المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

والثاني : أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فتلك الحاجة ، إما أن تكون قديمة أو حادثة ، فإن كانت قديمة ، لزم من قدمها ، قدم الفعل. وإن كانت حادثة ، عاد الطلب في أنه : لم حدثت تلك الحاجة في ذلك الوقت ، دون ما قبله ، وما بعده؟.

والثالث : أن على هذا التقدير يكون إله العالم ناقصا محتاجا إلى الاستكمال بالغير.

الرابع : أن إله العالم قديم أزلي واجب لذاته. فكان أكمل حالا من المحدثات ، وكون الأكمل مستكملا بالأخس الأدون : محال. وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إنه تعالى إنما أحدث العالم لنفع عائد إلى الغير ، فهذا أيضا باطل. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن الإيجاد لو كان إحسانا إلى المخلوق ، لكان إما أن يكون إحسانا إليه حال عدمه ، أو حال وجوده. والأول باطل. لأنه ما دام يكون معدوما ، فالوجود غير واصل إليه ، فامتنع كون الإيجاد [إحسانا إلى المعدوم.

والثاني : أيضا باطل ، لأن إيصال الوجود إليه بعد وجوده (١)] يقتضي إيجاد الموجود وأنه (٢) محال. لا يقال : الإيجاد إنما يكون إحسانا من حيث إنه بعد دخوله في الوجود ، يستعد لأن يصل إليه أنواع اللذة والسرور. لأنا نقول : الكلام إنما وقع في أن الإيجاد ليس بإحسان ، وما ذكرتموه لا يدفع ذلك. فإنكم سلمتم أن نفس الإيجاد [ليس] (٣) إحسانا. وإنما الإحسان ما يحصل بعد ذلك ، ونحن [ما] (٤) ادعينا [حالا] (٥) أن ابتداء الخلق ليس بإحسان.

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ت)

١٤١

الوجه الثاني في إبطال هذا القسم (١) : أن الذات (٢) ما لم تكن مشتهية للشيء ومحتاجا إليه ، لم يكن إيصال ذلك الشيء إليه انفاعا له ، ولا إحسانا [إليه] (٣) فكل ما يفرض إحسانا إليه ، فإنه قد تقدمه (٤) خلق الحاجة فيه ، وذلك ضرر. وحينئذ يتقابل قدر المنفعة الحاضرة ، بقدر المضرة السابقة وذلك يخرجه عن كونه إحسانا. وقد تقدم في الكتاب (٥) الثالث تقرير هذا الكلام على سبيل الاستقصاء.

الوجه الثالث : في بيان أنه لا يجوز أن يقال : إنه تعالى خلق الخلق للإحسان إلى المخلوقات (٦). وذلك [لأن] (٧) هذا الداعي إما أن يقال : إنه كان حاصلا في الأزل ، أو ما كان حاصلا. فإن كان الأول ، لزم حصول الإيجاد قبل حصوله ، وهو محال. والثاني يوجب كون تلك الداعية متجددة. والكلام في اختصاص حدوث تلك الداعية بذلك الوقت ، كاختصاص حدوث العالم بذلك الوقت ، ولزم الدور (٨) إلى ما لا نهاية له.

وأما الأجوبة المذكورة عن هذا الكلام ، وهو أنه تعالى إنما خصص إحداث العالم بذلك الوقت ، لاشتمال ذلك الوقت على مصلحة معينة ، فالكلام في إفساده قد سبق على الاستقصاء.

الوجه الرابع : وهو [أن] (٩) إيصال النفع إلى الغير ، وعدم إيصاله إليه ، إما أن يكون بالنسبة إلى الفاعل على السوية ، أو لا يكون الأمر كذلك. فإن كان الأول ، امتنع أن يكون غرض الاحسان داعيا للفاعل إلى الإيجاد ،

__________________

(١) القسم الثالث (ت)

(٢) اللذات (ت)

(٣) من (ط)

(٤) يتقدمه (ت)

(٥) الباب (ط ،)

(٦) المخلوق (ت)

(٧) من ط ، س)

(٨) المرور (ط ، س)

(٩) وهو اتصال (ت)

١٤٢

وإن كان الثاني ، لزم أن يكون الفاعل مستكملا بذلك الإيجاد (١). وقد أبطلناه.

الوجه الخامس : هو أن الإيجاد يستلزم حصول الحاجة إلى المأكول والمشروب وغيرهما. فإذا أعطى الخالق تعالى المحتاج إليه ، فقد حصل الاستغناء بالشيء. أما إذا لم يوجد ، فقد حصل الاستغناء عن الشيء. لكن الاستغناء عن الشيء أفضل من الاستغناء (٢) بالشيء. وبدليل : أن الاستغناء عن الشيء من صفات الله [تعالى] (٣) والاستغناء بالشيء من صفات العباد ، وما كان صفة لله تعالى فهو أكمل ، مما كان صفة للعباد.

وإذا ثبت هذا ، فالحاصل عند العدم هو الاستغناء عن الشيء. والحاصل عند الوجود [هو] (٤) الاستغناء بالشيء. وقد ثبت : أن الأول أفضل من الثاني. فيلزم : أن يقال : الإيجاد يوجب تفويت الأكمل ، ويوجب حصول الأخس والأرذل ، وإذا كان كذلك ، امتنع كون الإيجاد إحسانا إلى المخلوق.

الوجه السادس : أن نقول : إن الوجوه الخمسة السالفة ، إنما نذكرها ، لو قدرنا : أن كل ما اشتهاه الإنسان وأراده ، ومال طبعه إليه ، يكون حاضرا. وليس الأمر كذلك ، لأنا [نرى] (٥) أن أحوال أهل الدنيا بالعكس من ذلك. فإنا نرى (٦) أن أكثرهم يكونون في الغموم والهموم ، والأحزان والمخاوف ، والمتالف والحرق والغرق ، [والهرم] (٧) والعمى والزمانة. وأما في الآخرة.

__________________

(١) الحال (ت)

(٢) استغناء (ط ، س)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط)

(٥) من (ت)

(٦) نرى أكثر الخلق يكونون (ط)

(٧) من (ط ، س)

١٤٣

فالأكثرون وهم الكفار والفساق من أهل الملة يقعون في العذاب العظيم (١) وإله العالم كان عالما في الأزل بكل هذه الأحوال ، فكيف يعقل أن يقال : إنه تعالى خلقهم للإحسان ، مع أنه كان يعلم أن الأكثرين منهم ، يكونون في الدنيا في الألم والفقر ، والعمى. وفي الآخرة في الدرك الأسفل من النار؟

فإن قالوا : إنه تعالى مكن (٢) الكل من وجدان تلك السعادات العظيمة ، وأما حصول الحرمان ، فإنما كان لأجل [أنهم] (٣) قصروا في حق أنفسهم. قلنا (٤) لما كان إله العالم عالما يقينا : أنهم لا يستفيدون من [الوجود] (٥) والتكلف ، إلا البلاء العظيم ، والشقاء التام. امتنع أن يقال : إنه تعالى أراد بهم الخير والنفع ، والصلاح. ويدل [عليه وجوه] (٦)

الأول : إنهم لا يقدرون على خلاف معلوم الله ، وإلا لزم أن يقال : إنهم قادرون على أن يجعلوا علم الله [تعالى] (٧) جهلا.

الثاني : إنا نعلم من بنى رباطا في مفازة عظيمة ، وعلم يقينا أنه بنى ذلك الرباط ، صار ذلك الرباط مأوى اللصوص والقتالين وقطاع الطريق. ثم إن الذي بنى ذلك الرباط مع جزمه بأن الأمر كذلك ، يقول : كان غرضي منه : دفع الشر ، وأن يصير ذلك الموضع مجمعا للأولياء والأتقياء ، ولأقوام يسعون في أمن الطرقات ، وإزالة الآفات ، فإن جميع العقلاء يقولون ، لما كنت عالما بأن بناءه يوجب مزيد الآفات ، فإنك (٨) في دعواك : أنك ما أردت به : إلا الخير : كذاب مزور. وهذا الباب فيه إطناب ، وقد سبق ذكره في الكلام على الحسن والقبح مع المعتزلة.

__________________

(١) الألبيم (ط)

(٢) يمكن (ت)

(٣) من (ط)

(٤) قلت (ط)

(٥) من (ط ، س)

(٦) سقط (ت)

(٧) من (ت)

(٨) فأنت (ط)

١٤٤

والوجه الثالث : في دفع [هذا] (١) السؤال : أن القدرة الصالحة للكفران ، كانت متعينة للكفر ، فحينئذ يكون خلق تلك القدرة في الكافر ، إلجاء له إلى الكفر ، وإن كانت صالحة للإيمان والكفر معا ، فرجحان أحد الجانبين على الآخر ، إن لم يتوقف على المرجح ، لزم حصول الرجحان لا لمرجح ، وهو محال.

وإن توقف على المرجح ، فذلك المرجح إن كان من العبد ، عاد التقسيم فيه. ولزم التسلسل. وإن كان من الله ، فحينئذ يكون مجموع القدرة مع (٢) ذلك المرجح موجبا للكفر ، فيعود ما ذكرنا من (٣) أن الله تعالى ألجأ الكافر ، إلى الكفر. وذلك يبطل قولهم : أنه تعالى ما أراد به إلا الخير والصلاح. فيثبت بهذه الوجوه : أنه يمتنع أن يقال : إنه تعالى خلق الخلق لغرض نفسه ، أو يقال : إنه خلقهم لغرض يعود إليهم.

وأما القسم الثالث ، وهو أن يقال : إنه تعالى خلقهم لا لغرض وحكمة أصلا. فنقول : هذا أيضا : باطل لوجوه :

الأول : إن الفعل الخالي عن الحكمة : سفاهة ، وهي غير لائقة بالحكيم الرحيم.

والثاني : إنه لم يمتنع ذلك ، فحينئذ لا يقبح من الله تعالى شيء أصلا ، فوجب أن يحسن منه أن يعاقب الأنبياء والرسل [بأعظم] (٤) أنواع العقاب ، وأن يحسن منه إدخال الدهرية في أعلى درجات الجنة ، وأن لا يحصل الوثوق بوعده ووعيده ، وأن لا تتميز طاعته عن معصيته. وكل ذلك يبطل [الحكمة] (٥) الإلهية. فيثبت : أنه تعالى لو كان محدثا للعالم ، بعد أن لم يكن

__________________

(١) سقط (ط)

(٢) من (ت)

(٣) ما ذكرناه أنه تعالى (ت)

(٤) (س)

(٥) من (ت)

١٤٥

[محدثا] (١) لكان إما أن يكون ذلك الإحداث لحكمة ومصلحة ، وإما أن لا يكون كذلك. وثبت فساد القسمين ، فوجب فساد القول بكونه محدثا للعالم ، بعد أن لم يكن وقد يحتجون بهذه الحجة على أنه لا يجوز أن يكون مريدا لإحداث العالم : أنه (٢) لو كان مريدا لكانت تلك الإرادة ، إما أن تكون تابعة لحكمة ومصلحة ، وإما أن لا تكون كذلك. والقسمان باطلان ، فالقول بثبوت الإرادة : باطل [والله أعلم] (٣).

الحجة الخامسة : لو كان العالم [حادثا] (٤) وجب أن يكون للخالق : داع إلى إيجاده وتكوينه. فنقول : تلك الداعية ، إما أن تكون قديمة ، أو حادثة. فإن كانت حادثة ، عاد البحث في كيفية [حدوثها] (٥) وإن كانت قديمة ، فإما أن تكون مشروطة بشرط ، أو لا تكون. فإن كانت مشروطة بشرط ، فذلك الشرط ، إما أن يكون حادثا أو لا يكون. فإن كان ذلك الشرط حادثا ، لزم الدور. [لأنه] (٦) لا يتم الداعية التامة المؤثرة في الإحداث ، إلا عند حدوث ذلك الشرط ، وأن لا يحدث (٧) ذلك الشرط إلا إذا تمت تلك الداعية المؤثرة ، وذلك يوجب الدور ، وأما إن كان ذلك الشرط قديما ، أو قلنا : إن تلك الداعية القديمة غير مشروطة بشرط : فالكلام في هذين القسمين واحد ، وذلك لأنه إما أن يقال : حصل في الأزل مانع ، أو لم يحصل. والأول باطل. لأن ذلك المانع إن كان واجبا لذاته ، امتنع زواله ، فوجب أن لا يزول ذلك الامتناع. وإن كان ممكنا لذاته ، افتقر إلى مؤثر. ويعود التقسيم فيه ، ولا ينقطع إلا عند الانتهاء إلى موجب واجب لذاته : ويلزم من امتناع زوال

__________________

(١) من (ت)

(٢) لأنه (ط)

(٣) من (ت)

(٤) وأن يحدث (ط ، س)

(٥) من (ت)

(٦) من (ت)

(٧) من (ط ، س)

١٤٦

[ذلك] (١) الموجب ، امتناع زوال ذلك المانع. وقد بان بطلانه. فيثبت : أن الداعية القديمة إلى الإيجاد : حاصلة في الأزل ، وأن الموانع بأسرها كانت زائلة. ومتى كان الأمر كذلك ، كان الفعل واجب الحصول.

الحجة السادسة : كونه تعالى محدثا للعالم ، وكونه غير محدث (٢) له. إما أن يتساويا من [كل] (٣) الوجوه ، أو يكون الإحداث أفضل مطلقا ، أو يكون الترك أفضل مطلقا ، أو يقال : الفعل أفضل في بعض الأوقات ، والترك أفضل في البعض.

أما القسم الأول : وهو أن يقال : استوى الطرفان واعتدل الجانبان من غير رجحان : فهذا باطل لوجوه :

الأول : إنه يقتضي رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجح وإن جاز ذلك ، فلم لا يجوز رجحان وجود العالم على عدمه لا لمرجح؟

والثاني : وهو أن الإيجاد ترجيح لجانب الوجود ، وحصول الترجيح حال [حصول] (٤) الاستواء : محال.

والثالث : إن الذي يكون فعله وتركه ، متساويين في كل الجهات ، كان فعله عبثا ، وكان فاعله [سفيها] (٥) ولا يكون [حكيما ، ولا يكون] (٦) فعله إحسانا. وأجمع العقلاء على أنه يجب تنزيه إله العالم عن مثل هذه الصفة.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الفعل أفضل من الترك. فنقول : فعلى هذا التقدير ، يلزم أن يقال : إنه تعالى كان تاركا للجانب الأفضل مدة غير متناهية ، ثم انتقل من الأفضل إلى الأخس ، وذلك باطل.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) غير محدث لذاته (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط)

(٦) من (ط)

١٤٧

وأما القسم الثالث (١) : وهو أن يقال : الترك أفضل من الفعل مطلقا. فنقول : يلزم أن يقال : إن خالق العالم قد انتقل من الأشرف إلى الأخس. وذلك أيضا باطل.

وأما القسم الرابع : [وهو] (٢) أن يقال : كان الترك أفضل في بعض الأوقات ، ثم صار الفعل أفضل من الترك في سائر الأوقات ، فنقول : هذا أيضا باطل. لأن هذا التبديل ، إن وقع لذاته ، فليجز تبدل العدم بالوجود لذاته ، وهو باطل. وإن وقع بجعل جاعل ، فحينئذ يعود التقسيم الأول : وهو أن الخالق إنما خصص أولوية الترك بالأوقات السالفة ، وأولوية الفعل بالأوقات الحاضرة. لأن الأولى بالأوقات السالفة ، عدم تلك الأولوية. والأولى بهذه الأوقات الحاضرة ، أولوية الفعل ، وحينئذ يعود التقسيم الأول فيه. وذلك يوجب الذهاب إلى ما لا نهاية له. والله أعلم.

الحجة السابعة : الإيجاد فتح لباب الآفات. وذلك لا يليق بالفاعل الحكيم.

بيان الأول : أن عند حصول الوجود ، يحصل الخوف من زوال [مصالح] (٣) الوجود ، ويحصل الخوف من [زوال مصالح الوجود ، ويحصل الخوف من (٤)] حصول الألم. والخوف : [ألم] (٥) وضرر وأما في حال العدم ، فما كان فيه مؤلم أصلا ، لأن حصول الألم مشروط. بحصول الوجود والحياة ، فعند عدم الوجود ، امتنع حصول الضرر والخوف. فيثبت أن عند حصول الوجود [يحصل] (٦) الضرر ، وعند العدم ، لا ضرر. فكان هذا الوجود شرا

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ت)

(٦) من (ت)

١٤٨

من العدم [والعدم] (١) خيرا منه ، والحكيم لا يفعل الشر.

فإن قالوا : السؤال عليه من وجوه :

الأول : أن (٢) الشر : عبارة عن العدم. ألا ترى أن من قتل إنسانا. فذلك القتل شر. وليس هو شر ، لأن الآلة كانت قطاعة ، ولا لأجل أن القاتل كان قادرا على استعمال تلك [الآلة] (٣) القطاعة بالقوة القوية ، ولا لأجل أن عنق المقتول ، كان قابلا للقطع ، فإن كل [ذلك] (٤) خيرات. بل إنما كان شرا ، لأنه زالت الحياة (٥) عن المحل القابل للحياة ، وهذا الزوال : عدم فثبت : أن الشر ليس إلا العدم. فكيف يقال : الوجود شر؟

الثاني : سلمنا أن الوجود قد يكون موصوفا بكونه شرا ، إلا أنه وإن حصل عند الوجود أنواع الخوف والألم ، فقد حصل أيضا أنواع السرور واللذة. فنقول :

أما الجواب عن السؤال الأول : فهو أنا نقول : مراد جميع العقلاء من الشر والمفسدة والبلاء : حصول الألم والغم. ولا شك أن الألم معنى وجودي. فيثبت : أن هذا الكلام الذي ذكرتموه في السؤال : لفظي محض. وأقول : لما كان هذا الكلام منقولا عن أكابر الحكماء ، وجب حمله على محمل صحيح ، فنقول : الشر إما أن يقع في الذات أو في الصفات أو في الأفعال. أما الشر في الذات : فليس إلا العدم ، وكذا القول في الصفات. فإن العمى والصم والبكم : شرور. وهي مفهومات عدمية ، لأن العمى عبارة عن عدم البصر ، عما من شأنه أن يكون بصيرا. وكذا القول في البواقي. وأما الشر في الأفعال : فمعناه : الإيلام. ولا شك أنه معنى موجود ، فعلى هذا يجب أن يقال : الشر

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) أنه عبارة (ت)

(٣) من (ط)

(٤) من (س)

(٥) الخيرة على (ت)

١٤٩

في الذات والصفات. أمر عدمي. وأما في الأفعال : فلا شبهة أن الشر فيها معنى موجود.

وأما السؤال الثاني : فالجواب عنه من وجوه :

الأول : أن لذات هذا العالم ، أضعف [بكثير] (١) من آلام هذا العالم. والتجربة تدل عليه. فإن ألذ الأشياء : قضاء شهوة البطن ، وشهوة الفرج. ونحن نعلم بالضرورة : أن ألم القولنج ، وسائر الأمراض الكثيرة (٢) أصعب بكثير من لذة الأكل والوقاع.

والثاني : إن عند البقاء على العدم ، لا يحصل ، لا اللذة ولا الألم. وعند الوجود يحصل أنواع الآلام ، ولا شك أن السلامة من الألم ، أفضل من الوقوع في الألم.

والثالث : أن ما يتوهم لذة في هذا العالم ، فهو في الحقيقة عبارة عن دفع الألم. فإن لذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع ، لذلك فكلما كان الجوع أقوى ، كان الأكل ألذ.

وقال بعض من يتمسك (٣) بأمثال هذه الكلمات إنه [تعالى] (٤) خلق القاتل والمقتول ، والظالم والمظلوم ، وعلم أن هذا يقتل ذلك الآخر ، ثم توعد القاتل بأن قال : متى قتلت ذلك الآخر : عذبتك بالنار. فلو [لم] (٥) يخلقهما ، لكان قد سلم المقتول من عذاب الدنيا ، والقاتل من عذاب الآخرة».

فيثبت : أن الخلق فتح لباب [الشر] (٦) والآفات. وذلك لا يليق بالصانع الحكيم. وأما إثبات أن إله العالم مؤذي ، وليس بحكيم ولا رحيم ،

__________________

(١) من (ط)

(٢) الشديدة (ط)

(٣) يتمسك بهذه الكلمات (ط)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (س)

(٦) من (ط)

١٥٠

ولا ناظر لعباده ، محسن إليهم. فذلك باطل ، بإجماع العقلاء المعتبرين. فلم يبق إلا أن يقال: مبدأ وجود العالم : آنية موجبة بالذات ، والماهية لوجود العالم. وذلك يوجب دوام العالم ، بدوام وجوده [والله أعلم] (١).

الحجة الثامنة : الإيجاد. إما أن يكون من باب الإحسان ، أو من باب الإضرار ، أو لا هذا ولا ذاك. والثاني لا يليق بأرحم الراحمين ، والثالث عبث فلا يليق بالحكيم. فبقي الأول. فنقول : ترك الإحسان ، إما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل. والكل على الله محال ، فوجب أن يكون الإحسان صادرا من الله أبدا.

وهذا الكلام في الحقيقة ، إنما يتم ببيان أن الداعي إلى الإحسان : أزلي. والشرائط كانت حاصلة [في الأزل] (٢) والموانع كانت زائلة. فوجب الفعل. وهذه المقدمات إنما تتم بالرجوع إلى بعض ما ذكرناه.

فهذه جملة الوجوه المستنبطة من الحسن والقبح ، والحكمة والعبث [والله أعلم] (٣)

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ت)

١٥١
١٥٢

المقالة السادسة

في

الدلائل المستنبطة من صفة العلم

١٥٣
١٥٤

في

الدلائل المستنبطة من صفة العلم

وهي من وجوه :

الحجة الأولى : لو كان العالم حادثا ، لما حدث إلا إذا قصد الفاعل إلى تكوينه. وهذا القصد يمتنع حصوله ، إلا إذا كان عالما بأنه كان معدوما ، ثم إنه يحاول (١) أن يجعله موجودا. وإذا كان كذلك ، فقد كان عند عدمه عالما ، بأنه معدوم ، وعند وجوده يصير عالما بأنه موجود. فثبت أنه لو كان العالم حادثا ، لوجب كونه عالما بالجزئيات. وإنما قلنا : إن ذلك : محال. لوجوه :

الأول : إنه تعالى لما علم أن العالم معدوم. فعند ما يصير موجودا ، إن بقي علمه بأنه معدوم ، فهو جهل. وهو على الله محال. [وإن لم يبق ، فهو تغير. وهو على الله محال (٢)].

والثاني : [إن] (٣) العالم بالجزئيات ، لا بد وأن يكون جسما أو جسمانيا. وهذا في حق الله [تعالى] (٤) محال. فيمتنع كونه عالما بالجزئيات.

__________________

(١) حاول (ط ، س)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ت)

١٥٥

الثالث : إن العلم بأن الشيء الفلاني موجود ، وبأن الشيء الفلاني معدوم : تبع للمعلوم. فلو كان واجب الاتصاف بالعلم بالجزئيات [وقد ثبت : أن العلم بالجزئيات (١)] متوقف على وقوع تلك الجزئيات ، على تلك الوجوه المخصوصة. فحينئذ ذاته مما يمتنع وجودها (٢) إلا عند حصول تلك العلوم. ثم إن تلك العلوم متوقفة التحقق على حصول تلك المعلومات الخارجية ، والموقوف على الموقوف على الشيء [موقوف على الشيء (٣)] فيلزم أن تكون ذاته موقوفة على الغير ، والموقوف على الغير : ممكن لذاته ، فيلزم أن يكون واجب الوجود [لذاته (٤)]. وهو محال.

واعلم أن هذه الوجوه الثلاثة في نفي علمه تعالى بالجزئيات قد سبق ذكرها بالاستقصاء مع الأجوبة الوافية.

الحجة الثانية من الوجوه المبنية على العلم : أن نقول : إما أن يكون الحق هو أنه [سبحانه غير عالم بالجزئيات. وإما أن يكون هو أنه (٥)] سبحانه عالم بالجزئيات. وعلى التقديرين فإنه يجب كونه موجبا بالذات. ثم يلزم من دوامه : دوام المعلومات (٦) أما إذا كان الحق هو القسم الأول ، وهو أنه غير عالم بالجزئيات. فعلى هذا التقدير ، يمتنع كونه قاصدا إيجاد العالم. لأن هذا القصد إنما يمكن حصوله ، لو كان عالما بأنه معدوم ، ثم إنه يريد أن يجعله موجودا. فعلى تقدير أن لا يكون عالما بالجزئيات ، امتنع حصول هذا العلم ، فامتنع حصول القصد المذكور ، فامتنع منه أن يقصد إلى إيجاده وإحداثه وتكوينه. وأما إذا كان الحق (٧) هو القسم الثاني ، وهو أنه تعالى عالم بالجزئيات. فنقول : فهذا يقتضي

__________________

(١) من (س)

(٢) وجود (ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط) وفيها تعالى بدل سبحانه

(٦) المعلومات (ط)

(٧) المؤثر (ط)

١٥٦

كونه تعالى موجبا بالذات. وذلك يوجب دوام العالم بدوامه. وإنما قلنا : إن كونه تعالى عالما بالجزئيات [يقتضي كونه موجبا بالذات ، لأنه لما كان عالما بالجزئيات (١)] كان عالما بأن الشيء الفلاني يقع في الوقت الفلاني على الصفة الفلانية ، وأن الشيء الفلاني لا يقع البتة، وما علم الله وقوعه ، كان واجب الوقوع ، لأن عدم وقوعه ، يستلزم أن ينقلب علم الله جهلا. وهو محال. ومستلزم المحال : محال. فعدم وقوعه : محال. فوقوعه : واجب.

وبهذا الدليل أيضا : ما علم الله عدم وقوعه : كان ممتنع الوقوع أيضا. والشيء الذي يكون واجب الوقوع (٢) أو يكون ممتنع الوقوع ، لم يكن القادر متمكنا من فعله وتركه. وذلك يقدح في كونه تعالى قادرا ، ويقتضي كونه موجبا بالذات. وإذا ثبت (٣) [أن كونه عالما بالجزئيات ، يقتضي كونه تعالى موجبا بالذات ، وثبت (٤)] أنه متى كان موجبا بالذات : لزم من دوام الموجب ، دوام الأثر. وذلك هو المطلوب.

ولهذا الكلام تقرير آخر ، وهو أن يقال : العالم ممكن الوجود لذاته. وقد بينا : أنه من حيث إنه معلوم الوقوع ، وجب أن يكون واجب الوقوع. والعلم لا يقلب (٥) ماهية المعلوم ولا يغيره. فهذا الوجوب ما جاء البتة من العلم ، بل جاء من سبب آخر. فهذا الوجوب يدل على أن سببا آخر ، اقتضى صيرورة العالم ، واجب الوقوع. لأنه لما دل كونه معلوم الوقوع ، على كونه واجب الوقوع ، وثبت : أن المؤثر في هذا الوجود ، ليس هو صفة العلم: وجب أن يكون المؤثر فيه : صفة أخرى. فيثبت : أنه تعالى موجب لوجود العالم ، إما لعين ذاته المخصوصة ، أو لصفة أخرى من صفاته. وعلى [هذين] (٦) التقديرين ، فالتقريب معلوم فيثبت : أنه تعالى إما أن يكون عالما بالجزئيات ،

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) الوجود (ت)

(٣) وثبت (ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) لا ينقلب ماهية المعلوم ولا لغيره (ت)

(٦) من (ط ، س)

١٥٧

وإما أن لا يكون. وعلى التقديرين فإنه يلزم أن يكون موجبا بالذات. ومتى كان الأمر كذلك، لزم من دوام الموجب ، دوام المعلول.

الحجة الثالثة من الوجوه المبنية على العلم : أن نقول : هذه الماهيات كانت معلومة لله في الأزل بالاتفاق ، وكل ما كان معلوما ، فإنه لا بد وأن يكون ذلك المعلوم : متميزا عما عداه ، بخاصيته المخصوصة ، وماهيته النوعية. ومتى حصل هذا الامتياز بين الماهيّات ، وجب كونها ثابتة. لأن النفي المحض ، والعدم الصرف ، لا يحصل فيه الامتياز والاختلاف. فيثبت : أن هذه الماهيات ، كانت موجودة في الأزل. فنقول : إنها إما أن تكون موجودة في ذات العالم ، أو كانت موجودة وجودا مباينا عن ذات [من كان] (١) عالما بها والأول باطل. لأن العلم بالسواد والبياض والاستقامة والاستدارة ، لو كان موقوفا على حصول هذه الماهيات ، في ذات العالم بها : لزم أن يكون ذلك العالم أسود ، أبيض ، مستقيما ، ومستديرا. لأنه [لا] (٢) معنى للأسود والأبيض ، إلّا الذي حصل فيه السواد والبياض ، إلا أن ذلك : محال. لوجهين :

الأول : إنه يوجب اجتماع الضدين في المحل (٣) الواحد. وهو محال.

الثاني (٤) : إن من كان أسود ، أبيض ، مستقيما ، مستديرا : كان جسما ، وذلك في حق واجب الوجود لذاته [محال] (٥) فيثبت : أن هذه الماهيات موجودة (٦) خارجة عن ذات الله تعالى. ولما ثبت [أن العلم] (٧) بهذه الماهيات يتوقف على وجود هذه المعلومات ، وثبت أن العلم بها حاصل في الأزل : وجب القطع بحصول هذه المعلومات في الأزل. وهو مطلوب.

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) محل واحد (ت)

(٤) من (ت)

(٥) من (ت)

(٦) موجود خارج ذات الله (ت)

(٧) من (ط ، س)

١٥٨

فإن قيل : لا نسلم أن العلم بالشيء ، يتوقف على كون ذلك المعلوم موجودا. والدليل عليه : أنا إذا علمنا أن شريك الإله : ممتنع. فهذا الحكم لا يمكن حصوله إلا بعد تصور ، أن شريك الإله ما هو؟ فلو كان حصول هذا التصور ، موقوفا على حصول (١) المتصور ، لزم أن يكون شريك الإله موجودا. وعلى هذا التقدير ، يلزم من الحكم على شريك الإله بكونه ممتنعا : الحكم عليه بكونه واجب الحصول. وذلك متناقض.

ثم نقول : لا نزاع (٢) أن الله تعالى كان عالما بحقائق الأشياء في الأزل. لكن لم قلتم : إن العلم بالشيء ، يستدعي كون المعلوم متميزا عن غيره ، في علم ذلك العالم؟ ألا [ترى] (٣) أنا إذا علمنا : أن لنا في هذا البلد أختا من الرضاع ، مع أنا لا نعلمها (٤) بعينها. فههنا العلم بهذا المعلوم : حاصل. مع أن هذا المعلوم ليس متميزا [عن غيره] (٥) في علم ذلك العالم [فيثبت : أن العلم بالشيء ، لا يقتضي كون المعلوم متميزا عن غيره ، في علم ذلك العالم. ونقول : سلمنا أنه لا بد وأن يكون المعلوم متميزا عن غيره ، في علم العالم (٦)] فلم قلتم : إن ذلك الامتياز يجب حصوله ، حال حصول العلم؟ ولم لا يجوز أن يقال : إنه يكفي في حصول العلم في الحال ، حصول (٧) ذلك التميز ، إما في الحال ، وإما في المستقبل؟ وبيانه : أنه تعالى عالم بحقائق الجواهر والأعراض في الأزل [ثم] (٨) إن الجواهر والأعراض ، وإن لم [تكن] (٩) حاصلة في الأزل ، ولا متميزا بعضها عن بعض في الأزل ، إلا أنه مما ستوجد في لا يزال. ثم إنها إذا صارت موجودة وحاصلة ، كان بعضها متميزا عن البعض. فلم قلتم : إن هذا القدر من الامتياز ، لا يكفي في حصول العلم (١٠) الأزلي ، بكون هذه

__________________

(١) وجود (ت)

(٦) من (ت)

(٢) أنه تعالى (ت)

(٧) حال حصول (ت)

(٣) من (ت)

(٨) من (ط ، س)

(٤) نعلم (ت)

(٩) من (ط ، س)

(٥) من (ت)

(١٠) العلم. ألا ترى كون ... الخ (ت)

١٥٩

الماهيات متباينة متميزة؟ ثم نقول : سلمنا أنه لا بد من كون تلك المعلومات متمايزة في الحال ، فلم قلتم : إن حصول الامتياز في الحال ، يستدعي كونها موجودة؟ وما الدليل عليه؟

بل نقول : الدليل على أن الامتياز والاختلاف ، قد يحصل في العدم المحض ، والسلب الصرف : وجوه :

الأول : إن عدم الملزوم لا يوجب [عدم] (١) اللازم. لكن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم ، فكل واحد من هذين العدمين ممتاز عن الآخر بخاصية حقيقية ، ونوعية ذاتية.

الثاني : إن عدم الضد عن المحل ، يصحح حلول الضد الآخر في ذلك المحل ، وعدم ما لا يكون ضدا ، لا يفيد هذا الحكم.

الثالث : إنا إذا قلنا : النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ، فقد حكمنا بكون (٢) السلب منافيا للإيجاب فلو لم يكن للسلب من حيث إنه سلب : خصوصية وامتياز عن الإيجاب ، وإلا لما صح الحكم بكونه منافيا للإيجاب. ثم نقول : سلمنا أن العلم بالمعلوم ، يستدعي كون المعلوم ثابتا. لكن لم قلتم : إن كل ثابت ، فإنه لا بد وأن يكون موجودا؟ أما علمتم أن جماعة من العقلاء ، قالوا : «المعدوم مع كونه معدوما قد يكون شيئا ثابتا»؟ وعنوا بذلك : أن الماهيات حال عرائها عن الوجود ، قد تكون متقررة في كونها ماهيات (٣) فما الدليل على فساد هذه المقالة؟ ثم نقول : لم لا يجوز أن تكون هذه المعلومات : حاصلة في ذات العالم ، ومرتسمة فيها؟ وهذا هو قول من يقول : «لا معنى للعلم إلا حصول صورة المعلوم في ذات العالم» أما قوله : «يلزم أن يكون العالم بالاستدارة والاستقامة ، والحرارة والبرودة : مستقيما مستديرا ، حارا باردا» فنقول : هذا غلط. وذلك لأنا لا نقول : العالم بالحرارة

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) يكون السلبية منافية للإيجابية (ت)

(٣) فما الدليل عليه على هذه المقدمة؟ (ت)

١٦٠