرها ، لم يحصل لهذه الحركة أول ولا آخر [بل كانت حركة واحدة في ذاتها ، مبرأة عن الكثرة والعدد. وإذا عرفت هذا ، فنقول : الحركة الفلكية ليس لها أول وآخر (٣)] على مذهب القائلين بأنه لا أول لها ، فكانت في نفسها حركة واحدة متصلة أزلا وأبدا. ولا يكون لها شيء من الأجزاء والأعداد. وجميع ما ذكرتم في كون تلك الدورات قابلة للزيادة والنقصان بحسب الأعداد ، ومبني على ثبوت العدد ، فلما بطل ذلك سقط جميع ما ذكرتم.

سلمنا : حصول الأعداد والدورات ، لكنا نقول : المحكوم عليه بقبول

__________________

(١) من (ط ، ت)

(٢) لم ينته (ط ، ت)

(٣) من (ط ، ت)

٢٥٢

الزيادة والنقصان : إما كل واحد من تلك الدورات ، أو مجموعها.

والأول لا نزاع فيه لأن غاية الكلام فيه : أنه يلزم كون كل واحد من تلك الأدوار متناهيا. وذلك لا نزاع فيه.

وأما الثاني : فهو باطل من وجهين :

الأول : إن الشيء لا يوصف بكونه مجموعا وجملة ، إلا إذا كان متناهيا. فنقول : مجموع الأدوار (١) الماضية كذا وكذا. أو قولنا : جملة الأمور الماضية كذا وكذا : إنما يصح لو كانت تلك الأمور الماضية متناهية ، وحينئذ يتوقف صحة المقدمة على صحة المطلوب. وذلك يوجب الدور.

والثاني : مجموع الأدوار الماضية لا وجود له البتة [وما لا وجود له البتة (٢)] امتنع الحكم عليه بقبول الزيادة والنقصان. إنما قلنا : إن مجموع الأمور الماضية ، لا وجود له البتة ، لأنه لو حصل لهذا المجموع : وجود. لكان إما أن يكون موجودا في الأعيان ، أو في الأذهان. والأول باطل. لأن مجموع الأدوار الماضية لم يحصل البتة في شيء من الأوقات الماضية والحاضرة والمستقبلة. بل الموجود فيه أبدا دورة واحدة فقط. والثاني أيضا باطل. لأن الذهن لا يقوى على استحضار (٣) أمور لا نهاية لها على التفصيل. وإن كان كذلك ، امتنع أن يحضر [في الذهن (٤)] صور الأدوار التي لا نهاية لها على التفصيل. فيثبت : أن مجموع الأمور الماضية لا وجود له البتة ، لا في الأعيان ولا في الأذهان. وإنما قلنا : إن كل ما كان كذلك ، امتنع الحكم عليه بقبول الزيادة والنقصان. وذلك لأن كون الشيء قابلا لشيء آخر : فرع على كون ذلك القابل موجودا في نفسه [لأن حصول شيء لشيء آخر له ، فرع على حصوله في نفسه (٥)] فإذا لم يكن لهذا المجموع حصول البتة ، استحال على أن

__________________

(١) الأمور (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) لاستحضار (ط)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط ، ت)

٢٥٣

يحصل له غيره ، فامتنع كونه قابلا للزيادة والنقصان.

وهذا هو السؤال الذي عليه اعتماد الشيخ الرئيس [أبي (١)] علي ابن سينا.

سلمنا : أن ذلك المجموع يصح الحكم عليه بقبول الزيادة والنقصان. فلم قلتم : إن كل ما كان كذلك ، فهو متناه؟ ولم لا يجوز أن يقال : إن كل واحد منهما (٢) يذهب إلى غير النهاية ، ولا ينتهي واحد منهما إلى الانقطاع ، مع أنه يكون أحدهما مشتملا على ما لم يحصل في الآخر؟ وما الدليل على أنه لا يجوز أن يكون الأمر كذلك؟ سلمنا (٣) : أن ما ذكرتموه ، يدل على أنه يمتنع وجود ما لا نهاية له ، إلا أنا نقول : ما ذكرتم ينتقض بأمور :

الأول : إنكم تقولون : إنه تعالى عالم بما لا نهاية له من المعلومات. ولا شك أن الإضافة إلى أحد تلك المعلومات ، مغايرة إلى المعلوم الآخر ، لأن كون العالم عالم بذلك المعلوم المعين ، إضافة مخصوصة بين العالم وبين ذلك المعلوم. وكون ذلك العالم [عالما (٤)] بمعلوم آخر إضافة أخرى بين ذلك العالم وبين المعلوم الآخر. والدليل على تغاير هذه الإضافات : أنه يصح أن يعلم كون العالم عالما بهذا المعلوم ، مع الشك في كون ذلك العالم عالما بالمعلوم الآخر. والمعلوم مغاير لغير المعلوم. فيثبت : أن كون العالم عالما بهذا المعلوم : مغاير لكونه عالما بذلك المعلوم الآخر. وإذا ثبت هذا فكونه تعالى عالما بمعلومات لا نهاية لها : يقتضي حصول إضافات لا نهاية لها في ذاته وذلك [نقض (٥)] صريح على قولكم : إن وجود أعداد لا نهاية لها : محال. لا يقال : هذه الإضافات أمور لا حصول لها في الأعيان ، فزال الإشكال. لأنا نقول : نحن لا نريد بهذه الإضافة إلا كونه

__________________

(١) من (ط)

(٢) يشير إلى العبارة «لأنه كون الشيء قابلا لشيء آخر»

(٣) سلمنا على أن ما ذكرتم (ط ، ت)

(٤) من (ط)

(٥) من (ط ، ت)

٢٥٤

عالما بهذا المعلوم ، وبذلك المعلوم. فإن زعمتم : أن انضاف علمه إلى هذا المعلوم ، [وإلى (١)] ذلك المعلوم غير حاصل في نفس الأمر. فهذا نفي لكونه تعالى عالما بهذه المعلومات. وإن سلمتم : أن تلك الإضافات حاصلة في نفس الأمر ، فقد لزم السؤال لا محالة.

النقض الثاني : أن نقول : إنه تعالى لما كان عالما. بجميع المعلومات. فإذا علم شيئا ، وجب [أن يعلم (٢)] كونه عالما بذلك الشيء ، وأن يعلم كونه عالما بكونه عالما بذلك الشيء ، وهكذا إلى ما لا نهاية له. فقد حصل في هذا المعلوم الواحد مراتب لا نهاية لها من المعلومات (٣) ولما كانت معلومات الله [تعالى (٤)] غير متناهية ، وثبت : أن لله تعالى بحسب كل واحد من المعلومات علوم لا نهاية لها. فحينئذ يلزم أن يقال : إنه حصل لله تعالى علوم لا نهاية لها ، لا مرة واحدة ، بل مرارا غير متناهية (٥) وذلك يبطل قولكم : إن الأعداد التي لا نهاية لها ، يمتنع دخولها في الوجود. لا يقال : العلم بالعلم بالشيء ، نفس العلم بذلك الشيء. وأيضا : فبتقدير التغاير ، إلا أن هذه المراتب التي لا نهاية لها ، لا تحصل بالفعل بل بالقوة. لأنا نقول : أما الكلام الأول فضعيف. لأن المعلوم والعلم شيئان متغايران. فكان العلم بأحدهما مغايرا للآخر ، فكان العلم بالمعلوم مغايرا للعلم بذلك العلم. وأما الكلام الثاني فضعيف. لأنه تعالى لو كان عالما بتلك المراتب لا بالفعل بل بالقوة ، فحينئذ يلزم تجهيل (٦) الله تعالى منه. وأيضا : يلزم كون (٧) الله تعالى محلا للحوادث ، لأن كل ما كان بالقوة ، فإنه لا يمتنع خروجه إلى الفعل.

النقض الثالث : إنه تعالى متمكن من إيجاد جميع الممكنات. ولا شك أن أنواع

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

(٣) المعلوم (ط ، ت)

(٤) من (ط ، ت)

(٥) لا نهاية لها (ط)

(٦) تحصيل الله تعالى عنه (ط)

(٧) كونه محلا (ط ، ت)

٢٥٥

الممكنات غير متناهية. ولا شك أن إمكان إيجاد أحد تلك الأنواع : مغاير لإمكان إيجاد النوع الآخر. بدليل : أنه يصح العلم بأحد الإمكانين مع الجهل بالإمكان الآخر ، وحينئذ يعود السؤال المذكور في العلم.

النقض الرابع : كل أمر فهو إما واجب الوجود لذاته ، أو ممتنع الوجود لذاته ، أو ممكن الوجود لذاته. والأقسام الثلاثة داخلة في المعلومية ، وأما المقدور فليس إلا الممكن. فمراتب المقدورات ، أقل من مراتب المعلومات ، مع أنه لا نهاية لمعلومات الله ولمقدوراته.

النقض الخامس : إن كل وحدة (١) تفرض فإنها نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة وربع الأربعة. وهكذا إلى ما لا نهاية له. فهذه النسب التي لا نهاية لها : حاصلة لا يقال : النسب والإضافات لا وجود لها في الأعيان ، بل هي اعتبارات ذهنية لا ثبوت لها في نفس الأمر. لأنا نقول : كل ما لا حصول له إلا بحسب فرض الذهن واعتبار العقل ، فإنه لا يكون واجب الحصول في نفس الأمر. وكون الوحدة نصفا للاثنين وثلثا للثلاثة ، وربعا للأربعة : أمور واجبة الثبوت ، لازمة التحقيق ، ممتنعة التبدل والتغير. فكيف يقال : إنه لا حصول لها إلا بحسب فرض الذهن ، واعتبار الخيال؟

النقض السادس : إن تضعيف الألف مرارا لا نهاية لها ، [أقل من تضعيف نصفالألفين مرارا ، لا نهاية لها (٢)] فههنا قد حصلت الزيادة والنقصان مع عدم النهاية. لا يقال : إن مراتب الأعداد لا وجود لها البتة ، بل هي من الاعتبارات الذهنية. لأنا نقول : إن هذه المراتب مترتبة في أنفسها ترتبا واجب التقرر ، ممتنع التغير. فالاثنان يقومان الثلاثة ، والثلاثة [مقومة (٣)] بالاثنين. وهذا التقويم والتقوم ممتنع التغير والتبدل ، فكيف يقال : هذه المراتب أمور فرضية اعتبارية؟

__________________

(١) واحد (ط ، ت)

(٢) من (ط)

(٣) (ط)

٢٥٦

النقض السابع : نحن نعلم بالضرورة : أن امتداد دوام ذات الله تعالى من الأزل إلى هذا اليوم، أطول (١) من امتداد دوامه من الأزل إلى يوم الطوفان. وحينئذ يعود كل ما ذكرتموه من الوجوه فيه. فإن كانت تلك الوجوه توجب إثبات أول للأحوال الماضية ، لزم كونها موجبة إثبات أول لوجود الله تعالى ، وإنه فاسد.

النقض الثامن : إن صحة حدوث الحوادث من الأزل إلى وقت الطوفان ، أقل من امتداده من الأزل إلى هذا اليوم. فيلزم : إثبات أول لهذه الصحة. وذلك محال لوجهين :

الأول : إنه يلزم أن يقال : إنه كان قبل ذلك المبدأ ممتنعا لعينه ، ثم انقلب بعده ممكنا [لعينه (٢)] وإنه محال.

والثاني : وهو أن كل وقت يفرض كونه أولا ، لإمكان حدوث الحوادث. فإن ذلك الإمكان كان حاصلا قبل ذلك الأول ، فإنه لو حصل ذلك الحادث قبل ذلك لأول بيوم أو يومين ، فإنه بسبب هذا القدر لا يصير أزليا فيثبت بهذا : أن فرض أول وبداية لصحة حدوث الحوادث : محال.

النقض التاسع : إنه يعارض جانب الأزل بجانب الأبد. فنقول : لا شك أن إمكان حدوث الحوادث من يوم الطوفان ، إلى آخر الأبد [أكثر من صحتها من هذا اليوم إلى آخر الأبد (٣)] فإن أطبقنا طرف هذين الامتدادين من هذا الجانب ، فإن امتدا ، أبدا من الجانب الآخر ، من غير أن يظهر التفاوت ، يلزم : أن يكون الزائد مساويا للناقص. وهو محال. وإن ظهر التفاوت من ذلك الجانب ، لزم انتهاء صحة حدوث الحوادث من جانب الأبد ، إلى آخر ونهاية. وذلك باطل بالاتفاق.

النقض العاشر : أن نقول : اعتبار أحوال الموجودات ، يوجب التزام

__________________

(١) أطول من الدوام ، أزيد من دوامه من الأزل ... الخ (ت ، ط)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط ، س)

٢٥٧

التسلسلات والتزام القول بوجود موجودات لا نهاية لأعدادها ، ولا نهاية لآحادها.

ونحن نشير إلى بعض تلك الصور :

فالأول : إن الإمكان صفة ثابتة للممكن ، وتلك الصفة الثابتة ليست واجبة الوجود لذاتها ، فهي ممكنة فيكون إمكان الإمكان زائدا عليه ، ولزم التسلسل.

الثاني : إن كون الواجب واجبا : صفة لذات الواجب. ثم ذلك الوجوب لا يعقل أن يكون ممكنا. وإلا لما بقي الواجب واجبا ، بل وجب كونه واجبا. فيكون وجوبه زائدا عليه ، ولزم التسلسل.

الثالث : إن المفهوم من الإنسان ، مغاير للمفهوم من كونه : هذا الإنسان. فيلزم : أن يكون تعين كل شخص زائدا على ماهيته ، ثم إن التعين أيضا ماهية مشترك فيها بين آحاد التعينات ، فوجب أن يكون تعين [التعين (١)] زائدا عليه ، ولزم التسلسل.

الرابع : إن المفهوم من كون الشيء مؤثرا في الأثر ، مغايرا لذات المؤثر ، ولذات الأثر. بدليل : أنه يصح تعقل ذاتيهما مع الذهول عن كون هذا مؤثرا في [ذلك ، وكون ذاك (٢)] أثرا لهذا. والمعلوم : مغاير لغير المعلوم ، فكون هذا مؤثرا في ذاك ، مغاير لذات هذا ، ولذات ذاك. ثم ذلك التغاير (٣) صفة لذات ذلك المؤثر ، وصفة الشيء مفتقر إلى ذلك الموصوف ، والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا بد له من مؤثر ، فمؤثرية المؤثرية في حصول تلك المؤثرية : زائدة عليها ، فيلزم التسلسل.

الخامس : كون الجسم موصوفا بالسواد ، مفهوم مغاير لذات الجسم

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

(٣) المغايرات (ت ، ط)

٢٥٨

ولذات السواد. بدليل : أنه يصح تعقل ذات كل واحد منهما مع ذهول عن كون أحدهما موصوفا بالآخر ، فموصوفية الجسم بالسواد ، صفة مغايرة لذات الجسم ، ولذات ذلك السواد. وعلى هذا التقدير فموصوفية الجسم بتلك الموصوفية أيضا زائدة عليه. ولزم التسلسل.

السادس : إذا قلنا : الزوجية لازم للأربعة. فالمفهوم من اللزوم (١) مغاير للمفهوم من كونه أربعة. ومن كونه زوجا. بدليل : أن مفهوم اللزوم قد يحصل في سائر المواضع. فإن الفردية لازمة للثلاثة ، وأيضا : فاللزوم نسبة مخصوصة بين الأربعة وبين الزوجية. والنسبة بين الأمرين مغايرة لهما. فهذا اللزوم أمر مغاير لذات اللازم ، ولذات الملزوم ثم إن ذلك المغاير لازم لهما. وإلا بطل اللزوم. فيكون لزوم ذلك اللزوم : زائد عليه. ولزم التسلسل.

السابع : المفهوم من كون السواد مخالفا للحركة ، غير المفهوم من كونه سوادا وحركة ، لأن المفهوم من المخالفة حاصل في غير هاتين الصورتين ، مثل : السواد والحموضة. ثم إن المفهوم من هذه المخالفة لا بد وأن تكون مخالفة لسائر الماهيات. فيلزم [منه (٢)] التسلسل.

الثامن : إن المعلوم من كون الماهية إنسانا وفرسا ، وسوادا وبياضا. مغاير للمفهوم من كونها واحدة. بدليل : أن الإنسان قد يكون واحدا ، وقد يكون كثيرا ، كما أن الواحد قد يكون إنسانا ، وقد لا يكون. وإذا كانت الوحدة مغايرة لتلك الماهية المخصوصة ، فعند دخول ماهية الوحدة في الوجود ، لا بد وأن تكون واحدة فيلزم التسلسل.

التاسع : الإضافات المخصوصة ، نحو الفوقية والتحتية [والأبوة (٣)] والبنوة ، والمالكية ، والمملوكية : أعراض حالة في محالها ، ثم أن كونها (٤) حالة

__________________

(١) الزوج (ت ، ط)

(٢) من (ت ، ط)

(٣) من (ت ، ط)

(٤) لونها (ط)

٢٥٩

في تلك المحال : إضافة من تلك الإضافات ، بين (١) تلك المحال. فيلزم أن يكون للإضافة : إضافة أخرى. ولزم التسلسل.

العاشر : إن عندكم : أن الجسم حادث. فحدوثه ليس نفي (٢) ذاته. وإلا لزم كونه حادثا في الزمان الثاني [وذلك محال. لأن حدوثه في الزمان الثاني (٣) يقتضي أن يقال : إن الموجود قد وجد مرة أخرى. وهو محال ، وإذا ثبت هذا ، فذلك الحدوث لا بد وأن يكون حادثا. فحدوث الحدوث زائدا عليه. ولزم التسلسل.

واعلم : أن في هذه الأمثلة كثرة وفيما ذكرناه كفاية في المقصود. لأنه إذا كان لا سبيل إلى إثبات هذه المعاني ، إلا بالتزام هذه التسلسلات ، وبالاعتراف بدخول ما لا نهاية له في الوجود ، علمنا : أن إنكار (٤) هذا الأصل ، يوجب نفي الحقائق والمعاني ، ويوجب الدخول في السفسطة. وذلك محال. فعلمنا : أنه لا بد من الاعتراف بدخول ما لا نهاية له في الوجود ، وذلك يبطل ما ذكرتموه.

لا يقال : جملة هذه الصور التي ذكرتموها ، أمور إضافية نسبية. والإضافات والنسب لا وجود لها في الأعيان. وإنما هي أمور يعتبرها العقل ، ويفرضها الذهن فقط. وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل. لأنا نقول : هذا الكلام في غاية الضعف ، وذلك لأنا نقول : ذات المؤثر ، هل هي مؤثرة في الأثر في نفس الأمر ، أو ليس كذلك ، [بل (٥)] هذه المؤثرية غير حاصلة في نفس الأمر ، وإنما يفرضها العقل ، ويعتبرها الذهن فقط؟ فإن كان الأول فهذه المؤثرية حاصلة في نفس الأمر ، وحينئذ يلزم التسلسل على ما قررناه.

__________________

(١) وبين (ت ، ط)

(٢) هو (ت ، ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) إمكان (ت ، ط)

(٥) من (ط)

٢٦٠