المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

في

بيان أنه يجب أن يكون العالم أبديا ، ثم بيان

أنه لما وجب كونه أبديا ، وجب كونه أزليا

أما بيان أنه يجب أن يكون العالم أبديا. فقد احتجوا عليه من وجوه :

الحجة الأولى : وهي دليل مستنبط من الأصول الكلامية. قالوا : إن هذا العالم ، لو عدم بعد أن كان موجودا ، لكان عدمه بعد وجوده. إما أن يكون لسبب وموجب ، أو لا [لسبب ، (١)] لموجب. والثاني باطل. لأن تبدل الوجود بالعدم من غير سبب ولا موجب بوجه من الوجوه على خلاف العقل.

وأما الأول وهو أن العالم يصير معدوما لسبب. فنقول : ذلك (٢) السبب ، إما أن يكون قادرا ، أو موجبا. وذلك الموجب إما أن يكون أمرا موجودا ، أو أمرا معدوما. فهذه أقسام :

أحدها : أن يعدم العالم. لأن القادر المختار أعدمه.

وثانيها : أن يعدم العالم. لطريان ضده.

وثالثها : أن يعدم العالم لزوال شرطه.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) كان (ط)

٢٢١

وهذه الأقسام الثلاثة بأسرها باطلة ، فالقول : بعدم العالم : باطل.

أما القسم الأول : وهو أن يعدم العالم ، لأجل أن الفاعل المختار يعدمه. فنقول : هذا باطل ويدل عليه وجوه :

الأول : إن القدرة صفة مؤثرة ، فلا بد لها من أثر. والعدم نفي محض ، وسلب صرف ، فيمتنع جعله أثرا للقدرة. فيثبت : أنه يمتنع وقوع ذلك العدم [بقدرة (١)] القادر المختار.

والثاني : إن المقتضى لعدم العالم. إما مجرد كونه قادرا ، وإما أمر يصدر عن كونه قادرا. والأول باطل. لأن القادرية كانت حاصلة في الأزل ، فلو كان مجرد القادرية مانعا من وجود [العالم. لكان من الواجب أن لا يوجد (٢)] العالم البتة. وإن كان الموجب لعدم العالم أثرا يصدر عن القدرة ، فحينئذ المؤثر القريب لعدم العالم : هو ذلك الأثر الصادر عن تلك القدرة. فهذا رجوع إلى القسم الثاني ، وهو أن العالم إنما يفنى لحدوث ضد له يوجب عدمه. فإن قالوا : فهذا الكلام بعينه قائم في كيفية تأثير القدرة في الوجود. فنقول : هذا إنما يلزم عن من أثبت القدرة. بمعنى كونها صالحة للطرفين. أما عند من يقول : مجموع القدرة مع الداعي علة موجبة. فهذا غير لازم.

الوجه الثالث : وهو أنه تعالى لو أعدم العالم ، فإما أن يعدمه حال كونه موجودا ، أو في الزمان الثاني من وجوده. والأول يقتضي كونه معدوما حال كونه موجودا. وهو محال. والثاني باطل. لأن إعدام الزمان الثاني ، مشروط بحصول الزمان الثاني ، الذي هو ممتنع الحصول في الزمان الأول ، والموقوف على المحال : محال. فوجب أن يكون كونه [معدوما (٣)] في الحال ، للشيء في الزمان المستقبل : أمرا محالا ممتنعا. وهذا الوجه قد مر ذكره في باب القادر في جانب الإيجاد.

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، ت)

(٣) من (ط)

٢٢٢

وأما القسم الثاني : وهو أنه تعالى يعدم بواسطة خلق الضد المنافي. [فنقول] (١) هذا أيضا باطل من وجوه.

الأول : وهو أن المضادة أمر مشترك فيه بين الطرفين ، فلم يكن زوال المتقدم ، لأجل طريان المتأخر ، أولى من اندفاع المتأخر لأجل قيام المتقدم.

الثاني : إن طريان الضد الطارئ ، مشروط بزوال السابق ، فلو كان زوال السابق معللا بطريان الطارئ ، وقع الدور. وهو محال.

الثالث : وهو أن هذا الضد ، إما أن يحصل حال وجود العالم ، أو بعده. والأول باطل ، لأنه يقتضي : الجمع بين الضدين. وهو محال. والثاني يقتضي : أن هذا الضد ، إنما حصل بعد عدم الضد السابق. وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع أن يكون ذلك العدم معللا بهذا الضد ، لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم.

وأما القسم الثالث : وهو أنه تعالى يعدم العالم بواسطة إعدام الشرط. فنقول : هذا باطل لوجهين :

الأول : إن ذلك الشرط ، إما أن يكون باقيا ، أو غير باق. فإن كان باقيا عاد التقسيم الأول في كيفية عدمه ، وإن كان غير باق ، فهذا محال. لأن كل ما دخل في الوجود [كان (٢)] قابلا للبقاء ، وإلا فيلزم أن ينتقل من الإمكان الذاتي [إلى الامتناع الذاتي (٣)] وهو محال. وهذا الكلام إنما يتقرر على قول من يقول : الأعراض كلها باقية.

والوجه الثاني : وهو أن ذلك الشرط ، إما أن يكون عرضا قائما به ، أو موجودا مباينا عنه. والأول باطل ، لأن العرض محتاج في وجوده إلى الجوهر ، فلو فرضنا كون الجوهر محتاجا إلى شيء من الأعراض ، لزم الدور. وهو

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط ، ت)

(٣) من (ط ، س)

٢٢٣

محال. وأما إن كان شيئا مباينا عن الجوهر ، فذلك الشيء إن كان باقيا ، عاد التقسيم في كيفية عدمه ، وإن كان غير باق ، كان ذلك باطلا. لما بينا أن كل ما كان قابلا للوجود ، كان قابلا للبقاء ، فيثبت بهذه البيانات : أن أجسام العالم لو عدمت ، لكان عدمها ، إما أن يكون بإعدام القادر ، أو بطريان الضد ، أو بزوال الشرط. [وثبت أن (١)] الأقسام الثلاثة باطلة ، فكان القول بفناء العالم بعد وجوده باطلا [والله أعلم (٢)]

الحجة الثانية على أن عدم الأجسام بعد وجودها : محال. هي أن نقول : لو صح العدم على ذوات الأجسام ، لكانت صحة عدمها ، حاصلة قبل حصول عدمها. وتلك الصحة صفة موجودة ، ولا بد لها من محل. فنقول : محلها إما أن يكون هو ذات الجسم ، أو شيء آخر ، والأول محال. لأن محل صحة الشيء ، هو الذي يمكن اتصافه بذلك الشيء ، فلو كان محل إمكان عدم الجسم ، هو وجود ذلك الجسم ، لزم أن يبقى [وجوده حاصلا (٣)] حال طريان عدمه ، وذلك محال. لأن وجود الشيء [يمتنع أن (٤)] يبقى حال عدمه. والثاني أيضا [باطل (٥)] لأن الشيء الذي يقوم به صحة وجود الشيء ، وصحة عدم ذلك الشيء : هو هيولاه ، فلو حصل للجسم شيء يقوم به صحة وجوده ، وصحة عدمه. لزم إثبات هيولى للجسم. وذلك باطل من وجهين :

الأول : إن هيولى الجسم ، إن كان متحيزا لزم التسلسل ، وإن لم يكن متحيزا ، لزم حلول المتحيز في محل ، لا حصول له في ذلك المكان ، وفي تلك الجهة. وذلك محال.

الثاني : إن بتقدير [أن يكون (٦)] للجسم هيولى ، فقد ثبت بالدلائل

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) ببقاء (ط ، ت)

(٣) من (ط ، ت)

(٤) من (ط)

(٥) من (ط)

(٦) من (س)

٢٢٤

الظاهرة : أن هيولى الجسم ، يمتنع خلوها عن الجسمية.

إذا ثبت هذا ، فنقول : إن تلك الهيولى ، إن كانت قابلة للعدم ، افتقرت إلى هيولى أخرى ، ولزم التسلسل. وإن لم تكن قابلة للعدم ، وثبت أنه يمتنع خلوها عن الصورة الجسمية ، فحينئذ يلزم أن الجسم لا يقبل العدم.

الحجة الثالثة : إنا إذا (١) فرضنا عدم الأبعاد الثلاثة ، فبعد ذلك ، هل يتميز جانب الفوق ، عن جانب التحت ، والقدام عن الوراء ، واليمين عن الشمال (٢)؟ فإن لم يحصل هذا الامتياز ، فذلك باطل في بديهة العقل ، كما قررناه. وإن حصل هذا الامتياز ، فالأبعاد موجودة. وإذا كانت الأبعاد موجودة ، كانت الأجسام موجودة. على ما قررناه في المقالة المتقدمة.

الحجة الرابعة في بيان أن العالم يجب أن يكون أبديا : يقال : العالم حسن النظام ، جيد الصنعة. وما كان لا يبطله ولا ينقضه إلا شرير ، وإله العالم ليس بشرير ، فلا ينقضه. وظاهر أن غيره لا يقدر على نقضه ، فوجب أن لا يبطل هذا العالم ، ولا ينتقض أبدا. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى : صنعه لحكمة مخصوصة ، ثم إنه ينقضه ويبطله لحكمة أخرى. وأيضا : فهذا ينتقض بأشخاص العالم.

وأجاب عن الأول : بأن ما كان مصلحة ، قد ينقلب مفسدة في حق من كانت أفعاله موقوفة على حدوث شرائط ، لا يكون حدوثها من جهته. أما البارئ تعالى لما كان حدوث كل الحوادث منه ، وبإيجاده. فهذا التفاوت في حقه : محال. وأجاب عن السؤال الثاني : بأن حدوث الأشخاص في هذا العالم ، إنما (٣) كان بسبب أن حدوث هذه الحوادث السفلية ، مشروط بحدوث التغيرات الحاصلة ، بسبب اختلاف الحركات الفلكية. فلو قلنا مثل هذا المعنى في حدوث الحركات الفلكية ، لزم افتقار حدوث تلك الحوادث

__________________

(١) لو (ط)

(٢) اليسار (ط)

(٣) لما (ط)

٢٢٥

الفلكية إلى أفلاك أخرى ، ولزم الذهاب إلى ما لا نهاية له. وهو محال. فظهر الفرق.

الحجة الخامسة : قالوا : خلق هذا العالم. هل كان صوابا وحكمة ، وخيرا ، أم لا؟ والقسم الثاني باطل ، وإلا لكان يجب على الخير الرحيم الحكيم أن لا يفعل ، لكنه قد فعله فيبقى الأول ، فنقول : والوجه الذي باعتباره كان صوابا وحكمة وخيرا ، هل بقي أو لم يبق؟ فإن بقي كان نقض هذا العالم وإبطاله شرا. وكان فاعله شريرا. وإن لم يبق ، فذلك التغير حصل لذاته أو بذلك الفاعل؟ فإن حصل لذاته ، فقد جوزتم أن ينقلب الخير شرا لذاته من غير فاعل. وإذا جوزتم ذلك في بعض الحوادث ، فجوزوا مثله في البقية. وذلك يفتح عليكم باب تجويز حدوث الحوادث ، لا لمؤثر أصلا. وإن كان ذلك لأجل أن ذلك الفاعل قلبه من كونه خيّرا ، إلى كونه شريرا ، عاد التقسيم الأول فيه.

الحجة السادسة : إن خلق هذا العالم : إحسانا إلى المحتاجين. وقطع الإحسان لا يكون إلا للعجز أو الجهل أو البخل. والكل على الله : محال.

الحجة السابعة (١) : إن الزمان لو انقطع ، لكان عدمه بعد وجوده. وتلك البعدية بالزمان. فيلزمكم (٢) : كون الزمان موجودا ، حال كونه معدوما. وذلك محال.

الحجة الثامنة : ما ذكره «جالينوس» فقال : «لو كانت الأفلاك والكواكب تبطل وتنهدم ، لوجب أن يظهر فيها آثار الخراب والانهدام قليلا قليلا ، لكنا لم نحس بذلك البتة ، ولم يصل إلينا خبر من التواريخ الماضية ، بأن أحوال الأفلاك والكواكب ، قد تغيرت من الكمال إلى النقصان» فيبطل القول بذلك.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) فيلزم (ط ، س)

٢٢٦

واعترض «محمد بن زكريا الرازي» على هذه الحجة من وجهين :

الأول : وهو أن هذا إنما يلزم ، إذا كان عدم الأفلاك والكواكب عدما ذبوليا ، على الاستمرار. أما بتقدير أن يكون عدمها واقعا دفعة ، فإن هذا غير لازم.

والثاني : إن بتقدير أن يكون عدمها عدما ذبوليا ، إلا أنه يحتمل أن تكون تلك الأجرام صلبة. فالذبول الذي يحصل فيه ، في المقدار الذي يصل إلينا تواريخها ، يكون قليلا لا يمكن الإحساس به. ألا ترى أن الياقوت جرم صلب ، ولا بد وأن يتحلل منه شيء ، إلا أنه لما كان قوي الصلابة ، لم يكن مقدار ما يتحلل منه محسوسا في أعمارنا. فالأفلاك والكواكب أصلب من الياقوت ، والبعد بيننا وبينها كثير جدا. فلا يمتنع أن يكون عدم الإحساس بما يحصل فيها من الذبول ، كان لهذا السبب.

وهذان الاعتراضان على [كلام (١)] «جالينوس» واقع حسن.

الحجة التاسعة : إن الأفلاك مستديرة بطباعها ، والمستدير بالطبع لا يقبل الميل المستقيم ، وإذا لم يكن قابلا (٢) للميل المستقيم ، امتنع كونه قابلا للخرق والالتئام ، والتفرق والتمزق.

أما بيان أنها مستديرة بطباعها : وذلك لأن الحركة المستديرة ، لو لم تكن لها طباعية ، لما كانت دائمة ولا أكثرية. وحيث كان الأمر كذلك ، علمنا أنها طباعية. وأما بيان أنها لما كانت مستديرة بطباعها ، لم يكن فيها ميل مستقيم : لأن الميل المستقيم يوجب الصعود والنزول. والميل المستدير يوجب الانحراف عن الصعود والنزول. فلو حصل في الشيء الواحد: ميل طبيعي إلى الحركة المستقيمة والمستديرة ، لزم اجتماع المتنافيين في الشيء الواحد وهو محال. فيثبت : أنه ليس في الأجرام الفلكية : ميل مستقيم. وإن كان كذلك ، لم تكن تلك الأجسام قابلة للتفرق والتمزق والبطلان.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) قابلا له ، امتنع (ط ، ت)

٢٢٧

الحجة العاشرة : ما ثبت في صفات السموات : أنها غير قابلة للحركة المستقيمة. وكل ما يكون كذلك ، فإنه لا يقبل التفرق والتمزق ، ولا الكون (١) والفساد.

قالت الفلاسفة : فيثبت بهذه الوجوه العشرة : أن العالم أبدي الوجود. وإذا ثبت هذا ، وجب أن يكون أزليا. لأنه لو لم يكن أزليا ، لكان معدوما في الأزل. ولو كان كذلك ، كانت حقيقته قابلة للعدم. ولو كان كذلك ، لكانت تلك القابلية باقية أبدا ، وكان يجب صحة العدم عليه بعد وجوده ، ولما كان ذلك محالا ، ثبت أن حقيقة العالم لا تقبل العدم. وإذا كان كذلك ، وجب كونه أزليا.

فهذا تمام هذا البحث والله أعلم [بالصواب (٢)]

__________________

(١) والكون (ط)

(٢) من (ط ، س)

٢٢٨

المقالة الثانية عشر

في

بيان أن كون العالم أزليا ،

لا يقتضي استغناؤه عن المؤثر

٢٢٩
٢٣٠

في

بيان أن كون العالم أزليا ،

لا يقتضي استغناؤه عن المؤثر

اعلم (١) أن القائلين بالحدوث. قالوا : لو كان العالم قديما ، لكان غنيا عن المؤثر ، وذلك يوجب نفي الصانع بالكلية. واحتجوا على صحة قولهم : بأنه لو كان قديما ، لكان غنيا عن المؤثر [ووضحوا قولهم (٢)] بحجة ومثال.

أما الحجة : فهي أنهم قالوا : القديم هو الذي يكون موجودا أبدا. فلو قلنا : إن وجوده حصل لسبب ، لزم منه إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل ، وهو محال.

وأما المثال : فهو أنهم قالوا : البناء يحتاج إلى الباني حال حدوثه ، وأما حال بقائه فلا يحتاج إليه. وأيضا : إن من خضب يده بالحناء ، فإنه يحتاج في أول الأمر ، إلى الصاق الحناء باليد ، ثم إن اللون يبقى بعد زوال ذلك السبب. وأيضا : إن من رمى حجرا إلى فوق. فإن المذهب الصحيح أن ذلك القاسر يحدث في ذلك الجسم : قوة قسرية ، تحرك ذلك الجسم إلى فوق. فتلك القوة حال حدوثها ، تحتاج إلى المؤثر ، وأما حال بقائها ، فإنها غنية عن المؤثر. فهذا جملة كلام القوم.

واعلم أن الحكماء قالوا : لا يمتنع في العقل كون الأثر القديم ، معللا

__________________

(١) من (ت) الحجة الأولى : اعلم ... الخ

(٢) زيادة

٢٣١

بمؤثر قديم ، وهما وإن كانا مشتركين في الدوام ، إلا أن أحدهما ممكن لذاته ، والآخر واجب لذاته. فكان الممكن لذاته محتاجا إلى المرجح ، وكان الواجب لذاته غنيا عن المؤثر. فكان تعليل أحدهما بالآخر ، أولى من تعليل الآخر بالأول. وإذا ثبت أن هذا المعنى غير ممتنع في الجملة ، فقد بطل قول من ادعى أن ذلك محال.

واعلم أن المؤثر على قسمين :

أحدهما : الفاعل المختار.

والثاني : العلة الموجبة.

إذا ثبت هذا فنقول : إن الفلاسفة والمتكلمين. اتفقوا على أن إسناد الأثر القديم [إلى الفاعل المختار : محال. واتفقوا على أن إسناد الأثر القديم (١)] إلى العلة القديمة : غير ممتنع. إلا أن الفلاسفة لما اعتقدوا : أن إله العالم موجب بالذات ، لا جرم قالوا : لا يمتنع إسناد العالم القديم إليه.

وأما المتكلمون : لما اعتقدوا أن إله العالم فاعل مختار ، لا جرم اتفقوا على أنه يمتنع إسناد الأثر القديم إليه.

هذا هو الكلام المعقول في هذا الباب.

ثم نقول : الذي يدل على أنه لا يمتنع إسناد الأثر القديم إلى المؤثر القديم. وجوه :

الحجة الأولى : أن نقول : الممكن حال بقائه بقي ممكنا. وكل ممكن فلا بد له من سبب. فالممكن حال بقائه مفتقر إلى السبب. وذلك يدل على أن كونه باقيا ، لا يمنع من افتقاره إلى السبب.

أما بيان أن الممكن حال بقائه ، بقي ممكنا : فلأن الإمكان. إما أن

__________________

(١) من (ط ، ت)

٢٣٢

يكون من لوازم الماهية [وإما أن لا يكون (١)] فإن كان الأول ، وجب حصول الإمكان في جميع الأوقات ، وإن كان الثاني كان الإمكان عرضا مفارقا للماهية. وكل ما كان كذلك ، كان إمكان حصوله سابقا على حصوله ، وحينئذ ينقل [الكلام (٢)] إلى إمكان الإمكان ، ويلزم الذهاب إلى ما لا نهاية له ، وهو محال. أو الانتهاء إلى إمكان لازم للماهية ، وهو المطلوب.

وأما بيان أن كل ممكن فهو محتاج إلى السبب. فالعلم به بديهي. فثبت : أن كل ممكن ، [فإنه حال بقائه ممكن ، وثبت أن كل ممكن (٣)] فهو محتاج إلى المؤثر [ينتج (٤)] أن كل ممكن ، فإنه حال بقائه محتاج إلى المؤثر ، وذلك يدل على أن كونه باقيا ، لا يمنع من كونه محتاجا إلى المؤثر. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إن الشيء حال بقائه ، يكون الوجود به أولى ، فلأجل حصول هذه الأولوية يستغنى عن السبب. فنقول : حصول هذه الأولوية ، إما أن يكون من لوازم هذه الماهية ، أو لا يكون. فإن كان الأول ، وجب أن يقال : إنه كان حاصلا حال حدوثه ، فوجب أن يستغنى عن المؤثر ، حال حدوثه ، بل مطلقا. وهو محال. وإن كان الثاني ، فهذه الأولوية ما كانت حاصلة حال (٥) الحدوث ، ثم حصلت حال البقاء. فالشيء حال بقائه ، إنما بقي لحصول هذه الأولوية. وهذا الاعتراف بأن الشيء حال بقائه : محتاج إلى السبب. إلا أنكم سميتم ذلك السبب بالأولوية. وهذا تسليم في المعنى ، ونزاع في العبارة.

الحجة الثانية : إنه يمتنع أن تكون علة الحاجة إلى المؤثر : هي الحدوث. وذلك لأن الحدوث عبارة عن كون وجوده مسبوقا بالعدم. وهذه المسبوقية صفة لذلك الوجود ، وصفة الشيء متأخرة عنه بالرتبة ، فحدوثه متأخر عن وجوده ، المتأخر عن تأثير الفاعل فيه ، المتأخر عن احتياجه إلى الفاعل ، المتأخر عن علة

__________________

(١) من (ط ، ت)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط ، س)

(٥) قبل (ط)

٢٣٣

احتياجه إلى الفاعل ، وعن جزء تلك العلة ، وعن شرط تلك العلة. فهذا يدل على أن الحدوث ليس علة للحاجة ، ولا جزءا من تلك العلة ، ولا شرطا لتلك العلة. وإلا لزم تأخر الشيء (١) عن نفسه بمراتب ، وذلك محال.

وإذا ثبت أن الحدوث غير معتبر في حصول الحاجة أصلا ، ثبت أنه سواء حصل الحدوث أو لم يحصل ، فإنه لا عبرة به في تحقّق الحاجة إلى المؤثر.

الحجة الثالثة : الحادث له أمور ثلاثة :

أحدها : العدم السابق.

والثاني : الوجود اللاحق.

والثالث : كون [هذا (٢)] الوجود مسبوقا بذلك العدم.

والمحتاج إلى المؤثر ، ليس هو العدم السابق ، لأن العدم نفي محض فلا يمكن إسناده إلى المؤثر ، وليس هو أيضا كون ذلك الوجود مسبوقا بالعدم ، لأن مسبوقية هذا الوجود بالعدم لازم من لوازم هذا الوجود [فإن هذا الوجود (٣)] يمتنع حصوله وتقرره ، إلا إذا كان مسبوقا بالعدم. وأما إذا كان واجب الثبوت لذاته ، امتنع افتقاره إلى المؤثر. ولما بطل هذان القسمان ، ثبت : أن المحتاج إلى المؤثر ، والمفتقر إليه ، هو الوجود. ثم لا يخلو إما أن يكون ذلك الوجود محتاجا إلى المؤثر ومفتقرا إليه ، لكونه وجودا فقط ، أو لكونه وجودا ممكنا. والأول باطل. وإلا لافتقر كل موجود إلى المؤثر ، وهو محال. فبقي الثاني وهو أنه إنما افتقر إلى المؤثر ، لكونه موجودا ممكنا. وإذا ثبت أن علة الحاجة ليست إلا هذا المعنى ، فمتى كان هذا المعنى حاصلا ، كانت الحاجة إلى المؤثر حاصلة. سواء حصل الحدوث ، أو لم يحصل.

الحجة الرابعة : العدم السابق على وجود الأثر ، ينافي [وجود الأثر ،

__________________

(١) الفعل (ط ، ت)

(٢) من (س)

(٣) من (ط)

٢٣٤

وينافي (١)] كون الأثر (٢) مؤثرا في وجوده ، وما كان منافيا للشيء ، امتنع كونه شرطا له. أما بيان أن عدمه السابق عليه ينافي [وجوده ، مظاهر ، لأن عدم الشيء ينافي وجوده. وأما بيان أن عدمه السابق ينافي (٣)] كون المؤثر مؤثرا في وجوده. فذلك لأن كون المؤثر مؤثرا في وجوده ، لا يحصل إلا عند حصول الأثر ، وحصول الأثر ينافي عدمه ، والمنافي عدمه والمنافي للازم الشيء ، مناف له. فيثبت : أن العدم السابق على الشيء ، مناف لوجوده ، ومناف لكون الأثر (٤) مؤثرا في وجوده. وأما المنافي للشيء يمتنع كونه شرطا لحصوله : فالعلم ضروري. لأن المنافي هو الذي لا يتقرر الشيء إلا مع عدمه ، وشرط الشيء هو الذي لا يتقرر [الشيء (٥) إلا مع وجوده ، والجمع بينهما متناقض. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنه مناف ، بمعنى أنه [لا يكون (٦)] مقارنا له. وشرط بمعنى أنه يجب تقدمه عليه. وإذا صرفنا كل واحد من هذين الاعتبارين إلى زمانين مختلفين ، زال التناقض.

والجواب : أن المحتاج إليه ويجب حصوله حال حصول المحتاج. فإذا امتنع حصول المفارقة (٧) امتنع حصول هذه الحاجة.

الحجة الخامسة : أن نقول : وجود العالم ، ووجود تأثير الله في وجود العالم. إما أن يقال : إنه لا أول لإمكان كل واحد منهما ولصحته ، أو يقال : لإمكانهما وصحتهما : أول : فإن كان الأول ، فحينئذ لم يكن كون البارئ تعالى مؤثرا في وجود العالم في الأزل : ممتنعا. ولم يكن وقوع العالم بتأثير قدرة الله تعالى في الأزل : ممتنعا. وعلى هذا التقدير لا يكون إسناد الأثر القديم ، إلى المؤثر القديم : ممتنعا. وإن كان الثاني ، فحينئذ يلزم أن يحصل لإمكان وجود

__________________

(١) من (ط)

(٢) المؤثر (ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط)

(٦) من (ط)

(٧) المقارنة (ط ، ت)

٢٣٥

العالم : أول يحصل (١) لإمكان تأثير قدرة الله تعالى في وجود العالم : أول فيلزم أن يقال : إن قبل ذلك الأول ، ما كان الإمكان الذاتي حاصلا. فيلزم أن يقال : كان الحاصل قبل ذلك المبدأ هو الامتناع الذاتي ، ثم انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي. وأنه محال. فثبت: أن إسناد الأثر القديم ، إلى المؤثر القديم : غير ممتنع [في العقول (٢)]

الحجة السادسة : إن عفونة الخلط ، توجب حصول الحمّى ، وكما يفتقر حدوث هذه الحمى إلى حدوث هذا السبب ، فكذلك بقاء هذه الحمى ، مفتقر إلى بقاء هذا السبب. فإن عند زوال هذه العفونة ، يمتنع بقاء الحمى العفونية. فيثبت : أن إسناد الممكن إلى المؤثر حال بقائه : غير ممتنع. وأيضا : فالمتكلمون يقولون : العالمية الأزلية ، معللة بالعلم الأزلي. والقادرية الأزلية معللة بالقدرة الأزلية. والعلم الأزلي ، مشروط بالحياة الأزلية. فقد صرحوا بأن الأزلي ممكن أن يكون معللا بالعلة المؤثرة. فكيف استبعدوا تعليل الأثر القديم ، بالمؤثر القديم؟

الحجة السابعة : مجموع ما لأجله كان البارئ ، مؤثرا في وجود العالم ، كان حاصلا في الأزل. ومتى كان ذلك المجموع حاصلا ، امتنع تخلف الأثر عنه. ومتى كان الأمر كذلك ، فقد لزم (٣) القطع بكون الأزلي [معللا بالأزلي (٤)] أما بيان الأول : فلأنه لو لم يكن ذلك المجموع حاصلا ، لكان حصوله حادثا. فافتقر إلى مؤثر آخر ، ويعود الكلام الأول فيه. وهو محال. وأما بيان الثاني : فهو أن عند حصول مجموع ما لا بد منه في المؤثرية. لو لم يحصل الأثر ، لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجح. وهو محال.

__________________

(١) فإن يحصل لإمكان تأثير قدرة الله تعالى في وجود ... الخ (ط ، ت)

(٢) من (ط ، ت)

(٣) كذلك امتنع القطع بكون الأزل. أما بيان ... الخ (ط ، ت)

(٤) من (ط ، س)

٢٣٦

وأما بيان الثالث : فهو أنه لما كان الأثر حاصلا مع المؤثر في الأزل ، فقد سقط القول : بأن التأثير الأزلي : محال. وقد تقدم تقرير هذا الدليل.

الحجة الثامنة : إنا لو فرضنا حادثا وتصورنا أنه حدث ، مع وجوب أن يحدث. فإنا نحكم بامتناع استناده إلى السبب المنفصل ، لأنا لما اعتقدنا [فيه (١)] أنه حدث مع وجوب أن يحدث ، كان راجح الوجود لنفسه. فلو أسندناه إلى غيره ، فحينئذ يلزم أن يكون واجب الوجود [لذاته ، واجب الوجود (٢)] وهو محال. لأن كونه واجب الوجود بذاته ، يقتضي أن لا يلزم من فرض عدم غيره : عدمه وكونه واجب الوجود بذاته ، يقتضي أن لا يلزم من فرض عدم غيره : عدمه. فلو كان شيء [واحد (٣)] واجب الوجود لذاته ، ولغيره معا ، لزم الجمع بين النقيضين. وهو محال. فيثبت : أنا لو فرضنا حادثا ، وتصورنا أنه حدث ، مع وجوب أن يحدث. فإنا نحكم عليه بالاستغناء عن المؤثر. وأما إذا تصورنا ماهيته ، وتصورنا أن نسبة الوجود والعدم إليها على الاستواء (٤) فههنا يحكم العقل بأنه لو لا المرجح ، لامتنع حصول الرجحان. ولا يفتقر في هذا الحكم إلى اعتقاد أنه حادث أم لا؟ فيثبت بما ذكرنا : أن مجرد كونه ممكنا ، يحوجه إلى المؤثر ، وأن كونه حادثا لا يحوجه إلى المؤثر. فيثبت : أن علة الحاجة هي الإمكان ، لا الحدوث.

الحجة التاسعة : إن منشأ الحاجة. إما الماهية حال كونها موجودة ، أو الماهية حال كونها معدومة ، أو الماهية مع [حذف (٥)] هذين القيدين. والأول باطل. لأن الماهية حال كونها موجودة ، واجبة الوجود ، ووجوب الوجود يغني عن المؤثر ولا يحوج إليه. والثاني باطل. لأن الماهية حال كونها معدومة (٦)

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط ، ت)

(٤) السوية (ط)

(٥) من (ط)

(٦) موجودة (ط ، ت)

٢٣٧

ممتنعة الوجود. وامتناع الوجود يغني عن المؤثر. [فلم يبق (١)] إلا أن يقال : المحوج إلى المؤثر هو الماهية مع حذف هذين القيدين. فنقول : ما لم تكن الماهية قابلة للوجود والعدم ، امتنع أن يفتقر إلى المؤثر في رجحان أحد الطرفين على الآخر. وهذه القابلية نفس الإمكان. فيثبت : أن المحوج إلى المؤثر هو الإمكان فقط.

الحجة العاشرة : لو وجب في المحتاج أن يكون محدثا ، لما وجب في المحدث أن يكون محتاجا. والتالي باطل. فالمقدم مثله.

بيان الأول : هو أنه لو وجب في المحتاج أن يكون محدثا ، لوجب انتهاء الحوادث إلى حدوث (٢) هو أول الحوادث ، ولا يكون مسبوقا بحادث آخر. ولو كان الأمر كذلك ، لكان حدوث (٣) ذلك الحادث ، الذي هو أول الحوادث في ذلك الوقت ، دون ما قبله وما بعده : واقعا لا لسبب أصلا. فحينئذ يكون ذلك الاختصاص حادثا واقعا ، لا عن سبب. فحينئذ لا يكون ذلك المحدث محتاجا. وذلك يقتضي أن لا يكون الحدوث علة للحاجة. فيثبت : أنه لو وجب في المحتاج أن يكون محدثا [لما (٤)] وجب في المحدث أن يكون محتاجا. والثاني باطل ، فالمقدم مثله.

الحجة الحادية عشر : إن عدم المعلول لعدم العلة ، ولا أول لعدم المعلول. فالمعلولية غير مشروطة [بالحدوث (٥)]

الحجة الثانية عشر : إنه لو وجب في كون المؤثر مؤثرا في الأثر (٦) أن يكون مسبوقا بالعدم ، لوجب في كون المؤثر مؤثرا في الأثر ، أن يكون [مسبوقا بالعدم (٧)] لأن المؤثرية لا تحصل إلا عند حصول الأثر ، لكن لا يجب في كل

__________________

(١) من (ط ، ت)

(٢) حادث (ط ، ت)

(٣) حصول (ط)

(٤) لما (ت ، ط)

(٥) من (ط ، ت)

(٦) الأزل (ط ، ت)

(٧) من (ط ، ت)

٢٣٨

مؤثرية ، أن تكون حادثة ، وإلا لافتقرت إلى مؤثرية أخرى ، ويلزم التسلسل. فالمؤثريات لا بد وأن تنتهي بالآخرة ، إلى مؤثرية دائمة. فيكون ذلك الأثر دائما. وذلك يبطل القول بأن تأثير الشيء في الشيء : مشروط بالحدوث.

الحجة الثالثة عشر : إن علة الحاجة لو كانت هي الحدوث ، لاستغنت المتحركية عن الحركة حال دوامها ، ولاستغنت العالمية عن العلم حال دوامها. والمتكلمون : لا يقولون به. ولا يستغني العلم عن الحياة حال دوامه.

الحجة الرابعة عشر : إن اللوازم الخارجية معلولات الماهيات (١). مثلا : كون الثلاثة فردا ، والأربعة زوجا : أوصاف خارجة عن الماهية ، لازمة لها. والدليل عليه : أنه إذا حصل ثلاثة وحدات ، فقد حصلت الثلاثة. فالمقوم لماهية الثلاثة : اجتماع الوحدات الثلاثة. ثم إذا تمت هذه الماهية ، ترتب عليها كونها فردا. فالفردية صفة من صفاتها ، ولاحق من لواحقها. وهذا اللاحق لا يكون موجودا قائما بنفسه ، بل لا بد له من ماهية يكون هو ، لاحقا لها ، وصفة من صفاتها. وكل ما افتقر إلى غيره ، فهو ممكن لذاته. وكل ممكن لذاته ، فلا بد له من مؤثر. ولا مؤثر في حصول هذا اللاحق ، إلا هذه الماهية. فيثبت : أن كون الثلاثة : ثلاثة ، يوجب الفردية. وكون الأربعة : أربعة يوجب الزوجية. ثم إنه لا يعقل خلو الثلاثة عن الفردية البتة ، ولا خلو الأربعة عن الزوجية البتة.

وهذا برهان قاطع على أن افتقار المعلول إلى العلة ، غير مشروط بكون المعلول محدثا.

وهاهنا آخر الكلام في مباحث القائلين بالقدم. والله أعلم.

__________________

(١) الماهية (ط ، ت)

٢٣٩
٢٤٠